لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

ما زلت أختال في زمان وحال

حتى أمنت الزمان مكره

حال عليّ الصدود حتى

لم تبق مما شهدت ذرّة

قوله جل ذكره : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨))

ما عوملوا إلا بما استوجبوا ، ولا سقوا إلّا ممّا ثبطوا (١) ، وما وقعوا إلّا في الوهدة التي حفروا ، وما قتلوا إلا بالسيف الذي صنعوا!

(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى ..) : ما كان من شأنهم إلا التمادي في عصيانهم ، والإصرار على غيهم وطغيانهم.

(فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)

فرّقناهم تفريقا حتى اتخذهم الناس مثلا مضروبا ؛ يقولون. ذهبوا أيدى سبأ ، وتفرّقوا أيادى سبأ. وفي قصتهم آيات لكل صبّار على العاقبة ، شكور على النعمة.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١))

صدّق عليهم إبليس ظنّه ـ وإن كان لا يملك لنفسه أمرا ، فإبليس مسلّط على أتباعه

__________________

(١) ثبط ـ حمق في عمله.

١٨١

من الجنّ والإنس ، وليس به من الإضلال شىء ، ولو أمكنه أن يضرّ غيره لأمكنه أن يمسك على الهداية نفسه ، قال تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) (١).

(وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) : يهدى من يشاء ويضل من يشاء. ثم أخبر ـ سبحانه وتعالى ـ أنه بملكه متفرّد ، وفي الألوهية متوحّد ، وعن الأضداد والأنداد متعزّز ، وأنهم لا يملكون مثقال ذرّة ، ولا مقياس حبّة ، وليس منهم نصير ، ولا شريك ولا ظهير ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وأن الملائكة في السماء بوصف الهيبة فزعون ، وفي الموقف الذي أثبتهم الحقّ واقفون ، لا يفترون عن عبادته ولا يعضون.

ثم قال جل ذكره : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤))

لم يقل أحد ـ مع شركه ـ إنه يحيل في الرزق على أحد غيره ، فكما لا شريك له فى الرزق ولا شريك له في الخلق فلا شريك له في استحقاق العبادة والتعظيم.

قوله جل ذكره : (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦))

ولا تسألون عما أجرمنا ولا نحن نسأل عن إجرامكم .. ويوم الجمع يحاسب الله كلّا على أعماله ، ويطالب كلا بشأنه ، لا يؤاخذ أحدا بعمل غيره ، وكلّ يعطى كتابه ، ويطلب الله من كلّ واحد حسابه.

وقد أجرى الله سنّته بأن يجمع بين عباده ، ثم يعاملهم في حال اجتماعهم بغير ما يعاملهم فى حال افتراقهم. فللاجتماع أثر كبير في الشريعة ، وللصلاة بالجماعة أثر مخصوص. وقد عاتب الله ـ سبحانه ـ الذين يتفرقون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومدح من لا يتفرّق إلا عن استئذان.

__________________

(١) آية ٦٥ سورة الإسراء.

١٨٢

والشيوخ ينتظرون في الاجتماع زوائد ، ويستروحون إلى هذه الآية :

(قُلْ يَجْمَعُ ...)

قوله جل ذكره : (قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧))

كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك ، هو لك ، تملكه وما ملك (١) ، لانهما كهم فى ضلالتهم. وبعد تحققهم بأنها جمادات لا تفقه ولا تقدر ، ولا تسمع ولا تبصر ، وقعت لهم شهة استحقاقها العبادة ، فإذا طولبوا بالحجة لم يذكروا غير أنهم يقلدون أسلافهم ... وهذا هو الضلال البعيد والخسران المبين.

قوله جل ذكره : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨))

أرسلناك مؤيّدا بالمعجزات ، مشرّفا بجميع الصفات ، سيدا في الأرضين والسماوات ، ظاهرا لأهل الإيمان ، مستورا عن بصائر أهل الكفران ـ وإن كنت ظاهرا لهم من حيث العيان ، قال تعالى : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (٢)

قوله جل ذكره : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠))

لكثرة ما يقولون هذا كرّره الله في كتابه خبرا عنهم ، والجواب إن لكم ميعاد يوم ، وفي هذا الميعاد لا تستأخرون ساعة ولا تستقدمون.

قوله جل ذكره : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا

__________________

(١) وردت التلبية مضطربة الكتابة وقد صححناها طبقا لما جاء في المحبر لابن حبيب.

(٢) آية ١٩٨ سورة الأعراف.

١٨٣

الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١))

لو رأيتهم يومذاك لرأيت منظرا فظيعا ؛ يرجع بعضهم إلى بعض القول ، ويحيل بعضهم على بعض الجرم ؛ يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا : أنتم أضللتمونا ، وينكر الذين استكبروا ويقولون : بل أنتم اتبعتمونا .. وهكذا أصحاب الزلات الأخلاء في الفساد ، قال تعالى : (بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) (١).

