لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

(وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨))

أي فنون أخرى من مثل ذلك العذاب.

قوله جل ذكره : (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩))

هؤلاء قوم يقتحمون النار معكم وهم أتباعكم ، ويقول الأتباع للمتبوعين :

لا مرحبا بكم ؛ أنتم قدمتموه لنا بأمركم فوافقناكم ، ويقولون :

(رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ)

فيقال لهم كلّكم فيها ، ولن يفتر العذاب عنكم.

قوله جل ذكره : (وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢))

يقول الكفار عند ما يدخلون النار : ما لنا لا نرى رجالا كنّا نعدهم في الدنيا من الأشرار والمستضعفين .. فلسنا نراهم هاهنا؟ أهم ليسوا هنا أم زاغت عنهم أبصارنا؟ يقوله أبو جهل وأصحابه يعنون بلالا والمستضعفين ، فيعرّفون بأنهم في الفردوس ، فتزداد حسراتهم.

(إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤))

أي إن مخاصمة أهل النار في النار لحقّ.

قوله جل ذكره : (قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥))

قل يا محمد : إنما أنا منذر مخوّف ، مبلّغ رسالة ربى ، وما من إله إلا الله الواحد الذي لا شريك له.

(قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨)

٢٦١

ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠))

أي الذي أتيتكم به من الأخبار عن القيامة والحشر ، والجنة والنار ، وما أخبرتكم به عن نبوّتى وصدقى هو نبأ عظيم ، وأنتم أعرضتم عنه.

وما كان لى من علم بالملأ الأعلى واختصامهم فيه لو لا أنّ الله عرّفنى ، وإلا ما كنت علمته. والملأ الأعلى قوم من الملائكة في السماء العليا ، واختصامهم كان في شأن آدم حيث قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها؟

وقد ورد في الخبر : «أن جبريل سأل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذا الاختصام فقال : لا أدرى. فقال جبريل : فى الكفارات والدرجات ؛ فالكفارات إسباغ الوضوء فى السّبرات (١) ، ونقل الأقدام إلى الجماعات ، وأما الدرجات فإفشاء السلام ، وإطعام الطعام ، والصلاة بالليل والناس نيام» (٢). وإنما اختلفوا في بيان الأجر وكمية الفضيلة فيها ـ فيجتهدون ويقولون إن هذا أفضل من هذا ، ولكنهم في الأصل لا يجحدون.

.. وهذا إنما يوحى إليّ وأنا منذر مبين.

قوله جل ذكره : (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١))

إخباره الملائكة بذلك إنما يدلّ على تفخيم شأن آدم ؛ لأنه خلق ما خلق من الكونين (٣) ،

__________________

(١) السبرات جمع سبرة بسكون الباء وهي الغداة الباردة.

(٢) روى الخبر أبو الأشهب عن الحسن هكذا : «سألنى ربى فقال : يا محمد ، فيم اختصم الملأ الأعلى؟ قلت في الكفارات والدرجات ، قال : ما الكفارات؟ قلت :

المشي على الأقدام إلى الجماعات ....» أخرجه الترمذي بمعناه عن ابن عباس ، وقال فيه حديث غريب. وعن معاذ بن جبل أيضا وقال : حديث حسن صحيح.

(٣) هكذا في م وهى في ص (المكذبين) وهي خطأ في النسخ كما هو واضح.

٢٦٢

والجنة والنار ، والعرش والكرسي ، والملائكة ، ولم يقل في صفة شىء منها ما قال في صفة آدم وأولاده. ولم يأمر بالسجود لأحد ولا لشىء إلا لآدم ، وسبحان الله! خلق أعزّ خلقه من أذلّ شىء وأخسّه وهو التراب والطين.

(فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤))

روح آدم ـ وإن كانت مخلوقة ـ فلها شرف على الأرواح لإفرادها بالذكر ، فلمّا سوّى خلق آدم ، وركّب فيه الروح جلّله بأنوار التخصيص ، فوقعت هيبته على الملائكة ، فسجدوا لأمره ، وظهرت لإبليس شقاوته ، ووقع ـ بامتناعه ـ فى اللعنة.

(قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦))

من هنا وقع في الغلط ؛ توهّم أنّ التفضيل من حيث البنية والجوهرية ، ولم يعلم أن التفضيل من حيث القسمة دون الخلقة.

