لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

سورة الزّخرف

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

بسم «الله : اسم عزيز من وثق بجوده وكرمه لم يعلّق بغيره صواعد هممه ، ولم يقف على سدّة مخلوق بقدمه في ابتغاء كرمه. اسم عزيز من عوّده خفايا لطفه (١) لم يتذلّل (٢) فى طلب شىء من غيره ، ولم يرجع إلى غيره في شرّه وخيره.

قوله جل ذكره : (حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣))

الحاء تدل على حياته والميم على مجده .. وهذا قسم ؛ ومعناه : وحياتى ومجدى وهذا القرآن إنّ الذي أخبرت عن رحمتى بعبادي المؤمنين حق وصدق. وجعلناه قرآنا عربيا ليتيسّر عليكم فهم معناه.

قوله جل ذكره : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤))

(فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا) : أي أنه مكتوب في اللّوح المحفوظ.

(لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) لعليّ القدر ، حكيم الوصف ؛ لا تبديل له ولا تحويل.

قوله جل ذكره : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥))

أي أننا لا نفعل ذلك ؛ (فيكون معنى الاستفهام) (٣) أفنقطع عنكم خطابنا وتعريفنا

__________________

(١) هكذا في م وهي في ص (خفاء حكمه). وقد آثرنا الأولى لأنها أكثر تدعيما للسياق.

(٢) هكذا في م وهي في ص (لم تبدلل) وواضح الخطأ الناسخ.

(٣) ما بين القوسين إضافة من عندنا ليتماسك السياق. والاستفهام في الآية يفيد الإنكار.

٣٦١

إن أسرفتم في خلافكم؟ لا ... إننا لا نرفع التكليف بأن خالفتم ، ولا نهجركم ـ بقطع الكلام عنكم ـ إن أسرقتم.

وفي هذا إشارة لطيفة وهو أنه لا يقطع الكلام ـ اليوم ـ عمّن تمادى في عصيانه ، وأسرف في أكثر شانه. فأحرى أنّ من لم يقصّر في إيمانه ـ وإن تلطّخ بعصيانه ، ولم يدخل خلل في عرفانه ـ ألا يمنع عنه لطائف غفرانه (١).

قوله جل ذكره : (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧))

ما أتاهم من رسول فقابلوه بالتصديق ، بل كذّب به الأكثرون وجحدوا ، وعلى غيّهم أصرّوا ...

(فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً)

أي لم يعجزنا أحد منهم ، ولم نغادر منهم أحدا ، وانتقمنا من الذين أساءوا.

قوله جل ذكره : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩))

كانوا يقرّون بأنّ الله خالقهم ، وأنّه خلق السماوات والأرض ، وإنما جحدوا حديث الأنبياء ، وحديث البعث وجوازه.

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠))

كما جعل الأرض قرارا لأشباحهم جعل الأشباح قرارا لأرواحهم ؛ فالخلق سكّان الأرض ، فإذا انتهت المدة ـ مدة كون النفوس على الأرض ـ حكم الله بخرابها .. كذلك إذا فارقت الأرواح الأشباح بالكليّة قضى الله بخرابها.

__________________

(١) هكذا تتجلى نزعة الأمل والتفاؤل عند هذا الصوفي حيث يحاول في إشارته أن يبين كيف أن رحمة الله تمتد لتشمل المؤمنين العصاة حتى من أسرف منهم على نفسه.

٣٦٢

قوله جل ذكره : (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١))

يعنى كما يحيى الأرض بالمطر يحيى القلوب بحسن النّظر.

قوله جل ذكره : (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها)

أي الأصناف من الخلق

(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ)

كذلك جنّس عليكم الأحوال كلها ؛ فمن رغبة في الخيرات إلى رهبة مما توعدّكم به من العقوبات. ومن خوف يحملكم على ترك الزلّات إلى رجاء يبعثكم على فعل الطاعات طمعا فى المثوبات .. وغير ذلك من فنون الصفات

(لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ)

يعنى الفلك والأنعام ..

(ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ)

مطيعين ، وكما سخّر لهم الفلك في البحر ، والدوابّ للركوب ، وأعظم عليهم المنة بذلك فكذلك (سهّل للمؤمنين مركب التوفيق فحملهم عليه إلى بساط الطاعة) (١) ، وسهّل للمريدين مركب الإرادة فحملهم عليه إلى عرصات الجود ، وسهّل للعارفين مركب الهمم فأناخوا بعقوة العزّة. وعند ذلك محطّ الكافة ؛ إذ لم تخرق سرادقات العزّة همّة مخلوق : سواء كان ملكا مقرّبا أو نبيّا مرسلا أو وليّا مكرّما ، فعند سطوات العزّة يتلاشى كلّ مخلوق ، ويقف وراءها كلّ محدث مسبوق (٢).

