لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

لا تزد في خسفه لحرمة أنه سأل عن ابن عمه ، ووصل به رحمه (١)

قوله جل ذكره : (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧))

وعظ من حرم القبول كمثل البذر في الأرض السّبخة ؛ ولذا لم ينفعه نصحهم إياه ، ولم يكن للقبول فيه مساغ.

(وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) : ليس النصيب من الدنيا جمعها ولا منعها ، إنما النصيب منها ما تكون فيه فائدة بحيث لا يعقب ندما ، ولا يوجب في الآخرة عقوبة

ويقال النصيب من الدنيا ما يحمل على طاعته بالنّفس ، وعلى معرفته بالقلب ، وعلى ذكره باللسان ، وعلى مشاهدته بالسّرّ.

(وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) : إنما كان يكون منه حسنة لو آمن بالله ؛ لأنّ الكافر لا حسنة له. والآية تدل على أن لله على الكافر نعما دنيوية.

والإحسان الذي أمر به إنفاق النعمة في وجوه الطاعة والخدمة ، ومقابلته بالشكران لا بالكفران.

ويقال الإحسان رؤية الفضل دون توهّم الاستحقاق.

قوله جل ذكره : (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي)

ما لا حظ أحد نفسه إلا هلك بإعجابه.

ويقال السّمّ القاتل ، والذي يطفئ السراج المضيء النظر إلى النّفس بعين الإثبات ،

__________________

(١) الواقع أن القصص والأخبار والروايات التي تدور حول موضوعات سورة القصص كثيرة جدا ، خصوصا عند ابن عباس ومدرسته ، ولكن الملاحظ أن القشيري يختار منها ـ فى ظلال القرآن ـ عينات خاصة تحقق مقاصده البعيدة من أجل إبراز الموضوعات الصوفية سواء من ناحية الرياضات أو المجاهدات أو من ناحية الأذواق والأحوال.

٨١

وتوهّم أنّ منك شيئا من النفي أو الإثبات (١).

قوله جل ذكره : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩))

تمنّى من رآه ممّن كان في حبّ الدنيا ساواه أن يعطيه الله مثل ما أعطاه.

أمّا من كان صاحيا عن خمار غفلته ، متيقّظا بنور بصيرته فكان موقفهم : ـ

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ)

وبعد أن كان ما كان ، وخسفنا به وبداره الأرض قال هؤلاء :

(لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ)

منّ الله علينا فلم ننجرف في نهجه ، ولم ننخرط في سلكه ، وإذا لوقع بنا الهلاك.

أمّا المتمنّون مكانه فقد ندموا ، وأمّا الراضون بقسمته ـ سبحانه ـ فقد سلموا ؛ سلموا في العاجل إلى أن تظهر سعادتهم في الآجل.

قوله جل ذكره : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣))

قيل «العلو في الدنيا» أن تتوهّم أنّ على البسيطة أحدا هو شرّ منك.

و «الفساد» أن تتحرك لحظّ نفسك ونصيبك ولو بنفس أو خطوة .. وهذا للأكابر ،

__________________

(١) هذه نظرة عامة نجدها عند جميع الصوفية ولكنها أصل هام في تعاليم أهل الملامة تترتب عليه مناهج فى السلوك.

٨٢

فأمّا للأصاغر والعوام فتلك الدار الآخرة (نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) كعلوّ فرعون (وَلا فَساداً) كفساد قارون (١).

ويقال الزهاد لا يريدون في الأرض علوّا ، والعارفون لا يريدون في الآخرة والجنة علوّا.

ويقال (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) للعبّاد والزّهاد ، وهذه الرحمة الحاضرة لأرباب الافتقار والانكسار.

قوله جل ذكره : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤))

ثواب الحسنة في التضعيف ، وأمر السيئة بناؤه على التخفيف.

والمؤمن ـ وإن كان صاحب كبائر ـ فسيئاته تقصر في جنب حسناته التي هي إيمانه ومعرفته.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥))

(لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) : فى الظاهر إلى مكة .. وكان يقول كثيرا : «الوطن الوطن» (٢) ، فحقّق الله سؤله. وأمّا في السّرّ والإشارة فإنه (فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أي يسّر لك قراءة القرآن ، والمعاد هو الوصف الذي كانت عليه روحك قبل حلول شجّك (٣) من ملادغات القرب ومطالعات الحقّ.