ويقال ما أودع الله ـ سبحانه ـ عند آدم لم يوجد عند غيره ، ففيه ظهرت الخصوصية.

قوله جل ذكره : (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨))

قال فاخرج من الجنة ، ومن الصورة التي كنت فيها ، ومن الحالة التي كنت عليها ، (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) مرميّ باللّعن منى ، وبالشّهب من السماء ، وبالرجوم من قلوب الأولياء إن تعرّضت لهم.

٢٦٣

قوله جل ذكره : (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١))

من كمال شقاوته أنه جرى على لسانه (١) ، وتعلّقت إرادته بسؤال إنظاره ، فازداد إلى القيامة في سبب عقوبته ، فأنظره الله ، وأجابه ، لأنه بلسانه سأل تمام شقاوته.

(قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣))

ولو عرف عزّته لما أقسم بها على مخالفته.

ويقال تجاسره في مخاطبة الحقّ ـ حيث أصرّ على الخلاف وأقسم عليه ـ أقبح وأولى فى استحقاق اللعنة من امتناعه للسجود لآدم (٢).

قوله جل ذكره : (قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥))

وختم الله سبحانه السورة بخطابه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إِنْ هُوَ

__________________

(١) فى هذه الإشارة دقة تحتاج إلى تأمل ، فقول القشيري «جرى على لسانه» تفيد أن مأساة إبليس ترجع إلى مشيئة عليا ، وإن كان ظاهر اللفظ أنه بلسانه اختار طريقه ، وبإرادته سعى إلى إنظاره.

وهكذا يغمز القشيري بمن يحاولون نسبة الحرية للإنسان ـ مع أن الحرية وبال ونكال.

ويذكّرنا هذا الموقف بقولة ابن عربى فى (شجرة الكون) عند شرح «كن فيكون» أن فى «كن» كل شىء ؛ فى الكاف كمال الدين والكفر ، وفي النون النعمة والنقمة ... فالله خالق كل شىء حين خاطب الكون : «كن»

(٢) فى هذه الإشارة لفتة إلى مقصد بعيد : أن الوقوع في الذنب أمر قبيح ولكن الإصرار على الذنب أقبح. وهذا حث للعصاة على الإقلاع عن المعاصي ، وعدم اليأس من رحمة الله. وتطالعنا سماحة القشيري في هذا الخصوص فى مواضع مختلفة من هذا الكتاب ، وكذلك أنظر باب «التوبة» فى الرسالة.

٢٦٤

إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨))

ما جئتكم من حيث أنا (١) ، ولا باختياري ، وإنما أرسلت إليكم.

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) يعنى القرآن ، عظة لكم.

(وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) وعلم صدقه بعد ما استمرت شريعته ، فإن مثل ذلك إذا كان باطلا لا يدوم (٢).

__________________

(١) أي من طرفى أو من جهتى.

(٢) أي أن دوام الشريعة وخلودها من آيات صحتها وصدقها.

٢٦٥

سورة الزمر

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

بسم الله كلمة سماعها يوجب للقلوب شفاءها ، وللأرواح ضياءها ، وللأسرار سناءها وعلاءها.

كلمة من سمعها بسمع العلم ازداد بصيرة على بصيرة ، ثم بلطائف من التعريف غير محصورة.

ومن سمعها بسمع الوجد ظلّت ألبابه مبهورة ، وأسراره بقهر الكشوفات منشورة.

قوله جل ذكره : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١))

أي هذا كتاب عزيز نزل من ربّ عزيز على عبد عزيز بلسان ملك عزيز في شأن أمة عزيزة بأمر عزيز. وفي ورود الرسول به من الحبيب الأول نزهة لقلوب الأحباب بعد ذبول غصن سرورها ، وارتياح عند قراءة فصولها.

وكتاب موسى في الألواح التي كان منها يقرأ موسى ، وكتاب نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزل به الروح الأمين على قلب المصطفى صلوات الله عليه .. وفصل بين من يكون كتاب ربّه مكتوبا في ألواحه ، وبين من يكون خطاب ربّه محفوظا في قلبه ، وكذلك أمته ، قال تعالى : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) (١).

قوله جل ذكره : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢))

أي أنزلنا عليك القرآن بالدين الحق والشرع الحق ، وأنا محقّ في إنزاله.

__________________

(١) آية ٤٩ سورة العنكبوت.

