الذخر في علم الأصول - ج ١

السيّد أحمد النجفي الأردبيلي

الذخر في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد أحمد النجفي الأردبيلي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٢
الجزء ١ الجزء ٢

الثالث :

قد عرفت ما قدّمناه القول فيه انّ المقدّمات الوجوديّة للواجبات المشروطة ، مما يتّصف بالوجوب على نحو اتّصاف ذيها به ، وقضيّة ذلك عدم وجوب الإتيان بها قبل وجوب الإتيان بذيها إذ لا يعقل أن تكون المقدّمة أعلى شأنا من ذيها كأن يكون موردا للوجوب التخيّري من دون اتصاف ذيها بالوجوب التخيّري ومع ذلك فقد يظهر منهم في موارد مختلفة الحكم بوجوب الإتيان بالمقدّمة قبل اتّصاف ذيها بذلك كحكمهم بوجوب الغسل قبل الصبح في ليالي رمضان ، وقولهم بوجوب السعي إلى الحج قبل أن يهلّ هلال ذي الحجّة وحكمهم بوجوب تحصيل العلم بأجزاء الصلاة وشرائطها قبل دخول الوقت وحكمهم بوجوب حفظ الماء وإحرازه للعالم بتعذّره له بعد دخول وقت الصلاة وحكمهم بوجوب معرفة القبلة لمن حاول المسافرة إلى البلدان النائية ومنها حكمهم بوجوب تعليم مسائل القصر والإتمام للمسافر إلى غير ذلك من الموارد التي تظهر جملة منها للمتتبّع في مطاوي كلمات الفقهاء ولهم التفصي عن هذه العويصة بأمور :

الأول :

في تعليقاته على المعالم وملخّصه انّ المقدّمات وجوبها نفسي ليس من حيث استلزام وجوب ذيها وإن كانت المصلحة في وجوبها النفسي إمكان التوصّل بها إلى ذيها. قال : فما حكي عنه ان فسّرت الوجوب الغيري بما يكون وجوب الفعل منوطا بوجوب غيره ليس له

١٦١

مطلوبيّة ذاتيّة.

وإن فسّر الوجوب الغيري بما لا تكون المصلحة الداعية إلى وجوبه حاصلة في نفسه بل يكون تعلّق الطلب له لأجل مصلحة تحصل بفعل غيره لا يجوز لتفويت المكلّف لها فيجب عليه ذلك ليتمكّن من إتيانه بذلك الغير أمكن القول بوجوبها قبل وجوب ذيها لا من جهة الأمر الذي يتعلّق بذيها بل بأمر اصلي يتعلّق به وتكون الحكمة الباعثة تعلّق الطلب به تحصيل الفائدة المترتّبة على فعل آخر يكون ذلك الفعل موصلا إليه ان بقى المكلّف على حال يصحّ تعلّق التكليف به عند حضور وقته ، وقضيّة ذلك استحقاق المكلّف للعقاب عند تركه لكن عدّ ذلك من الوجوب الغيري محل تأمّل بل لا يبعد كونه من الوجوب النفسي. انتهى ما أوردناه من كلامه في المقام.

الثاني :

ما أفاده بعض الأجلّة من الفرق بين الواجب المشروط والواجب المعلّق وما يجب فيه الإتيان بالمقدّمة قبل ذيها إنما هو في الواجب المعلّق دون المشروط لأن المعلّق وجوبه حالى دون المشروط ، فانّ الطلب فيه مشروط فانّ الموقوف عليه في المشروط هو شرط الوجوب وهو شرط الوجوب وفي المعلّق شرط الفعل فلا تكليف في الأول بالفعل ولا وجوب قبله بخلاف الثاني.

ففرق إذن بين قول القائل : إذا دخل الوقت افعل كذا ، وقوله :

١٦٢

افعل كذا في وقت كذا ، فانّ الأولى جملة شرطيّة مفادها تعلّق الأمر والإلزام بالمكلّف عند دخول الوقت وهذا قد يفارق وقت الأداء فيه لوقت تعلّق الوجوب وقد يتأخّر عنه كقولك : «إن زارك زيد في الغد فزره في العشاء».

والثانية جملة طلبيّة مفادها إلزام المكلّف بالفعل في الوقت الآتي. وحاصل الكلام انه ينشأ في الأول طلبا مشروطا حصوله بمجيء وقت كذا ، وفي الثاني طلبا حاليّا والمطلوب فعل مقيّد بكونه في وقت كذا. انتهى ما أردنا نقله.