__________________

(١) أحسن القشيري إذ جعل وظيفة هذه الآية التعقيب على القصتين السابقتين فأبان تماسك الأسلوب القرآنى.

(٢) ولهذا يرى ابن عباس أن هذه الآية لا مكية ولا مدنية وإنما نزلت في الجحفة.

(٣) هكذا في النسختين ، فإن صحت في النقل من الأصل فربما كان المقصود (ما أصابك من جراحات الحب) ، ويتأيد فهمنا بما يلى ذلك وربما كانت (شجنك) أي لوعة حبك ـ والله أعلم.

٨٣

وقيل الذي ينصبك بأوصاف التفرقة بالتبليغ وبسط الشريعة لرادّك إلى عين الجمع بالتحقّق بالحقّ والفناء عن الخلق.

ويقال إن الذي أقامك بشواهد العبودية فيما أثبتك به لرادّك إلى الفناء عنك بمحقك في وجود الحقيقة.

قوله جل ذكره : (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦))

ما كنت تؤمّل محلّ النبوة وشرف الرسالة وتأهيل مخاطبتنا إليك ، ولا ما أظهرنا عليك من أحوال الوجد وحقائق التوحيد.

قوله جل ذكره : (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧))

لا يصدنّك بعد إذ أنزلت إليك الآيات ما وجدته بحكم الذّوب والشهود ، والإدراك والوجود. لا تتداخلنّك تهمة التجويز وسؤالات العلماء بما يدّعون من أحكام العقول ؛ فما يدرك في شعاع الشمس لا يحكم ببطلانه خفاؤه في نور السراج.

قوله جل ذكره : (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨))

كلّ عمل باطل إلا ما كان لوجه الله وللتقرب به إلى الله.

كلّ حيّ ميت إلا هو ، قال تعالى : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) : أي مات ؛ فكلّ شىء معدّ لجواز الهلاك والعدم ، ولا يبقى إلا (وَجْهَهُ) : ووجهه صفة من صفاته لا تستقل إلا به ،

٨٤

فإذا يقى وجهه فمن شرط بقاء وجهه بقاء ذاته ؛ لأن الصفة لا تقوم إلا بموجود ، ولا يكون هو باقيا إلا بوجود أوصافه الذاتية الواجبة له ؛ ففى بقاء وجهه بقاء ذاته وبقاء صفاته.

وفائدة تخصيص الوجه بالذكر هنا أنه لا يعرف وجوب وجهه إلا بالخبر والنقل دون (١) العقل ؛ فخصّ الوجه بالذكر لأنّ في بقاء الوجه بقاء الحقّ بصفاته.

__________________

(١) هكذا في م أما في ص فهى (نور) ، وتأويل الوجه على أنه صفة فيه رد على المشبهة.

٨٥

السورة التي يذكر فيها

العنكبوت

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

بسم الله اسم يوجب حظوة العابدين وعدا ، وسماعه يوجب سلوة الواجدين نقدا (١).

اسم من ذكره وصل إلى مثوبته في آجله ، ومن سمعه (٢) حظى بقربته في عاجله.

قوله جل ذكره : (الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢))

«الألف» إشارة إلى تفرّده عن كل غير بوجه الغنى ، وباحتياج كل شىء إليه ؛ كالألف تتصل بها كل الحروف ولكنها لا تتصل بحرف.

«واللام» تشير إلى معنى أنه ما من حرف إلا وفي آخره صورة تعويج ما ، واللام أقرب الحروف شبها بالألف ـ فهى منتصبة القامة مثلها ، والفرق بينهما أن الألف لا يتصل بها شىء ولكن اللام تتصل بغيرها ـ فلا جرم لا يكون في الحروف حرف واحد متكون من حرفين إلا اللام والألف ويسمى لام ألف ويكتب على شكل الاقتناع مثل صورة لام.

أمّا «الميم» فالإشارة فيه إلى الحرف «من» ؛ فمن الربّ الخلق ، ومن العبد خدمة الحق ، ومن الربّ الطّول والفضل ...