وكذلك الجوارح والأعضاء غدا يشهد بعضها على بعض ؛ فاليد تقول للجملة أخذت ، والعين تقول أبصرت ، والاختلاف في الجملة عقوبة ، ومن عمل بالمعاصي أخرج الله عليه كل من هو أطوع له ، ولكنهم لا يعلمون ذلك ، ولو علموا لا عتبروا ، ولو اعتبروا لتابوا ووفّقوا .. ولكن ليقضى الله أمرا كان مفعولا.

قوله جل ذكره : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤))

أي قابلوا رسلنا بالتكذيب ، وصبر رسلنا .. وماذا على هؤلاء الكفار لو آمنوا بهم؟ فهم لنجاتهم أرسلوا ، ولصلاحهم دعوا وبلّغوا ، ولو وافقوهم لسعدوا .. ولكنّ أقساما سبقت ، وأحكاما حقت ، والله غالب على أمره.

(وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)

ليس هذا بكثرة الأموال والأولاد ، وإنما هي بصائر مفتوحة لقوم ، وأخرى مسدودة لقوم.

__________________

(١) آية ٦٧ سورة الزخرف.

١٨٤

قوله جل ذكره : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧))

لا تستحقّ الزّلفى عند الله ؛ بالمال والأولاد ، ولكن بالأعمال الصالحة والأحوال الصافية والأنفاس الزاكية ، بل بالعناية السابقة ، والهداية اللاحقة ، والرعاية الصادقة ، فأولئك لهم جزاء الضعف : يضاعف على ما كان لمن تقدمهم من الأمم (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) من تكدر الصفوة والإخراج من الجنة.

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨))

هم الذين لا يحترمون الأولياء ، ولا يراعون حقّ الله في السرّ ، فهم في عذاب الاعتراض على أولياء الله ، وعذاب الوقوع بشؤم ذلك في ارتكاب محارم الله ، ثم في عذاب السقوط من عين الله.

قوله جل ذكره : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩))

من الخلف في الدنيا الرضا بالعدم والفقد ، وهو أتمّ من السرور بالموجود (١) ؛ ومن ذلك الأنس بالله في الخلوة ؛ ولا يكون ذلك إلا مع التجريد.

قوله جل ذكره : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠))

قوم كانوا يعبدون الملائكة فيختبرهم عنهم ؛ فيتبرأون منهم وينزّهون الله ويسبحونه ،

__________________

(١) استعمل القشيري هنا كلمة (الموجود) بالميم وكان المفروض حسب السياق أن يستعمل (الوجود) ، وبهذا يتأيد رأينا في هامش سابق أن من الخير قصر اصطلاح (الوجود) على الوجود الحق.

١٨٥

فيفتضح هؤلاء ـ والافتضاح عند السؤال من شديد العقوبة ، وفي بعض الأخبار :

أن غدا من يسألهم الحقّ فيقع عليهم من الخجل ما يجعلهم يقولون : عذّبنا ربنا بما شئت من ألوان العقوبة ولا تعذبنا بهذا السؤال!

قوله جل ذكره : (فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢))

الإشارة في هذا أنّ من علق قلبه بالأغيار ؛ وظنّ صلاح حاله بالاحتيال (١) ؛ والاستعانة بالأمثال والأشكال ينزع الله الرحمة من قلوبهم ؛ ويتركهم ، ويشوش أحوالهم ، فلا لهم من الأمثال والأشكال معونة. ولا لهم من عقولهم في أمورهم استبصار ، ولا إلى الله رجوع ، وإن رجعوا لا يرحمهم ولا يجيبهم ، ويقول لهم : ذوقوا وبال ما به استوجبتم هذه العقوبة.

قوله جل ذكره : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣))

الحكماء ، والأولياء ـ الذين هم الأئمة في هذه الطريقة ـ إذا دلوا الناس على الله. قال بعض إخوان السوء ـ مثل بعض المتنصحين من أهل الغفلة وأبناء الدنيا (٢) لمريد : ما هذا؟ من الذي يطيق كل هذا؟ ربما لا تتمّم الطريق!

لا بد من الدنيا ما دمت تعيش! ... وأمثال ذلك ، حتى يميل هذا المسكين عند قبول النصح ، وربما كان له هذا من خواطره الدنية ... فيهلك ويضلّ.

__________________

(١) الاحتيال هنا معناه الاعتماد على جهده الإنسانى ، وتفريغ الوسع فيه دون التعويل على فضل الله ومنته ، فالواجب إسقاط التدبير والاعتماد على التقدير.

(٢) يشبههم القشيري في موضع آخر بمن كان يعوق المجاهدين قبيل القتال.

١٨٦

قوله جل ذكره : (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤))

الإشارة من هذا إلى أهل الغفلة ؛ يعارضون أصحاب القلوب فيما يجرى من الأمور ، بما تشوّش إليهم نفوسهم ، ويخطر ببالهم من هواجسهم عن مقتضى تفرقة قلوبهم ـ على قياس ما يقع لهم ـ من غير استناد إلى إلهام ، أو اعتماد على تقدير من الله وإفهام.

