لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

(الرَّحِيمِ) الذي يقرّب من تقرّب إليه ، ويجزل البرّ لمن توسّل به إليه (١).

قوله جل ذكره : (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨))

اقتطعه بهذه الآية عن شهود الخلق ، فإنّ من علم أنه بمشهد من الحقّ راعى دقائق أحواله ، وخفايا أموره مع الحقّ (٢).

قوله جل ذكره : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩))

هوّن عليه معاناة مشاقّ العبادة بإخباره برؤيته. ولا مشقّة لمن يعلم أنّه بمرأى من مولاه ، وإنّ حمل الجبال الرواسي على شفر (٣) جفن العين ليهون عند من يشاهد ربّه (٤).

ويقال (تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) بين أصحابك ، فهم نجوم وأنت بينهم بدر ، أو هم بدور وأنت بينهم شمس ، أو هم شموس وأنت بينهم شمس الشموس.

ويقال : تقلبك في أصلاب آبائك من المسلمين الذين عرفوا الله ، فسجدوا له دون من لم يعرفوه.

قوله جل ذكره : (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠))

(السَّمِيعُ) لأنين المحبين ، (الْعَلِيمُ) بحنين العارفين.

(السَّمِيعُ) لأنين المذنبين ، (الْعَلِيمُ) بأحوال المطيعين.

__________________

(١) هذه الإشارة نموذج طيب لعبقرية القشيري عند صياغة (وصاياه) للمريدين من الناحيتين الصوفية والأدبية.

(٢) يقال إنه لما دخل ذو النون المصري بغداد اجتمع إليه الصوفية ، ومعهم قوال ، فاستأذنوا ذا النون أن يقول بين يديه شيئا ، فأذن له ، فابتدأ يقول ، فقام ذو النون وسقط على وجهه والدم يقطر من جبينه ولا يسقط على الأرض. ثم قام رجل من القوم يتواجد ، فقال له ذو النون : «الذي يراك حين تقوم» فجلس الرجل.

ويعلق الشيخ الدقاق على هذه القصة بأن ذا النون كان صاحب إشراف على هذا الرجل ، وكان الرجل صاحب إنصاف حين قبل منه ذلك فرجع وقعد (الرسالة ص ١٧٠).

(٣) شفر الجفن ـ حرفه الذي ينبت عليه الهدب. (الوسيط).

(٤) يربط النسفي بين هذه الآية وبين الآيتين السابقة واللاحقة ، فالمعنى عنده : أنه سبحانه (يراك حين تقوم) متهجدا ، ويرى (تقلبك) فى المصلين ؛ يرى ما كنت تفعل في جوف الليل من قيامك للتهجد ، وتقلبك في تصفح أحوال المتهجدين من أصحابك لتطلع عليهم من حيث لا يشعرون ، ولتعلم كيف كانوا يعملون لآخرتهم. وهو (سميع) لما تقوله ، (عليم) بما تنويه وبما تعمله ، وبذلك هوّن عليه معاناة كل مشقة حيث أخبر برؤيته له في كل ما يقوم به.

٢١

قوله جل ذكره : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣))

بيّن أن الشياطين تتنزّل على الكفار والكهنة (١) فتوحى إليهم بوساوسهم الباطلة.

قوله جل ذكره : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤))

لمّا ذكر الوحى وما يأتى به الملائكة من قبل الله ذكر ما يوسوس به الشياطين إلى أوليائه ، وألحق بهم الشعراء الذين في الباطل يهيمون ، وفي أعراض الناس يقعون ، وفي التشبيهات ـ عن حدّ الاستقامة ـ يخرجون ، ويعدون من أنفسهم بما لا يوفون ، وسبيل الكذب يسلكون.

قوله جل ذكره : (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا)

فيكون شعره خاليا من هذه الوجوه المعلولة المذمومة (٢) ، وهذا كما قيل : الشعر كلام إنسان ؛ فحسنه كحسنه وقبيحه كقبيحه.

قوله جل ذكره : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).

سيعلم الذين ظلموا سوء ما عملوا ، ويندمون على ما أسلفوا ، ويصدقون بما كذّبوا.

__________________

(١) من أمثال سطيح وطليحة ومسيلمة.

وإذا كان محمد (ص) يشم الأفاكين ويذمهم .. فكيف تنزل الشياطين عليه؟!

(٢) من أمثال عبد الله بن رواحه وحسان بن ثابت وكعب بن زهير وكعب بن مالك رضى الله عنهم ، فشعرهم غلبت عليه الحكمة والموعظة والزهد ، والدعوة إلى الفضيلة ، ومؤازرة الدين الجديد ، ورفع لواء التوحيد.

٢٢

السورة التي يذكر فيها

النمل

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

بسم الله اسم عزيز قصده العاصي لطلب التخفيف فصار وزره مغفورا ، اسم كريم قصده العابد لطلب التضعيف فصار أجره موفورا ، اسم جليل أمّه الوليّ لطلب التشريف فصار سعيه مشكورا ، اسم عزيز إن تعرّض الفقير لوجوده محقته العزّة ، وطوّحته السّطوة ، فصار كأن لم يكن شيئا مذكورا.