(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا ..) بمجرد الدعوى في الإيمان دون المطالبة بالبلوى ، وهذا لا يكون ، فقيمة كلّ أحد ببلواه ، فمن زاد قدر معناه زاد قدر بلواه ؛ فعلى النفوس بلاء وهو

__________________

(١) النقد مكافاة في الدنيا وهي المواصلات والمكاشفات ، والوعد مكافأة في الآخرة وهي الجنة.

(٢) المقصود بالسماع هنا ما يوجب الهيمان.

٨٦

المطالبة عليها بإخراجها عن أوطان الكسل وتصريفها في أحسن العمل. وعلى القلوب بلاء وهو مطالبتها بالطلب والفكر الصادق بتطلّع البرهان على التوحيد والتحقق بالعلم. وعلى الأرواح بلاء وهو التجرّد عن محبة كلّ أحد والتفرّد عن كل سبب ، والتباعد عن كل المساكنة لشىء من المخلوقات. وعلى الأسرار بلاء وهو الاعتكاف بمشاهد الكشف بالصبر على آثار التجلّى إلى أن تصير مستهلكا فيه.

ويقال فتنة العوام في أيام النظر والاستدلال ، وفتنة الخواص في حفظ آداب الوصول فى أوان المشاهدات. وأشدّ الفتن حفظ وجود التوحيد لئلا يجرى عليك مكر في أوقات غلبات شاهد الحقّ فيظن أنه الحق ، ولا يدرى أنّه من الحقّ ، وأنّه لا يقال إنّه الحقّ ـ وعزيز من يهتدى إلى ذلك (١).

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣))

لم يخلهم من البلاء والمحن ليظهر صبرهم في البلاء أو ضدّه من الضجر ، وشكرهم فى الرخاء أو ضدة من الكفر والبطر. وهم في البلاء ضروب : فمنهم من يصبر في حال البلاء ، ويشكر في حال النّعماء .. وهذة صفة الصادقين. ومنهم من يضجّ ولا يصبر في البلاء ، ولا يشكر في النعماء .. فهو من الكاذبين. ومنهم من يؤثر في حال الرخاء ألّا يستمتع بالعطاء ، وبستروح إلى البلاء ؛ فيستعذب مقاساة الضّرّ والعناء .. وهذا أجلّهم.

قوله جل ذكره : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤))

يرتكبون المخالفات ثم يحكمون لأنفسهم بالنجاة .. ساء حكمهم! فمتى ينجو من العذاب من ألقى جلباب التّقى؟!

ويقال توهموا أنه لا حشر ولا نشر ، ولا محاسبة ولا مطالبة.

ويقال اغتروا بإمهالنا اليوم ، وتوهّموا أنهم منّا قد أفتلوا ، وظنوا أنهم قد أمنوا.

__________________

(١) يفيد هذا الكلام عند البحث في قضية الحلاج الذي قال وهو غائب في غلبات الشهود : «أنا الحق»

٨٧

ويقال ظنوا أنهم باجتراحهم السيئات أن جرى التقدير لهم بالسعادة ، وأنّ ذلك يؤخر حكمنا .. كلا ، فلا يشقى من جرت قستنا له بالسعادة ، وهيهات أن يتحول من سبق له الحكم بالشقاوة!

قوله جل ذكره : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥))

من خاف عذابه يوم الحساب فسيلقى يوم الحشر الأمان الموعود منّا لأهل الخوف اليوم. ومن أمّل الثواب يوم البعث فسوف يرى ثواب ما أسلفه من العمل. ومن زجّى عمره في رجاء لقائنا فسوف نبيح له النّظر إلينا ، وسوف يتخلص من الغيبة والفرقة.

(وَهُوَ السَّمِيعُ) لأنين المشتاقين ، (الْعَلِيمُ) بحنين المحبين الوالهين.

قوله جل ذكره : (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦))

من أحسن فنجاة نفسه طلبها ، وسعادة حالة حصّلها. ومن أساء فعقوبة نفسه جلبها ، وشقاوة جدّه اكتسبها.

ويقال ثواب المطيعين إليهم مصروف ، وعذاب العاصين عليهم موقوف .. والحقّ عزيز لا يلحقه بالوفاق زين ، ولا يمسّه من الشّقاق شين ..

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧))

من رفع إلينا خطوة نال منّا خطوة ، ومن ترك فينا شهوة وجد منّا صفوة ، فنصيبهم من الخيرات موفور ، وعملهم في الزلّات مغفور .. بذلك أجرينا سنّتنا ، وهو متناول حكمنا وقضيتنا.