٢٦٦

والعبادة الخالصة معانقة الأمر على غاية الخشوع. وتكون بالنّفس والقلب والروح ؛ فالتى بالنفس فالإخلاص فيها التباعد عن الانتقاص ، والتي بالقلب فالإخلاص فيها العمى عن رؤية الأشخاص ، والتي بالروح فالإخلاص فيها التنقّى عن طلب الاختصاص (١).

قوله جل ذكره : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى)

الدين الخالص ما تكون جملته لله ؛ فما للعبد فيه نصيب فهو من الإخلاص بعيد ، اللهم أن يكون بأمره ؛ فإنه إذا أمر العبد أن يحتسب الأجر على طاعته فإطاعته لا تخرجه عن الإخلاص باحتسابه ما أمره به ، ولو لا هذا لما صحّ أن يكون في العالم مخلص.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ...) أي الذين عبدوا الأصنام قالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) ، ولم يقولوا هذا من قبل الله ولا بأمره ولا بإذنه ، وإنما حكموا بذلك من ذات أنفسهم ، فردّ الله عليهم. وفي هذا إشارة إلى أن ما يفعله العبد من القرب بنشاط نفسه من غير أن يقتضيه حكم الوقت ، وما يعقد بينه وبين الله من عقود ثم لا يفى بها .. فكل ذلك اتباع هوى ، قال تعالى : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) (٢).

قوله جل ذكره : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ)

لا تهديهم اليوم لدينه ، ولا في الآخرة إلى ثوابه. والإشارة فيه إلى تهديد من يتعرّض لغير مقامه ، ويدّعى شيئا ليس بصادق فيه ، فالله لا يهديه قط إلى ما فيه سداده ورشده. وعقوبته أن يحرمه ذلك الشيء الذي تصدّى له بدعواه قبل تحققه بوجوده وذوقه.

__________________

(١) تصلح هذه الفقرة لتوضيح درجات العبادة ودرجات الإخلاص ، والآفات التي تلحق كل درجة منها ، وكيفية التنقى عن هذه الآفات ـ وبمعنى آخر فإنها تهمنا عند ما نبحث أصول ما أطلقنا عليه : علم النفس الصوفي.

(٢) آية ٢٧ سورة الحديد.

٢٦٧

قوله جل ذكره : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤))

خاطبهم على قدر عقولهم وعقائدهم حيث قالوا : المسيح ابن الله ، وعزيز ولد الله ؛ فقال : لو أراد أن يتّخذ ولدا للتبنّى والكرامة لاختار من الملائكة الذين هم منزّهون عن الأكل والشرب وأوصاف الخلق.

ثم أخبر عن تقدّسه عن ذلك فقال : (سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) تنزيها له عن اتخاذ الأولاد .. لا في الحقيقة لاستحالة معناه في نعته ، ولا بالتبنى لتقدّسه عن الجنسية والمحالات ، وإنما يذكر ذلك على جهة استبعاد ؛ إذ لو كان ذلك فكيف كان يكون حكمه؟ كقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (١).

قوله جل ذكره : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ)

أي خلقهما وهو محقّ في خلقهما.

(يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى)

يدخل الليل على النهار ، ويدخل النهار على الليل في الزيادة والنقصان ، وسخّر الشمس والقمر. وقد مضى فيما تقدم اختلاف أحوال العبد في القبض والبسط ، والجمع والفرق ، والأخذ والرد ، والصحو والسّكر ، ونجوم العقل وأقمار العلم ، وشموس المعرفة ونهار التوحيد ، وليالى الشّكّ والجحد ونهار الوصل ، وليالى الهجر والفراق وكيفية اختلافها ، وزيادتها ونقصانها.

(أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ الْعَزِيزُ)

المتعزّز على المحبين ، (الْغَفَّارُ) للمذنبين.

__________________

(١) آية ٢٢ سورة الأنبياء.

٢٦٨

قوله جل ذكره : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦))

(مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) يعنى آدم وحواء.

(وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) أي خلق لكم ، (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) فمن الإبل اثنين ، ومن البقر اثنين ، ومن الضأن اثنين ، ومن المواشي اثنين.

(يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) : أي يصوّركم ، ويركّب أحوالكم.

(فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) : ظلمة البطن ، وظلمة الرّحم ، وظلمة المشيمة (١). ذكّرهم نسبتهم لئلا يعجبوا بأحوالهم.