جلّت الأحدية .. فأنّى بالوصول! وتقدّست الصمدية .. فمن ذا الذي عليها يقف (١)؟. (كَلَّا .. إِنَّها تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) (٢) :

وكم باسطين إلى وصلنا

أكفّهمو .. لم ينالوا نصيبا!

قوله جل ذكره : (طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١))

بطهارة قدسى وسناء عزّى لا أخيّب أمل من أمّل لطفى.

بوجود برّى تطيب قلوب أوليائى ، وبشهود وجهى تغيب أسرار أصفيائى ـ.

طلب القاصدين مقابل بلطفي ، وسعى العاملين مشكور بعطفى (٣).

__________________

(١) التوحيد ـ فى نظر القشيري ـ هو أعلى درجات العرفان ، وهذا التوحيد العرفانى ـ متأثرا التوحيد الإسلامى الأصيل ـ لا يشوبه كدر ولا تعقيد ولا تداخل ولا حلول ولا امتزاج. فعرفان الصوفي مهما عظم لا يتعدى كونه (عرفانا بنعت التعالي في شهود أفعال الحق ، فأمّا الوقوف على حقيقة الإنية فقد جلّت الصمدية عن إشراف عرفان عليها) تفسير بسملة سورة الجمعة «من هذا المجلد».

(٢) آية ٥٤ سورة المدثر.

(٣) غير خاف على القارئ أن يلحط تردد حرفى الطاء والسين في كلمات الأسطر الثلاثة ، كأنما القشيري يريدنا أن نتفهم دقائق (طس) من بعيد.

٢٣

(تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) : هذه دلالات كرمنا ، وأمارات فضلنا وشواهد برّنا ، نبيّن لأوليائنا صدق وعدنا ، وتحقق للأصفياء حفظ عهدنا.

قوله جل ذكره : (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢))

هذه الآيات وهذا الكتاب بيان وشفاء ، ونور وضياء ، وبشرى ودليل لمن حققنا لهم الإيمان ، وأكّدنا لهم الضمان ، وكفلنا لهم الإحسان.

قوله جل ذكره : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣))

يديمون المواصلات ، ويستقيمون في آداب المناجاة ويؤدون عن أموالهم وأحوالهم وحركاتهم وسكناتهم الزكاة ، بما يقومون في حقوق المسلمين أحسن مقام ، وينوبون عن ضعفائهم أحسن مناب.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤))

أغشيناهم فهم لا يبصرون ، وعمّينا عليهم المسالك فهم عن الطريقة المثلى يعدلون ، أولئك الذين في ضلالتهم يعمهون ، وفي حيرتهم يتردّون.

قوله جل ذكره : (أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥))

(سُوءُ الْعَذابِ) أن يجد الآلام ولا يجد التسلّى بمعرفة المسلّى ، ويحمل البلاء ولا يحمل عنه ثقله وعذابه شهود المبلى .. وذلك للكفار ، فأمّا المؤمنون فيخفّف عنهم العذاب في الآخرة حسن رجائهم في الله ، ثم تضرّعهم إلى الله ، ثم فضل الله معهم بالتخفيف في حال البلاء ثم ما وقع عليهم من الغشي والإفاقة ـ كما في الخبر ـ إلى وقت إخراجهم من النار.

قوله جل ذكره : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦))

٢٤

أي أن الذي أكرمك بإنزال القرآن عليك هو الذي بحفظك عن الأسواء والأعداء وصنوف البلاء.

قوله جل ذكره : (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧))

سار موسى بأهله من مدين شعيب متوجها إلى مصر ، ودجا عليه الليل ، وأخذ امرأته الطّلق وهبّت الرياح الباردة ، ولم يور الزّند ، وضاق على موسى الأمر ، واستبهم الوقت ، وتشتتت به الهمة ، واستولى على قلبه الشغل. ثم رأى نارا من بعيد ، فقال لأهله : امكثوا إنّى أبصرت نارا. وفي القصة : إنه تشتت أغنامه ، وكانت له بقور وثيران تحمل متاعه فشردت ، فقالت امرأته :

كيف تتركنا وتمضى والوادي مسبع؟!.

فقال : امكثوا .. فإنى لأجلكم أمضى وأتعرف أمر هذه النار ، لعلّى آتيكم منها إمّا بقبس أو شعلة ، أو بخبر عن قوم نزول عليها تكون لنا بهم استعانة ، ومن جهتهم انتفاع. وبدت لعينه تلك النار قريبة ، فكان يمشى نحوها ، وهي تتباعد حتى قرب منها ، فرأى شجرة رطبة خضراء تشتعل كلّها من أولها إلى آخرها ، وهي نار مضيئة ، فجمع خشيبات وأراد أن يقتبس منها ، فعند ذلك سمع النداء من الله لا من الشجرة كما توهّم المخالفون من أهل البدع. وحصل الإجماع أنّ موسى سمع تلك الليلة كلام الله ، ولو كان النداء في الشجرة لكان المتكلم به الشجرة ، ولأجل الإجماع قلنا : لم يكن النداء في الشجرة (١). وإلا فنحن نجوّز أن يخلق الله نداء فى الشجرة ويكون تعريفا ، ولكن حينئذ يكون المتكلم بذلك الشجرة.