قوله جل ذكره : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً).

٨٨

أمر الله العباد برعاية حقّ الوالدين تنبيها على عظم حق التربية. وإذا كانت تربية الوالدين ـ وهي إن حسنت ـ فالى حدّ يوجب رعايتهما فما الظنّ برعاية حق الله تعالى ، والإحسان العميم بالعبد والامتنان القديم الذي خصّه به من قبل ومن بعد؟!

قوله جل ذكره : (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

إن جاهداك على أن تشرك بالله فإياك أن تطيعهما ، ولكن ردّ بلطف ، وخالف برفق.

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩))

أي لنلحقنهم بالذين أصلحوا من قبلهم ، فإن المعهود من سنّتنا إلحاق الشكل بشكله ، وإجراء المثل على حكم مثله.

قوله جل ذكره : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠))

المحن تظهر جواهر الرجال ، وهي تدلّ على قيمهم وأقدارهم ؛ فقدر كلّ أحد وقيمته يظهر عند محنته ؛ فمن كانت محنته من فوات الدنيا ونقصان نصيبه منها ، أو كانت محنته بموت قريب من الناس ، أو فقد حبيب من الخلق فحقير قدره ، وكثير في الناس مثله. ومن كانت محنته في الله ولله فعزيز قدره ، وقليل من كان مثله ، فهم في العدد قليل ولكن في القدر والخطر جليل : وبقدر الوقوف في البلاء تظهر جواهر الرجال ، وتصفو عن الخبث نفوسهم.

والمؤمن من يكفّ الأذى ، ويتحمل من الخلق الأذى ، ويتشرب ولا يترشح بغير

٨٩

شكوى ولا إظهار ؛ كالأرض يلقى عليها كلّ خبيث فتنبت كلّ خضرة وكل نزهة (١).

قوله جل ذكره : (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١))

إذا اشتبكت دموع في خدود

تبيّن من بكى ممن تباكى

قوله جل ذكره : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢))

ضمنوا بما لم يفوا به ، وأخلفوا فيما وعدوا فما حملوا من خطاياهم عنهم شيئا ، بل زادوا على حمل نفوسهم ؛ فاحتقبوا وزر ما عملوا ، وطولبوا بوزر ما به أمروا (٢) ، فضاعف عليهم العقوبة ، ولم يصل أحد من جهتهم إلى راحة ، وما مواعيدهم للمسلمين إلا مواعيد عرقوب أخاه بيثرب.

قوله جل ذكره : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣))

وسيلحق بهؤلاء أصحاب الدعاوى والمتشبّهون بأهل الحقائق :

من تحلّى بغير ما هو فيه

فضح الامتحان ما يدّعيه

وقال تعالى : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣) .. وهيهات هيهات!

__________________

(١) القشيري هنا مستفيد من قول الجنيد : (الصوفي كالأرض يطرح عليها كل قبيح ولا يخرج منها إلا كل مليح) الرسالة ص ١٣٩.

(٢) رأينا بناء (أمروا) المعلوم حتى يتضح أن وزرهم أشد نتيجة قولهم الذين آمنوا : (اتبعوا سبيلنا) ؛ فالداعى إلى السوء يحمل وزر نفسه ووزر من يقتدى به. ومن الجائز أن تبنى المجهول فتكون (أمروا) ولكن المعنى يكون أقل تأثيرا وأداء.

(٣) آية ١١١ سورة البقرة.

٩٠

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥)) الآية

ما زادهم طول مقامه فيهم إلا شكا في أمره ، وجهلا بحاله ، ومرية في صدقه ، ولم يزدد نوح ـ عليه‌السلام ـ لهم إلّا نصحا ، وفي الله إلا صبرا. ولقد عرّفه الله أنه لن يؤمن منهم إلا الشّر ذمة اليسيرة الذين كانوا قد آمنوا ، وأمره باتخاذ السفينة ، وأغرق الكفار ولم يغادر منهم أحدا ، وصدق وعده ، ونصر عبده .. فلا تبديل لسنّته في نصرة دينه.