ويقال بيّن آثار أفعاله الحكيمة في كيفية خلقتك ـ من قطرتين ـ أمشاجا متشاكلة الأجزاء ، مختلفة الصّور في الأعضاء ، سخّر بعضها محالّ للصفات الحميدة كالعلم والقدرة والحياة .. وغير ذلك من أحوال القلوب ، وسخّر بعضها محالّ للحواس كالسمع والبصر والشّمّ وغيرها.

ويقال هذه كلها نعم أنعم الله بها علينا فذكّرنا بها ـ والنفوس مجبولة ، وكذلك القلوب على حبّ من أحسن إليها ـ استجلابا لمحبتنا له.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ ...) (٢) أي إن الذي أحسن إليكم بجميع هذه الوجوه هو ربّكم.

__________________

(١) هكذا في م وهي الصواب أما في ص فهى (البشيمة)

والظلمات الثلاث التي أوردها القشيري على هذا النحو قالها ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك.

وقال أبو عبيدة : ظلمة صلب الرجل ، وظلمة بطن المرأة ، وظلمة الرحم (القرطبي ج ١٥ ص ٢٣٦).

(٢) يبدو أن القشيري منذ هذه اللحظة وحتى الاية الكريمة التالية انتابته حالة من حالات الذكر ، فجاءت كلماته أشبه بالتسبيح والنجوى.

٢٦٩

أي : أنا خلقتكم وأنا رزقتكم وأنا صوّرتكم فأحسنت صوركم ، وأنا الذي أسبغت عليكم إنعامى ، وخصعتكم بجميل إكرامى ، وأغرقتكم في بحار أفضالى ، وعرفتكم استحقاق جمالى وجلالى ، وهديتم إلى توحيدى ، وألزمتكم رعاية حدودى ... فما لكم لا تنقطعون بالكلية إليّ؟ ولا ترجون ما وعدتكم لديّ؟ وما لكم في الوقت بقلوبكم لا تنظرون إليّ؟

قوله جل ذكره : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)

إن أعرضتم وأبيتم ، وفي جحودكم تماديتم .. فما نفتقر إليكم ؛ إذ نحن أغنياء عنكم ، ولكنّى لا أرضى لكم أن تبقوا عنى!

يا مسكين ... أنت إن لم تكن لى فأنا عنك غنيّ ، وأنا إن لم أكن لك فمن تكون أنت؟ ومن يكون لك؟ من الذي يحسن إليك؟ من الذي ينظر إليك؟ من الذي يرحمك؟ من الذي ينثر التراب على جراحك؟

من الذي يهتم بشأنك؟ بمن تسلو إذا بقيت عنّى؟ من الذي يبيعك رغيفا بمثاقيل ذهب؟!.

عبدى .. أنا لا أرضى ألا تكون لى وأنت ترضى بألا تكون لى! يا قليل الوفاء ، يا كثير التجنّى!

إن أطعتنى شكرتك ، وإن ذكرتنى ذكرتك ، وإن خطوت لأجلى خطوة ملأت السماوات والأرضين من شكرك :

لو علمنا أنّ الزيارة حقّ

لفرشنا الخدود أرضا لترضى

٢٧٠

قوله جل ذكره : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً)

إذا مسّه ضرّ خشع وخضع ، وإلى قربه فزع ، وتملّق بين يديه وتضرع. فإذا أزال عنه ضرّه ، وكفاه أمره ، وأصلح شغله نسى ما كان يدعو إليه من قبل ، وجعل لله أندادا ، فيعود إلى رأس كفرانه ، وينهمك في كبائر عصيانه ، ويشرك بمعبوده. هذه صفته ... فسحقا له وبعدا ، ولسوف يلقى عذابا وخزيا.

قوله جل ذكره : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩))

(١) (قانِتاً) : القنوت هو القيام ، وقيل طول القيام. والمراد هو الذي يقوم بحقوق الطاعة أوقات الليل والنهار ؛ أي في جميع الأوقات.

والهمزة للاستفهام أي أمن هو قانت كمن ليس بقانت؟ أمن هو قانت كالكافر الذي جرى ذكره؟ أي ليس كذلك.

ويقال القنوت القيام بآداب الخدمة ظاهرا وباطنا من غير فتور ولا تقصير. (يَحْذَرُ) العذاب الموعود في الآخرة ، (وَيَرْجُوا) الثواب الموعود. وأراد بالحذر الخوف.

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ)

__________________

(١) قال ابن عباس في رواية عطاء : نزلت في أبى بكر الصديق رضى الله عنه.

