لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

والإشارة فيه إلى القسم بسماء التوحيد ذات الزينة بشمس العرفان ، وقمر المحبة ، ونجوم القرب .. إنكم في باب هذه الطريقة لفى قول مختلف ؛ فمن منكر يجحد الطريقة ، ومن معترض يعترض على أهلها يتوهّم نقصانهم في القيام بحق الشريعة (١) ، ومن متعسّف (٢) لا يخرج من ضيق حدود العبودية ولا يعرف خبرا عن تخصيص الحقّ أولياءه بالأحوال السنية ، قال قائلهم :

قد سحب الناس أذيال الظنون بنا

وفرّق الناس فينا قولهم فرقا

فكاذب قد رمى بالظنّ غيرتكم

وصادق ليس يدرى. أنه صدقا

قوله جل ذكره : (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩))

أي يصرف عنه من صرف ، وذلك أنهم كانوا يصدّون الناس عنه (٣) ويقولون : إنه لمجنون.

قوله جل ذكره : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١))

لعن الكذّابون الذين هم في غمرة الضلالة وظلمة الجهالة ساهون لاهون.

قوله جل ذكره : (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤))

يسألون أيان يوم القيامة؟ ؛ يستعجلون بها ، فلأجل تكذيبهم بها كانت نفوسهم لا تسكن

__________________

(١) نلاحظ هنا حرص الإمام القشيري على أن أرباب الحقيقة لا يتنكرون بحال من الأحوال لأى حق من حقوق الشريعة.

(٢) هكذا في ص وهي في م (متقشف) التي هي خطأ في النسخ.

(٣) واضح أن القشيري يرى الضمير فى (عنه) التي في الآية عائدا إلى الرسول (ص). ويعيده بعض المفسرين إلى القرآن أو إلى الدين أو إلى (ما توعدون). ومعنى عبارة القشيري أنه يصرف عنه من صرفه في سابق علمه.

٤٦١

إليها. ويوم هم على النار يحرقون ويعذّبون يقال لهم : قاسوا عقوبتكم ، هذا الذي كنتم به تستعجلون.

والإشارة فيه إلى الذين يكذبون في أعمالهم لما يتداخلهم من الرياء ، ويكذبون في أحوالهم لما يتداخلهم من الإعجاب ، ويكذبون على الله فيما يدّعونه من الأحوال .. قتلوا ولعنوا .. وسيلقون غبّ تلبيسهم بما يحرمون من اشتمام رائحة الصدق.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦))

فى عاجلهم في جنّات وصلهم ؛ وفي آجلهم في جنّات فضلهم ؛ فغدا درجات ونجاة ، واليوم قربات ومناجاة ، فما هو مؤجّل حظّ أنفسهم ، وما هو معجّل حقّ ربّهم. هم آخذين اليوم ما آتاهم ربهم ؛ يأخذون نصيبهم منه بيد الشكر والحمد ، وغدا يأخذون ما يعطيهم ربّهم في الجنة من فنون العطاء والرّفد.

ومن كان اليوم آخذه بلا واسطة من حيث الإيمان والإتقان ، وملاحظة القسمة في العطاء والحرمان. كان غدا آخذه بلا واسطة في الجنان عند اللقاء والعيان. (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) ؛ كانوا ولكنهم اليوم بانوا (١) ولكنهم بعد ما أعدناهم حصلوا واستبانوا .. فهم كما في الخبر : «أعبد الله كأنك تراه ...» (٢).

قوله جل ذكره : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨))

__________________

(١) العارف كائن بائن (هذا رأى يحيى بن معاذ : رسالة القشيري ص ١٥٧) والمعنى أنه وإن بدا بين الناس يشاركهم ويعاشرهم إلا أنه مشتغل عنهم بمعروفه لا يشغل عنه طرفة عين.

(٢) جاء في الحلية عن زيد بن أرقم : «أعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه نراك ، وأحسب نفسك فى الموتى ، واتق دعوة المظلوم» كذلك رواه الطبراني والبيهقي عن معاذ بلفظ : «أعبد الله ولا تشرك به شيئا واعمل كأنك تراه ، واعدد نفسك في الموتى».