أما التفصّي الأول عن العويصة ، قد أجيب عن الوجوب الغيري على التفسير الثاني ، إما أن يكون من لوازم نفس المقدّمية ووجوبها كأن يكون وجوب ذي المقدّمة يلازم هذا النحو من الوجوب في المقدّمة ، وأما أن لا يكون من الوجوب من لوازم وجوب ذيها ، فعلى الأول لا وجه لاختصاص ذلك ببعض المقدّمات بعد استوائها فيما هو المناط للوجوب وعلى الثاني فلا مدخل له في المقام إذ الإشكال ناشئ من جهة وجوبها الغيري على التفسير الأول ، والتزام الوجوب النفسي لا يدفع الإشكال الناشئ من جهة الغير.

وقد أجيب عن التفصّي عن الإشكال ما أفاده بعض ملخّصه بعدم الفرق فيما ينقدح في نفس الأمر بين أن يكون الزمان بحسب القواعد اللغوية قيدا للفعل كما إذا قيل : افعل كذا ، أو للحكم كما إذا قيل : إذا جاء وقت كذا افعل كذا.

١٦٣

وبعد ما عرفت من انه هو المناط في الأحكام التي نحن بصددها من لوازم الوجوب ، ينبغي العلم بفساد الوجه المذكور في مقام دفع الإشكال ، ولعل اتحاد المعنى على الوجهين ظاهر ، أو انّ الأول في الحصر دون في الثاني لعدم العلّية.

ونقول في حاسم مادة الشبهة تبعا للشيخ ـ قدس‌سره ـ من أنّ الحاكم بوجوب المقدّمة إنما هو العقل على القول بالوجوب ، فالقاضي في أمثال هذه الاختلافات الواقعة فيه هو ذلك الحاكم ، ولا بدّ من ملاحظة حكم العقل أن يقال : انّ الفعل الواجب الموقوف على حضور زمان تارة يكون ذلك الزمان واسعا صالحا لوقوع الفعل بجميع مقدّماته فيه وتارة يكون مقدّرا لوقوع المقدّمات فيه والأول كما في الصلاة بالنسبة إلى الطهارة والثاني كما في الصوم بالنسبة إلى الغسل. وعلى الأول إما أن يكون المكلّف عالما باقتداره من المكلّف به وقت حضور زمانه باتيانه على جميع أجزائه وشرائطه أو يشكّ في ذلك أو يعلم اقتداره له في ذلك الزمان لكنّه هو قادر على تمهيد مقدّماته قبل حضوره لا كلام في جواز التأخير عند علمه باقتداره من المكلّف به على وجهه.

وصورة الشكّ أيضا مما لا دخل لها بالمقام لأن المرجع في ذلك إلى الأصول العمليّة ، ولعل الأصل عدم الوجوب في ذلك الزمان والظنّ به ملحق إما بالعلم أو بالشكّ ، وإما عند العلم بعدم اقتداره في ذلك الوقت مع تمكّنه من المقدّمات قبله كما إذا أمر المولى عبده بالمسافرة بعد الزوال مع علمه بعدم تمكّنه من الراحلة بعده وتمكّنه قبله ، فان تهيّأ الإتيان بذلك الواجب بترتّب مقدّماته من شراء الزاد وإجارة

١٦٤

الراحلة ، ونحو ذلك فلا ينبغي أن يتأمّل في أنّ ذلك العبد مطيع لأمر مولاه وإن تخلّف عنها ولم يتهيّأ للواجب وأهمل في تمهيد المقدّمات فالعقل المستقيم حاكم جزما باستحقاق العقاب المترتّب على تركه على ترك الواجب عند تركه ما يمكن التوصّل به إليه ولا يتوقّف على حضور زمان الفعل.

وعلى الثاني فيما إذا لم يكن الزمان واسعا للمقدّمة أيضا فالأمر في المخالفة عند تركه المقدّمة أظهر.