وأهل الحقائق ـ الذين هم لسان الوقت ـ إذا قالوا شيئا أو أطلقوا حديثا ، فلو طولبوا بإقامة البرهان عليه لم يمكنهم ؛ لأن الذي يتكلم عن الفراسة أو عن الإلهام ، أو كان مستنطقا فليس يمكن لهؤلاء إقامة الحجة على أقوالهم (١). وأصحاب الغفلة ليس لهم إيمان بذلك ، فإذا سمعوا شيئا منه عارضوهم فيهلكون ، فسبيل هؤلاء الأكابر عند ذلك أن يسكتوا ، ثم الأيام (٢) تجيب أولئك.

قوله جل ذكره : (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦))

يقول : إذا سوّلت لكم أنفسكم تكذيب الرسول فأنعموا النظر .. هل ترون فيه آثار ما رميتوه به؟ هذا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم .. قلتم إنه ساحر ـ فأين آثار السحر

__________________

(١) انظر ص ٣٤٨ من المجلد الثاني من هذا الكتاب.

وقد يظن أن هذا محل طعن فيما يصدر عن المعارف من أقوال وأحوال ، والواقع أن مرد عجز العارف عن إقامة الحجة إلى أن ما ينثال عليه من كشوفات ليس من تدبيره أو احتياله ، ولا نتيجة مهارته أو ذكائه ... وإلا كان مطلوبا منه أن يسوق حجة أو يقدم برهانا .. إنما هي أنوار إلهية تنبجس في عالمه الباطن .. وليست تجربة الإمام الغزالي إلا نموذجا للعارف الذي نهل من العلوم العقلية قدرا عظيما ، ولكن ذلك لم يهدىء سورة غليله ، ولم يقده إلى الراحة والسكينة .. حتى قيض الله له في علوم القوم ما شفاه وكفاه (انظر الصفحات الأولى من : «المنقذ من الضلال» للإمام الغزالي).

(٢) هكذا في م وهي في ص (الأنام) ونحن نرجح (الأيام) على معنى أن الدهر كفيل بتوضيح الحقيقة ـ وإن خفيت زمنا.

١٨٧

على أحواله وأفعاله وأقواله؟ قلتم إنه شاعر ـ فمن أي قسم من أقسام الشعر كلامه؟ قلتم إنه مجنون ـ فأى جنون ظهر منه؟

وإذ قد عجزتم عن ذلك ... فهلّا عرفتم أنه صادق؟!

قوله جل ذكره : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨))

يقذف بالحقّ على باطل أهل الغفلة فتزول حيلهم ، ويظهر عجزهم. ويقذف بالحقّ على أحوال أهل الخلاف فيضمحل اجتراؤهم ، ويحيق بهم شؤم معاصيهم.

ويقذف بالحقّ ـ إذا حضر أصحاب المعاني ـ على ظلمات أصحاب الدعاوى فيخمد ثائرتهم ، ويفضحهم في الحال ، ويفضح عوارهم.

قوله جل ذكره : (قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩))

الباطل على ممرّ الأيام لا يزيد إلا زهوقا ، والحقّ على ممرّ الأيام لا يزداد إلا قوة وظهورا.

قوله جل ذكره : (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠))

إن كنت مهتديا فبربّى لا بجهدي. وإن كنت عندكم من أهل الضلال فوبال ضلالتى عائد عليّ ، ولن يضرّكم ذلك. فانظروا أنتم إلى أنفسكم .. أين وقعتم؟ وأي ضرر يعود عليكم لو أطعتمونى؟ لا في الحال تخسرون ، ولا في أنفسكم تتعبون ، ولا في جاهكم تنقصون.

وما أخبركم به عن نقص أصنامكم فبالضرورة (١) أنتم تعلمون! فما لكم لا تبصرون؟ ولا لأنفسكم تنظرون؟

__________________

(١) أي لا جدال في أنكم تجدونها لا تنفع ولا تضر ولا تستطيع أن تدفع عنها مكروها ، فهى لا تليق بتأليه ولا تقديس.

١٨٨

قوله جل ذكره : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١))

أي لو رأيت ذلك لرأيت منظرا فظيعا ، وأمرا عظيما ؛ إذا أخذهم بعد الإمهال فليس إلا الاستئصال.

(وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ)

إذا تابوا ـ وقد أغلقت الأبواب ، وندموا ـ وقد تقطّعت الأسباب .. فليس إلا الحسرات والندم ، ولات حين ندامة!