٤٦٢

المعنى إمّا : كانوا قليلا وكانوا لا ينامون إلا بالليل (كقوله تعالى : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (١) أو : كان نومهم بالليل قليلا ، أو :) (٢) كانوا لا ينامون بالليل قليلا (٣).

(وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) : أخبر عنهم أنهم ـ مع تهجدهم ودعائهم ـ ينزلون أنفسهم في الأسحار منزلة العاصين ، فيستغفرون استصغارا لقدرهم ، واستحقارا لفعلهم.

والليل .. للأحباب في أنس المناجاة ، وللعصاة في طلب النجاة. والسّهر لهم في لياليهم دائما ؛ إمّا لفرط أسف أو لشدّة لهف ، وإمّا لاشتياق أو لفراق ـ كما قالوا :

كم ليلة فيك لاصباح لها

أفنيتها قابضا على كبدى

قد غصّت العين بالدموع وقد

وضعت خدى على بنان يدى

وإمّا لكمال أنس وطيب روح ـ كما قالوا :

سقى الله عيشا قصيرا مضى

زمان الهوى في الصبا والمجون

لياليه تحكى انسداد لحاظ

لعينى عند ارتدادالجفون

قوله جل ذكره : (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩))

السائل هو المتكفّف ، والمحروم هو المتعفّف ـ ويقال هو الذي يحرم نفسه بترك السؤال .. هؤلاء هم الذين يعطون بشرط العلم (٤) ، فأمّا أصحاب المروءة : فغير المستحق لمالهم أولى من المستحق (٥). وأما أهل الفترة فليس لهم مال حتى تتوجه عليهم مطالبة ؛ لأنهم أهل الإيثار ـ فى الوقت ـ لكلّ ما يفتح عليهم به.

__________________

(١) آية ١٣ سورة سبأ.

(٢) ما بين القوسين موجود في م وسقط في ص.

(٣) يقول النسفي : ولا يجوز أن تكون ما نافية على معنى أنهم لا يهجعون من الليل قليلا ويحيونه كله لأن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها فلا تقول : زيدا ما ضربت (النسفي ح ٤ ص ١٨٤).

(٤) أي حسب شرائط الشريعة في الزكاة.

(٥) هكذا في م وهي مشطوبة بخط فوقها في ص ... والعبارة قد تبدو غامضة ، وقد يكون مراد القشيري ـ إن صحت عنه العبارة هكذا ـ أن اهل المروءة لا يتقيدون في عطائهم بما تفرضه الشريعة للمستحقين وحسب فإن المستحق يأخذ ما هو حق له ، وإنما يعطون دائما ويمنحون دائما بغض النظر عن استحقاق أو عدمه.

٤٦٣

قوله جل ذكره : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢))

كما أنّ الأرض تحمل كلّ شىء فكذلك العارف يتحمّل كلّ أحد.

ومن استثقل أحدا أو تبرّم برؤية أحد فلغيبته عن الحقيقة ، ولمطالعته الخلق بعين التفرقة ـ وأهل الحقائق لا يتصفون بهذه الصفة.

ومن الآيات التي في الأرض أنها يلقى عليها كلّ قذارة وقمامة ـ ومع ذلك تنبت كلّ زهر ونور .. كذلك العارف يتشرب كلّ ما يسقى من الجفاء ، ولا يترشح إلّا بكل خلق علىّ وشيمة زكيّة (١).

ومن الآيات التي في الأرض (أنّ ما كان منها سبخا يترك ولا يعمّر لأنه لا يحتمل العمارة ـ كذلك الذي لا إيمان له بهذه الطريقة يهمل ، فمقابلته بهذه الصفة) (٢) كإلقاء البذر في الأرض السبخة.

(وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) : أي وفي أنفسكم أيضا آيات ، فمنها وقاحتها في همتها (٣) ، ووقاحتها في صفتها ، ومنها دعاواها العريضة فيما ترى منها وبها ، ومنها أحوالها المريضة حين تزعم أنّ ذرّة أو (...) (٤) بها أو منها.