ولا قبح في عقابه عند العقل ، وحيث انك قد عرفت أنّ القاضي بالوجوب فيما نحن بصدده هو العقل فلا مانع من اتّصاف المقدّمة بالوجوب قبل حضور زمان الواجب لأن العلم بمجيء زمان الفعل الواجب مع عدم اقتداره عليه بدون إحراز المقدّمة قبله كاف في انتزاع المطلوبيّة والوجوب من المقدّمة عند العقل فيحكم بوجوب إتيانها وإحرازها ، وبذلك يرتفع الإشكال عن أصله إذ لا محذور أن يكون الشيء الواجب موقوفا على مقدّمته يجب تحصّلها قبل زمان الواجب بعد ما هو المفروض من تعلّق الوجوب بذلك الشيء على ما حققناه من أن الوجوب في الواجب المشروط أيضا وجوب فعلي غاية الأمر أن الواجب فعل مخصوص على تقدير خاص فليس بمزيّة الفرع على الأصل فانّ مراعات المقدّمة عين مراعات ذيها وملاكهما واحد ، وقد يؤيّد ما نحن بصدده من حرمة تفويت التكليف بعض الأخبار :

١٦٥

فمنها :

عن أحدهما ـ عليهما‌السلام ـ : سئل عن الرجل يقيم في البلاد الأشهر ليس فيها ماء ، من أجل المراعي وإصلاح الإبل ، قال ـ عليه‌السلام ـ : لا!.

ويظهر منه أن وجه منعه ـ عليه‌السلام ـ الإقامة في مثل ذلك المكان إنما هو تفويته التكليف على نفسه قبل مجيء زمانه.

ومنها :

عن محمد بن مسلم ، قال : سألت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن رجل يخيف في السفر فلا يجد إلا الثلج أو ماء جامد؟ قال : هو بمنزلة الضرورة يتيمم ولا أدلني يعود إلى هذه الأرض التي يوثق دينه. والظاهر منه أيضا المنع من تفويت التكليف.

فمنها : الأخبار الدالّة على عدم جواز الإقامة في البلاد التي لا يتمكّن المكلّف فيها من إقامة أحكام الله وحدوده.

ومنها :

حكمهم بعقاب من توسّط أرضا مغصوبة حال الخروج منها مع انه

١٦٦

يمتنع تكليفه بعدم الغصب حال الأمر بخروجه الذي هو غصب ، وليس ذلك إلا بواسطة أنه فوت التكليف على نفسه حال الدخول أولا.

وقد علم مما ذكرنا فساد ما ذهب إليه من القول بالواجب التعليقي تفصّيا عن الإشكال مضافا إلى ما ذكرنا من الأجوبة عليه أنه :

أولا :

انّ الأحكام الشرعيّة وردت على نحو القضايا الحقيقية ، أخذ العنوان لمصاديقها المفروضة وجودها موضوعا للحكم وكل حكم مشروط بوجود موضوعه مع قيوده ، والموضوع شرط للحكم ، فاذا تحقق الموضوع يتحقق الحكم ، فالتقدّم رتبيّ لا زمانيّ كالتكوينيّات ، كالإحراق سواء كان من الموقتات أو غيرها غايته أن في الموقتات تكون للموضوع قيدا آخر سوى القيود المعتبرة في موضوعات ساير الأحكام من العقل والبلوغ والقدرة فيكون إنشاء القضيّة أزليّة ، وفعليّتها تكون بوجود الموضوع في الخارج ، كيف؟.

ذهب صاحب الفصول القائل بالواجب المعلّق في الوقت بامكان تفكيك الوجوب عن الواجب ، وترشّح الوجوب عنه إليه مع عدم وجوبه بعد ، كما في الغسل قبل الفجر للصوم في ليالي شهر رمضان ولم يقل بالوجوب قبل زمان الواجب في الواجب المشروط ، قال : لا طلب ولا وجوب إلا بعد حصول الشرط ، ولا وجوب قبل الاستطاعة.

ما الفرق بين كون القيد وقتا وبين كونه زمانا فانه ـ قدس‌سره ـ

١٦٧

ذهب بعدم الوجوب قبل الاستطاعة وايجاد زمانها في الحج وانفكاك زمان الوجوب عن الواجب في الغسل قبل الفجر ونحوه مع القيد في كل واحد منهما مفروض الوجود لأنه غير اختياري لا يجب تحصيله ولكن المقدّمة فيه مقدّمة وجوديّة لكونها محل بحث فتكون مقدّمته لازمة التحصيل قبل الوقت بحكم العقل كما عرفت تفصيلا.

وانها مفروض الوجود ويقع قبل الطلب ولا يعقل أن يتقدّم الطلب عليه ودعوى إمكان الواجب المعلّق في القضايا الحقيقيّة في الشرع في غاية السقوط ، كما هو كذلك في القضايا الخارجيّة في غاية السقوط.

