لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

ويقال : من الأرزاق ما هو وجود الأرزاق ومنها ما هو شهود الرزاق.

ويقال : لا مكنة لك في تبديل خلقك ، وكذلك لا قدرة لك على تعسّر رزقك ، فالموسّع عليه رزقه ـ بفضله سبحانه .. لا بمناقب نفسه ، والمقترّ عليه رزقه بحكمه سبحانه .. لا بمعايب نفسه.

(هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) ؛ هل من شركائكم الذين أثبتموهم أى من الأصنام أو توهمتموهم من جملة الأنام .. من يفعل شيئا من ذلك؟ (سُبْحانَهُ وَتَعالى) تنزيها له وتقديسا.

قوله جل ذكره : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١))

الإشارة من البرّ إلى النّفس ، ومن البحر إلى القلب.

وفساد البرّ بأكل الحرام وارتكاب المحظورات ، وفساد البحر من الغفلة والأوصاف الذميمة مثل سوء العزم والحسد والحقد وإرادة الشّرّ والفسق .. وغير ذلك. وعقد الإصرار على المخالفات من أعظم فساد القلب ، كما أنّ العزم على الخيرات قبل فعلها من أعظم الخيرات.

ومن جملة الفساد التأويلات بغير حقّ ، والانحطاط إلى الرّخص في غير قيام بجد ، والإغراق في الدعاوى من غير استحياء من الله تعالى.

(لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) : بعض الذي عملوا من سقوط تعظيم الشرع من القلب ، وعدم التأسّف على مافاته من الحقّ.

قوله جل ذكره : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ).

١٢١

(سِيرُوا) بالاعتبار ، واطلبوا الحقّ بنعت الأفكار.

(فَانْظُرُوا) كيف كانت حال من تقدّمكم من الأشكال والأمثال ، وقيسوا عليها حكمكم في جميع الأحوال. (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) كانوا أكثرهم عددا ، ولكن كانوا في التحقيق أقلّهم وزنا وقدرا.

قوله جل ذكره : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣))

أخلص قصدك وصدق عزمك للدين القيّم بالموافقة والاتباع دون الاستبداد بالأمر على وجه الابتداع. فمن لم يتأدب بمن هو لسان وقته ولم يتلقف الأذكار ممن هو لسان وقته كان خسرانه أتمّ من ربحه ، ونقصانه أعم من نفعه (١).

قوله جل ذكره : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦))

يرسل رياح الرجاء على قلوب العباد فتكنس عن قلوبهم غبار الخوف وغثاء اليأس ، ثم يرسل عليها أمطار التوفيق فتحملهم إلى بساط الجهد ، وتكرمهم بقوى النشاط. ويرسل رياح البسط على أرواح الأولياء فيطهرها من وحشة القبض ، وينشر فيها إرادة الوصال. ويرسل رياح التوحيد فتهب على أسرار الأصفياء فيطهرها من آثار العناء ، ويبشرها بدوام الوصال .. فذلك ارتياح به ولكن بعد اجتياح عنك.

__________________

(١) يرى كبار الصوفية ـ والقشيري منهم ـ أن التأدب يشيخ أمر ضرورى في الطريق الصوفي كى يكبح جماح المريد ، ويهديه إلى ربه عند رعونة نفسه ، ويبعد به عن الزهو عند ما تلوح له بوادر الكشوفات ، ويشير عليه بالسفر إن دعت الحاجة إلى ذلك ... ونحو هذا.

١٢٢

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧))

أرسلنا من قبلك رسلا إلى عبادنا ، فمن قابلهم بالتصديق وصل إلى خلاصة التحقيق ، ومن عارضهم بالجحود أذقناهم عذاب الخلود ، فانتقمنا من الذين أجرموا ، وأخذناهم من حيث لم يحتسبوا ، وشوّشنا عليهم ما أمّلوا ، ونقضنا عليهم ما استطابوا وتنعّموا ، وأخذنا بخناقهم فحاق بهم ما مكروا.

(وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) بتوطئتهم بأعقاب أعدائهم ، ولم يلبثوا إلا يسيرا حتى رقيناهم فوق رقابهم ، وخرّبنا أوطان أعدائهم ، وهدّمنا بنيانهم ، وأخمدنا نيرانهم ، وعطّلنا عنهم ديارهم ، ومحونا بقهر التدمير آثارهم ، فظلّت شموسهم كاسفة ، ومكيدة قهرنا لهم بأجمعهم خاسفة.

قوله جل ذكره : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨))

يرسل رياح عطفه وجوده مبشرات بوصله وجوده ، ثم يمطر جود غيبه على على أسرارهم بلطفه ، ويطوى بساط الحشمة عن ساحات قربه ، ويضرب قباب الهيبة بمشاهد كشفه ، وينشر عليهم أزهار أنسه ، ثم يتجلّى لهم بحقائق قدسه ، ويسقيهم بيده شراب حبّه ، وبعد ما محاهم عن أوصافهم أصحاهم ـ لا بهم ـ ولكن بنفسه ، فالعبارات عن ذلك خرس ، والإشارات دونها طمس

١٢٣

قوله جل ذكره : (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠))

يحيى الأرض بأزهارها وأنوارها عند مجىء الأمطار ليخرج زرعها وثمارها ، ويحيى النفوس بعد نفرتها ، ويوفقها للخيرات بعد فترتها ، فتعمر أوطان الرّفاق بصادق إقدامهم ، وتندفع البلايا عن الأنام ببركات أيامهم ، ويحيى القلوب بعد غفلتها بأنوار المحاضرات ، فتعود إلى استدامة الذكر بحسن المراعاة ، ويهتدى بأنوار أهلها أهل العسر من أصحاب الإرادات ، ويحيى الأرواح بعد حجبتها ـ بأنوار المشاهدات ، فتطلع شموسها عن برج السعادة ، ويتصل بمشامّ أسرار الكافة نسيم ما يفيض عليهم من الزيادات ، فلا يبقى صاحب نفس إلا حظى منه بنصيب ، ويحيى الأسرار ـ وقد تكون لها وقفة في بعض الحالات ـ فتنتفى بالكلية آثار الغيرية ، ولا يبقى في الدار ديّار ولا من سكانها آثار ؛ فسطوات الحقائق لا تثبت لها ذرّة من صفات الخلائق ، هنالك الولاية لله .. سقط الماء والقطرة ، وطاحت الرسوم والجملة (١).

قوله جل ذكره : (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١))

إذا انسدّت البصيرة عن الإدراك دام العمى على عموم الأوقات .. كذلك من حقّت عليهم الشقاوة جرّته إلى نفسها ـ وإن تبوّأ الجنة منزلا.

قوله جل ذكره : (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢))

من فقد الحياة الأصلية لم يعش بالرّقى والتمائم ، وإذا كان في السريرة طرش عن سماع الحقيقة فسمع الظاهر لا يفيده آكد الحجّة. وكما لا يسمع (٢) الصّمّ الدعاء فكذلك لا يمكنه أن يهدى العمى عن ضلالتهم.

__________________

(١) أي انتفت آثار البشرية ، وصار العبد مستهلكا بالكلية.

(٢) الفاعل ضمير مستتر تقديره «هو» يعود على الرسول صلوات الله عليه ، فإن الخطاب في الآية الكريمة موجه إليه.

١٢٤

قوله جل ذكره : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤))

أظهرهم على ضعف الصغر والطفولية (١) ثم بعده قوة الشباب ثم ضعف الشيب ثم :

آخر الأمر ما ترى

القبر واللحد والثرى

كذلك في ابتداء أمرهم يظهرهم على وصف ضعف البداية في نعت التردد والحيرة في الطلب ، ثم بعد قوة الوصل في ضعف التوحيد.