(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) : أي قسمة أرزاقكم في السماء ، فالملائكة الموكّلون بالأرزاق ينزلون من السماء.

ويقال : السماء هاهنا المطر ، فبالمطر ينبت الحبّ والمرعى.

__________________

(١) يقول الجنيد : «الصوفى كالأرض يطرح عليها كل قبيح ولا يخرج منها إلا كل مليح» ، وقال أيضا : «إنه كالأرض يطؤها البر والفاجر» (الرسالة ص ١٣٩).

(٢) ما بين القوسين موجود في م وساقط في ص.

(٣) هكذا في م وهي في ض (صمتها) ويبدو أن الهاء اشتبهت على الناسخ.

(٤) مشتبهة في النسختين.

٤٦٤

ويقال : على رب السماء أرزاقكم لأنه ضمنها.

ويقال : قوله : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) وهاهنا وقف ثم تبتدئ : (وَما تُوعَدُونَ).

قوله جل ذكره : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣))

أي : إنّ البعث والنشر لحقّ.

ويقال : إنّ نصرى لمحمد ولدينى ، وللذى أتاكم به من الأحكام ـ لحقّ مثل ما أنّكم تنطقون.

كما يقال : هذا حقّ مثل ما أنك هاهنا.

ويقال : معناه : «أنّ الله رازقكم» ـ هذا القول حقّ مثلما أنكم إذا سئلتم : من ربّكم؟ ومن خالقكم؟ قلتم : الله .. فكما أنكم تقولون : إن الله خالق ـ وهذا حقّ .. كذلك القول بأنّ الله رازق ـ هو أيضا حقّ.

ويقال : كما أنّ نطقك لا يتكلم به غيرك فرزقك لا يأكله غيرك.

ويقال : الفائدة والإشارة في هذه الآية أنه حال برزقك على السماء ، ولا سبيل لك إلى العروج إلى السماء لتشتغل بما كلفك ولا تتعنّى في طلب مالا تصل إليه.

ويقال : فى السماء رزقكم ، وإلى السماء يرفع عملكم .. فإن أردت أن ينزل عليك رزقك فأصعد إلى السماء عملك ـ ولهذا قالوا : الصلاة قرع باب الرزق ، وقال تعالى : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً) (١).

قوله جل ذكره : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤))

__________________

(١) آية ١٣٢ سورة طه.

٤٦٥

قيل في التفاسير : لم يكن قد أتاه خبرهم قبل نزول هذه الاية.

وقيل : كان عددهم اثنى عشر ملكا. وقيل : جبريل وكان معه سبعة. وقيل : كانوا ثلاثة.

وقوله : (الْمُكْرَمِينَ) قيل لقيامه ـ عليه‌السلام ـ بخدمتهم. وقيل : أكرم الضيف بطلاقة وجهه ، والاستبشار بوفودهم.

وقيل : لم يتكلّف إبراهيم لهم ، وما اعتذر إليهم ـ وهذا هو إكرام الضيف ـ حتى لا تكون من المضيف عليه منّة فيحتاج الضيف إلى تحملها.

ويقال : سمّاهم مكرمين لأن غير المدعوّ عند الكرام كريم.

ويقال : ضيف الكرام لا يكون إلا كريما.

ويقال : المكرمين عند الله.

قوله جل ذكره : (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥))

أي سلّمنا عليك (سلاما) فقال إبراهيم : لكم منى (سلام).

وقولهم : (سَلاماً) أي لك منّا سلام ، لأنّ السلام : الأمان.

(قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) : أي أنتم قوم منكرون ؛ لأنه لم يكن يعرف مثلهم في الأضياف. ويقال : غرباء.

قوله جل ذكره :(فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧))

أي عدل إليهم من حيث لا يعلمون (١) ، وكذلك يكون الروغان (٢).

__________________

(١) أي من حيث لا يعلم الأضياف.

(٢) وكذلك يكون روغان الكرام : خفية حتى لا يسبب لأضيافه الحرج.

٤٦٦

(فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) فشواه ، وقرّبه منهم وقال : (أَلا تَأْكُلُونَ؟) وحين امتنعوا عن الأكل :

(فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ)

توهّم أنهم لصوص فقالوا له : (لا تَخَفْ).

(وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) : أي بشّروه بالولد ، وببقاء هذا الولد إلى أن يصير عليما ؛ والعليم مبالغة من العلم ، وإنما يصير عليما بعد كبره.

(فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩))

(فِي صَرَّةٍ) أي في صيحة شديدة ، (فَصَكَّتْ وَجْهَها) أي فضربت وجهها بيدها كفعل النساء (وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) : أي أنا عجوز عقيم. وقيل : إنها يومها كانت ابنة ثمان وتسعين سنة ، وكان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة.

(قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠))

أي قلنا لك كما قال ربّك لنا ، وأن نخبرك أنّ الله هو المحكم لأفعاله ، (الْعَلِيمُ) الذي لا يخفى عليه شىء (١)

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١))

سألهم : ما شأنكم؟ وما أمركم؟ وبماذا أرسلتم؟

(قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣)

__________________

(١) روى أن جبريل قال لها حين استبعدت : انظري إلى سقف بيتك ، فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة.

٤٦٧

مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦))

هم قوم لوط ، ولم نجد فيها غير لوط ومن آمن به.

قوله جل ذكره : (وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧))

تركنا فيها علامة يعتبر بها الخائفون ـ دون القاسية قلوبهم (١).

قوله جل ذكره : (وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨))

أي بحجة ظاهرة باهرة (٢).

.... إلى قوله : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) : أي جعلنا بينها وبين الأرض سعة ، و (إِنَّا لَقادِرُونَ) : على أن نزيد في تلك (٣) السعة.

(وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨))

أي جعلناها مهادا لكم. ثم أثنى على نفسه قائلا : (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ).

دلّ بهذا كلّه على كمال قدرته ، وعلى تمام فضله ورحمته.

قوله جل ذكره : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩))

أي صنفين في الحيوان كالذّكر والأنثى ، وفي غير الحيوان ؛ كالحركة والسكون ، والسواد والبياض ، وأصناف المتضادات.

__________________

(١) قيل هي ماء أسود منتن.

(٢) هكذا في م وهي في ص (قاهرة) وكلاهما مقبول في السياق.

(٣) هكذا في م وهي في ص (سلك) والسياق لا يقبل هذه.

٤٦٨

قوله جل ذكره : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠))

أي فارجعوا إلى الله ـ والإنسان بإحدى حالتين ؛ إمّا حالة رغبة في شىء ، أو حالة رهبة من شىء ، أو حال رجاء ، أو حال خوف ، أو حال جلب نفع أو رفع ضرّ .. وفي الحالتين ينبغى أن يكون فراره إلى الله ؛ فإنّ النافع والضارّ هو الله.

ويقال : من صحّ فراره إلى الله صحّ قراره مع الله.

ويقال : يجب على العبد أن يفرّ من الجهل إلى العلم ، ومن الهوى إلى التّقى ، ومن الشّكّ إلى اليقين ، ومن الشيطان إلى الله.

ويقال : يجب على العبد أن يفرّ من فعله ـ الذي هو بلاؤه إلى فعله الذي هو كفايته ، ومن وصفه الذي هو سخطه إلى وصفه الذي هو رحمته ، ومن نفسه ـ حيث قال : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) إلى نفسه حيث قال : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) (١) :

قوله جل ذكره : (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١))

أخوّفكم أليم عقوبته إن أشركتم به ـ فإنّه لا يغفر أن يشرك به.

ثم بيّن أنه على ذلك جرت عادتهم في تكذيب الرّسل ، كأنهم قد توصوا فيما بينهم بذلك.

قوله جل ذكره : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤))

فأعرض عنهم فليست تلحقك ـ بسوء صنيعهم ـ ملامة (٢)

قوله جل ذكره : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥))

ذكّر العاصين عقوبتى ليرجعوا عن مخالفة أمرى ، وذكّر المطيعين جزيل ثوابى ليزدادوا

__________________

(١) هنا استخدم القشيري ثقافته الكلامية فيما يتصل بصفات (الفعل) وصفات (الذات) (أنظر تقديمنا لكتاب التحبير في التذكير).