وثانيا :

انّ القدرة إمّا أن تكون عقليّة فاعتبارها بحكمها كقبح تكليف العاجز وإما أن تكون شرعيّة فاعتبارها بيد الشارع ، فالقدرة العقليّة دخل فى حسن الخطاب ، فكل واجب يعتبر فيه القدرة عقلا ، كان مقتضى القاعدة تحصيل مقدّماته قبل وقت زمان الواجب كما عرفت.

فانّ العقل يستقلّ يحفظ القدرة العقليّة إنما هو لمكان قبح تكليف العاجز ، فمثل هذا الشخص لا يكون عاجزا بل يكون واردا بحفظ القدرة وإلا تندرج في قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار والقاعدة تخصّ بما بعد ثبوت التكليف بل هو عمل يشتمل بما قبل ثبوت التكليف ، فيلزم الغسل قبل الفجر فيجب حفظ الستر أيضا أو تحصيلها قبل الوقت إذا لم يتمكّن بعده بحكم العقل لا من باب ترشّح الوجوب من ذيها إلى المقدّمة مع عدم وجوبه بعد كما ذهب إليه القائلون

١٦٨

بالواجب المعلّق.

وأما المقدّمات الشرعيّة من القيود والشرائط حالها كحال الأجزاء لا يجب الوضوء قبل الوقت لمن يعلم عدم التمكّن في وقته بخلاف حفظ الماء ونحوه كالستر يجب حفظه بحكم العقل.

وبالجملة :

انّ كل واجب كان مشروطا بالقدرة العقليّة يلزم تحصيل مقدّماته التي تتوقّف القدرة عليه في زمانه عليها أو حفظها قبل مجيء زمانه كما عرفت الأمثلة.

فنستكشف خطابا شرعيّا على طبق ما حكم به العقل بقاعدة الملازمة وعليه يجب تحصيل القدرة أو حفظها شرعا ، ويكون السير للحج قبل أن يهلّ الهلال المعلوم أو الغسل أو تحصيل الستر الذي كان من المقدّمات المفوّه من تيمم الجعل تكليف يحكم به شرعا ناش عن ملاك واحد متّحد بأصل التكليف لا يكون تكليفا استقلاليّا عن ملاكين مثل النذر باتيان الصلاة الفريضة في المسجد ، وليس فيها إلا ثواب وعقاب واحد بخلافه إذا كان ناشئا عن ملاكين.

والأمر بالسعي قبل وقت الحج وبالغسل قبل الفجر بمتمم لخطاب الأول ناش عن ملاك واحد ، وهكذا في أمثالهما لعدم تفويت الواجب بل يستفاد وجوب تحصيل المقدّمات المذكورة من نفس الدليل الدال على الواجب بالملازمة لا بالترشّح من ذيها إليها.

١٦٩

فالمقدّمة تكون وجودية لا غير اختياريّة مفروض الوجود لازم التحصيل قبل الوقت ، وعلى القول باستحالة الواجب المعلّق يلزم إشكال الفرق بين القول بوجوب حفظ الماء قبل وقت الصلاة مع العلم بعدم القدرة به بعد الوقت وحرمة إراقته على الأرض وبين عدم حرمة الإجناب قبل الوقت مع العلم بعدم التمكّن من الغسل والطهارة بالماء.

ولا يخفى عليك على القول بأن الزمان قيد للوجوب ، فالوجوب الواحد المقيّد بالزمان مستمرّ إلى الغروب يتعلّق بالإمساك على تقدير بقاء الشرط ، فوجوب الإمساك يكون في مقدار من الزمان على القاعدة مع العلم بعدم بقاء الشرط ولذلك تترتّب عليه الكفّارة بالعصيان وتكون فعليّة تدريجيّة.

وعلى القول بأنه قيد للواجب فيكون الفعل مقيّدا بالزمان من أول الفجر إلى الغروب لترتّب المصلحة عليه ويتحقق الفعل تدريجيّا فيه إلا أنّ صدق وجوب الإمساك في مقدار من الزمان وتترتّب الكفّارة عليه على خلاف القاعدة ، والأول أوضح من الثاني.

والقيد إذا كان غير اختياريّ كالزمان مثلا لا يلزم تحصيله ، وإن كان اختياريّا يلزم تحصّله ويقع تحت دائرة الطلب كالطهارة والستر بالنسبة إلى الصلاة ، ولا يجب تحصيلهما قبل الوقت بخلاف الأول لا يقع تحت دائرة الطلب فيجب تحصيل المقدّمات قبل الوقت.