وقال ابن عمر : نزلت في عثمان بن عفان.

وقال مقاتل : نزلت في عمار بن ياسر.

٢٧١

أي هل يستويان؟ هذا في أعلى الفضائل وهذا في سوء الرذائل! (الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) : العلم فى وصف المخلوق على ضربين : مجلوب مكتسب للعبد ، وموهوب من قبل الربّ. ويقال مصنوع وموضوع. ويقال علم برهان وعلم بيان ؛ فالعلوم الدينية كلّها برهانية إلّا ما يحصل بشرط الإلهام.

قوله جل ذكره : (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠))

أطيعوه واحذروا مخالفة أمره. (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا) بأداء الطاعات ، (والإحسان هو الإتيان بجميع وجوه الإمكان) (١).

(وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) : أي لا تتعلّلوا بأذى الأعداء ؛ إن نبا بكم منزل فتعلّلكم بمعاداة قوم ومنعهم إياكم ـ لا يسمع ، فأرض الله واسعة ، فاخرجوا منها إلى موضع آخر تتم لكم فيه عبادتكم (٢).

(إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ). والصبر حبس النّفس على ما تكرهه. ويقال هو تجرّع كاسات التقدير من غير استكراه ولا تعبيس.

ويقال هو التهدّف (٣) لسهام البلاء.

قوله جل ذكره : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١))

__________________

(١) تأخر ما بين قوسين فجاء بعد (السهام البلاء) فوضعناه في هذا المكان لأنه يوضح المقصود بتوضيح «أحسنوا».

(٢) يقول القشيري في إحدى وصاياه للمريدين حاثا على السفر : «إن ابتلى مريد بجاه أو معلوم أو صحبة حدث أو ميل إلى امرأة أو استنامة إلى معلوم وليس هناك شيخ يدله على ما به يتخلص من ذلك فعند ذلك حل له السفر والتحول عن ذلك الموضع ليشوش على نفسه تلك الحالة» (الرسالة ص ٢٠٢).

(٣) التهدف ـ الدنو والاستقبال.

٢٧٢

مضى القول في معنى الإخلاص. وفي الخبر : إن الله يقول : «الإخلاص سرّ بين الله وعبده» (١).

ويقال الإخلاص لا يفسده الشيطان ، ولا يطّلع علية الملكان.

(أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ ..) أمرت لأن أكون أول المسلمين في وقتى وفي شرعى. والإسلام الانقياد لله بكل وجه.

قوله جل ذكره : (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣))

أخاف أصناف العذاب التي تحصل في ذلك اليوم.

قوله جل ذكره : (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥))

هذا غاية الزجر والتهديد ، ثم بيّن أن ذلك غاية الخسران ، وهو الخزي والهوان. والخاسر ـ على الحقيقة ـ من خسر دنياه بمتابعة الهوى ، وخسر عقباه بارتكابه ما الربّ عنه نهى ، وخسر مولاه فلم يستح منه فيما رأى.

قوله جل ذكره : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦))

أحاط بهم سرادقها ؛ فهم لا يخرجون منها ، ولا يفترون عنها. كما أنهم اليوم في جهنم

__________________

(١) أخطأ الناسخ في ص إذ جعلها (ستر) بالتاء والصواب هى (سر) ، وقد ورد الخبر في الرسالة هكذا : أخبر النبي (ص) عن جبريل عن الله سبحانه أنه قال : «الإخلاص سر من سرى استودعته قلب من أحببته من عبادى» (الرسالة ص ١٠٤).

٢٧٣

عقائدهم ؛ يستديم حجابهم ، ولا ينقطع عنهم عقابهم (١).

(ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ ...) إن خفت اليوم كفيت خوف ذلك اليوم وإلّا فبين يديك عقبة كوود.

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى)

(٢) طاغوت كلّ إنسان نفسه ؛ وإنما يجتنب الطاغوت من خالف هواه ، وعانق رضا مولاه. وعبادة النّفس بموافقة الهوى ـ وقليل من لا يعبد هواه ، ويجتنب حديث النّفس.

(وَأَنابُوا إِلَى اللهِ) : أي رجعوا إليه في كل شىء.