ويقال أولا ضعف العقل لأنه بشرط البرهان وتأمله ، ثم قوة البيان في حال العرفان ؛ لأنه بسطوة الوجود ثم بعده ضعف الخمود ؛ لأن الخمود يتلو الوجود ولا يبقى معه أثر.

ويقال (خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) : أي حال ضعف من حيث الحاجة ثم بعده قوة الوجود ثم بعده ضعف المسكنة ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أحينى مسكينا وأمتنى مسكينا واحشرنى فى زمرة المساكين» (٢).

قوله جل ذكره : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥))

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠))

إنما كان ذلك لأحد أمرين : إمّا لأنهم كانوا أمواتا .. والميت لا إحساس له ، أو لأنهم عدّوا ما لقوا من عذاب القبر بالإضافة إلى ما يرون ذلك اليوم يسيرا. وإن أهل التحقيق يخبرونهم عن طول لبثهم تحت الأرض. وإن ذلك الذي يقولونه من جملة ما كانوا يظهرون من جحدهم على موجب جهلهم ، ثم لا يسمع عذرهم ، ولا يدفع ضرّهم.

__________________

(١) الطفولية الطفولة.

(٢) رواه الترمذي وابن ماجه عن أبى سعيد الخدري والحاكم ، وقال صحيح الإسناد. ورواه الطبراني بسند رجال ثقات عن عبادة بن الصامت. وادعى ابن الجوزي وابن تيمية أنه موضوع ، وأبطل ذلك الحافظ بن حجر.

١٢٥

وأخبر بعد هذا في آخر السورة عن إصرارهم وانهما كهم في غيّهم ، وأن ذلك نصيبهم من القسمة إلى آخر أعمارهم.

ثم ختم السورة بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام باصطباره على مقاساة مسارهم ومضارهم.

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ).

١٢٦

السورة التي يذكر فيها

لقمان

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(بِسْمِ اللهِ) كلمة من سمعها أقرّ أنّه لا يسمع مثلها ، ومن عرفها أنف أن يسمع غيرها. كلمة من سمعها طابت قصّته ، وزالت بكل وجه غصّته ، وتمّت من النّعم في الدنيا والعقبى حصّته ، وزهد في دنياه من غير رغبة في عقباه ؛ لأنّها ـ وإن جلّت ـ غير مولاه (١)

كلمة من سمعها لم يرغب في عمارة فنائه ، ولم يتحشم (٢) سرعة وفائه.

قوله جل ذكره : (الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢))

الألف تشير إلى آلائه ، واللام تشير إلى لطفه وعطائه ، والميم تشير إلى مجده وسنائه ؛ فبآلائه يرفع الجحد عن قلوب أوليائه ، وبلطفه وعطائه يثبت المحبة في أسرار أصفيائه ، وبمجده وسنائه مستغن عن جميع خلقه بوصف كبريائه.

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) : المحروس عن التغيير والتبديل.

(هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤))

هو هدى وبيان ، ورحمة وبرهان للمحسنين العارفين بالله ، والمقيمين عبادة الله كأنهم

__________________

(١) فالحب الخالص منتف عن الغيرية.

(٢) لم يتحشم أي : لم يتجنب

١٢٧

ينظرون إلى الله. وشرط المحسن أن يكون محسنا إلى عباد الله : دانيهم وقاصيهم ، ومطيعهم وعاصيهم.

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) : يأتون بشرائطها في الظاهر من ستر العورة ، وتقديم الطهارة ، واستقبال القبلة ، والعلم بدخول الوقت ، والوقوف في مكان طاهر.