١٧٠

وبالجملة :

انّ القيد لو كان راجعا إلى الواجب يلزم تحصيله كالطهارة والستر ولو كان راجعا إلى الوجوب لا يجب تحصيله كالاستطاعة والقائلون بالتعليق اختاروا برجوع القيد إلى الوجوب.

تتمّة :

قد ظهر لك مما ذكرنا اختلاف القيود في وجوب تحصيلها وكونها موردا للتكليف وعدمه عندهم ، فان علم حال القيد من رجوعه إلى الهيئة أو إلى المادة فيترتّب عليه حكمه ، كما إذا كان القيد فعلا غير اختياري ، فيتعيّن رجوعه إلى الهيئة.

وإذا صدرت القضيّة بأداة الشرط مثل قوله : إن استطعت فحج ، فيرد عليه حكمه من عدم تحصيله مقدّما كان قيده أو متأخّرا ، ومقارنا يكون القيد للهيئة والواجب مشروطا ، وإن علم رجوعه إلى المادة كما إذا سبق القيد على وجه أخذ وصفا للمادة ، كما إذا قال : صل متطهّرا يعني أن يكون إتيان الفعل بوصف الطهارة ونحو ذلك مما يكون القيد راجعا إلى المادة فيترتّب حكمه عليه من تحصيل قيده فالواجب مطلق.

وأما إذا شكّ في رجوع القيد إلى الهيئة أو إلى المادة ، كما إذا كان القيد فعلا اختياريّا مرددا بينهما كما إذا قال : حج مستطيعا ، ففيه خلاف في رجوعه إلى المادة أو إلى الهيئة ، في تقريرات الشيخ في هذه الصورة على مذاق القوم لا بدّ من الأخذ بالإطلاق في جانب

١٧١

الهيئة ، والحكم بتقيّد المادة بوجهين :

أحدهما :

انّ تقيّد الهيئة وهو الوجوب وإن كان راجعا إلى تقييد المادة هو الواجب وعمل كما عرفت ، إلا أن بين إطلاقي المادة على الوجهين فرقا ، إذ على تقدير إطلاقه من جهة الهيئة يكون إطلاقه شموليّا كما في شمول العالم لأفراده ، فانّ وجوب الإكرام على تقدير الإطلاق يشمل جميع تقادير الإكرام من الأمور التي يمكن أن يكون تقديرا للاكرام وإطلاق المادة من غير جهة الأمر إطلاق بدلي ، فانّ المطلق غير شامل للفردين في حالة واحدة لكونه صرفا للوجود ، قرر في محلّه من الفرق بين الإطلاق الملحوظ في الأحوال أو في الأفراد ، فتأمّل.

وثانيهما :

انّ تقييد الهيئة وإن لم يستلزم تقييد المادة لما عرفت من المحذور إلا أنه مع ذلك فالحكم بتقييد المادة أولى لدوران الأمر بين تقييدين ؛ أحدهما : يبطل محل الإطلاق في الآخر في المادة ويرتفع به مورده ، والآخر : لا يؤثّر شيئا في مورد إطلاقه ولا شكّ انّ التقييد الثاني أولى فلنا في المقام أمران :

أحدهما :

إثبات أنه متى ما دار الأمر بين هذين التقييدين فالثاني أولى.

١٧٢

وثانيهما :

إثبات الصغرى ، أما الأول فلا يكاد يستريب أحد فيه بعد ما هو المدار في أمثال المقام من الرجوع إلى قاعدة العرف واللغة ، ولا شكّ انّ التقييد وإن لم يكن مجازا إلا أنه خلاف الأصل ، ولا فرق في لبّ المعنى بين تقييد الإطلاق وبين أن يعمل فيه عملا يشترك مع التقييد في الأثر وإن لم يكن تقييدا مثل ارتفاع محل بيانه الذي هو العمدة بالأخذ بالإطلاق.

وأما إثبات بأن المقام من هذا القبيل فقد عرفت في محلّه انّ الأخذ بالإطلاق ليس إلا بواسطة قبح البيان عن مورد الحاجة ، فاذا فرضنا انّ مطلقا من المطلقات ليس له محل بيان فلا يمكن الأخذ باطلاقه ، فاذا قلنا بتقيّد الهيئة لزم أن لا يكون لإطلاق المادة محل حاجة وبيان لأنها لا محالة مقيّدة به بمعنى انّ وجودها لا ينفكّ عن وجود قيد الهيئة ، فبذلك لا محلّ لإطلاقه بخلاف تقييد المادة.