__________________

(١) أي أنه على هذا الرأى كلام غير مخلوق ، لأن كلام الله صفته ، وصفته ـ سبحانه ـ غير مخلوقة .. وهذا هو نفس الرأى بالنسبة للقرآن ، وهذا هو الجواب الذي دحض به السلف زعم الجهمية حينما أرادوا أن يثبتوا أن القرآن مخلوق ، لأن القرآن شىء ، «والله خالق كل شىء» (انظر مدارج السالكين لابن القيم ج ١ ص ٢٢٢) فيكون النداء الذي سمع من الشجرة كالكلام الذي بين دفتى المصحف .. كلاهما كلام الله ـ على الحقيقة ، ولكن من حيث التجوز في التعبير يقال (فى الشجرة) و (فى المصحف).

٢٥

ولا ينكر في الجواز أن يكون الله أسمع موسى كلامه بإسماع خلقه له ، وخلق كلاما فى الشجرة أيضا ، فموسى سمع كلامه القديم وسمع كلاما مخلوقا في الشجرة ... وهذا من طريق العقل جائز.

قوله جل ذكره : (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨))

أي بورك من هو في طلب النار ومن هو حول النار (١).

ومعنى بورك أي لحقته البركة أو أصابته البركة .. والبركة الزيادة والنّماء في الخير.

والدعاء من القديم ـ سبحانه ـ بهذا يكون تحقيقا له وتيسيرا به.

قوله جل ذكره (يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩))

الذي يخاطبك (أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ) فى استحقاق جلالى ، (الْحَكِيمُ) فى جميع أفعالى.

قوله جل ذكره : (وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ)

في آية أخرى بيّن أنه سأله ، وقال له على وجه التقرير : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى؟) وأجابه بقوله : (هِيَ عَصايَ) وذكر بعض ما له فيها من المآرب والمنافع ، فقال الله : (وَأَلْقِ عَصاكَ) ، وذلك لأنه أراد أن يريه فيها من عظيم البرهان ما يجعل له كمال اليقين.

وألقاها موسى فقلبها الله ثعبانا ، أولا حية صغيرة ثم صارت حية كبيرة ، فأوجس في نفسه موسى خيفة وولّى مدبرا هاربا ، وكان خوفه من أن يسلّطها عليه لمّا كان عارفا بأن الله يعذّب من يشاء بما يشاء ، فقال له الحقّ :

(يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ).

أي لا ينبغى لهم أن يخافوا.

__________________

(١) يرى النسفي أن (من) فى مكان النار هم الملائكة ، و (من حولها) هو موسى. (النسفي ح ٣ ص ٢٠٢).

٢٦

(إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١))

وهذا يدلّ على جواز الذّنب على الأنبياء عليهم‌السلام فيما لا يتعلق بتبليغ الرسالة بشرط ترك الإصرار. فأمّا من لا يجيز عليهم الذنوب فيحمل هذا على ما قبل النبوة (١).

فلمّا رأى موسى انقلاب العصا علم أنّ الحقّ هو الذي يكاشفه بذلك.

ويقال : كيف علم موسى ـ عليه‌السلام ـ أنّ الذي سمعه كلام الله؟.

والجواب أنه بتعريف منه إياه ، ويجوز أن يكون ذلك العلم ضروريا فيه ، ويجوز أن يكون كسبيا ، ويكون الدليل له الذي به علم صدقه في قوله : (إِنَّهُ أَنَا اللهُ) هو ما ظهر على يده ـ فى الوقت ـ من المعجزة ، من قلب العصا ، وإخراج يده بيضاء (٢).

قوله جل ذكره : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢))

من غير سوء أي برص. وفي القصة أن موسى عليه‌السلام ذكر اشتغال قلبه بحديث امرأته ، وما أصابه تلك الليلة من الأحوال التي أوجبت انزعاجه ، وقصده في طلب النار ، فقال الله تعالى : إنا قد كفيناك ذلك الأمر ، ووكلنا بامرأتك وأسبابك ، فجمعنا أغنامك وثيرانك ، وسلمت لك المرأة.

قوله جل ذكره : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣))

__________________

(١) لا يستخدم فريق من الفقهاء تعبير (الذنب) بالنسبة للأنبياء عليهم‌السلام وإنما يطلق على ما يبدر منهم (فعل خلاف الأولى) تأدبا.

والنبي ـ على الوجوب ـ معصوم ، والولىّ محفوظ أي قد تقع منه هنات أو زلات ولكنه لا يصر على ما فعل (الرسالة ص ١٧٥).

(٢) أي أن الأصل في المعجزة أنها دليل صدق النبي ، فقد يستطيع السحرة والكهنة عمل أشياء عجيبة ولكنها لا تخرج عن كونها دليل مهارة أو ذكاء أو قدرة على الإيهام والانبهار.

والنبي مأمور بإظهار المعجزة أما الولي فمأمور بإخفاء الكرامة (الرسالة ص ١٧٤).