وفي الباطن يأتون بشرائطها من طهارة السّرّ عن العلائق ، وستر عورة الباطن بتنقيته عن العيوب ، لأنها مهما تكن فالله يراها ؛ فإذا أردت ألا يرى الله عيوبك فاحذرها حتى لا تكون. والوقوف في مكان طاهر ، وهو وقوف القلب على الحدّ الذي أذنت في الوقوف فيه مما لا تكون دعوى بلا تحقيق ، ورحم الله من وقف عند حدّه. والمعرفة بدخول الوقت فتعلم وقت التذلّل والاستكانة ، وتميز بينه وبين وقت السرور والبسط ، وتستقبل القبلة بنفسك ، وتعلّق قلبك بالله من غير تخصيص بقطر أو مكان.

قوله جل ذكره : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))

الذين يقومون بشرط صلاتهم وحقّ آداب عبادتهم هم الذين اهتدوا فى الدنيا والعقبى فسلموا ونجوا.

قوله جل ذكره : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦))

(لَهْوَ الْحَدِيثِ) : ما يشغل عن ذكر الله (١) ، ويحجب عن الله سماعه. ويقال : هو لغو الظاهر الموجب سهو الضمائر ، وهو ما يكون خوضا في الباطل ، وأخذا بما لا يعنيك.

__________________

(١) اعتاد كثير من المفسرين أن يفسروا اللهو هنا (بالغناء) ، لأجل هذا نلفت النظر إلى عدم صرف القشيري المعنى في هذا الاتجاه ، لأننا نعلم من مذهبه أنه لا يرى بأسا في سماع الغناء ولكن بشرط أن يحرك الوجدان نحو غاية سامية في السماع ، وألا يبعث فيها الهوى والمجون ، وألا يكون مصحوبا بشىء محرّم. (أنظر كتابنا : الإمام القشيري ونزعته في التصوف) ط مؤسسة الحلبي.

١٢٨

قوله جل ذكره : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧))

المفترق بهمّه ، والمتشتّت بقلبه لا تزيده كثرة الوعظ إلا نفورا ونبوّا ؛ فسماعه كلا سماع ، ووعظه هباء وضياع ، كما قيل :

إذا أنا عاتبت الملول فإنما

أخطّ بأقلامى على الماء أحرفا

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩))

(آمَنُوا) : صدّقوا (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : تحقّقوا ؛ فاتصاف تحقيقهم راجع إلى تصديقهم ، فنجوا وسلموا ؛ فهم في راحاتهم مقيمون ، دائمون لا يبرحون.

قوله جل ذكره : (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠))

أمسك السماوات بقدرته بغير عماد ، وحفظها لا إلى سناد أو مشدودة إلى أوتاد ، بل بحكم الله وبتقديره ، ومشيئته وتدبيره.

(وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ ..) فى الظاهر الجبال ، وفي الحقيقة الأبدال والأوتاد الذين هم غياث الخلق ، بهم يقيهم ، وبهم يصرف البلاء عن قريبهم وقاصيهم.

(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً ..) المطر من سماء الظاهر في رياض الخضرة ؛ ومن سماء الباطن فى رياض أهل الدنوّ والحضرة.

١٢٩

قوله جل ذكره : (هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١))

هذا خلق الله العزيز في كبريائه ، فأرونى ماذا خلق الذين عبدتم من دونه في أرضه وسمائه؟

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢))

(الْحِكْمَةَ) الإصابة في العقل والعقد والنطق. ويقال (الْحِكْمَةَ) متابعة الطريق من حيث توفيق الحق لا من حيث همة النفس. ويقال (الْحِكْمَةَ) ألا تكون تحت سلطان الهوى. ويقال (الْحِكْمَةَ) الكون بحكم من له الحكم. ويقال (الْحِكْمَةَ) معرفة قدر نفسك حتى لا تمدّ رجليك خارجا عن كسائك. ويقال (الْحِكْمَةَ) ألا تستعصى على من تعلم أنك لا تقاومه.

(أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) : حقيقة الشكر انفراج عين القلب بشهود ملاطفات الرّبّ. فهو مقلوب قولهم : كشرت عن أنيابها الداية ؛ فيقال شكر وكشر مثل جذب وجبذ.