فانّ الأخذ باطلاق الهيئة مع ذلك في محلّه فيمكن الحكم بوجوب الفعل على تقدير وجود القيد وعدمه ، ولا ينافي ذلك ما قلناه من رجوع قيد الهيئة إلى المادة أيضا لما عرفت من الاختلاف بين جهتي الإطلاق.

نعم لو تترتّب على إطلاق المادة على تقدير رجوع القيد إلى الهيئة فائدة كأن لا يستلزم ذلك التقييد ارتفاع محل بيانه مطلقا ، كان التوقّف في محلّه.

١٧٣

توضيح المقام :

انّ الشيء الذي يحتمل أن يكون قيدا للمادة أو للهيئة ، قد يكون وجه اشتراطها به واحدا ، كأن يكون حدوثه شرطا فيهما أو يكون وجوده مستمرّا شرطا فيهما.

وبعبارة أخرى : انّ ما يحتمل أن يكون شرطا للمادة هو حدوث الشيء وهو بعينه يحتمل أن يكون شرطا في الهيئة أو يكون ما يحتمل القيديّة في المادة هو البقاء وهذا بعينه يحتمل القيديّة في الهيئة ، وقد يكون وجه اشتراطهما به متعددا كأن يكون الشرط في أحدهما حدوث ذلك الشيء وفي الآخر بقاءه ففيما اذا كان وجه الاشتراط واحدا كأن يكون الشرط فيهما هو الحدوث أو البقاء ، فالحكم هو ما عرفت من تقييد المادة لا من تقييد الهيئة ، فانّ تقييد المادة أولى من تقيّد الهيئة ، إذ العكس بوجوب ارتفاع الإطلاقين وإن كان في أحدهما التقيّد حكميّا وذلك فيما إذا شكّ في أن الصوم الواجب هل وجوبه مشروط بالإقامة الدائمة أو الحادثة أو وجوبه موقوف على أحدهما.

فانّ تقيّد الصوم لا يوجب تقيّد الوجوب وتقييد الوجوب سواء كان بحدوث الإقامة أو بقائها يوجب تقيّد الصوم ولو معنى ما عرفت إذ لا ـ يمكن تحقق الصوم بدون الإقامة حينئذ.

وفيما إذا كان وجه الاشتراط متعددا ، كأن يكون الشرط ما يحتمل الاشتراط في الهيئة هو الحدوث وفي المادة هو البقاء ، فالحكم في هذه الصورة هو التوقّف لأن تقييد المادة كما عرفت لا يوجب تقيّد

١٧٤

الهيئة ، وتقيّد الهيئة أيضا لا يوجب تقييد المادة ولكن بالنسبة إلى استمرار وجود ذلك القيد المحتمل.

وأما بالنسبة إلى حدوثه فالتقييد ولو معنى لازم كما لا يخفى حينئذ فيمكن التمسّك باطلاق المادة ، ففي المثال المذكور يحكم بوجوب الصوم ولو بعد ارتفاع الإقامة ويحكم بوجوب الحج ولو بعد ارتفاع الاستطاعة وإلى عكس هذه الصورة فالتقييد أيضا لازم كما لا يخفى.

أقول :

ويمكن الحكم بعدم التوقّف في الجميع لأن التوقّف ولو في وقت ما لازم فتأمّل فانّ المقام من مضطرب الافهام.

انتهى ما في تقريرات الشيخ.

واورد على الشيخ في الكفاية بقوله : وأنت خبير بما فيهما ، أما في الأول فلأن مفاد إطلاق الهيئة وإن كان شموليّا بخلاف المادة إلا أنه لا يوجب ترجيحه على إطلاقها لأنه أيضا كان بالإطلاق ومقدّمات الحكمة غاية الأمر انها تارة يقتضي العموم الشمولي وأخرى البدلي كما ربما يقتضي التعيّن أحيانا كما لا يخفى.

وترجيح عموم العام إطلاق المطلق إنما هو لأجل كون دلالته بالوضع لا لكونه شموليّا بخلاف المطلق فانه بالحكمة فيكون العام أظهر منه فيقدم عليه ، فلو فرض انها في ذلك على العكس فكان عاما بالوضع دلّ على

١٧٥

العموم البدلي ومطلق باطلاقه دلّ على الشمول لكان العام يقدّم بلا كلام.