(٢) هكذا في م وهي في ص (ملايه) وهي خطأ من الناسخ.

٤٦٩

طاعة وعبادة ، وذكّر العارفين ما صرفت عنهم من بلائي ، وذكّر الأغنياء ما أتحت (١) لهم من إحسانى وعطائى ، وذكّر الفقراء ما أوجبت لهم من صرف الدنيا عنهم وأعددت لهم من لقائى.

قوله جل ذكره : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨))

الذين اصطفيتهم في آزالى ، وخصصتهم ـ اليوم ـ بحسن إقبالى ، ووعدتهم جزيل أفضالى ـ ما خلقتهم إلّا ليعبدون.

والذين سخطت عليهم في آزالى ، وربطتهم ـ اليوم ـ بالخذلان فيما كلّفتهم من أعمالى ، وخلقت النار لهم ـ بحكم إلهيتى ووجوب حكمى في سلطانى ـ ما خلقتهم إلا لعذابى وأنكالى ، وما أعددت لهم من سلاسلى وأغلالى.

ما أريد منهم أن يطعموا أو يرزقوا أحدا من عبادى فإنّ الرزّاق أنا.

وما أريد أن يطعمون فإننى أنا الله (ذُو الْقُوَّةِ) : المتين القوى.

قوله جل ذكره : (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩))

لهم نصيب من العذاب مثل نصيب من سلف من أصحابهم من الكفار فلم استعجال العذاب ـ والعذاب لن يفوتهم؟.

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠))

وهو يوم القيامة.

__________________

(١) هكذا في م وهي في ص (الحث) وهي غير ملائمة للسياق.

٤٧٠

سورة الطّور

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

(بِسْمِ اللهِ) كلمة ما استولت على قلب عارف إلّا تيّمته بكشف جلاله ، وما استولت على قلب متأفّف إلّا أكرمته بلطف أفضاله .. فهى كلمة قهّارة للقلوب .. ولكن لا لكلّ قلب ، مذهبة للكروب .. ولكن لا لكلّ كرب.

قوله جل ذكره : (وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣))

أقسم الله بهذه الأشياء (التي في مطلع السورة) ، وجواب القسم قوله : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ). والطور هو الجبل الذي كلّم عليه موسى عليه‌السلام ؛ لأنه محلّ قدم الأحباب وقت سماع الخطاب. ولأنه الموضع الذي سمع فيه موسى ذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر أمّته حتى نادانا ونحن في أصلاب آبائنا فقال : أعطيتكم قبل أن تسألونى (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) : مكتوب في المصاحف ، وفي اللوح المحفوظ.

وقيل : كتاب الملائكة في السماء يقرءون منه ما كان وما يكون.

ويقال : ما كتب على نفسه من الرحمة لعباده.

ويقال ما كتب من قوله : سبقت رحمتى غضبى (١).

ويقال : هو قوله : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (٢).

__________________

(١) فى الحديث أن الله كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش : «إن رحمتى سبقت غضبى».

(٢) آية ١٠٥ سورة الأنبياء.

٤٧١

ويقال : الكتاب المسطور فيه أعمال العباد يعطى لعباده بأيمانهم وشمائلهم يوم القيامة. (فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) (١) : يرجع إلى ما ذكرنا من الكتاب.

(وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤))

فى السماء الرابعة (٢). ويقال : هو قلوب العابدين العارفين المعمورة بمحبته ومعرفته. ويقال : هى مواضع عباداتهم ومجالس خلواتهم. وقيل : الكعبة.

(وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥))

هى السماء. وقيل سماء هممهم في الملكوت.

(وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦))

البحار المملوءة.

أقسم بهذه الأشياء : إنّ عذابه لواقع. وعذابه في الظاهر ما توعّد به عباده العاصين ، وفي الباطن الحجاب بعد الحضور ، والستر بعد الكشف ، والردّ بعد القبول.

(ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨))

إذا ردّ عبدا أبرم القضاء بردّه :

إذا انصرفت نفسى عن الشيء لم تكن

إليه بوجه آخر ـ الدهر ـ تقبل

قوله جل ذكره : (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠))

(تَمُورُ) : أي تدور بما فيها ، وتسير الجبال عن أماكنها ، فتسير سيرا.

(فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢))

__________________

(١) الرق هو الصحيفة أو الجلد الذي يكتب فيه ، منشور لا ختم عليه أو لائح.

(٢) يقابل الكعبة معمور بالملائكة.

٤٧٢

الويل كلمة تقولها العرب لمن وقع في الهلاك.

(فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) : فى باطل التكذيب يخوضون.

(يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥))

يوم يدفعون إلى النار دفعا ، ويقال لهم : هذه هي النار التي كنتم بها تكذّبون ..

ثم يسألون : أهذا من قبيل السحر على ما قلتم أم غطّى على أبصاركم؟!

قوله جل ذكره : (اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦))

والصبر على الجزاء في العاقبة لا قيمة له ، لأنّ عذابهم عقوبة لهم :

قوله جل ذكره : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨))

المتقون في جنات ونعيم عاجلا وآجلا (١). (فاكِهِينَ) أي معجبين بما آتاهم ربهم وما أعطاهم.

ويقال : (فاكِهُونَ) : أي ذوو فاكهة : كقولهم رجل تامر أي ذو تمر ، ولابن أي ذو لبن.

قوله جل ذكره : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩))

قوم يصير لهم ذلك هنيئا بطعمه ولذّته ، وقوم يصير هنيئا لهم سماع قولهم

__________________

(١) يشير القشيري إلى النعيم العاجل الذي هو الوصلة والقربة. فمن المعلوم أن الصوفية يسلكون طريقهم فى حياة وسطى فيها قيامة وحشر ونشر وثواب ؛ وعذاب ، بما يشعرون ؛ من هجر ووصل ، وخوف ورجاء. ونحو ذلك من الأحوال.

٤٧٣

عنه ـ سبحانه ـ هنيئا ، وقوم يصير لهم ذلك هنيا ليّنا وهم بمشهد منه :

فاشرب على وجهها كغرّتها

مدامة في الكئوس كالشّرر

(مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠))

يظلّون في سرور وحبور ، ونصيب من الأنس موفور.

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)

يكمل عليهم سرورهم بأن يلحق بهم ذرّياتهم ؛ فإنّ الانفراد بالنعمة عمّن القلب مشتغل به من الأهل والولد والذرية يوجب تنغص العيش.

وكذلك كلّ من قلب الولىّ يلاحظه من صديق وقريب ، ووليّ وخادم ، قال تعالى فى قصة يوسف : (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) وفي هذا المعنى قالوا :

إنّى على جفواتها ـ فبربّها

وبكلّ متّصل بها متوسّل

لأحبها ، وأحبّ منزلها الذي

نزلت به وأحب أهل المنزل

(وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ)

أي ما أنقصنا من أجورهم من شىء بل وفينا ووفّرنا. وفي الابتداء نحن أولينا وزدنا على ما أعطينا.

٤٧٤

(كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) مطالب بعمله ، يوفيّ عليه أجره بلا تأخير ، وإن كان ذنبا فالكثير منه مغفور ، كما أنه اليوم مستور.

قوله جل ذكره : (وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣))

أي لا يجرى بينهم باطل ولا يؤثمهم كما يجرى بين الشّرب (١) فى الدنيا ، ولا يذهب الشّرب بعقولهم فيجرى بينهم ما يخرجهم عن حدّ الأدب والاستقامة.

وكيف لا يكون مجلسهم بهذه الصفة ومن المعلوم من يسقيهم ، وهم بمشهد منه وعلى رؤية منه؟.

قوله جل ذكره : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤))

والقوم عن الدار وعمّن في الدار مختطفون لاستيلاء ما يستغرقهم ؛ فالشراب يؤنسهم ولكن لا بمن يجانسهم (٢) ؛ وإذا كان ـ اليوم ـ للعبد وهو في السجن في طول عمره ساعة (٣) امتناع عن سماع خطاب الأغيار ، وشهود واحد من المخلوقين ـ وإن كان ولدا عزيزا ، أو أخا شفيقا ـ فمن المحال أن يظن أنه يردّ من الأعلى إلى الأدنى .. إن كان من أهل القبول والجنة ، ومن المحال أن يظن أنه يكون غدا موسوما بالشقاوة.