قوله جل ذكره : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨))

(٣) (يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ) يقتضى أن يكون الاستماع لكل شىء ، ولكن الاتباع يكون للأحسن. (أَحْسَنَهُ) : وفيه قولان ؛ أحدهما أن يكون بمعنى الحسن ولا تكون الهمزة للمبالغة ، كما يقال ملك أعزّ أي عزيز. والثاني : والأحسن على المبالغة ، والحسن ما كان مأذونا فيه في صفة الخلق ويعلم ذلك بشهادة العلم (٤) ، والأحسن هو الأولى والأصوب. ويقال الأحسن ما كان لله دون غيره ، ويقال الأحسن هو ذكر الله خالصا له. ويقال من عرف الله لا يسمع إلا بالله.

__________________

(١) إن استيلاء الحب على قلب الصوفي يجعله ينظر إلى العقوبة في الآخرة على أنها أقل تعذيبا إذا قيست بعذاب الهجر والنأى ، أو على حد تعبيرهم جهنم الاحتراق أخف من جهنم الفراق .. ولهم في ذلك أقوال جريئة كثيرة (انظر كتابنا : نشأة التصوف الإسلامى ط دار المعارف ص ٢٤٨).

(٢) قال ابن زيد : نزلت هذه الآية في ثلاثة أنفار كانوا في الجاهلية يقولون : لا إله إلا الله ، وهم زيد بن عمرو وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي (الواحدي ص ٢٤٧).

(٣) نزلت في عثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة وسعيد بن زيد وسعد بن أبى وقاص وكان استماعهم لأبى بكر وهو يخبرهم بإيمانه (الواحدي ص ٢٤٧ ، ٢٤٨).

(٤) استخدم القشيري هذا المفهوم في تأييد وترخيص «السماع» بالمعنى الصوفي (الرسالة ص ١٦٦).

٢٧٤

ويقال إن للعبد دواعى من باطنه هي هواجس النفس ووساوس الشيطان وخواطر الملك وخطاب الحقّ يلقى في الرّوع ؛ فوساوس الشيطان تدعو إلى المعاصي ، وهواجس النفس تدعو إلى ثبوت الأشياء من النّفس وأنّ لها في شىء نصيبا ، وخواطر الملك تدعو إلى الطاعات والقرب ، وخطاب الحقّ في حقائق التوحيد.

(أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) : ـ

أولئك الذين هداهم الله لتوحيده ، وأولئك الذين عقولهم غير معقولة (١).

قوله جل ذكره : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩))

؟ الذين حقّت عليهم كلمة العذاب فريقان : فريق حقت عليهم كلمة بعذابهم في النار ، وفريق حقت عليهم كلمة العذاب بالحجاب اليوم ، فهم اليوم لا يخرجون عن حجاب قلوبهم ، ولا يكون لهم بهذه الطريقة إيمان ـ وإن كانوا من أهل الإيمان (٢).

قوله جل ذكره : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠))

وعد المطيعين بالجنّة ـ ولا محالة لا يخلف ، ووعد التائبين بالمغفرة ـ ولا محالة يغفر لهم ، ووعد المريدين بالوجود والوصول ـ وإذا لم تقع لهم فترة فلا محالة مصدق وعده.

قوله جل ذكره : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً

__________________

(١) (عقولهم غير معقولة) أي غير حبيسة أو ممنوعة عن الإدراك وتصحيح الإيمان ، فهذه هي المهمة الأساسية العقل في نظر المصنف ـ كما نوهنا بذلك. وربما كانت في الأصل (مقفولة) فيها أيضا يستقيم المعنى.

(٢) نعلم أن كثيرين في أوساط أهل السّتّة يعارضون العديد من مسائل التصوف ، ومن أمثالهم ابن تيميه وابن الجوزي.

٢٧٥

فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١))

أخبر أنه ينزل من السماء المطر فيخرج به الزرع فيخضرّ ، ثم يأخذ في الجفاف ، ثم يصير هشيما ... والإشارة من هذا إلى الإنسان ، يكون طفلا ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا ثم يصير إلى أرذل العمر ثم في آخره يخترم.

ويقال إن الزّرع ما لم يأخذ في الجفاف لا يؤخذ منه الحبّ ، فالحبّ هو المقصود منه .. كذلك الإنسان ما لم يحصل من نفسه وصول لا يكون له قدر ولا قيمة.