وأما في الثاني فلأن التقييد وإن كان خلاف الأصل إلا أن العمل الذي يوجب عدم جريان مقدّمات الحكمة وانتفاء بعض المقدّمات لا يكون على خلاف الأصل أصلا إذ معه لا يكون هناك إطلاق كي يكون بطلان العمل به في الحقيقة مثل التقييد الذي يكون على خلاف الأصل.

وبالجملة :

لا معنى لكون التقييد خلاف الأصل إلا كونه خلاف الظهور المنعقد للمطلق ببركة مقدّمات الحكمة ومع انتفاء المقدّمات لا يكاد ينعقد له هناك ظهور كان ذاك العمل المشارك مع التقييد في الأثر وبطلان العمل باطلاق المطلق مشاركا معه في خلاف الأصل أيضا.

وكأنه توهّم انّ إطلاق المطلق كعموم العام ثابت ورفع العمل به تارة لأجل التقييد وأخرى بالعمل المبطل للعمل به وهو فاسد لأنه لا يكون إطلاق إلا فيما جرت هناك المقدّمات.

نعم ؛ إذا كان التقيّد بمنفصل ودار الأمر بين الرجوع إلى المادة أو الهيئة كان لهذا التوهّم مجال حيث انعقد للمطلق إطلاق وقد استقرّ له ظهور ولو بقرينة الحكمة فتأمّل.

وأورد عليه النائيني ـ قدس‌سره ـ بأن ما أجابه به أجنبيّ عن مسألة تقدّم إطلاق الشمولي على إطلاق البدلي فانه في مقام التعارض

١٧٦

تكون فيه بحسب المدلول كما إذا ورد : «لا تكرم الفسّاق» ورد أيضا : «أكرم عالما» حيث انّ «لا تكرم الفاسق» يقتضي عدم إكرام العالم الفاسق ، وإطلاق : «أكرم عالما» يقتضي إكرامه فيتعارضان في مورد الاجتماع.

ويصحّ التعارض بهما بخلاف المقام فانه ليس من هذا الباب فانّ أقوائيّة الهيئة لا ربط بالمقام بل المقام نظير ما إذا علم بكذب أحد الدليلين من دون أن يكون مدلولهما متناف.

وحيث أوضحنا في محلّه أنه لا يعامل معاملة التعارض في هذا بل يكون من باب اشتباه الحجّة بلا حجّة ويعامل معها معاملة فوائد العلم الإجمالي إذ الأصول اللفظية من أصالة الإطلاق في المادة وأصالة الإطلاق في الهيئة متعارضة للعلم بتقيّد أحدهما فتصل النوبة حينئذ إلى الأصول العمليّة ومعلوم انّ الشكّ في المقام يرجع إلى الشكّ في لزوم تحصّل القيد ومقتضى أصالة البراءة عدم لزوم تحصيله.

والتحقيق انه ليس للهيئة إطلاق فانه وضع لنسبة المادة إلى الذات فيكون معناه حرفيّا ليس قابلا للاطلاق والتقيّد ، كما عرفت في باب الحروف.

والتقيّد في المقام راجع إلى إطلاق المادة فقط ، ولو توهّم بتقييد الهيئة فلا بدّ من رجوع القيد إلى المادة ، وإذا قال : «حج مستطيعا» فتكون الاستطاعة موضوعا للحكم وما لم يتحقق موضوع الحكم لا يتعلّق عليه إلا بعد تحققه فيكون الموضوع قبله فتكون الاستطاعة قيدا لفعل الحج

١٧٧

فاتيانه في حال الاستطاعة كقوله : «صل متطهّرا» فلا يكون قيدا للوجوب لكونه نزع عن الأمر والهيئة معناه حرفيّ وليس لها قابليّة التقيّد.

أقول :

انّ ما ذهب إليه الشيخ في أولويّة تقيّد الهيئة أو المادة فيما إذا شكّ في التقيّد بينهما بأن الأولى تقيّد المادة من تقييد الهيئة بأن العكس يوجب ارتفاع الإطلاقين من الهيئة والمادة بخلافه في تقيّد المادة ، فان الإطلاق في جانب الهيئة على حاله.

فايراد صاحب الكفاية والنائيني يكون أجنبيين عن المسألة ، وذلك ناشئ عن عدم مطالعة ما استدلّ في المقام بتمامه فيما ذهب إليه الشيخ من كلامه ـ قدس‌سره ـ.