٢٧

لم يظهر الله ـ سبحانه ـ آية على رسول من أنبيائه ـ عليهم‌السلام ـ إلّا كانت فى الوضوح بحيث لو وضعوا النظر فيها موضعه لتوصّلوا إلى حصول العلم وثلج الصدور ، ولكنهم قصّروا في بعضها بالإعراض عن النظر فيها ، وفي بعضها الآخر عرفوها وقابلوها بالجحد. قال تعالى وقوله صدق :

(وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤))

وكما يحصل من الكافر الجحد (١) تحصل للعاصى عند الإلمام ببعض الذنوب حالة يعلم فيها ـ بالقطع ـ أن ما يفعله غير جائز ، وتتوالى على قلبه الخواطر الزاجرة الداعية له عن فعلها من غير أن يكون متغافلا عنها أو ناسيا لها ، ثم يقدم على ذلك غير محتفل بها موافقة لشهوته. وهذا الجنس من المعاصي أكثرها شؤما ، وأشدّها في العقوبة ، وأبعدها عن الغفران.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥))

يقتضى حكم هذا الخطاب أنه أفردهما بجنس من العلم لم يشاركهما فيه أحد ؛ لأنه ذكره على وجه تخصيصهما به ، ولا شكّ أنه كان من العلوم الدينية ؛ ويحتمل أنه كان بزيادة بيان لهما أغناهما عن إقامة البرهان عليه وتصحيحه بالاستدلال الذي هو معرّض للشك فيه (٢).

__________________

(١) ليس حتما أن يكون جحد الجاحد بعد المعرفة لأن (جحد) بمعنى أنكر ، وقد يكون الإنكار نتيجة جهل بالشيء ، ولكن الواضح أن القشيري يتجه إلى توضيح أسوأ ألوان الجحود ، وهو الذي يحدث بعد المعرفة ، وقد أحسن القشيري حين قابل بين ذلك وبين أسوأ أحوال العاصي ، وهي تلك التي يقدم فيها على المعصية وهو عليم بعاقبتها ، ومع ذلك يعقد النية عليها ، ويفعلها.

(٢) نعلم من مذهب القشيري أن البيان أرقى في المعراج العرفانى من البرهان ، ونجد هنا سبب تفوق البيان على البرهان.

٢٨

ويحتمل أن يكون علمهما بأحوال أمتهما على وجه الإشراف على ما كانوا يستسرون به ، فيكون إخبارهما عن ذلك معجزة لهما.

ويحتمل أن يكون قوله : (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ).

ويحتمل أن يكون علمهما بالله على وجه زيادة لهما في البيان.

وفي الآية دليل على أن التفضيل الذي يحصل بالعلم لا يحصل بغيره من الصفات ، فأخبر بأنهما شكرا الله على عظيم ما أنعم به عليهما (١).

قوله جل ذكره : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦))

ورث أباه في النبوة ، وورثه في أن أقامه مقامه.

قوله : (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) : وكان ذلك معجزة له ، أظهرها لقومه ليعلموا بها صدق إخباره عن نبوته. ومن كان صاحب بصيرة وحضور قلب بالله يشهد الأشياء كلّها بالله ومن الله. ويكون مكاشفا بها من حيث التفهيم ، فكأنه يسمع من كل شيء تعريفات الحقّ ـ سبحانه ـ للعبد مما لا نهاية له ، وذلك موجود فيهم محكيّ عنهم. وكما أنّ ضرب الطّبل مثلا دليل يعرف ـ بالمواضعة ـ عند سماعه وقت الرحيل والنزول فالحقّ ـ سبحانه ـ يخصّ أهل الحضور بفنون التعريفات ، من سماع الأصوات وشهود أحوال المرئيات في اختلافها ، كما قيل :

إذا المرء كانت له فكرة

ففى كل شىء له عبرة

قوله جل ذكره : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧))

__________________

(١) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «العلماء ورثة الأنبياء» والعلم نعمة تحتاج إلى الشكر ، ويلزم أن يعتقد العالم أنه إن فضّل على كثير فقد فضل عليه كثير أيضا ، وما أحسن قول عمر رضى الله عنه : كل الناس أفقه من عمر.

٢٩

سخّر الله لسليمان ـ عليه‌السلام ـ الجنّ والطير ، فكان الجنّ مكلّفين ، والطير كانت مسخّرة إلا أنه كان عليها شرع ، وكذلك الحيوانات التي كانت في وقته ، حتى النمل كان سليمان يعرف. خطابهم وينفذ عليهم حكمه.

قوله جل ذكره : (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨))

قيل إن سليمان استحضر أمير النمل الذي قال لقومه : (ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) وقال له :

أما علمت أنّى معصوم ، وأنّى لن أمكّن عسكرى من أن يطئوكم؟ فأخبره أمير النمل أنّه لا يعلم ذلك ؛ لأنه ليس بواجب أن يكون النمل عالما بعصمة سليمان. ولو قال : لعلكم أبيح لكم ذلك .. لكان هذا أيضا جائزا.

وقيل إن ذلك النمل قال لسليمان : إنى أحمل قومى على الزهد في الدنيا ، وخشيت إن يروكم في ملككم أن يرغبوا فيها (١) ، فأمرتهم بدخول مساكنهم لئلا يتشوّش عليهم زهدهم.

ولئن صحّ هذا ففيه دليل على وجوب سياسة الكبار لمن هو في رعيتهم. وفي الآية دليل على حسن الاحتراز ممّا يخشى وقوعه ، وأنّ ذلك مما تقتضيه عادة النّفس وما فطروا عليه من التمييز.