كذلك من استهان بتفاصيل فترته ، ولم يستفق من غفلته يتجاوز عنه مرة ، ويعفى عنه كرّة ، فإذا استمكنت منه القسوة وتجاوز سوء الأدب حدّ الغفلة ، وزاد على مقدار الكثيرة (١) .. يحصل له من الحقّ ردّ ، ويستقبله حجاب ، وبعد ذلك لا يسمع له دعاء ، ولا يرحم له بكاء ، كما قيل :

فخلّ سبيل العين بعدك للبكا

فليس لأيام الصفاء رجوع

قوله جل ذكره : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤))

التوبة يشتهونها في آخر الأمر وقد فات الوقت ، والخصم يريد إرضاءه فيستحيى أن يذكر فى ذلك الوقت ، وينسدّ لسانه ويعتقل ؛ فلا يمكنه أن يفصح بما في قلبه ، ويودّ أن لو كان بينه وبين ما أسلفه بعد بعيد ، ويتمنى أن يطيع فلا تساعده القوة ، ويتمنى أن يكون له ـ قبل خروجه من الدنيا ـ نفس .. ثم لا يتفق.

__________________

(١) فى رأى القشيري : الثلاثة ـ آخر حد القلة ، وأول حد الكثرة ـ.

١٨٩

سورة فاطر

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بِسْمِ اللهِ)

كلمة سماعها يوجب روحا لمن كان يشاهد الإتقان ، ويوجب لوحا لمن كان بوصف البيان ؛ فالرّوح من وجود الإحسان ، واللوح من شهود السلطان ، وكلّ مصيب ، ولكلّ من الحقّ نصيب.

قوله جل ذكره : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ ...)

استحق المدح والثناء على انفراده (١) بالقدرة على خلق السماوات والأرض.

(جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) : تعرّف إلى العباد بأفعاله ، وندبهم إلى الاعتبار بها ، فمنها ما نعلم منه ذلك معاينة كالسموات والأرض وغيرها ، ومنها ما سبيل الإيمان به الخبر والنقل ـ لا بدليل العقل ـ والملائكة من ذلك ؛ فلا نتحقق كيفيّة صورهم وأجنحتهم ، وكيف يطيرون بأجنحتهم الثلاثة أو الأربعة ، ولكن على الجملة نعلم كمال قدرته ، وصدق كلمته.

قوله : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) : قيل الخلق الحسن ، وقيل الصوت الحسن ، وقيل الصوت الحسن وقيل ملاحة العينين ، وقيل الكياسة في الخيرة (٢) ، وقيل الفصاحة في المنطق ، وقيل الفهم عن الله ، ويقال السخاء والجود ، ويقال الرضا بالتقدير ، ويقال علو الهمة ، ويقال التواضع ، ويقال العفة عند الفقر ، ويقال الظرف في الشمائل ، ويقال أن تكون محببّا إلى القلوب ، ويقال خفة الروح ، ويقال سلامة الصدر من الشرور ، ويقال المعرفة بالله بلا تأمّل

__________________

(١) هكذا في م. وهي في ص (إرشاده).

(٢) اسم من الاختيار.

١٩٠

برهان (١) ، ويقال الشوق إلى الله ، ويقال التعطّف على الخلق بجملتهم ، ويقال تحرّر القلوب من رقّ الحدثان بجملته ، ويقال ألا يطلب لنفسه منزلة في الدارين (٢).

قوله جل ذكره : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢))

الموسّع عليه رزقه لا يضيّق عليه غير الله ، والمحروم لا يوسّع عليه غير الله.

ويقال : ما يلج في قلوب العارفين من أنوار التحقيق لا سحاب يستره ، ولا ضياء يقهره.

ويقال : ما يلزم قلوب أوليائه من اليقين فلا مزيل له ، وما يغلق على قلوب الأعداء من أبواب الذكر فلا فاتح له غيره ـ سبحانه.

ويقال الذي يقرنه بقلوب أوليائه وأحوالهم من التيسير فلا ممسك له ، والذي يمنعه عن أعدائه ـ بما يلقيهم فيه من انغلاق الأمور واستصعابها ـ فلا ميّسر له من دونه.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣))

من ذكر النّعمة فصاحب عبادة ، ونائل زيادة ، ومن ذكر المنعم فصاحب إرادة ، ونائل زيادة .. ولكن فرق بين زيادة وزيادة ؛ ذلك زيادته في الدارين عطاؤه ، وهذا زيادته لقاؤه : اليوم سرّا بسرّ من حيث المشاهدة ، وغدا جهرا بجهر من حيث المعاينة.

والنعمة على قسمين (٣) : ما دفع عنه من المحن ، وما نفع به من المنن ؛ فذكره لما دفع عنه يوجب دوام العصمة ، وذكره لما نفعه به يوجب تمام النعمة.

__________________

(١) من اختاره الله لمعرفته لا يتركه يتعنّى في الأدلة والبراهين بعد اجتيازه مرحلة البداية المصححة بالعقل. بل يفك أسره من هذه القيود لينطلق في رحلة العرفان بالقلب ، ثم الروح ، ثم السر ، ثم عين السر.

(٢) يرى الزمخشري أن الآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق وميزة فيه .. وتلك أمور لا يحيط بها وصف.

(٣) مرة أخرى يعود القشيري إلى ذكر نعم الدفع ، ونعم النفع ، وواضح أن الذكر والشكر لا زمان على الدوام .. هذا هو المقصد الذي يطمح إليه القشيري.