قوله جل ذكره : (وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦))

كرّر ذكر ابراهيم في هذا الموضع ، وكيف أقام على قومه الحجّة ، وأرشدهم إلى سواء المحجة ، ولكنهم أصروا على ما جحدوا ، وتعصبوا لما من الأصنام عبدوا ، وكادوا لابراهيم كيدا .. ولكن انقلب ذلك عليهم من الله مكرا بهم واستدراجا. ولم ينجع فيهم نصحه ، ولا وجد منهم مساغا وعظه.

قوله جل ذكره : (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧))

لا يدرى أيهما أقبح .. هل أعمالكم في عبادة هذه الجمادات أم أقوالكم ـ فيما تزعمون كذبا ـ عن هذه الجمادات؟ وهي لا تملك لكم نفعا ولا تدفع عنكم ضرا ، ولا تملك لكم خيرا ولا شرا ، ولا تقدر أن تصيبكم بهذا أو ذاك.

٩١

وبيّن أنهم في هذا لم يكونوا خالين عن ملاحظة الحظوظ وطلب الأرزاق (١) فقال :

(فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ) لتصلوا إلى خير الدارين.

وابتغاء الرزق من الله إدامة الصلاة ؛ فإن الصلاة استفتاح باب الرزق ، قال تعالى :

(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً) (٢)

ويقال ابتغاء الرزق بشهود موضع الفاقة فعند ذلك تتوجه الرغبة إلى الله تعالى فى استجلاب الرزق.

وفي الآية تقديم لابتغاء الرزق على الأمر بالعبادة ؛ لأنه لا يمكنه القيام بالعبادة إلا بعد كفاية الأمر ؛ فبالقوة يمكنه أداء العبادة ، وبالرزق يجد القوة ، قالوا :

إذا المرء لم يطلب معاشا لنفسه

فمكروه ما يلقى يكون جزاؤه

(وَاشْكُرُوا لَهُ) : حيث كفاكم أمر الرزق حتى تفرغتم لعبادته (٣).

قوله جل ذكره : (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨))

وبال التكذيب عائد على المكذّب ، وليس على الرسول ـ بعد تبليغه الرسالة بحيث لا يكون فيه تقصير كى يكون مبيّنا ـ شىء آخر. وإلا يكون قد خرج عن عهدة الإلزام.

وفيما حلّ بالمكذّبين من العقوبة ما ينبغى أن يكون عبرة لمن بعدهم.

قوله جل ذكره : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩))

__________________

(١) فالعبادة الخالصة علامتها أن تكون خالصة للمعبود بلا تطلع لعوض أو غرض ؛ والغيبة عن أي (وارد من تذكر ثواب أو تفكر عقاب) الرسالة ص ٤٠.

(٢) آية ١٣٢ سورة طه.

(٣) عنى القشيري بتوضيح النسق في الأسلوب القرآنى حين ناقش ترتيب الكلام على نحو مقنع أخاذ.

٩٢

الذي داخلهم فيه الشّكّ كان بعث الخلق ، فاحتجّ عليهم بما أراهم من إعادة فصول السّنة بعد تقضّيها على الوجه الذي كان في العام الماضي. وبيّن أن جمع أجزاء المكلّفين بعد انقضاض البنية كإعادة فصول السنة ؛ فكما أن ذلك سائغ في قدرته غير مستنكر فكذلك بعث الخلق.

وكما في فصول السنة تتكرر أحوال العبادة في الأحوال العامة المشتركة بين الكافة ، وفي خواص أحوال المؤمنين من استيلاء شهوات النفوس ، ثم زوالها ، إلى موالاة الطاعات ، ثم حصول الفترة ، والعود إلى مثل الحالة الأولى ، ثم بعد ذلك الانتباه بالتوبة .. كذلك تتكرر عليهم الأحوال.

وأرباب القلوب تتعاقب أحوالهم في القبض والبسط ثم في الهيبة والأنس ، ثم في التجلي والسّتر ، ثم في البقاء والفناء ، ثم في السكر (١) والصحو .. وأمثال هذا كثير. وفي هذا المعنى قوله :

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠))

وفي معنى تكرير الأحوال ما أنشدوا :

كلّ نهر فيه ماء قد جرى

فإليه الماء يوما سيعود

قوله جل ذكره : (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١))

أجناس ما يعذّب به عباده وأنواع ما يرجم به عباده .. لا نهاية لها ولا حصر ؛ فمن ذلك أنه يعذّب من يشاء بالخذلان ، ويرحم من يشاء بالإيمان. يعذّب من يشاء بالجحود والعنود ،

__________________

(١) وردت في ص (الشك) وفي م (السكر) والصواب هذه لأنها تلاثم السياق .. فالسكر والصحو حالان من أحوال الفناء.