__________________

(١) ما بين القوسين موجود في ص وغير موجود في م فأثبتناه في هذا الموضع ؛ لأن مرتبة المؤمنين عامة تليها مرتبة المريدين وهي خاصة ، ثم العارفين وهم خواص الخواص.

(٢) يرتبط ذلك بمذهب القشيري فى «الفناء» ، وكيف أن الصمدية تجل عن الاستشراف .. ناهيك بما يزعمه آخرون من حلول واتحاد .. وغير ذلك.

٣٦٣

قوله جل ذكره : (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥))

هم الذين قالوا : الملائكة بنات الله ؛ فجعلوا البنات لله جزءا على التخصيص من جملة مخلوقاته .. تعسا لهم في قولهم ذلك وخزيا (١)!! فردّ عليهم ذلك قائلا :

(أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦))

قال لهم على جهة التوبيخ ، وعابهم بما قالوا ؛ إذ ـ على حدّ قولهم ـ كيف يؤثرهم بالبنين ويجعل لنفسه البنات؟! ففى قولهم ضلال ؛ إذ حكموا للقديم بالولد. وفيه جهل ؛ إذ حكموا له بالبنات ولهم بالبنين ـ وهم يستنكفون من البنات .. ثم .. أي عيب في البنات؟ ثم .. كيف يحكمون بأن الملائكة إناث ـ وهم لم يشاهدوا خلقتهم؟

كلّ ذلك كان منهم خطأ محظورا.

قوله جل ذكره : (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠))

إنما قالوا ذلك استهزاء واستبعادا لا إيمانا وإخلاصا ، فقال تعالى : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) ولو علموا ذلك وقالوه على وجه التصديق لم يكن ذلك منهم معلولا.

ثم قال : (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١))

أي ليس كذلك ، حتى أخبر أنهم ركنوا إلى تقليد لا يفضى إلى العلم ، فقال :

(بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢))

__________________

(١) في م (وحزنا) وهي غير ملائمة ـ كما هو واضح.

٣٦٤

فنحن نقتدى بهم ، ثم قال :

(وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣))

سلكوا طريق هؤلاء في التقليد لأسلافهم ، ولاستنامة إلى ما اعتادوه من السّيرة والعادة.

قوله جل ذكره : (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥))

فلم ينجع فيهم قوله ، ولم ينفعهم وعظه ، وأصرّوا على تكذيبهم ، فانتقم الحقّ ـ سبحانه ـ منهم كما فعل بالذين من قبلهم.

قوله جل ذكره : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦))

أخبر أنّ إبراهيم لمّا دعا أباه وقومه إلى الله وتوحيده أبوا إلّا تكذيبه ؛ فتبرّأ منهم بأجمعهم ، وجعل الله كلمة التوحيد باقية في عقبه وقومه.

قوله جل ذكره : (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩))

أرخينا عنان إمهالهم مدة ، ثم كان أمرهم (١) أن انتصرنا منهم ، ودمّرناهم أجمعين.

قوله جل ذكره : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ

__________________

(١) هكذا في ص وهي في م (آخرهم) وهي مقبولة في السياق على معنى (آخر أمرهم) أو (آخر شأنهم).

٣٦٥

عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١))

إمّا أبى مسعود الثقفي (١) أو أبى جهل ، وهذا أيضا من فرط جهلهم.

(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢))

أهم يقسمون ـ يا محمد ـ رحمة ربك في التخصيص بالنبوة؟ أيكون اختيار الله ـ سبحانه ـ على مقتضى هواهم؟ بئس ما يحكمون!

(نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ .....) فلم نجعل القسمة في الحياة الدنيا لهم .... فكيف نجعل قسمة النبوة إلى هؤلاء؟! .....

والإشارة من هذا : أن الحقّ ـ سبحانه ـ لم يجعل قسمة السعادة والشقاوة إلى أحد ، وإنما المردود من ردّه بحكمه وقضائه وقدره ، والمقبول ـ من جملة عباده ـ من أراده وقبله ... لا لعلّة أو سبب ، وليس الردّ أو القبول لأمر مكتسب (٢) ...

ثم إنه قسم لبعض عباده النعمة والغنى ، وللبعض القلّة والفقر ، وجعل لكلّ واحد منهم سكنا يسكنون إليه يستقلون به ؛ فللأغنياء وجود الإنعام وجزيل الأقسام .. فشكروا واستبشروا ، وللفقراء شهود المنعم والقسّام .. فحمدوا وافتخروا. الأغنياء وحدوا النعمة فاستغنوا وانشغلوا ، والفقراء سمعوا قوله : (نَحْنُ) فاشتغلوا (٣).