١٩١

(هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ ..؟) وفائدة هذا التعريف أنه إذا عرف أنه لا رازق غيره لم يعلّق قلبه بأحد في طلب شىء ، ولم يتذلل في ارتفاق لمخلوق ، وكما لا يرى رزقه من مخلوق لا يراه من نفسه أيضا ؛ فيتخلّص من ظلمات تدبيره واحتياله (١) ، ومن توّهم شىء من أمثاله وأشكاله ، ويستريح لشهود تقديره ، ولا محالة يخلص في توكله وتفويضه.

قوله جل ذكره : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤))

هذه تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتسهيل للصبر عليه ؛ فإذا علم أن الأنبياء عليهم‌السلام استقبلهم مثلما استقبله ، وأنّهم صبروا وأنّ الله كفاهم ، فهو يسلك سبيلهم ويقتدى بهم ، وكما كفاهم علم أنه أيضا يكفيه. وفي هذا إشارة للحكماء وأرباب القلوب في موقفهم من العوامّ والأجانب عن هذه الطريقة ، فإنهم لا يقبلون منهم إلا القليل ، بينما أهل الحقائق أبدا منهم في مقاساة الأذى إلا بستر حالهم عنهم (٢).

والعوامّ أقرب إلى هذه الطريقة من القرّاء (٣) المتقشفين ، ومن العلماء الذين هم لهذه الأصول ينكرون.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ

__________________

(١) فالواجب إسقاط التدبير وشهود التقدير ـ كما قلنا في الهامش منذ قليل.

(٢) لجأ «ملامتية» نيسابور إلى هذا الستر ، واكتفوا بعلم الله بأسرار هم وصلاح باطنهم ، ولم يأبهوا بالمخلوقين. بل رغبة في تأكيد علاقتهم بالله ، وإمعانا في إخفاء حقائقهم كانوا يقومون بأشياء تستوجب الملامة .. نقول ذلك رغبة في توضيح أن أفكار هذا المذهب كانت معروفة في مدينة نيسابور موطن القشيري ، كما كان السلمى جد أبى عبد الرحمن صديقه الحميم واحدا من رواد هذا المذهب وأئمته.

(٣) القراء جماعة من قراء القرآن ظهروا منذ عهد مبكر (ولازموا الأعمدة في الليل يتهجدون ، حتى إذا جاء النهار استقوا الماء واحتطبوا للنبى وكانوا في صحبته (ابن سعد ح ٣ ق ١ ص ٣٦ ، ٣٧) ، ولكن اللفظة أطلقت فيما بعد بصفة عامة على (الذين يزورون عن الدنيا ويخصصون أنفسهم للعمل الصالح والزهد والتأمل) ابن سعد ج ٦ ص ٢٥٥. (ويقال تقرى بتسهيل الهمزة أي تنسك) (أمالى القالي ح ٣ ص ٤٧) .. ولقد نبه عمر بن الخطاب إلى ضرورة تنقية هذا اللون من التعبد من كل الأغراض والأمراض حيث يقول : «يا أيها الناس إنه أتى على حين وأنا أحسب أنه من قرأ القرآن إنما يريد به الله وما عنده ، ألا وقد خيل إلى أن أقواما يقرءون القرآن يريدون به ما عند الله ، ألا فأريدوا الله بقراءتكم وبأعمالكم» البيان والتبيين ح ٣ ص ١٣٨. ولكن يبدو أن الزمن قد فعل فعله في خروج طوائف من القراء عن هذا الخط ... الأمر الذي جعل القشيري ـ وقد عاش في القرنين الرابع والخامس ـ يتحفظ في الحكم عليهم.

١٩٢

فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥))

وعد الله حقّ في كل ما أخبر به أنه يكون ، فوعده في القيامة حقّ ، ووعده لمن أطاعه بكفاية الأمور والسلامة حقّ ، ووعده للمطيعين في الآخرة بوجود الكرامة حقّ ، وللعاصين بالندامة حقّ ، فإذا علم العبد ذلك استعدّ للموت ، ولم يهتم بالرزق ، فيكفيه الله شغله ، فينشط العبد في استكثار الطاعة ثقة بالوعد ، ولا يلمّ بالمخالفات خوفا من الوعيد.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦))

عداوة الشيطان بدوام مخالفته ؛ فإنّ من الناس من يعاونه بالقول ولكن يوافقه بالفعل ، ولن تقوى على عداوته إلا بدوام الاستغاثة بالربّ ، وتلك الاستغاثة تكون بصدق الاستعانة ، والشيطان لا يفتر في عداوتك ، فلا تغفل أنت عن مولاك لحظة فيبرز لك عدوّك ؛ فإنه أبدا متمكّن لك.

(إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ) وحزبه هم المعرضون عن الله ، المشتغلون بغير الله ، الغافلون عن لله. ودليل هذا الخطاب : إن الشيطان عدوّكم فأبغضوه واتخذوه عدوا ، وأنا وليّكم وحبيبكم فأحبّونى وارضوا بي حبيبا.