ويقال إن كون المؤمن بقوة عقله يوجب استفادة له بعلمه إلى أن يبدو منه كمال يمكّن من أنوار بصيرته ، ثم إذا بدت لائحة من سلطان المعارف تصير تلك الأنوار مغمورة. فإذا بدت أنوار التوحيد استهلكت تلك الجملة ، قالوا :

فلمّا استبان الصبح أدرج (١) ضوءه

بأنواره أنوار تلك الكواكب

قوله جل ذكره : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢))

جواب هذا الخطاب محذوف ... أي أفمن شرح الله صدره للإسلام كمن ليس كذلك؟

لمّا نزلت هذه الآية سئل الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن الشرح المذكور فيها ، فقال : «ذلك نور يقذف فى القلب ، فقيل : وهل لذلك أمارة؟

__________________

(١) أدرج الشيء أي أفناه (الوسيط). والمقصود أن أنوار مصابيح المعرفة الإنسانية تتلاشى وتفنى عند سطوع شمس الحقيقة. وقد وردت في ص ٤٣ من الرسالة (أدرك) والصواب في نظرنا (أدرج).

٢٧٦

قال : نعم ؛ التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت قبل نزوله (١)».

والنور الذي من قبله ـ سبحانه ـ نور الّلوائح بنجوم العلم ، ثم نور اللوامع ببيان الفهم ، ثم نور المحاضرة بزوائد اليقين ، ثم نور المكاشفة بتجلى الصفات ، ثم نور المشاهدة بظهور الذات ، ثم أنوار الصمدية بحقائق التوحيد .. وعند ذلك فلا وجد ولا فقد (٢) ، ولا قرب (٣) ولا بعد ... كلّا بل هو الله الواحد القهار (٤).

(فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٥) : أي الصلبة قلوبهم ، لم تقرعها خواطر التعريف فبقيت على نكرة الجحد .. أولئك في الضلالة الباقية ، والجهالة الدائمة ..

قوله جل ذكره : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ (٦)

__________________

(١) أورد الغزالي هذا الخبر في منقذه ، وشرح مهمة هذا النور بأنه الذي يطلب منه الكشف : وأنه ينبجس من النور الإلهى (المنقذ من الضلال ط القاهرة ص ٢٥٥).

(٢) هكذا في م وهي في ص (قصد) بالصاد وهي خطأ في النسخ ، فالوجد يقابله الفقد.

(٣) فى ص (ولا فرق) والصواب أن تكون (ولا قرب) لتقابل (ولا بعد) لأنه لو قال (ولا فرق) لكان قد قال (ولا جمع) مع أن الموقف هنا موقف (جمع) .. والمقصود اختفاء تقلبات التلوين ، والوصول إلى مرتبة التمكين ، أي الوصول إلى حال (جمع الجمع).

(٤) تفيد هذه الفقرة في فهم كثير من المصطلحات ، وهذه أول مرة نصادف للقشيرى عبارة (بظهور الذات) لأنه في مواضع كثيرة يلح على أن المشاهدة (للصفات كالجمال أو الجلال أو ... إلخ) أما (الذات) فقد جلّت الصمدية ـ كما يقول ـ عن أن يستشرف منها مخلوق.

(٥) نزلت في أبى لهب وأولاده الذين قست قلوبهم عن ذكر الله. (الواحدي ص ٢٤٨) واختار الطبري القول بأن (من) فى الآية بمعنى (عن) أي قست قلوبهم عن ذكر الله.

(٦) قال سعد بن أبى وقاص : قال أصحاب رسول الله (ص) : لو حدّثتنا .. فانزل الله عزوجل «الله نزّل أحسن الحديث» فقالوا : لو قصصت علينا .. فنزل «نحن نقص عليك أحسن القصص»

٢٧٧

يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣))

(أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) لأنه غير مخلوق (١)

(كِتاباً مُتَشابِهاً) فى الإعجاز والبلاغة.

(مَثانِيَ) : يثنى فيها الحكم ولا يملّ بتكرار القراءة ، ويشتمل على نوعين :

الثناء عليه بذكر سلطانه وإحسانه ، وصفات الجنة والنار والوعد والوعيد.

(تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) إذا سمعوا آيات الوعيد.

(ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) إذا سمعوا آيات الوعد.

ويقال : تقشعر وتلين بالخوف والرجاء ، ويقال بالقبض والبسط ، ويقال بالهيبة والأنس ، ويقال بالتجلّى والاستتار (٢).