__________________

(١) هو أبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي من الطائف ، وأبو جهل من مكة فالقريتان هما الطائف ومكة. لا وروى أن الوليد بن المغيرة ـ وكان يسمى ريحانه قريش ـ كان يقول : لو كان ما يقوله محمد حقا لنزل عليّ أو على أبى مسعود.

(٢) مرة أخرى ينبه القشيري إلى أن المعول عليه في الأمر فضل الله وقسمته ، ولهذا الرأى شأنه في مسألة الثواب والعقاب التي اتخذها المعتزلة وسيلة من وسائل تبرير الحرية الإنسانية ـ كما نبهنا إلى ذلك في هوامش كثيرة من الكتاب.

(٣) أي (اشتغلوا) بالله وطاعته دون غاية غيريه أو مطمع زائل. ونحن لا نستبعد أنها قد تكون في الأصل (فاستقلوا) فهذا هو تعبير الشيخ المألوف في مثل هذا السياق.

٣٦٦

وفي الخبر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للأنصار : أما ترضون أن يرجع الناس بالغنى ؛ وأنتم ترجعون بالنبي إلى أهليكم؟

(لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ..) : لو كانت المقادير متساوية لتعطلّت المعايش ، ولبقى كلّ عند حاله ؛ فجعل بعضهم مخصوصين بالرّفه والمال ، وآخرين مخصوصين بالفقر ورقة الحال .. حتى احتاج الفقير في جبر حاجته إلى أن يعمل للغنيّ كى يرتفق من جهته بأجرته فيصلح بذلك أمر الغنيّ والفقير جميعا.

قوله جل ذكره : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣))

معنى الآية أنه ليس للدنيا عندنا خطر ؛ فالذى يبقى عنّا لو صببنا عليه الدنيا بحذافيرها لم يكن ذلك جبرانا لمصيبته. ولو لا فتنة قلوب المؤمنين لجعلنا لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج من فضة ، وكذلك ما يكون شبيها بهذا.

ولو فعلنا .. لم يكن لما أعطيناه خطر ؛ لأنّ الدنيا بأسرها ليس لها عندنا خطر.

قوله جل ذكره : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦))

من لم يعرف قدر الخلوة مع الله فحاد عن ذكره ، وأخلد إلى الخواطر الرديّة قيّض الله له من يشغله عن الله ـ وهذا جزاء من ترك الأدب في الخلوة. وإذا اشتغل العبد في خلوته بربّه .. فلو تعرّض له من يشغله عن ربه صرفه الحق عنه بأى وجه كان ، وصرف دواعيه عن مفاتحته بما يشغله عن الله.

ويقال : أصعب الشياطين نفسك ؛ والعبد إذا لم يعرف خطر فراغ قلبه ، واتّبع شهوته ، وفتح ذلك الباب على نفسه بقي في يد هواه أسيرا لا يكاد يتخلّص عنه إلا بعد مدّة.

قوله جل ذكره : (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا

٣٦٧

قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩))

الذي سوّلت له نفسه أمرا يتوهّم أنه على صواب ، ثم يحمل صاحبه على موافقته في باطله ، ويدّعى أنه على حقّ. وهو بهذا يضر بنفسه ويضر بغيره. ثم إذا ما انكشف ـ غدا ـ الغطاء تبيّن صاحبه خيانته ، وندم على صحبته ، ويقول : (يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) (١) و (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ). ولكنّ هذه الندامة لا تنفع حينئذ ؛ لأنّ الوقت يكون قد فات ، لهذا قال تعالى :

(وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ)

قوله جل ذكره : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠))

هذا الاستفهام فيه معنى النفي ؛ أي أنه ليس يمكنك هداية من سددنا بصيرته ، ولبّسنا عليه رشده ، ومن صببنا في مسامع فهمه رصاص الشقاء والحرمان .. فكيف يمكنك إسماعه؟!

قوله جل ذكره : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١))

يعنى : إن انقضى أجلك ولم يتفق لك شهود ما نتوعّدهم به فلا تتوهّم أنّ صدق كلامنا يشوبه مين (٢) ، فإنّ ما أخبرناك عنه ـ لا محالة ـ سيكون.

قوله جل ذكره : (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢))

أثبته على حدّ الخوف (٣) والرجاء ، ووقفه على وصف التجويز لاستبداده (٤) ـ سبحانه

__________________

(١) آية ٢٨ سورة الفرقان.

(٢) في م (مبين) وهي خطأ في النسخ إذ الصواب (المين) أي الكذب.

(٣) فى ص (الحزن) : لكننا آثرنا عليها ما جاء في م فالخوف ـ لا الحزن ـ يقابل الرجاء في المصطلح الصوفي (أنظر رسالة القشيري ص ٣٥).