قوله جل ذكره : (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧))

الذين كفروا لهم عذاب معجل وعذاب مؤجّل ، فمعجّله تفرقة قلوبهم وانسداد بصائرهم ووقاحة همّتهم حتى أنهم يرضون بأن يكون الصنم معبودهم. وأمّا عذاب الآخرة فهو ما لا تخفى على مسلم ـ على الجملة ـ صعوبته.

١٩٣

وأمّا (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فلهم مغفرة أي ستر لذنوبهم اليوم ، ولو لا ذلك لا فتضحوا ، ولو لا ذلك لهلكوا.

(وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) : والأجر الكبير اليوم سهولة العبادة ودوام المعرفة ، وما يناله في القلب من زوائد اليقين وخصائص الأحوال. وفي الآخرة : تحقيق السّؤل ونيل ما فوق المأمول.

قوله جل ذكره : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨))

معنى الآية : أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا كمن ليس كذلك؟ لا يستويان!

ومعنى (زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) أن الكافر يتوهّم أنّ عمله حسن ، قال تعالى : (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (١).

ثم الراغب في الدنيا يجمع حلالها وحرامها ، ويحوّش (٢) حطامها ، ولا يفكر في زوالها ، ولا في ارتحاله عنها قبل كما لها ؛ فلقد زين له سوء عمله (والذي يتبع شهواته ويبيع مؤبّد راحاته فى الجنة بساعة فلقد زين له سوء عمله) (٣). وإن الذي يؤثر على ربّه شيئا من المخلوقات لهو من جملتهم. والذي يتوهّم أنه إذا وجد نجاته ودرجاته في الجنة ـ وأنّ هذا يكفيه ... فقد زيّن له سوء عمله حيث يتغافل عن حلاوة المناجاة. والذي هو في صحبة حظوظه ولا يؤثر حقوق الله فلقد زين له سوء عمله فرآه حسنا.

(فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) : يعنى إذا عرفت حقّ (٤) التقدير ، وعلمت أنهم سقطوا من عين الله ، ودعوتهم جهرا ، وبذلت لهم نصحا ، فاستجابتهم ليست لك ، فلا تجعل على قلبك من ذلك مشقة ولا عناء.

__________________

(١) آية ١٠٤ سورة الكهف.

(٢) حوش المال ونحوه ـ جمعه وادخره (الوسيط).

(٣) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص.

(٤) هكذا في م وهي في ص (سرّ) التقدير.

١٩٤

قوله جل ذكره : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩))

أجرى سنّته بأنه يظهر فضله في إحياء الأرض بالتدريج ؛ فأولا يرسل الرياح ثم يأتى بالسحاب ، ثم يوجّه ذلك السحاب إلى الموضع الذي يريد له تخصيصا كيف يشاء ، ويمطر هناك كيف يشاء. كذلك إذا أراد إحياء قلب عبد بما يسقيه وينزل عليه من أمطار عنايته ، فيرسل أولا رياح الرجاء ، ويزعج بها كوامن الإرادة ، ثم ينشىء فيها سحب الاهتياج ، ولوعة الانزعاج ، ثم يجود بمطر ينبت في القلب أزهار البسط ، وأنوار (١) الرّوح ، فيطيب لصاحبه العيش إلى أن تتمّ لطائف الأنس.

قوله جل ذكره : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠))

من كان يريد العزة بنفسه فليعلم أنّ العزة بجملتها لله ، فليس للمخلوق شىء من العزّة. ويقال من كان يريد العزة لنفسه فلله العزّة جميعا ، أي فليطلبها من الله ، وفي آية أخرى أثبت العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، وقال هاهنا (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) ؛ ووجه الجمع بينهما أن عزّ الربوبية لله وصفا ، وعزّ الرسول ، وعزّ المؤمنين لهم فضلا من الله ولطفا ؛ فإذا العزّة لله جميعا. وعزّه سبحانه ـ قدرته. أو ويقال العزيز هو القاهر الذي لا يقهر ؛ فيكون من صفات فعله على أول القولين .. ومن صفات ذاته على القول الآخر. ويقال العزيز هو الذي لا يوصل إليه من قولهم : أرض عزاز إذا لم تستقر عليها الأقدام ، فيرجع معناه إلى جلال سلطانه.

ويقال العزيز الذي لا مثل له ؛ من قولهم : عزّ الطعام في اليد ، فيرجع إلى استحقاقه لصفات المجد والعلو.

__________________

(١) أنوار هنا جمع نورة وهي الزهرة البيضاء.

١٩٥

قوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) : الكلم الطيب هو الصادر عن عقيدة طيبة ـ يعنى الشهادتين ـ عن إخلاص. وأراد به صعود قبول ؛ لأنّ حقيقة الصعود في اللغة بمعنى الخروج ـ ولا يجوز في صفة الكلام (١).

(وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) : أي يقبله. ويقال العمل الصالح يرفع الكلم الطيب. ويقال الكلم الطيب ما يكون موافقا للسّنّة ، ويقال هو ما يشهد بصحّته الإذن والتوقيف. ويقال هو نطق القلب بالثناء على ما يستوجبه الربّ. ويقال هو ما يكون دعاء للمسلمين. ويقال ما يتجرد حقّا للحقّ ولا يكون فيه حظّ للعبد. ويقال ما هو مستخرج من العبد وهو فيه مفقود (٢). ويقال هو بيان التنصّل وكلمة الاستغفار.

ويقال العمل الصالح ما يصلح للقبول ، ويقال الذي ليس فيه آفة ولا يطلب عليه عوض

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ)

أي يقلب عليهم مكرهم ؛ فما يتوهمونه من خير لهم يقلبه محنة عليهم. ويقال : تخليته إياهم ومكرهم (٣) ـ مع قدرته على عصمتهم ، وكونه لا يعصمهم هي عذابهم الشديد.

قوله جل ذكره : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١))

ذكّرهم نسبتهم لئلا يعجبوا بحالتهم ، ثم إن ما يتّخذ من الطين سريع التغيّر ، قليل

__________________

(١) لأن الخروج يقتضى محلا .. والألوهية تتنزه عنه.

(٢) أي ما يصدر عن العبد وهو مأخوذ مستلب عن نفسه ـ من المعارف.

(٣) نصبنا الراء فى (ومكرهم) لتكون مفعولا معه فهكذا نفهم السياق.

١٩٦

القوة في المكث ، لكنه يقبل الانجبار بالماء إذ تنجبر به طينته ؛ فإذا جاد الحقّ عليه بماء الجود أعاده بعد انكساره بالذنوب (١).

وإذا كان لا يخفى عليه ـ سبحانه ـ شىء من أحوالهم في ابتداء خلقتهم ، فمن يبال أن يخلق من يعلم أنه يعصى فلا يبالى أن يغفر لمن رآه يعصى (٢).

قوله جل ذكره : (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢))

لا تستوى الحالتان : هذه إقبال على الله ، واشتغال بطاعته ، واستقلال بمعرفته .. وهذه إعراض عن الله ، وانقباض عن عبادته ، واعتراض ـ على الله ـ فى قسمته وقبضته. هذه سبب وصاله ، وهذه سبب هجره وانفصاله ، وفي كلّ واحدة من الحالتين يعيش أهلها ، ويزجى أصحابها وقتها. ولا يستوى الوقتان : هذا بسط وصاحبه في روح ، وهذا قبض وصاحبه في نوح. هذا خوف وصاحبه في اجتياح ، وهذا رجاء وصاحبه في ارتياح. هذا فرق وصاحبه بوصف العبودية ، وهذا جمع وصاحبه في شهود الربوبية.

(وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) : كذلك كلّ يتقرّب فى حالته لربّه ؛ ويتزيّن على بابه ، وهو حليته التي بها يتحلى من طرب أو حرب ، من شرف أو تلف.

__________________

(١) عرض القشيري فيما سبق لهذه النقطة عند ما تحدث عن خلق آدم وإبليس ، وكيف أن ماء العناية جبر آدم حين أظهر العذر فاجتباه ربه وتاب عليه ، وكيف أن الماء أطفأ نار إبليس فأنظره إلى يوم يبعثون ، ليدل القشيري بذلك على أن الطين أفضل من النار ، وأن إبليس أخطأ في دعوى أفضليته على آدم.

(٢) أي أن معصية العبد من العبد عملا ـ وفي هذا إثبات لحرية الإنسان واختياره ـ وإن كانت من الله علما ... وهو من قبل ومن بعد غافر الذنب وقابل التوب.

١٩٧

قوله جل ذكره : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣))

تغلب النّفس مرة على القلب ، ويغلب القلب مرة على النّفس. وكذلك القبض والبسط فقد يستويان ، ومرة يغلب القبض على البسط ، ومرة يغلب البسط على القبض ، وكذلك الصحو والسّكر ، وكذلك الفناء والبقاء.

وسخّر شموس التوحيد وأقمار المعرفة على ما يريد من إظهاره على القلوب.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) : فأرونى شظية من النفي أو الإثبات لما تدعونه من دونه! وإذ لم يمكنكم ذلك .. فهلّا أقررتم ، وفي عبادته أخلصتم ، وعن الأصنام تبرّأتم؟.

قوله جل ذكره : (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤))

إن استعنتم بأصنامكم لا يعينوكم ، وإن دعوتموهم لا يسمعوا دعاءكم ، ولو سمعوا ـ على جهة ضرب المثل ـ لا يستجببون لكم ؛ لأنهم لا يملكون نفع أنفسهم .. فكيف يملكون نفع غيرهم؟!

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) : لا يؤمنون إلا في ذلك الوقت ، ولكن لا ينفعهم الإيمان بعد زوال التكليف.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥))

الفقر على ضربين : فقر الخلقة وفقر الصفة ؛ فأمّا فقر الخلقة فهو عامّ لكلّ أحد ؛ فكلّ مخلوق مفتقر إلى خالقه ، فهو قد حصل من العدم ، فهو مفتقر إليه ليبديه وينشيه ، ثم بعد

١٩٨

ذلك مفتقر ـ فى حال بقائه إليه ـ ليديمه ويقيه. فالله ـ سبحانه ـ غنيّ ، والعبد فقير ؛ العبد فقير بعينه والله غنيّ بعينه (١).