ويقال إن ذلك النمل قال لسليمان : ما الذي أعطاك الله من الكرامة؟.

فقال : سخّر لى الريح.

فقال : أما علمت أنّ الإشارة فيه أنه ليس بيدك مما أعطيت إلا الريح؟ (٢).

وهكذا بيّنه الكبير على لسان الصغير!.

قوله جلّ ذكره : (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها)

__________________

(١) الضمير فى (فيها) يعود على الدنيا.

(٢) أي أنه عطاء زائل لا مكث له ولا قرار.

٣٠

التبسّم من الملوك يندر لمراعاتهم حكم السياسة ، وذلك يدلّ على رضاهم واستحسانهم لما منه يحصل التبسّم ، فلقد استحسن سليمان من كبير النمل حسن سياسته لرعيته.

وفي القصة أنه استعرض جنده ليراهم كم هم ، فعرضهم عليه ، وكانوا يأتون فوجا فوجا ، حتى مضى شهر وسليمان واقف ينظر إليهم معتبرا فلم ينتهوا ، ومرّ سليمان عليه‌السلام.

وفي القصة : أن عظيم النمل كان مثل البغل في عظم الجثة ، وله خرطوم. والله أعلم.

قوله جل ذكره : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ).

في ذلك دليل على أن نظره إليهم كان نظر اعتبار ، وأنه رأى تعريف الله إياه ذلك ، وتنبيهه عليه من جملة نعمه التي يجب عليها الشكر.

وفي قوله : (وَعَلى والِدَيَّ) دليل على أنّ شكر الشاكر لله لا يختص بما أنعم به عليه على الخصوص ، بل يجب على العبد أن يشكر الله على ما خصّ وعمّ من نعمه.

قوله جلّ ذكره : (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ).

سأل حسن العاقبة ؛ لأنّ الصالح من عباده من هو مختوم له بالسعادة.

قوله جل ذكره : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠))

تطلّبه فلمّا لم يره تعرّف ما سبب تأخره وغيبته.

ودلّ ذلك على تيقظ سليمان في مملكته ، وحسن قيامه وتكفله بأمور أمته ورعيته ، حيث لم تخف عليه غيبة طير

هو من أصغر الطيور لم يحضر ساعة واحدة .. وهذا أحسن ما قيل.

ثم تهدّده إن لم يكن له عذر بعذاب شديد ، وذلك يدلّ على كمال سياسته وعدله فى مملكته.

٣١

وقال قوم إنما عرف أن الهدهد يعرف أعماق الماء بإلهام خصّ به ، وأنّ سليمان كان قد نزل منزلا ليس به ماء ، فطلب الهدهد ليديهم إلى مواضع الماء ، وهذا ممكن ؛ لأن في الهدهد كثرة. وغيبة واحد منها لا يحصل منها خلل ـ اللهم إلّا إن كان ذلك الواحد مخصوصا بمعرفة مواضع وأعماق الماء .. والله أعلم.

وروى أن ابن عباس سئل عن ذلك ، وأنه قيل له : إن كان الهدهد يرى الماء تحت التراب ويعرفه فكيف لا يرى الفخّ مخفيّا تحت التراب؟.

فقال : إذا جاء القضاء عمى البصر.

ويقال : إن الطير كانت تقف فوق رأس سليمان مصطفة ، وكانت تستر انبساط الشمس وشعاعها بأجنحتها ، فوقع شعاع الشمس على الأرض ، فنظر سليمان فرأى موضع الهدهد خاليا منه ، فعرف بذلك غيبته .. وهذا أيضا ممكن ، ويدل على كمال تفقّده ، وكمال تيقّظه ـ كما ذكرنا.

قوله جل ذكره : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١))

فى هذه الآية دليل على مقدار الجرم ، وأنه لا عبرة بصغر الجثة وعظمها. وفيه دليل على أن الطير في زمانه كانت في جملة التكليف ، ولا يبعد الآن أن يكون عليها شرع ، وأنّ لهم من الله إلهاما وإعلاما ؛ وإن كان لا يعرف ذلك على وجه القطع.

وتعيين (١) ذلك العذاب الشديد غير ممكن قطعا ، إلا تجويزا واحتمالا.

وعلى هذه الطريقة يحتمل كلّ ما قيل فيه.

ويمكن أن يقال فإن وجد في شىء نقل فهو متّبع.

وقد قيل هو نتف ريشه وإلقاؤه في الشمس.

__________________

(١) واضح هنا طريقة مناقشة القشيري لشىء لم يرد به النقل ، وكيف يعطى النقل أهمية وتقديرا ، فإذا لم يكن نقل فينبغى التجويز لا القطع.

وواضح كذلك مدى استغلاله لهذا الموقف في توجيه كلامه للمريدين والطالبين بطريق غير مباشر.

٣٢

وقيل يفرّق بينه وبين أليفه.

وقيل يشتّت عليه وقته.

وقيل يلزمه خدمة أقرانه.

والأولى في هذا أن يقال من العذاب الشديد كيت وكيت ، وألا يقطع بشىء دون غيره على وجه القطع.