(٤) استبد بالأمر ـ انفرد به (الوسيط).

٣٦٨

بعلم الغيب. والمقصود كذلك أن يكون كلّ أحد بالنسبة لأمر الله من جملة نظارة التقدير ـ فالله يفعل ما يريد.

قوله جل ذكره : (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣))

اجتهد من غير تقصير وتوكّل على الله من غير فتور ، وقف حيثما أمرت ، وثق بأنك على صراط مستقيم.

قوله جل ذكره : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤))

أي إنّ هذا القرآن لذكر لك ؛ أي شرف لك ، وحسن صيت ، واستحقاق منزلة.

قوله جل ذكره : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥))

حشر أرواح الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ ليلة الإسراء ، وقيل له ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سلهم : هل أمرنا أحدا بعبادة غيرنا؟ فلم يشكّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولم يسأل (١)

ويقال : الخطاب له ، والمراد به غيره .. فمن يرتاب في ذلك؟ (ويقال : المراد منه سل أقوامهم ، لكى إذا قالوا إن الله لم يأمر بذلك كان هذا أبلغ في إبرام الحجة عليهم) (٢).

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا .......... إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠))

كرّر قصة موسى غير مرة في القرآن ، وأعادها هنا مجملة ؛ أرسلناه بدلائلنا ، أرسلناه بحجة ظاهرة قاهرة ، أرسلناه بالمعجزات إلى فرعون وقومه من القبط ، فقوبل بالهزء والضحك

__________________

(١) عن ابن عباس أنه قال : «لا أسأل قد اكتفيت» وعنه أيضا : أنه لم يسأل لأنه كان أعلم بالله منهم.

(٢) ما بين القوسين ساقط في ص وموجود في م ، والمقصود بها : اسأل مؤمنى أهل الكتابين التوراة والإنجيل ـ وعلى هذا الرأى جمهور من المفسرين منهم مجاهد والضحاك وقتادة.

٣٦٩

والتكذيب. ومع أنّ الله سبحانه لم يجر عليه من البيّنات شيئا إلا كان أوضح مما قبله إلا أنهم لم يقابلوه إلا بجفاء أوحش مما قبله. فلمّا عضّهم الأمر قالوا : يا أيها الساحر ، ادع لنا ربّك ليكشف عنّا البليّة لنؤمن بك ، فدعا موسى .. فكشف الله عنهم ، فعادوا إلى كفرهم ، ونقضوا عهدهم.

قوله جل ذكره : (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١))

تعزّز بملك مصر ، وجرى النيل بأمره! وكان في ذلك هلاكه ؛ ليعلم أنّ من تعزّز بشىء من دون الله فحتفه وهلاكه في ذلك الشيء.

(أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢))

استصغر موسى وحديثه ، وعابه بالفقر .. فسلّطه الله عليه ، وكان هلاكه بيديه ، فما استصغر أحد أحدا إلا سلّطه الله عليه (١).

قوله جل ذكره : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤))

أطاعوه طاعة الرهبة ، وطاعة الرهبة لا تكون مخلصة ، وإنما تكون الطاعة صادقة إذا صدرت عن الرغبة.

قوله جل ذكره : (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥))

(آسَفُونا) أغضبونا ، وإنما أراد أغضبوا أولياءنا ، فانتقمنا منهم. وهذا له أصل في باب

__________________

(١) يحاول القشيري أن يغمز بأولئك الذين يتعرضون للأولياء والعارفين ، وكيف أن الحق ـ سبحانه ـ يتولى عنهم ردّ كيد الكائدين.

٣٧٠

الجمع (١) ؛ حيث أضاف إيسافهم لأوليائه إلى نفسه .. وفي الخبر : أنه يقول : «مرضت فلم تعدنى (٢).

وقال في قصة ابراهيم عليه : (يَأْتُوكَ رِجالاً ..) (٣)

وقال في قصة نبيّنا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (٤).

قوله جل ذكره : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧))

وضرب المثل بعيسى هو قوله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) (٥) ؛ خلق عيسى بلا أب كما خلق آدم بلا أبوين. فجحدوا بهذه الآية.

وقيل هو قوله : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) (٦) ، فقالوا : رضينا بأن نكون في النار مع عيسى وعزيز والملائكة ، وليس لهم في الآية موضع ذكر ؛ لأنه سبحانه قال : (وَما) تعبدون ، ولم يقل «ومن» تعبدون (٧).