٩٣

ويرحم من يشاء بالتوحيد والوجود. يعذب من يشاء بالحرص ويرحم من يشاء بالقناعة. يعذّب من يشاء بتفرقة الهمّ ويرحم من يشاء بجمع الهمّة. يعذب من يشاء بإلقائه في ظلمة التدبير ، ويرحم من يشاء بإشهاده جريان التقدير. يعذب من يشاء بالاختيار من نفسه ، ويرحم من يشاء برضاه بحكم ربّه. يعذب من يشاء بإعراضه عنه ، ويرحم من يشاء بإقباله عليه. يعذب من يشاء بأن يكله ونفسه ، ويرحم من يشاء بأن يقوم بحسن تولّيه. يعذب من يشاء بحبّ الدنيا ويمنعها عنه ، ويرحم من يشاء بتزهيده فيها وبسطها عليه. يعذب من يشاء بأن يثبته في أوطان العادة ، ويرحم من يشاء بأن يقيمه بأداء العبادة ... وأمثال هذا كثير.

قوله جل ذكره : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢))

نقلّب الجملة في القبضة ، ونجرى عليهم أحكام التقدير : جحدوا أم وحّدوا ، أقبلوا أم أعرضوا.

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣))

تعجلت عقوبتهم بأن يئسوا من رحمته .. ولا عقوبة أشدّ من هذا.

قوله جل ذكره : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤))

لمّا عجزوا عن جوابه ولم يساعدهم التوفيق بالإجابة أخذوا في معارضته بالتهديد والوعيد ، والسفاهة والتوبيخ ، والله تعالى صرف عنه كيدهم ، وكفاه مكرهم ، وأفلج عليهم عليهم حجّته (١) ،

__________________

(١) أفلج الله عليهم حجته أي أظهرها وأثبتها.

٩٤

وأظهر للكافة عجزهم ، وأخبر عما يلحقهم في مآلهم من استحقاق اللّعن والطرد ، وفنون الهوان والخزي.

قوله جل ذكره : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦))

لا تصحّ الهجرة إلى الله إلّا بالتبرّى ـ بالكمال ـ بالقلب عن غير الله. والهجرة بالنّفس يسيرة بالإضافة إلى الهجرة بالقلب ـ وهي هجرة الخواص ؛ وهي الخروج عن أوطان التفرقة إلى ساحات الجمع. والجمع بين التعريج في أوطان التفرقة والكون في مشاهد الجمع متناف (١).

قوله جل ذكره : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧))

لمّا لم يجب قومه ، وبذل لهم النصح (٢) ، ولم يدّخر عنهم شيئا من الشفقة ـ حقّق الله مراده في نسله ، فوهب له أولاده ، وبارك فيهم ، وجعل في ذريته الكتاب والنبوة ، واستخلصهم للخيرات حتى صلحت أعمالهم للقبول ، وأحوالهم للإقبال عليها ، ونفوسهم للقيام بعبادته ، وأسرارهم لمشاهدته ، وقلوبهم لمعرفته.

(وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) للدنوّ والزلفة والتخصيص بالقربة.

قوله جل ذكره : (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨))

__________________

(١) ما يكون كسبا للعبد وما يليق بأحوال البشرية فهو فرق وما يكون من قبل الحق من إبداء معان وإسداء لطف وإحسان فهو جمع فإثبات الخلق من باب التفرقة وإثبات الحق من نعت الجمع (الرسالة ص ٣٨).

(٢) فى ص زاد الناسخ (فى أوطان) وهي غير موجودة في م والسياق يستغنى عنها.

٩٥

لامهم على خصلتهم الشنعاء ، وما كانوا يتعاطونه على الله من الاجتراء ، وما يضيّعونه من المعروف ويأتون من المنكر الذي جملته تخليته الفسّاق مع فسقهم ، وترك القبض على أيديهم ، وقلة الاحتشام من اطّلاع الناس على قبائح أعمالهم. ومن ذلك قلة احترام الشيوخ والأكابر ، ومنها التسويف في التوبة ، ومنها التفاخر بالزلّة.