فمن العذاب الشديد أن يمنع حلاوة الخدمة فيجد ألم المشقة. ومن ذلك أن يقطع عنه حسن التولي لشأنه ويوكل إلى حوله ونفسه ، ومن ذلك أن يمتحن بالحرص في الطلب ثم يحال بينه وبين مقصوده ومطلوبه. ومن العذاب الشديد الطمع في اسم العذر ثم لا يرتفع (١)

ومن ذلك سلب القناعة ، ومنه عدم الرضا بما يجرى. ومن ذلك توهم الحدثان وحسبان شىء من الخلق.

ومن ذلك الحاجة إلى الأخسّة من الناس. ومن ذلك ذلّ السؤال مع الغفلة عن شهود التقدير ومن ذلك صحبة الأضداد والابتلاء بمعاشرتهم. ومن ذلك ضعف اليقين وقلة الصبر.

ومن ذلك التباس طريق الرّشد. ومنه حسبان الباطل بصفة الحق ، والتباس الحقّ في صورة الباطل. ومنه أن يطالب بما لا تتسع له ذات يده. ومنه الفقر في الغربة.

قوله جل ذكره : (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢))

فلم يلبث الهدهد أن جاء ، وعلم أن سليمان قد تهدّده ، فقال : أحطت علما بما هو عليك خاف ، (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)

ثم ذكر حديث بلقيس ، وأنها ملكتهم ، وأن لها من المال والملك والسرير العظيم

__________________

(١) عاد القشيري إلى الآية نفسها في رسالته حيث يقول : وقيل في قوله تعالى : لأعذبنه عذابا شديدا ـ يعنى لأسلبنه القناعة ولأبتلينّه بالطمع يعنى أسأل الله تعالى أن يفعل به ذلك (الرسالة ـ ص ٨٢).

٣٣

ما عدّه ، فلم يتغير سليمان ـ عليه‌السلام ـ لذلك ، ولم يستفزّه الطمع فيما سمع عن هذا كما يحدث من عادة الملوك في الطمع في ملك غيرهم ، فلما قال :

(وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤))

فعند ذلك غاظ هذا سليمان ، وغضب في الله ، و :

(قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧))

وفي هذا دلالة على أن خبر الواحد لا يوجب العلم فيجب التوقف فيه على حدّ التجويز ، وفيه دلالة على أنه لا يطرح بل يجب أن بتعرّف : هل هو صدق أم كذب؟ (١) ولمّا عرف سليمان هذا العذر ترك عقوبته وما توعّده به .. وكذلك سبيل الوالي ؛ فإنّ عدله يمنعه من الحيف على رعيته ، ويقبل عذر من وجده في صورة المجرمين إذا صدق في اعتذاره.

قوله جل ذكره : (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨))

فى الآية إشارة إلى أنه لا ينبغى للإنسان أن يذكر بين يدى الملوك كلّ كلمة ، فإنه يجرّ العناء بذلك إلى نفسه ؛ وقد كان لسليمان من الخدم والحشم ومن يأتمر بأمره الكثير ، ولكنه لم يستعمل واحدا في هذا التكليف إلا الهدهد لأنه هو الذي قال ما قال ، فلزمه الخروج من عهدة ما قال.

ويقال لمّا صدق فيما أخبر لملكه عوّض عليه فأهّل للسفارة والرسالة ـ على ضعف صورته (٢).

__________________

(١) يضاف هذا الرأى في أخبار الآحاد إلى مذهب القشيري في المسائل الحديثية والفقهية.

(٢) هنا إشارة بعيدة إلى الرسل والأولياء ، ودحض لما يقال عنهم من التهم.

٣٤

فمضى الهدهد ، وألقى الكتاب إليها كما أمر ، وانتحى إلى جانب ينتظر ماذا يفعلون وبماذا يجاب.

قوله جل ذكره : ر(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١))

(كِتابٌ كَرِيمٌ) الكرم نفى الدناءة ، وقيل لأنه كان مختوما (١) ، وقيل لأنّ الرسول كان طيرا ؛ فعلمت أنّ من تكون الطير مسخّرة له لا بدّ أنه عظيم الشأن. وقيل : لأنه كان مصدّرا ببسم الله الرّحمن الرّحيم. وقيل لأنه كتب فيه اسم نفسه أولا ولم يقل : إنه من سليمان إلى فلانة. ويقال لم يكن في الكتاب ذكر الطمع في الملك بل كان دعاء إلى الله : (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ).

ويقال أخذ الكتاب بمجامع قلبها ، وقهرها ؛ فلم يكن لها جواب ، فقالت : (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) فلمّا عرفت قدر الكتاب وصلت باحترامها إلى بقاء ملكها ، ورزقت الإسلام وصحبة سليمان.

ويقال إذا كان الكتاب كريما لما فيه من آية التسمية فالكريم من الصلاة ما لا يتجرّد عن التسمية ، وإذا تجرّدت كان الأمر فيها بالعكس.

قوله جل ذكره : (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢))(٢).

__________________

(١) يقال إنه طبعه بالمسك وختمه بخاتمه. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كرم الكتاب ختمه» وقيل من كتب إلى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخفّ به.