قوله جل ذكره : (وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨))

ما ضربوه لك إلا جدلا : وذلك أنهم قالوا : إن قال آلهتكم خير فقد أقرّ بأنها معبودة ، وإن قال : عيسى خير من آلهتكم فقد أقرّ بأن عيسى يصلح لأن يعبد ، وإن قال : ليس واحد منهم

__________________

(١) عند ما يضاف الفعل إلى الحق يكون المعنى منصرفا إلى حال الجمع ، وعند ما ينسب إلى الخلق يكون منصرفا إلى حال الفرق ، مثلما أوضح القشيري هنا ، ومثلما أوضح عند قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى).

(٢) أصل الحديث : أنه تعالى يقول : «يا ابن آدم ، مرضت فلم تعدنى ، واستسقيتك فلم تسقنى ، واستطعمتك فلم تطعمنى» القرطبي : ج ٢٠ ، ص ٥٥.

(٣) آية ٢٧ سورة الحج. والخطاب في الآية لابرهيم في مقام الفرق ، ولنبينا في مقام الجمع.

(٤) آية ٨٠ سورة النساء.

(٥) آية ٥٩ سورة آل عمران.

(٦) آية ٩٨ سورة الأنبياء.

(٧) لأن «من» للعاقل و «ما» لغير العاقل فالمقصود الأصنام.

٣٧١

خيرا فقد نفى ذلك عن عيسى عليه‌السلام. هم راموا بهذا الكلام أن يجادلوه ، ولم يكن سؤالهم للاستفادة. فكان جواب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم : أن عيسى عليه‌السلام خير من آلهتكم ولكنه لا يستحق أن يعبد ؛ إذ ليس كلّ ما هو خير من الأصنام بمستحق أن يكون معبودا من دون الله. وهكذا بيّن الله ـ سبحانه ـ لنبيّه أنهم قوم جدلون (١) ، وأنّ حجتهم داحضة عند ربهم

قوله جل ذكره : (إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩))

فليس عيسى إلا عبد أنعمنا عليه بالنبوّة.

(وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ)

ولو شئنا لأنزلنا ملائكة من السماء حتى يكونوا سكّان الأرض بدلكم.

ثم قال : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١))

(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) : يعنى به عيسى عليه‌السلام إذا أنزله من السماء فهو علامة للساعة ، (فَلا تَمْتَرُنَّ) بنزوله بين يديّ القيامة (٢).

(وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢))

ولا يصدنكم الشيطان عن الإيمان بالساعة ، وعن اتّباع الإيمان بهداى.

__________________

(١) سبب نزول هذه الآية وما سبقها تلك المناظرة التي حاول بها عبد الله بن الزبعرى السهمي أن يستهوى قريشا بإثارة اعتراضات باطلة ، فأفحمه المنطق القرآنى ، وأخرس لجاجه.

يقول معروف الكرخي : إذا أراد الله بعبد خيرا فتح له باب العمل وأغلق عليه باب الجدل ، وإذا أراد الله بعبد شرا أغلق عليه باب العمل وفتح عليه باب الجدل (الروض الفائق ، ج ١ ، ص ١٣٩).

(٢) عن أبى هريرة ـ كما ثبت في صحيح مسلم وابن ماجه ـ قال قال رسول الله (ص) : لينزلن عيسى ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص فلا يسعى إليها ، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد».

٣٧٢

قوله جل ذكره : (وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣))

ذكر مجىء عيسى عليه‌السلام أول مرة ؛ حيث أتى قومه بالشرائع الواضحة ، ودعاهم إلى دين الله ، ولكنهم تحزّبوا عليه (١) ، وإن الذين كفروا به لمستحقون للعقوبة.

(الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧))

ما كان لغير الله فمآله إلى الضياع. والأخلاء الذين اصطحبوا على مقتضى الهوى بعضهم لبعض عدو ؛ يتبرّأ بعضهم من بعض ، فلا ينفع أحد أحدا.

وأمّا الأخلاء في الله فيشفع بعضهم في بعض ، ويتكلم بعضهم في شأن بعض ، أولئك هم المتقون الذين استثناهم الله بقوله : (إِلَّا الْمُتَّقِينَ).

وشرط الخلّة (٢) فى الله ؛ ألا يستعمل بعضهم بعضا في الأمور الدنيوية ، ولا يرتفق بعضهم ببعض ؛ حتى تكون الصحبة خالصة لله لا لنصيب في الدنيا ، ويكون قبول بعضهم بعض لأجل الله ، ولا تجرى بينهم مداهنة ، وبقدر ما يرى أحدهم في صاحبه من قبول لطريق الله يقبله ، فإن علم منه شيئا لا يرضاه الله لا يرضى ذلك من صاحبه ، فإذا عاد إلى تركه غاد هذا إلى مودته ، وإلّا فلا ينبغى أن يساعده على معصيته ، كما ينبغى أن يتقيه بقلبه ، وألا يسكن إليه لغرض دنيوى أو لطمع أو لعوض.