ويقال الشكر تحققك بعجزك عن شكره. ويقال الشكر ما به يحصل كمال استلذاذ النعمة. ويقال الشكر فضلة تظهر على اللسان من امتلاء القلب بالسرور ؛ فينطلق بمدح المشكور. ويقال الشكر نعت كلّ غنىّ كما أن الكفران وصف كلّ لئيم. ويقال الشكر قرع باب الزيادة (١). ويقال الشكر قيد الإنعام. ويقال الشكر قصة يميلها صميم الفؤاد بنشر صحيفة الأفضال. (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) (٢) : لأنه في صلاحها ونصيبها يسعى.

قوله جل ذكره : (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣))

__________________

(١) إشارة إلى قوله تعالى (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) آية ٧ سورة ابراهيم.

(٢) آية ٤٠ سورة النمل.

١٣٠

الشّرك على ضربين : جلىّ وخفيّ ؛ فالجلىّ عبادة الأصنام ، والخفىّ حسبان شىء من الحدثان من الأنام. ويقال الشّرك إثبات غير مع شهود الغيب. ويقال الشرك ظلم على القلب ، والمعاصي ظلم على النفس ، وظلم النفوس معرّض للغفران ، ولكنّ ظلم القلوب لا سبيل إليه للغفران.

قوله جل ذكره : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤))

أوجب الله شكر نفسه وشكر الوالدين. ولما حصل الإجماع على أن شكر الوالدين بدوام طاعتهما ، وألا يكتفى فيه بمجرد النطق بالثناء عليهما علم أنّ شكر الحقّ لا يكفى فيه مجرّد القول ما لم تكن فيه موافقه العقل ؛ وذلك بالتزام الطاعة ، واستعمال النعمة في وجه الطاعة دون صرفها في الزّلّة ؛ فشكر الحقّ بالتعظيم والتكبير ، وشكر الوالدين بالإنفاق والتوفير.

قوله جل ذكره : (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥))

إن جاهداك على أن تشرك بالله ، أو تسعى بما هو زلة في أمر الله ـ فلا تطعهما ، ولكن عاشرهما بالجميل ؛ تخشين في تليين ، فاجعل لهما ظاهرك فيما ليس فيه حرج ، وانفرد بسرّك لله ، (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ) : وهو المنيب إليه حقا من غير أن تبقى بقية في النفس.

قوله جل ذكره : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦))

١٣١

إذا كانت ذرة أو أقل من ذلك وسبقت بها القسمة فلا محالة تصل إلى المقسوم له بغير مرية .. (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) : عالم بدقائق الأمور وخفاياها.

قوله جل ذكره : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧))

الأمر بالمعروف يكون بالقول ، وأبلغه أن يكون بامتناعك بنفسك عما تنهى عنه ، واشتغالك واتصافك بنفسك بما تأمر به غيرك ، ومن لا حكم له على نفسه لا ينفذ حكمه على غيره.

والمعروف الذي يجب الأمر به هو ما يوصّل العبد إلى الله ، والمنكر الذي يجب النهى عنه هو ما يشغل العبد عن الله.

(وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) تنبيه على أنّ من قام لله بحقّ امتحن في الله ؛ فسبيله أن يصبر لله ـ فإنّ من صبر لله لا يخسر على الله.

قوله جل ذكره : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨))

يعنى لا تتكبر على الناس ، وطالعهم من حيث النسبة والتحقق بأنك بمشهد من مولاك. ومن علم أنّ مولاه ينظر إليه لا يتكبر ولا يتطاول بل يتخاضع ويتضاءل.

قوله جل ذكره : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩))

كن فانيا عن شواهدك ، مصطلما عن صولتك ، مأخوذا عن حولك وقوتك ، منتشقا (١) مما استولى عليك من كشوفات سرّك.