وأمّا فقر الصفة فهو التجرّد ؛ ففقر العوام التجرّد من المال ، وفقر الخواص التجرد من الأعلال ليسلم لهم الفقر.

والفقر على أقسام : فقر إلى الله ، وفقر إلى شىء هو من الله ؛ معلوم أو مرسوم وغير ذلك. ومن افتقر إلى شىء استغنى بوجود ذلك الشيء ؛ فالفقير إلى الله هو الغنيّ بالله ، والافتقار إلى الله لا يخلو من الاستغناء بالله ، فالمفتقر إلى الله مستغن بالله ، والمستغنى بالله مفتقر إلى الله (٢).

ومن شرف الفقر اقترانه بالتواضع والخضوع ، ومن آفات الغنى امتزاجه بالتكبّر. وشرف العبد في فقره ، وكذلك ذلّه في توهمه أنه غنيّ : ـ

وإذا تذلّلت الرّقاب تقرّبا

منّا إليك فعزّها في ذلّها (٣)

ومن الفقر المذموم ، أن يستر الحقّ على صاحبه مواضع فقره إلى ربّه ، ومن الفقر المحمود أن يشهده الحقّ مواضع فقره إليه.

ومن شرط الفقير المخلص ألا يملك شيئا ويملك كلّ شىء.

ويقال : الفقير الصادق الذي لا يملكه شىء (٤).

ومن آداب الفقير الصادق إظهار التّشكّر عند كمال التكسّر. ومن آداب الفقر كمال المعنى وزوال الدعوى. ويقال الشكر على البلوى والبعد عن الشكوى.

__________________

(١) أي أن العبد ـ كذات مستقلة ـ فقير ؛ لأنه مخلوق يحتاج إلى خالقه ، والحق ـ كذات مستقلة ـ غنى ؛ لأنه خالق فهو في غير حاجة إلى مخلوقه.

(٢) من أقوال الجنيد في هذا الصدد وقد سئل عن الافتقار إلى الله : أهو أتم أم الاستغناء بالله قال : إذا صح الافتقار إلى الله فقد صح الاستغناء بالله ، وإذا صح الاستغناء بالله كمل الغنى به ؛ فلا يقال أيهما أتم ؛ لأنهما حالتان لا تتم إحداهما إلا بالأخرى (الرسالة ص ١٣٥).

(٣) من أقوالهم في هذا الصدد : لو علم أبناء الملوك ما نحن فيه من عز لجالدونا عليه.

(٤) أي لا يكون أسيرا لغرض أو لعرض ، فتلك آفة الدنيا والنفس.

١٩٩

وحقيقة الفقر المحمود تجرّد السّرّ عن المعلولات وإفراد القلب بالله.

ويقال : الفقر المحمود العيش مع الله براحة الفراغ على سرمد الوقت من غير استكراه شىء منه بكلّ وجه.

قوله : (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) : الإشارة منه أن يعطى حتى يحمد.

ويقال الغنىّ إذا أظهر غناه لأحد فإمّا للمفاخرة أو للمكاثرة ـ وجلّ قدر الحقّ عن ذلك ـ وإمّا ليجود ويتفضّل على أحد.

ويقال : لا يقول لنا أنتم الفقراء للإزراء بنا ـ فإنّ كرمه يتقدّس عن ذلك ـ وإنما المقصود أنه إذا قال : والله الغنى ، وأنتم الفقراء أنه يجود علينا.

ويقال إذا لم تدّع ما هو صفته ـ من استحقاق الغنى ـ أولاك ما يغنيك ، وأعطاك فوق ما يكفيك.

قوله جل ذكره : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧))

عرّفك أنه غنيّ عنك ، وأشهدك موضع فقرك إليه ، وأنه لا بدّ لك منه ، فما القصد من هذا إلا إرادته لإكرامك وإيوائك في كنف إنعامه.

قوله جل ذكره : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)

كلّ مطالب بعمله ، وكلّ محاسب عن ديوانه ، ولكلّ معه شأن ، وله مع كلّ أحد شأن. ومن العبادات ما تجرى فيه النيابة ولكن في المعارف لا تجرى النيابة ؛ فلو أن عبدا عاصيا منهمكا في غوايته فاتته صلاة مفروضة ، فلو قضى عنه ألف ولىّ وألف صفيّ تلك الصلاة الواحدة عن كل ركعة ألف ركعة لم تقبل منه إلّا أن يجىء هو : معاذ الله أن نأخذ إلا ممّن وجدنا متاعنا عنده! فعتابك لا يحرى مع غيرك ، والخطاب الذي معك لا يسمعه غيرك :

فسر أو أقم وقف عليك محبتى

مكانك من قلبى عليك مصون

(إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ

٢٠٠