قوله جل ذكره : (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨))

يقال لهم غدا : (يا عِبادِ) (٣) (لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) مما يلقاه أهل

__________________

(١) كان تحزبهم إلى فرق متعددة هم : اليعقوبية والنسطورية والملكانية والشمعونية.

(٢) تضاف هذه الآراء إلى ما ذكره القشيري في رسالته في باب «الصحبة».

(٣) بالياء في الوصل والوقف مدنى وشامى وأبو عمرو ، وبفتح الياء أبوبكر ، والباقون بحذف الياء.

٣٧٣

الجمع (١) من الأهوال ، ولا أنتم تحزنون فيما قصّرتم من الأعمال ...

أمّا الذنوب .. فقد غفرناها ، وأمّا الأهوال ... فكفيناها ، وأمّا المظالم .. فقضيناها. فإذا قال المنادى : هذا الخطاب يطمع الكلّ قالوا : نحن عباده ، فإذا قال :

(الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩))

أيس الكفار ، وقوى رجاء المسلمين (٢).

قوله جل ذكره : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠))

(٣) فى رياض الجنة ، وترتعون.

ويقال : (تُحْبَرُونَ) من لذة السماع.

قوله جل ذكره : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١))

العبّاد لهم فيها ما تشتهى أنفسهم لأنهم قاسوا في الدنيا ـ بحكم المجاهدات ـ الجوع والعطش ، وتحمّلوا وجوه المشاقّ ، فيجازون في الجنة بوجوه من الثواب.

وأمّا أهل المعرفة والمحبّون فلهم ما يلذ أعينهم من النظر إلى الله (٤) لطول ما قاسوه من فرط الاشتياق بقلوبهم ؛ وما عالجوه من الاحتراق لشدة غليلهم.

__________________

(١) يفسر النسفي أهل الجمع بأنهم أهل مكة (آية ٤٥ سورة القمر).

(٢) قريب مما ذكره القشيري ما أورده الحارث المحاسبى في رعابته : (ينادى المنادى يوم القيامة «يا عبادى لا خوف عليكم اليوم ...» فيرفع الخلائق وموسهم ، ويقولون : نحن عباد الله. ثم ينادى الثانية : «الذين آمنوا ...» ثم ينادى الثالثة : «الذين آمنوا وكانوا يتقون» فينكس أهل الكبائر رءوسهم ، ويبقى أهل التقوى رافعى رءوسهم ، قد أزال عنهم الخوف والحزن كما وعدهم).

(٣) تحبرون أي تسرون سرورا يظهر حباره (أثره) على وجوهكم.

(٤) الجنة الحقيقية عند أرباب الأحوال رؤية الله ، ورد في الخبر : أسألك لذة النظر إلى وجهك.»

٣٧٤

قوله جل ذكره : (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢))

أي يقال لهم ـ والخطاب للمطيعين غدا ـ : أنتم يا أصحاب الإخلاص في أعمالكم ؛ والصدق في أحوالكم :

(لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣))

من الفاكهة الكثيرة تأكلون ، وفي الأنس تتقبلون.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤))

هؤلاء هم الكفار المشركون ، فهم أهل الخلود (١) ، لا يفتّر عنهم العذاب ولا يخفف.

وأمّا أهل التوحيد : فقد يكون منهم قوم في النار. ولكن لا يخلدون فيها. ودليل الخطاب يقتضى أنه يفتّر عنهم العذاب. ورد فى الخبر الصحيح : أنه يميتهم الحقّ ـ سبحانه ـ إماتة إلى أن يخرجهم من النار ـ والميت لا يحسّ ولا يتألم (٢).

(لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ)

الإبلاس (٣) من الخيبة ، ويدل ذلك على أن المؤمنين لا يأس لهم فيها ، وإن كانوا في بلائهم فهم على وصف رجائهم ؛ يعدون أيامهم إلى أن ينتهى حسابهم.

ولقد قال الشيوخ : إنّ حال المؤمن في النار ـ من وجه ـ أروح لقلبه من حاله في الدنيا ؛ فاليوم ـ خوف الهلاك ، وغدا ـ يقين النجاة ، وأنشدوا :

عيب السلامة أنّ صاحبها

متوقّع لقواصم الظّهر

وفضيلة البلوى ترقّب أهلها

 ـ عقب الرجاء ـ مودة الدهر

__________________

(١) يضاف هذا الكلام إلى رأى القشيري في أبدية النار ، على خلاف ما يذهب إليه بعض الباحثين من أن القوة الجسمانية متناهية فلا به من فنائها ، ولأن دوام الإحراق مع بتاء الحياة خروج عن حكم العقل (انظر شرح المواقف ، ج ٨ ، ص ٣٠٧ وشرح المقاصد ، ج ٢ ، ص ٢٢٨.