وإذا كان العبد في الدنيا يقاسى في غربته من مقاساة اللتيا والتي ـ فماذا يجب أن يقال إذا

__________________

(١) الشرب بالفتح القوم يشربون ويجتمعون على الشراب (الوسيط واللسان).

(٢) هكذا في م وهي أقرب إلى الصواب مما جاء في ص (يجالسهم) باللام لأن السياق يتدعم بالأولى ؛ فالأنس الحاصل يومئذ بالحق لا بالخلق.

(٣) هذه محاولة طيبة يقدمها التفسير الإشارى عند بحث قضية التنعم في الآخرة ونفى الحسيات عن هذا المتنعم ؛ لأنه إذا تصورنا أن العبد في ساعة الفناء يكون محوا فيما يشهد ، وأن ذلك يحدث في الدنيا .. فها بالك في الآخرة وهم ناظرون إلى ربهم؟!

٤٧٥

رجع إلى منزله؟ أيبقى على ما كان عليه في سفرته؟ أم يلقى غير ما كان يقاسى في سفرته ، ويتجرع غير ما كان يسقى من كاسات كربته؟.

قوله جل ذكره : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧))

لو لا أنهم قالوا : (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا) لكانوا قد لا حظوا إشفاقهم ، ولكن الحقّ ـ سبحانه ـ اختطفهم عن شهود إشفاقهم ؛ حيث أشهدهم منّته عليهم حتى قالوا : (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا ، وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ ، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ).

قوله جل ذكره : (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩))

أي أنهم يعلمون أنك ليست بك كهانة ولا جنون ، وإنما قالوا ذلك على جهة التسفيه ؛ فالسّفيه يبسط لسانه فيمن يسبّه بما يعلم أنه منه برىء.

(أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١))

نتربص به حوادث الأيام ؛ فإنّ مثل هذا لايدوم ، وسيموت كما مات من قبله كهّان وشعراء.

ويقال : قالوا : إنّ أباه مات شابا ، ورجوا أن يموت كما مات أبوه ، فقال تعالى :

(قُلْ تَرَبَّصُوا ...) فإننا منتظرون ، وجاء في التفسير أنّ جميعهم ماتوا. فلا ينبغى لأحد أن يؤمّل موت أحد. فقل من تكون هذه صنعته إلّا سبقته المنيّة ـ دون أن يدرك ما يتمنّاه من الأمنيّة.

٤٧٦

قوله جل ذكره : (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢))

أتأمرهم عقولهم (١) بهذا؟ أم تحملهم مجاوزة الحدّ في ضلالهم وطغيانهم على هذا؟

قوله جل ذكره : (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤))

إذا كانوا يزعمون أنك تقول هذا القول (٢) من ذات نفسك فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين فيما رموك به!

قوله جل ذكره : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥))

كلّا ليس الأمر كذلك ، بل الله هو الخالق وهم المخلوقون.

أم هم الذين خلقوا السماوات والأرض؟ أم عندهم خزائن ربّك.

ـ أي خزائن أرزاقه ومقدوراته؟ أم هم المسيطرون المتسلّطون على الناس؟.

أم لهم سلّم يرتقون فيه فيستمعون ما يجرى في السماوات؟ فليأت مستمعهم بسلطان مبين.

ثم إنه سفّه أحلامهم فقال :

(أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠))

أم تسألهم على تبليغ الرسالة أجرا فهم مثقلون من الغرم والإلزام في المال (بحيث يزهدهم ذلك في اتباعك؟.

__________________

(١) كانت قريش يدعون أهل الأحلام والنّهى ـ فإسناد الأحلام إلى الكفار في الآية مجاز فيه سخرية منهم.