فما كان جوابهم إلا استعجال العقوبة ، فحلّ بهم من ذلك ما أهلكهم وأهلك من شاركهم.

قوله جل ذكره : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢))

التبس على إبراهيم أمرهم فظنّهم أضيافا ؛ فتكلّف لهم تقديم العجل الحنيذ جريا على سنّته فى إكرام الضيف. فلما أخبروه مقصودهم من إهلاك قوم لوط تكلّم في باب لوط ... إلى أن قالوا : إنّا منجّوه. وكان ذلك دليلا على أن الله تعالى لو أراد إهلاك لوط ـ وإن كان بريئا ـ لم يكن ظلما ؛ إذ لو كان قبيحا لما كان إبراهيم عليه‌السلام ـ مع وفرة علمه ـ يشكل عليه حتى كان يجادل عنه. بل لله أن يعذّب من يعذّب ، ويعافى من يعافى (١).

قوله جل ذكره : (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣))

لمّا أن رآهم لوط ضاق بهم قلبه لأنه لم يعلم أنهم ملائكة ، فخاف عليهم من فساد قومه ؛ فكان ضيق قلبه لأجل الله ـ سبحانه ، فأخبروه بأنهم ملائكة ، وأنّ قومه لن يصلوا إليهم ، فعند ذلك سكن قلبه ، وزال ضيق صدره.

__________________

(١) أي أبرأه من العلل والبلايا وأصحّه.

٩٦

ويقال أقرب ما يكون العبد في البلاء من الفرج إذا اشتدّ عليه البلاء ؛ فعند ذلك يكون زوال البلاء ، لأنه يصير مضطّرا ، والله سبحانه وعد المضطرين وشيك الاجابة (١). كذلك كان لوط في تلك الليلة ، فقد ضاق بهم ذرعا ثم لم يلبث أن وجد الخلاص من ضيقه.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥))

فمن أراد الاعتبار فله في قصتها عبرة.

قوله جل ذكره : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً ...) الآيات.

ذكر قصة شعيب وقصة عاد وثمود وقصة فرعون ، وقصة قارون .. وكلهم نسج بعضهم على منوال بعض ، وسلك مسلكهم ، ولم يقبلوا النصح ، ولم يبالوا بمخالفة رسلهم ، ثم إن الله تعالى أهلكهم بأجمعهم ، إمضاء لسنّته في نصرة الضعفاء وقهر الظالمين.

قوله جل ذكره : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١))

العنكبوت يتخذ لنفسه بيتا ، ولكن كلما زاد نسجا في بيته ازداد بعدا في الخروج منه ؛ فهو بينى ولكن على نفسه بينى .. كذلك الكافر يسعى ولكن على نفسه يجنى.

وبيت العنكبوت أكثره في الزوايا من الجدران ، كذلك الكافر أمره على التّقيّة (٢) والكتمان ، وأمّا المؤمن فظاهر المعاملة ، لا يستر ولا يدخمس (٣).

__________________

(١) يشير إلى قوله تعالى : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) آية ٦٢ سورة النمل.

(٢) التقية عند بعض الفرق الإسلامية معناها إخفاء الحق ومصانعة الناس في غير دولتهم.

(٣) دخمس عليه لم يبيّن له ما يريد ، ودخمس الشيء ستره.

٩٧

وبيت العنكبوت أوهن البيوت لأنه بلا أساس ولا جدران ولا سقف ولا يمسك على أدون (١) دفع .. كذلك الكافر ؛ لا أصل لشأنه ، ولا أساس لبنيانه ، يرى شيئا ولكن بالتخييل ، فأمّا في التحقيق .. فلا.

قوله جل ذكره : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣))

الكلّ يشتركون في سماع الأمثال ، ولكن لا يصغى إليها من كان نفور القلب ، كنود الحال ، متعودا الكسل ، معرّجا في أوطان الفشل.

قوله جل ذكره : (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤))

(بِالْحَقِّ) : أي بالقول الحق والأمر الحق.