(٢) روى أحمد في مسنده : «.. أماتهم إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة ، فجىء بهم بنائر بضائر ، فبثوا على أنهار الجنة ، ثم قبل : يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فلون لبات الجنة ..

(٣) أبلس : سكت لمرئه وانقطاع حجته.

٣٧٥

قوله جل ذكره : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦))

هذا الخطاب يشبه كلمة العذر ـ وإن جلّ قدره ـ سبحانه ـ عن ذلك.

قوله جل ذكره : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨))

لو قالوا : (يا مالِكُ) لعلّ أقوالهم (١) كانت أقرب إلى الإجابة ، ولكنّ الأجنبية حالت بينهم وبين ذلك (٢) ، فكان الجواب عليهم :

(إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) فيها .. نصحتم فلم تنتصحوا ، ولم تقبلوا القول في حينه ، وكان أكثرهم للحق كارهين.

قوله جل ذكره : (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩))

(٣) بل أمورهم منتقضة عليهم ؛ فلا يتمشى لهم شىء مما دبّروه ، ولا يرتفع لهم أمر على نحو ما قدّروه ـ وهذه الحال أوضح دليل على إثبات الصانع.

قوله جل ذكره : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠))

إنما خوّفهم بسماع الملك ، وبكتابتهم أعمالهم عليهم لغفلتهم عن الله ـ سبحانه ، ولو كان لهم خير عن الله لما خوّفهم بغير الله ، ومن علم أنّ أعماله تكتب عليه ، وأنه يطالب بمقتضى ذلك ـ قلّ إلمامه بما يخاف أن يسأل عنه ..

قوله جل ذكره : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١))

__________________

(١) فى ص (أحوالكم) وقد آثرنا عليها (أقوالكم) التي في م كما يتضح من السياق القرآنى والسياق التفسيري.

(٢) يلفت القشيري نظرنا ـ من بعيد ـ إلى أن الدعاء ينبغى أن يتجه بالكلية إلى الرب سبحانه ، وقد يكون لذلك أهميته في فكرة الاستشفاع بالوسيلة ـ كما يتصورها هذا الإمام.

(٣) يقال إن الآية نزلت في تدبير الكائدين المكر بالنبي (ص) فى دار الندوة حين استقر أمرهم ـ حسب مشورة أبى جهل ـ على أن يبرز من كل قبيلة رجل ، ثم يشتركون في قتله فتضعف المطالبة بدمه صلوات الله عليه. وكانت النتيجة أن قتلوا جميعا يوم بدر.

٣٧٦

أي إن كان في ضميركم وفي حكمكم وفي اعتقادكم أنّ للرحمن ولدا فأنا أوّل من يستنكف من هذه القالة.

قوله جل ذكره : (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢))

تنزّه الله تنزيها ، وتقدّس تقديسا عمّا قالوه. وفي هذه الآيات وأمثالها دليل على جواز حكاية قول المبتدعة ـ فيما أخطأوا فيه من وصف المعبود ـ قصدا للردّ عليهم ، وإخبارا بتقبيح أقوالهم ، وبطلان مزاعمهم.

ثم قال جلّ ذكره : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣))

إذ ليس يفوت أمرهم ، وهم لا محالة سيلقون صغرهم.

وفي هذا دليل على أنه لا ينبغى للعبد أن يغترّ بطول السلامة فإنّ العواقب غير مأمونة.

قوله جل ذكره (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤))

المعبود ـ فى السماء ـ الله ، والمقصود ـ فى طلب الحوائج في الأرض ـ الله.

أهل السماء لا يعبدون غير الله ، وأهل الأرض لا يقضى حوائجهم غير الله. (وَهُوَ الْحَكِيمُ) فى إمهاله للعصاة ، (الْعَلِيمُ) بأحوال العباد.

(وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥))

تعالى وتقدّس وتنزّه وتكبّر الذي له ملك السماوات والأرض.

السماوات والأرض بقدرته تظهر .. لا هو بظهورها يتعزّز (١).

__________________

(١) الصوفية يستدلون بالخالق على ما خلق ، لأنه حاضر ومشهود ، وهو قديم قامت به الحادثات .. يقول ابن عطاء الله السكندرى : «متى غبت حتى تكون الأكوان شاهدة عليك؟»

٣٧٧

قوله جل ذكره : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦))

أي شهد ـ اليوم ـ بالتوحيد ، فيثبت له الحقّ حقّ الشفاعة. وفي الآية دليل على أن جميع المسلمين شفاعتهم تكون غدا مقبولة (١).