(٢) ما بين القوسين إضافة من جانبنا كى يتضح السياق ـ فالقشيرى كما هو واضح في آخر السورة لا يعطى سوى كلمات مقتضبة ، وإنما يهتم بالجانب الإشارى ـ إن وجد.

٤٧٧

أم عندهم علم الغيب فهم يكتبون ذلك؟

أم يريدون كيدا (١) أي أن يمكروا بك مكرا فالذين كفروا هم المكيدون.

أم لهم إله غير الله يفعل شيئا مما يفعل الله؟ تنزيها له عن ذلك!.

قوله جل ذكره : (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤))

أي إن رأوا قطعة من السماء ساقطة عليهم قالوا : إنه سحاب مركوم (٢) ركم بعضه على بعض والمقصود أنهم مهما رأوا من الآيات لا يؤمنون. ولو فتحنا عليهم بابا من السماء حتى شاهدوا بالعين لقالوا : إنما سكرت أبصارنا ، وليس هذا عيانا ولا مشاهدة.

قوله جل ذكره : (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦))

أي فأعرض عنهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يموتون ، يوم لا يغنى عنهم كيدهم شيئا ، ولا يمنعون من عذابنا.

قوله جل ذكره : (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧))

دون يوم القيامة لهم عذاب القتل والسّبى ، وما نزل بهم من الهوان والخزي يوم بدر وغيره (٣).

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) : أنّ الله ناصر لدينه.

قوله جل ذكره : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا)

__________________

(١) يقال هو كيدهم للرسول وللمؤمنين بدار الندوة ـ وقد يقصد به الكفار أجمعين.

(٢) فى ص (مكروم) وهي خطأ في النسخ.

(٣) ويقال عذاب القبر لأنه يسبق القيامة.

٤٧٨

أنت بمرأى منّا ، وفي نصرة منّا.

(فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) (١) : فى هذا تخفيف عليه وهو يقاسى الصبر.

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ).

أي تقوم للصلاة المفروضة عليك.

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩))

قيل : المغرب والعشاء وركعتا الفجر.

وفي الآية دليل وإشارة إلى أنه أمره أن يذكره في كلّ وقت ، وألا يخلو وقت من ذكره.

والصبر لحكم الله شديد ، ولكن إذا عرف اطلاع الربّ عليه سهل عليه ذلك وهان.

__________________

(١) التعبير بالجمع هنا قد يفيد زيادة الرعاية في حق المصطفى صلوات الله عليه ، خصوصا إذا تذكرنا أنه سبحانه قال في حق موسى عليه‌السلام (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) فالتعبير في هذه الحالة بالمفرد ، والله سبحانه أعلم.

٤٧٩

سورة النّجم

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

(بِسْمِ اللهِ) اسم حليم رحيم ، يحلم (١) فيما يعلم ، ويستر ما يبصر ويغفر (٢) ، وعلى العقوبة يقدر ، يرى ويخفى ، ويعلم ولا يبدى.

قوله جل ذكره : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢))

والثريا إذا سقط وغرب. ويقال : هو جنس النجوم أقسم بها.

(ويقال : هى الكواكب) (٣). ويقال : أقسم بنجوم القرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقال هي الكواكب التي ترمى بها الشياطين.

ويقال أقسم بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند منصرفه من المعراج.

ويقال : أقسم بضياء قلوب العارفين ونجوم عقول الطالبين.

وجواب القسم قوله : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) : أي ما ضلّ عن التوحيد قط ، (وَما غَوى) : الغىّ : نقيض الرّشد .. وفي هذا تخصيص للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث توليّ ـ سبحانه ـ الذّبّ عنه فيما رمى به ، بخلاف ما قال لنوح عليه‌السلام وأذن له حتى قال : (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) (٤) ، وهود قال : (لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ) (٥) .. وغير ذلك ، وموسى

__________________

(١) هكذا في م وهي في ص (يكلم) وواضح أنها خطأ من الناسخ.

(٢) هكذا في م وهي في ص (يضير) وهي خطأ من الناسخ.

(٣) موجود في م وساقط في ص.

(٤) آية ٦١ سورة الأعراف.

(٥) آية ٦٧ سورة الأعراف.

٤٨٠