قوله جل ذكره : (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥))

أي من شأن المؤمن وسبيله أن ينتهى عن الفحشاء والمنكر ، أي على معنى ينبغى للمؤمن أن ينتهى عن الفحشاء والمنكر ، كقوله : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي ينبغى للمؤمن أن يتوكل على الله ، فإن قدّر أن واحدا منهم لا يتوكل فلا يخرج به ذلك عن الايمان ـ كذلك من لم ينته عن الفحشاء والمنكر فليست تخرج صلاته عن كونها صلاة.

ويقال بل الصلاة الحقيقة ما تكون ناهية لصاحبها عن الفحشاء والمنكر ؛ فإن لم يكن من العبد انتهاء فالصلاة ناهية على معنى ورود الزواجر على قلبه بألا يفعل ، ولكنه يصرّ ولا يطيع تلك الخواطر.

__________________

(١) أي على أضعف دفع

٩٨

ويقال بل الصلاة الحقيقية ما تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر. فإن كان ـ وإلا فصورة الصلاة لا حقيقتها ويقال الفحشاء هي الدنيا ، والمنكر هو النّفس.

ويقال الفحشاء هي المعاصي ، والمنكر هو الحظوظ.

ويقال الفحشاء الأعمال ، والمنكر حسبان النجاة بها ، وقيل ملاحظته الأعواض عليها ، والسرور والفرح بمدح الناس لها.

ويقال الفحشاء رؤيتها ، والمنكر طلب العوض عليها.

(وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) (١) : ذكر الله أكبر من ذكر المخلوقين ؛ لأن ذكره قديم وذكر الخلق محدث.

ويقال ذكر العبد لله أكبر من ذكره للأشياء الأخرى ؛ لأن ذكره لله طاعة ، وذكره لغيره لا يكون طاعة.

ويقال ولذكر الله لك أكبر من ذكرك له.

ويقال ذكره لك بالسعادة أكبر من ذكرك له بالعبادة.

ويقال ذكر الله أكبر من أن تبقى معه وحشة.

ويقال ذكر الله أكبر من أن يبقى للذاكر معه ذكر مخلوق.

ويقال ذكر الله أكبر من أن يبقى للزّلة معلوما أو مرسوما.

ويقال ذكر الله أكبر من أن يعيش أحد من المخلوقين بغيره.

ويقال ولذكر الله أكبر من أن يبقى معه للفحشاء والمنكر سلطانا ؛ فلحرمة ذكره زلّات الذاكر مغفورة ، وعيوبه مستورة.

قوله جل ذكره : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي

__________________

(١) رأى القشيري فى (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) ، ليس فيه كما يلحظ القارئ تقليل من قيمة الصلاة العادية التي وردت في الآية نفسها ، كما قد يدعى بعض من يتهمون الصوفية بأنهم يرفعون «ذكرهم» ويخفضون قيمة «الصلاة» وبالتالى لأ يأبهون بها ـ .. وهذا ـ كما هو واضح ـ اتهام باطل.

٩٩

هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦))

ينبغى أن يكون منك للخصم تبيين ، وفي خطابك تليين ، وفي قبول الحق إنصاف ، واعتقاد النصرة ـ لما رآه صحيحا ـ بالحجة ، وترك الميل إلى الشيء بالهوى.

قوله جل ذكره : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧))

يعنى أنهم على أنواع : فمرحومّ نظرنا إليه بالعناية ، ومحروم وسمناه بالشقاوة.

قوله جل ذكره : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨))

أي تجرّد قلبك عن المعلومات ، وتقدّس سرّك عن المرسومات ، فصادفك من غير ممازجة طبع ومشاركة كسب وتكلف بشرية (١) ، فلما خلا قلبك وسرّك عن كل معلوم ومرسوم ورد عليك خطابنا وتفهيمنا غير مقرون بهما ما ليس منّا.

قوله جل ذكره : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩))

قلوب الخواص من العلماء بالله خزائن الغيب ، فيها أودع براهين حقه ، وبينات سرّه ، ودلائل توحيده ، وشواهد ربوبيته ؛ فقانون (٢) الحقائق قلوبهم ، وكلّ شىء يطلب من موطنه

__________________

(١) أي أن هذه الآفات تلحق علوم الإنسان حينما لا تكون خالصة.

(٢) من معانى كلمة (القانون) طريق الشيء وأصله.

١٠٠