قوله جل ذكره : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤))

أي فمن يتقى بوجهه سوء العذاب كمن ليس كذلك؟ وقيل إنّ الكافر يلقى النار أوّل ما يلقاها بوجهه ؛ لأنه يرمى فيها منكوسا. فأمّا المؤمن فيوقى ذلك ؛ وإنما يلقّى النضرة والسرور والكرامة ؛ فوجهه ضاحك مستبشر.

قوله جل ذكره : (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥))

__________________

(١) سمّى القرآن حديثا لأن الرسول (ص) كان يحدّث به أصحابه وقومه ، وهو كقوله : «فبأى حديث بعده يؤمنون» وقوله : «أفمن هذا الحديث تعجبون» ويخطّىء أهل السّنّة من يستند في أن القرآن مخلوق إلى أن «الحديث» من الحدوث فالكلام محدث فقالوا : الحدوث يرجع إلى التلاوة لا إلى المتلو ، كالذكر مع المذكور إذا ذكرنا أسماء الله وصفاته الحسنى.

(٢) يستفيد الصوفية من هذه الآية في تدعيم نظريتهم فى «السماع» والتأثرات النفسية والعضوية الناجمة عن تقلب الأحوال.

٢٧٨

أشدّ العذاب ما يكون بغتة ، كما أنّ أتمّ السرور ما يكون فلتة.

ومن الهجران والفراق ما يكون بغتة غير متوقع ، وهو أنكى للفؤاد وأشدّ وأوجع تأثيرا في القلب ، وفي معناه قلنا :

فبتّ بخير والدّنى مطمئنة

وأصبحت يوما والزمان تقلّبا

وأتمّ السرور وأعظمه تأثيرا ما يكون فجأة ، قال قائلهم :

بينما خاطر المنى بالتلاقى

سابح في فؤاده وفؤادى

جمع الله بيننا فالتقينا

هكذا صدفة بلا ميعاد

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨))

أي أوضحنا لهم الآيات ، ووقفناهم على حقائق الأشياء.

(غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) : فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

قوله جل ذكره : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩))

مثّل الكافر ومعبوديه يعبد اشترك فيه متنازعون.

(فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) : فالصنم يدعى فيه قوم وقوم آخرون ؛ فهذا يقول : أنا صنعته ، وذلك يقول : أنا استعملته ، وثالث يقول : أنا عبدته.

٢٧٩

أمّا المؤمن فهو خالص لله عزوجل ، يشبه «عبدا سلما لرجل» أي ذا سلامة من التنازع والاختلاف.

ويقال (رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) تتجاذبه أشغال الدّنيا ، شغل الولد وشغل العيال ، وغير ذلك من الأشغال المختلفة والخواطر المشتّتة.

أمّا المؤمن فهو خالص لله ليس لأحد فيه نصيب ؛ ولا للدنيا معه سبب إذ ليس منها شىء ، ولا للرضوان معه شغل (١) ، إذ ليس له طاعات يدلّ بها ، وعلى الجملة فهو خالص لله ، قال تعالى لموسى : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (٢) أي أبقيتك لى حتى لا تصلح لغيرى.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) : الثناء له ، وهو مستحقّ لصفات الجلال.

قوله جل ذكره : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١))

نعاه ـ عليه‌السلام ـ إليه. ونعى المسلمين إليهم ففزعوا بأجمعهم من ماثمهم (٣) ، ولا تعزية في العادة بعد ثلاث. ومن لم يتفرّغ من مآثم نفسه وأنواع همومه ، فليس له من هذا الحديث (٤) شمّة ، فإذا فرغ قلبه من حديث نفسه ، وعن الكون بجملته فحينئذ يجد الخير من ربّه ، وليس هذا الحديث إلا بعد فنائهم عنهم ، وأنشد بعضهم :

__________________

(١) لقيت الجنة من كبار الشيوخ مواقف لا يخلو التعبير عنها ـ عند من لا يفقهونها ـ الكثير من الاستغراب ، من ذلك ما يقوله أبو يزيد البسطامي : ما الجنة؟ لعبة صبيان! ويقول : الجنة هي الحجاب الأكبر لأن أهل الجنة سكنوا إلى الجنة ، وكلّ من سكن إلى الجنة سكن إلى سواه فهو محجوب.

(٢) آية ٤١ سورة طه.

(٣) هكذا في ص وهي مقبولة لتناسب الخصومة التي سيترتب عليها في الآخرة الاختصام.

(٤) يقصد حديث الفناء عن كل أرب وسيب ، أي الفناء بالمعنى الصوفي.

٢٨٠