(٢) (حتى تشهدون) بكسر النون ، أما الفتح فلحن ؛ لأن النون إنما تفتح في موضع الرفع وهذا في موضع النصب لأن ما سبق «حتى» أسلوب طلبى ، فالفعل ينصب بعدها بأن مضمرة. وأصله «تشهدونى» فحذفت النون الأولى للنصب ، والياء لدلالة الكسرة.

٣٥

أخذت في المشاورة كما تقتضيه الحال في الأمور العظام ؛ فإن الملك (١) لا ينبغى أن يكون مستبدا برأيه ، ويجب أن يكون له قوم من أهل الرأى والبصيرة.

قوله جل ذكره : (قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣))

أجابوا على شرط الأدب ، وقالوا : ليس منا إلّا بذل الوسع ، وليس لنا إلّا إظهار النّصح ، وما علينا إلا متابعة الأمر ـ وتمشية الأمر وإمضاؤه .. إليك.

قوله جل ذكره : (قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤))

ويقال إنّ : (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) من قولها.

ويقال : تغيير الملوك (٢) إذا دخلوا قرية ـ عن صفتها ـ معلوم ، ثم ينظر .. فإن كان الداخل عادلا أزال سنّة الجور ، وأثبت سنّة العدل ، وإن كان الداخل جائرا أزال الحسن وأثبت الباطل. هذا معلوم ؛ فإنّ خراب البلاد بولاة السّوء ، حيث يستولى أسافل الناس وأسقاطهم على الأعزة منهم ، وكما قيل :

يا دولة ليس فيها

من المعالي شظيه

زولى فما أنت إلّا

على الكرام بليه

وعمارة الدنيا بولاة الرّشد ، يكسرون رقاب الغاغة ، ويخلّصون الكرام من أسر السّفلة ، (ويأخذ القوس باريها) (٣) ، وتطلع شمس العدل من برج شرفها .. كذلك المعرفة

__________________

(١) نعلم من سيرة القشيري أنه كانت بينه وبين أصحاب السلطة في موطنه خلافات في الرأى ، فهو هنا يغمز بما ينبغى أن يكون عليه صاحب السلطان من آداب ، سواء في اختيار أعوانه ، أو في قبول النصح والشورى.

(٢) كأنما القشيري ينفس عن نفسه مما قاساه في عهد السلطان طغرل ووزيره الكندري وكأنما يمجد ما ناله من الخير في عهد السلطان ألب أرسلان. ووزيره العظيم نظام الملك (انظر مدخل هذا الكتاب : المجلد الأول)

(٣) هكذا في م وهي في ص (فتأخذ النفوس بأزمتها).

٣٦

والخصال المحمودة إذا باشرت قلب عبد أخرجت عنه الشهوات والمنى ، وسفاسف الأخلاق من الحقد والحسد والشحّ وصغر الهمة .. وغير ذلك من الأوصاف الذميمة وتثبت بدلها من الأحوال العليّة والأوصاف المرضيّة ما به نظام العبد وتمام سعادته. ومتى استولت على قلب غاغة النّفس والخصال المذمومة أزالت عنه عمارته ، وأبطلت نضارته ، فتخرب أوطان الحقائق ، وتتداعى مساكن الأوصاف الحميدة للأفول ، وعند ذلك ، يعظم البلاء وتتراكم المحن.

قوله جل ذكره : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥))

جاء في القصة أنها بعثت إلى سليمان بهدايا ، ومن جملتها لبنة مصنوعة من الفضة وأخرى من الذهب. وأن الله أخبر سليمان بذلك ، وأوحى إليه في معناه. وأمر سليمان الشياطين حتى بنوا بساحة منزله ميدانا ، وأمرهم أن يفرشوا الميدان بهيئة اللّبن المصنوع من الذهب والفضة من أوله إلى آخره. وأمر بأن توقف الدوابّ على ذلك وألا تنظّف آثارها من روث وغيره ، وأن يترك موضعان للبنتين خاليين في ممرّ الدخول. وأقبل رسلها ، وكانت معهم اللبنتان ملفوفتين ، فلمّا رأوا الأمر ، ووقعت أبصارهم على طريقهم ، صغر في أعينهم ما كان معهم ، وخجلوا من تقديم ذلك إلى سليمان ووقعوا في الفكرة .. كيف يتخلصون مما معهم؟

فلمّا رأوا موضع اللّبنتين فارغا ظنّوا أن ذلك سرق من بينها ، فقالوا لو أظهرنا هذا نسبنا إلى أنّا سرقناهما من هذا الموضع ، فطرحاهما في الموضع الخالي ، ودخلا على سليمان :

قوله جل ذكره : (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦))

أتهدوننى مالا؟! وهل مثلى يستمال بمثل هذه الأفعال؟ إنكم وأمثالكم تعاملون بمثل ما عوملتم (١)! إرجع إليهم : ـ

__________________

(١) أي أنتم قوم لا تعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا ، فلذلك تفرحون بما تزدادون وبما يهدى إليكم ؛ لأن ذلك مبلغ همتكم ـ وحالى خلاف حالكم ، فأنا ـ بما آتاني الله ـ غنى عن حظوظ الدنيا.