***

«الأمر السابع : في أقسام الواجب» :

السابع : إما نفسيّ أو غيريّ ، وقد عرف الغيريّ : بما أمر للتوصّل إلى واجب آخر ، والنفسي عرّف : ما لم يؤمر به لأجل التوصّل إلى واجب آخر ، ويعرّف النفسي أيضا : بما أمر به لنفسه ، والغيري : بما أمر بها لأجل غيره. ومرجع التعريفين إلى واحد على كل حال.

١٧٨

وأشكل في الكفاية التعريف كما ذكره الشيخ ـ قدس‌سرهما ـ ذلك في تقريراته في تقسيم الواجب باعتبار اختلاف دواعي الطلب إلى غيريّ ونفسيّ ، قال : انّ تحديدهما يحتاج إلى تمهيد وهو : انّ متعلّق الطلب قد يكون أمرا مطلوبا في ذاته كما في معرفة الله تعالى من غير حاجة إلى غاية خارجة عن حقيقة المطلوب. وقد يكون أمرا يترتّب عليه فائدة خارجيّة عن حقيقة المطلوب وهذا يتصوّر على وجهين :

أحدهما :

أن يكون ما يترتّب عليه أمرا لا يكون متعلّقا لطلب في الظاهر لعدم كون متعلّق الحكم في تحت قدرة المكلّف واختياره حتى يتعلّق الحكم بها بنفسها ، بل يتعلّق بواسطة السبب كما في المسببات التوليديّة فانّ أكثر الواجبات من العباديات والتوصّليّات من هذا القبيل.

وثانيهما :

أن تكون الغاية الملحوظة فيه تمكّن المكلّف من فعل واجب آخر ، فالغاية فيه هو الوصول إلى واجب آخر بالاخرة ، وإن كانت الغاية الأوليّة هي التمكّن المذكور وهذا القسم أيضا يتصوّر على قسمين لأن الفعل الآخر الذي يتوقّف على وجود الفعل أولا قد يكون مطلوبا حال تعلّق الطلب بالفعل الأول كما في جميع المقدّمات الوجودية للواجب بعد دخول الوقت وقد يكون مطلوبا بعد وجود الفعل الأول في الحال كما في المقدّمات التي يجب إيجادها قبل دخول الوقت الواجب مثل الغسل لصوم يومه في ليالي شهر رمضان ونحوه كطيّ طريق الحج قبله.

١٧٩

واللازم في هذين القسمين أن يكون الغير مطلوبا ، اما وقت تعلّق الطلب بالفعل أو قبله بحكم العقل لأن لا يفوت الواجب في وقته الظاهر كان لعبارة الشيخ في التقريرات غلطا ، وظاهر في الغاية إذا عرفت ذلك فاعلم أنه قد فسّر في كلام غير واحد منهم الواجب النفسي بما أمر به لنفسه والغيري بما أمر به لأجل غيره.

وعلى ما ذكرنا في التمهيد يلزم أن يكون جميع الواجبات الشرعيّة أو أكثرها من الواجبات الغيريّة ، إذ المطلوب النفسي قلّما يوجد في الأوامر فانّ جلّها مطلوبات لأجل الغايات التي هي خارجة عن حقيقتها ، فيكون أحدهما غير منعكس ويلزم أن يكون الآخر غير مطّرد لانتفاء الواسطة والآتي في تجديدهما أن يقال : انّ الواجب الغيري ما أمر به للتوسّط إلى واجب آخر ، والنفسي ما لم يكن كذلك فيتم العكس والطرد.

انتهى كلام الشيخ ـ رحمه‌الله ـ.

وأجاب في الكفاية :

فالأولى أن يقال : انّ الأثر كالإحراق المترتّب على السبب وإن كان لازما إلا أن ذا الأثر ـ أي المسبب ـ لمّا كان معنونا بعنوان حسن يستقلّ العقل بمدح فاعله بل ذمّ تاركه صار متعلّقا للايجاب بما هو كذلك ولا ينافيه كون السبب مقدّمة لأمر مطلوب واقعا وهو المسبب بخلاف الواجب الغيري لتمحّص وجوبه في أنه لكونه مقدّمة لواجب نفسي وهذا أيضا لا ينافي أن يكون معنونا بعنوان حسن في نفسه الّا أنّه لا دخل له في ايجابه الغيري ولعلّه مراد من فسّرهما بما أمر به لنفسه وما أمر به لأجل غيره فلا يتوجّه عليه الاعتراض بانّ جل الواجبات

١٨٠