__________________

(١) (انتشق) الماء وغيره : جذب منه بالنّفس في أنفه ، ورجل نشق إذا دخل في أمر لا يكاد يخلص منه (الوسيط).

١٣٢

وانظر من الذي يسمع صوتك حتى تستفيق من خمار غفلتك ؛ (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) : فى الإشارة هو الذي يتكلم في لسان المعرفة من غير إذن من الحقّ. وقالوا : إنه الصوفيّ يتكلم قبل أوانه.

ويقال إنما ينهق الحمار عند رؤية الشيطان فلذلك كان صوته أنكر الأصوات.

قوله جل ذكره : (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠))

أثبت في كل شىء منها نفعا لكم ، فالسماء لتكون لكم سقفا ، والأرض لتكون لكم فراشا ، والشمس لتكون لكم سراجا ، والقمر لتعلموا به عدد السنين والحساب ، والنجوم لتهتدوا بها.

(وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) : الإسباغ ما يفضل عن قدرة الحاجة ولا تحتاج معه إلى الزيادة.

قوله : (نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) : تكلموا فيه فأكثروا. فالظاهرة وجود النعمة ، والباطنة شهود المنعم. والظاهرة الدنيوية ، والباطنة الدينية. والظاهرة حسن الخلق ، والباطنة حسن الخلق. الظاهرة نفس بلا زلّة ، والباطنة قلب بلا غفلة. الظاهرة العطاء ، والباطنة الرضاء. الظاهرة في الأموال ونمائها ، والباطنة في الأحوال وصفائها. الظاهرة النعمة ، والباطنة العصمة. الظاهرة توفيق الطاعات ، والباطنة قبولها. الظاهرة تسوية الخلق ، والباطنة تصفية الخلق. الظاهرة صحبة الصالحين ، والباطنة حفظ حرمتهم. الظاهرة الزهد في الدنيا ، والباطنة الاكتفاء بالمولى من الدنيا والعقبى (١). الظاهرة الزهد ، والباطنة الوجد. الظاهرة توفيق

__________________

(١) هذه أعلى درجات الزهد ، وهي تهمنا ونحن نؤرخ للتطور التأريخي الذي حدث عند ما تطور الزهد إلى تصوف (أنظر كتابنا نشأة التصوف الإسلامى (ط دار المعارف).

١٣٣

المجاهدة والباطنة تحقيق المشاهدة. الظاهرة وظائف النّفس ، والباطنة لطائف القلب. الظاهرة اشتغالك بنفسك عن الخلق ، والباطنة اشتغالك بربّك عن نفسك. الظاهرة طلبه ، الباطنة وجوده (١). الظاهرة أن تصل إليه ، الباطنة أن تبقى معه.

قوله جل ذكره : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١))

لم يتخطوا منهم ولا من أمثالهم ، ولم يهتدوا إلى محوّل أحوالهم. فأمّا من سمت نفسه ، وخلص في الله قصده فقد استمسك بالعروة الوثقى ، وسلك المحجّة المثلى : ـ

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ)

وعلى العكس : ـ

(وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

إلينا إيابهم ، ومنّا عذابهم ، وعلينا حسابهم. ولئن سألتهم عن خالقهم لأقرّوا ، ولكن إذا عادوا إلى غيّهم نقضوا وأصروا.

قوله جل ذكره : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦))

لله ما في السماوات والأرض ملكا ، ويحرى فيهم حكمه حقّا ، وإليه مرجعهم حتما.

__________________

(١) الوجود مرحلة تأتى بعد التواجد والوجد.

١٣٤

قوله جل ذكره : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧))

لو أنّ ما في الأرض من الأشجار أقلام والبحار كانت مدادا ، وبمقدار ما يقابله تنفق القراطيس ، ويتكلّف الكتّاب حتى تتكسر الأقلام ، وتفنى البحار ، وتستوفى القراطيس ، وتفنى أعمار الكتّاب .. ما نفدت معانى مالنا معك من الكلام ، والذي نسمعك فيما نخاطبك به لأنك معنا أبد الأبد ، والأبديّ من الوصف لا يتناهى.