٣٧

(ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧))

فلمّا رجعوا إلى بلقيس ، وأخبروها بما شاهدوا وسمعوا علمت أنه لا وجه لها سوى الاستسلام والطاعة ، فعزمت على المسير إلى خدمته ، وأوحى الله إلى سليمان بذلك ، وأنها خرجت مستسلمة ، فقال : أيكم يأتينى بعرشها؟.

قوله جل ذكره : (قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩))

بسط الله ـ سبحانه ـ ملك سليمان ، وكان في ملكه الجنّ والإنس والشياطين ؛ الجنّ على جهة التسخير ، والإنس على حكم الطوع ، والشياطين وكانوا على أقسام.

ولمّا قال : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها؟) قال عفريت من الجن ـ وكان أقواهم ـ (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) ، فلم يرغب سليمان في قوله لأنه بنى القول فيه على دعوى قوّته (١).

قوله جل ذكره : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ).

__________________

(١) هذه نظرة ملامتية تعنمد على النفور من كل دعاوى النفس والتظاهر.

٣٨

(الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) (قيل هو آصف) (١) وكان صاحب كرامة. وكرامات الأولياء ملتحقة بمعجزات الأنبياء ، إذ لو لم يكن النبيّ صادقا في نبوته لم تكن الكرامة تظهر على من يصدّقه ويكون من جملة أمته.

ومعلوم أنه لا يكون في وسع البشر الإتيان بالعرش بهذه السرعة ، وأن ذلك لا يحصل إلا بخصائص قدرة الله تعالى. وقطع المسافة البعيدة في لحظة لا يصح تقديره في الجواز إلا بأحد وجهين : إمّا بأن يقدّم (٢) الله المسافة بين (العرش وبين منزل سليمان) (٣) ، وإمّا بأن يعدم العرش ثم يعيده في الوقت الثاني بحضرة سليمان. وأيّ واحد من القسمين كان ـ لم يكن إلّا من قبل الله ، فالذى كان عنده علم من الكتاب دعا الله ـ سبحانه ـ واستجاب له في ذلك ، وأحضر العرش ، وأمر سليمان حتى غيّر صورته فجعل أعلاه أسفله ، وأسفله أعلاه ، وأثبته على تركيب آخر غير ما كان عليه.

ولمّا رأى سليمان ذلك أخذ في الشكر لله ـ سبحانه ـ والاعتراف بعظم نعمه ، والاستحياء ، والتواضع له ، وقال : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) لا باستحقاق منى ، ولا باستطاعة من غيرى ، بل أحمد النعمة لربّى حيث جعل في قومى ومن أمتى من له الجاه عنده فاستجاب دعاءه.

وحقيقة الشكر ـ على لسان العلماء ـ الاعتراف بنعمة المنعم على جهة الخضوع والأحسن أن يقال الشكر هو الثناء على المحسن بذكر إحسانه ، فيدخل في هذا شكر الله للعبد لأنه ثناء منه على العبد بذكر إحسان العبد ، وشكر العبد ثناء على الله بذكر إحسانه .. إلّا إنّ إحسان الحقّ هو إنعامه ، وإحسان العبد طاعته وخدمته لله ، وما هو الحميد من أفعاله.

فأمّا على طريق أهل المعاملة وبيان الإشارة : فالشكر صرف النعمة في وجه الخدمة.

__________________

(١) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص.

(٢) فى م (يعدم) بالعين ، وإعدام المسافة أي جعلها في حكم العدم مقبول في المعنى ، وينسجم مع جعل العرش في حكم العدم وإعادة خلقه من جديد .. وكذلك تقديم المسافة (بالقاف) مقبول حتى يصبح نقله من مكان إلى مكان قريب ميسورا ، فالإعدام أو التقديم كلاهما مقبول لأن القدرة الإلهية تشملهما.

(٣) هكذا في م ولكنها في ص (بين القريتين) أي قرية سليمان وقرية بلقيس.

٣٩

ويقال الشكر ألّا تستعين بنعمته على معاصيه.

ويقال الشكر شهود المنعم من غير مساكنة إلى النعمة.

ويقال الشكر رؤية العجز عن الشكر.

ويقال أعظم الشكر الشكر على توفيق الشكر.

ويقال الشكر على قسمين : شكر العوام على شهود المزيد ، قال تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) (١) ، وشكر الخواص يكون مجردا عن طلب المزيد ، غير متعرض لمنال العوض.

ويقال حقيقة الشكر قيد النعم وارتباطها ؛ لأنّ بالشكر بقاءها ودوامها.

قوله جل ذكره : (قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١))

أراد سليمان أن يمتحنها وأن يختبر عقلها ، فأمر بتغيير عرشها ، فلمّا رأته : ـ

(قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ؟ قالَتْ : كَأَنَّهُ هُوَ)

فاستدلّ بذلك على كمال عقلها ، وكان ذلك أمرا ناقضا للعادة ، فصار لها آية وعلامة على صحة نبوة سليمان ـ عليه‌السلام ـ وأسلمت : ـ

(وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)

كان ذلك امتحانا آخر لها. فقد أمر سليمان الشياطين أن يصنعوا من الزجاج شبه

__________________

(١) آية ٧ سورة ابراهيم.

٤٠