قوله جل ذكره : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧))

فكيف لا يعتبرون؟ وكيف يتكبّرون عن طاعة الله.

(وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)

أي يعلم علم الساعة ويعلم (٢) (قِيلِهِ يا رَبِّ)

(فَاصْفَحْ عَنْهُمْ ..) أي أمهلهم ، وقل لكم منى سلام .. ولكن سوف تعلمون عقوبة ما تستوجبون.

__________________

(١) واضح أن القشيري يصرف الآية إلى المسلمين عامة ويخرج المشركين ، وتذهب بعض التفاسير إلى أن معنى «الذين من دونه» هم عيسى وعزيز والملائكة ، فهم لا يملكون الشفاعة.

(٢) عاصم وحمزة يجران (قيله) على الإضافة وعنده علم الساعة وعلم قيله يا رب ، والسبعة على النصب : ويعلم قيله ...

٣٧٨

سورة الدّخان

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(بِسْمِ اللهِ) كلمة من ذكرها نال في الدنيا والعقبى بهجته ، ومن عرفها بذل فى طلبها مهجته.

كلمة إذا استولت على قلب عطّلته عن كلّ شغل ، كلمة إذا واظب على ذكرها عبد أمّنته من كلّ هول.

قوله جل ذكره : (حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢))

الحاء تشير إلى حقّه ؛ والميم تشير إلى محبته. ومعناه : بحقي وبمحبتى لعبادى ، وبكتابي العزيز إليهم : إنّى لا أعذّب أهل معرفتى بفرقتى (١).

قوله جل ذكره : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤))

(فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) : قيل هي ليلة القدر ، وقيل هي النصف من شعبان وهي ليلة الصّك (٢). أنزل القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا كلّ سنة بمقدار ما كان جبريل ينزل به على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣).

وسمّاها : (لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) لأنها ليلة افتتاح الوصلة. وأشدّ الليالى بركة ليلة يكون العبد فيها حاضرا بقلبه ، مشاهدا لربّه ، يتنعّم فيها بأنوار الوصلة ، ويجد فيها نسيم القربة.

__________________

(١) يبدو أن القشيري لم يعتبر «إنا أنزلناه ...» جوابا للقسم ، وإلى هذا يذهب بعض النحاة الذين يعتبرون ذلك صفة المقسم به ، ولا تكون صفة المقسم به جوابا القسم (انظر الجامع لأحكام القرآن القرطبي ج ١٦ ص ١٢٥).

(٢) من أسماء هذه الليلة : الليلة المباركة ، وليلة البراءة ، وليلة الصك.

(٣) أي على مدى ثلاث وعشرين سنة.

٣٧٩

وأحوال هذه الطائفة (١) فى لياليهم مختلفة ، كما قالوا :

لا أظلم الليل ولا ادّعى

أنّ نجوم الليل ليست تزول

ليلى كما شاءت : قصير إذا

جادت ، وإن ضنّت فليلى طويل

(فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) يكتب من أمّ الكتاب في هذه الليلة ما يحصل في السنة كلّها من أقسام الحوادث في الخير والشرّ ، فى المحن والمنن ، فى النصر والهزيمة ، فى الخصب والقحط.

ولهؤلاء القوم (يعنى الصوفية) أحوال من الخصب والجدب ، والوصل والفصل ، والوفاق والخلاف ، والتوفيق والخذلان ، والقبض والبسط .. فكم من عبد ينزل له الحكم والقضاء بالبعد والشقاء ، وآخر ينزل حكمه بالرّفد والوفاء.

قوله جل ذكره : (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦))

(رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) : وهي الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال صلوات الله عليه : «أنا رحمة مهداة»

ويقال : (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) رحمة لنفوس أوليائنا بالتوفيق ، ولقلوبهم بالتحقيق.

(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) : (السَّمِيعُ) لأنين المشتاقين ، (الْعَلِيمُ) بحنين المحبين.

قوله جل ذكره : (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧))

مالك السماوات والأرضين ، ومالك ما بينهما ـ وتدخل في ذلك أكساب العباد. وتملّكها بمعنى القدرة عليها ، وإذا حصل مقدور في الوجود دلّ على أنه مفعوله ؛ لأن معنى الفعل مقدور وجد (٢).

__________________

(١) يقصد طائفة الصوفية.

(٢) لا حظ كيف يحاول القشيري أن يدخل في «وما بينهما» أفعال العباد ، فحتى أكساب العباد ـ فى نظر هذا المتكلم داخلة ـ من حيث هي مقدورة ـ فى نطاق الخلق المنسوب إلى الله.

٣٨٠