ويقال إن كان لك معكم كلام كثير فما عندكم ينفذ وما عند الله باق :

صحائف عندى للعتاب طويتها

ستنشر يوما والعتاب يطول

قوله جل ذكره : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨))

إيجاد القليل أو الكثير عليه وعنده سيّان ؛ فلا من الكثير مشقة وعسر ، ولا من القليل راحة ويسر ، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له : (كُنْ فَيَكُونُ) (١) يقوله بكلمته ولكنه يكوّنه بقدرته ، لا بمزاولة جهد ، ولا باستفراغ وسع ، ولا بدعاء خاطر ، ولا بطروء غرض.

قوله جل ذكره : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠))

(اللهَ هُوَ الْحَقُّ) : الكائن الموجود ، محقّ الحقّ (٢) ، وما يدعون من دونه الباطل :

من العدم ظهر ومعه جواز العدم (٣).

__________________

(١) آية ٨٢ سورة يس.

(٢) فى ص جاء بعدها (وما يدعونه هو التلاوة) ويقول مجاهد ، إنه الشيطان. ويقال : ما أشركوا به الله تعالى من الأصنام والأوثان ..

(٣) شغلت قضية (الحق والباطل) أصحاب وحدة الوجود. ورأى القشيري هنا يصلح عند المقارنة بين أرباب وحدة الشهود وأرباب وحدة الوجود في شأن هذين الاصطلاحين.

١٣٥

قوله جل ذكره : (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ)

يتفرّد بعلم القيامة ، ويعلم ما في الأرحام ذكورها وإناثها ، شقيها وسعيدها ، وحسنها وقبيحها ويعلم متى ينزّل الغيث ، وكم قطرة ينزلها ، وبأي بقعة يمطرها.

(وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (١).

ما تدرى نفس ماذا تكسب غدا من خير وشر ، ووفاق وشقاق ، وما تدرى نفس بأي أرض تموت ؛ أتدرك مرادها أم يفوت؟.

__________________

(١) قال ابن عباس : هذه الخمسة لا يعلمها إلا اللّه تعالى ، ولا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل.

١٣٦

قوله جل ذكره : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١))

فى الظاهر سلامتهم في السفينة ، وفي الباطن سلامتهم من حدثان الكون ، ونجاتهم في سفائن العصمة في بحار القدرة.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ) وقوف لا ينهزم من البلايا ، شكور على ما يصيبه من تصاريف التقدير من جنسى البلايا والعطايا.

قوله جل ذكره : (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢))

إذا تلاطمت عليهم أمواج بحار التقدير تمنوا أن تلفظهم تلك البحار إلى سواحل السلامة ، فإذا جاد الحقّ بتحقيق مناهم عادوا إلى رأس خطاياهم :

وكم قد جهلتم ثم عدنا بحلمنا

أحباءنا : كم تجهلون ونحلم!

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣))

يخوّفهم مرة بأفعاله فيقول : (اتَّقُوا يَوْماً) ، ومرة بصفاته فيقول : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) ومرة بذاته فيقول : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ).

١٣٧

سورة السّجدة

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

كلمة سماعها ربيع الجميع ، من العاصي والمطيع ، والشريف والوضيع. من أصغى إليها بسمع الخضوع ترك طيّب الهجوع ، ومن أصغى إليها بسمع المحابّ ترك لذيذ الطعام والشراب.

قوله جل ذكره : (الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢))

الإشارة من الألف إلى أنه ألف المحبون قربتى فلا يصبرون عنى ، وألف العارفون تمجيدى فلا يستأنسون بغيري.

والإشارة في اللام إلى لقائى المدّخر لأحبّائى ، فلا أبالى أقاموا على ولائى أم قصّروا فى وفائى.

والإشارة في الميم : أي ترك أوليائى مرادهم لمرادى .. فلذلك آثرتهم على جميع عبادى.

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) : إذا تعذّر لقاء الأحباب فأعزّ شىء على الأحباب كتاب الأحباب ؛ أنزلت على أحبابى كتابى ، وحملت إليهم الرسالة خطابى ، ولا عليهم إن قرع أسماعهم عتابى ، فهم في أمان من عذابى.

قوله جل ذكره : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣))

الذي لكم منا حقيقة ، وإن التبس على الأعداء فليس يضيركم ، ولا عليكم ، فإنّ

١٣٨

صحبة الجيب مع الحبيب ألذّها ما كان مقرونا بفقد الرقيب.

قوله جل ذكره : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤))

وتلك الأيام خلقها من خلق غير الأيام ، فليس من شرط المخلوق ولا من ضرورته أن يخلقه في وقت ؛ إذ الوقت مخلوق في غير الوقت (١). وكما يستغنى في كونه مخلوقا عن الوقت استغنى الوقت عن الوقت.

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) ليس للعرش من هذا الحديث إلا هذا الخبر ؛ استوى على العرش ولكن القديم ليس له حدّ ، استوى على العرش لكن لا يجوز عليه القرب بالذات ولا البعد ، واستوى على العرش ولكنه أشدّ الأشياء تعطّشا إلى شظية من الوصال لو كان للعرش حياة؟ ، ولكنّ العرش جماد .. وأنّى يكون للجماد مراد؟! استوى على العرش لكنه صمد بلا ندّ ، أحد بلا حدّ.

(ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) : إذا لم يرد بكم خيرا فلا سماء عنه تظلّكم ، ولا أرض بغير رضاه تقلّكم ، ولا بالجواهر أحد يناصركم ، ولا أحد ـ إذا لم يعن بشأنكم في الدنيا والآخرة ـ ينظر إليكم.

قوله جل ذكره : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥))

خاطب الخلق ـ على مقدار أفهامهم ويجوز لهم ـ عن الحقائق التي اعتادوا في تخاطبهم.

(ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)

(الْعَزِيزُ) مع المطيعين (الرَّحِيمُ) على العاصين.

(الْعَزِيزُ) للمطيعين ليكسر صولتهم (الرَّحِيمُ) للعاصين ليرفع زلّتهم.

__________________

(١) لأن الزمان سرمد لا يرتبط بالوقت ولا يقتطع به.

١٣٩

قوله جل ذكره : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨))

أحسن صورة كلّ أحد ؛ فالعرش ياقوتة حمراء ، والملائكة أولو أجنحة مثنى وثلاث ورباع ، وجبريل طاووس الملائكة ، والحور العين ـ كما في الخبر ـ فى جمالها وأشكالها ، والجنان ـ كما في الأخبار ونص القرآن. فإذا انتهى إلى الإنسان قال : (خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (١) .. كل هذا ولكن :

وكم أبصرت من حسن ولكن

عليك من الورى وقع اختياري

خلق الإنسان من طين ولكن (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (٢) ، وخلق الإنسان من طين ولكن : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (٣) ، وخلق الإنسان من طين ولكن (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)!

قوله جل ذكره : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠))

لو كانت لهم ذرّة من العرفان ، وشمّة من الاشتياق ، ونسمة من المحبة لما تعصّبوا كلّ هذا التعصب في إنكار جواز الرجوع إلى الله ولكن قال : (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ).

قوله جل ذكره : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١))

لو لا غفلة قلوبهم وإلا لما أحال قبض أرواحهم على ملك الموت ؛ فإنّ ملك الموت لا أثر منه في أحد ، ولا له تصرفات في نفسه ، وما يحصل من التوفّى فمن خصائص قدرة

__________________

(١) آية ٥٤ سورة المائدة.

(٢) آية ١٥٢ سورة البقرة.

(٣) آية ٨ سورة البينة.

١٤٠