لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

(مِنْ نُطْفَةٍ) : أي من قطرة ماء ، (أَمْشاجٍ) : أخلاط من بين الرجل والمرأة.

ويقال : طورا نطفة ، وطورا علقة ، وطورا عظما ، وطورا لحما.

(نَبْتَلِيهِ) : نمتحنه ونختبره. وقد مضى معناه. (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً).

(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)

أي : عرّفناه الطريق ؛ أي طريق الخير والشرّ.

وقيل : إمّا للشقاوة ، وإمّا للسعادة ، إمّا شاكرا من أوليائنا ، وإما أن يكون كافرا من أعدائنا ؛ فإن شكر فبالتوفيق ، وإن كفر فبالخذلان.

قوله جل ذكره : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤))

أي : هيّأنا لهم سلاسل يسحبون فيها ، وأغلالا لأعناقهم يهانون بها ، (وَسَعِيراً) : نارا مستعرة.

(إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً)

قيل : البرّ : الذي لايضمر الشّرّ ، ولا يؤذى الذّرّ.

وقيل : الأبرار : هم الذين سمت همّتهم عن المستحقرات ، وظهرت في قلوبهم ينابيع الحكمة فاتّقوا عن مساكنة الدنيا.

يشربون (١) من كأس رائحتها كرائحة الكافور ، أو ممزوجة بالكافور.

ويقال : اختلفت مشاربهم في الآخرة ؛ فكلّ يسقى ما يليق بحاله ... وكذلك في الدنيا مشاربهم مختلفة ؛ فمنهم من يسقى مزجا ، ومنهم من يسقى صرفا ، ومنهم من يسقى على

__________________

(١) يتحدث القشيري في هذه السورة عن الشراب على نحو تفصيلى يستحق التأمل ، وينبغى أن يضاف إلى حديثه عنه في رسالته عند بحث هذا الموضوع عند هذا الصوفي السنّى الجليل.

٦٦١

النّوب ، ومنهم من يسقى بالنّجب ومنهم من يسقى وحده ولا يسقى مما يسقى غيره ، ومنهم من يسقى هو والقوم شرابا واحدا .. وقالوا :

إن كنت من ندماى فبالأكبر اسقني

ولا تسقنى بالأصغر المتثلم

وفائدة الشراب ـ اليوم ـ أن يشغلهم عن كل شىء فيريحهم عن الإحساس ، ويأخذهم عن قضايا العقل .. كذلك قضايا الشراب في الآخرة ، فيها زوال الأرب ، وسقوط الطلب ، ودوام الطّرب ، وذهاب الحرب ، والغفلة عن كلّ سبب.

ولقد قالوا :

عاقر عقارك واصطبح

واقدح سرورك بالقدح

واخلع عذارك في الهوى

وأرح عذولك واسترح

وافرح بوقتك إنما

عمر الفتى وقت الفرح

قوله جل ذكره : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦))

يشقّقونها تشقيقا ، ومعناه أن تلك العيون تجرى في منازلهم وقصورهم على ما يريدون. واليوم ـ لهم عيون في أسرارهم من عين المحبة ، وعين الصفاء ، وعين الوفاء ، وعين البسط ، وعين الروح .. وغير ذلك ، وغدا لهم عيون.

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ)

ثم ذكر أحوالهم في الدنيا فقال : يوفون بالعهد القديم الذي بينهم وبين الله على وجه مخصوص.

٦٦٢

(وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً).

قاسيا ، منتشرا ، ممتدا.

(وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً)

أي : على حبّهم للطعام لحاجتهم إليه. ويقال : على حبّ الله ، ولذلك يطعمون.

ويقال : على حبّ الإطعام.

وجاء في التفسير : أن الأسير كان كافرا ـ لأنّ المسلم ما كان يستأسر في عهده ـ فطاف على بيت فاطمة رضى الله عنها (١) وقال : تأسروننا ولا تطعموننا (٢)!

(إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً)

إنما نطعمكم ابتغاء مرضاة الله ، لا نريد من قبلكم جزاء ولا شكرا.

ويقال : إنهم لم يذكروا هذا بألسنتهم ، ولكن كان ذلك بضمائرهم.

(إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً)

أي : يوم القيامة

(فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ)

__________________

(١) هكذا في م ، وفي ص (صلى الله عليها).

(٢) قال الأسير وهو واقف بالباب : «السلام عليكم أهل بيت محمد ، تأسروننا وتشدوننا ولا تطعموننا! أطعمونى فإنى أسير محمد». فأعطوه الطعام ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح .. حتى لصق بطن فاطمة بظهرها وغارت عيناها من شدة الجوع». فلما رآها النبي (ص) وعرف المجاعة في وجهها بكى وقال : «واغوثاه يا ألله! أهل بيت محمد يموتون جوعا» فنزلت الآية. ولكن بعض رجال الحديث يطعنون في هذا الخبر. يقول الترمذي الحكيم في نوادر الأصول : «هو حديث مزوق مزيف ؛ لأن الله تعالى يقول : يسألونك ماذا ينفقون قل العفو» ، والنبي يقول : «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى».

٦٦٣

(وَلَقَّاهُمْ) أي : أعطاهم (نَضْرَةً وَسُرُوراً).

(وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً)

كافأهم على ما صبروا من الجوع ومقاساته جنّة وحريرا

(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ)

واحدها أريكة ، وهي السرير في الحجال (١).

(لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً)

أي : لا يتأذّون فيها بحرّ ولا برد.

(وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً)

يتمكنون من قطافها على الوجه الذي هم فيه من غير مشقة ؛ فإن كانوا قعودا تدّلى لهم ، وإن كانوا قياما ـ وهي على الأرض ـ ارتقت إليهم.

(وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ)

الاسم فضة ، والعين لا تشبه العين (٢)

(وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً)

أي : فى صفاء القوارير وبياض الفضة .. قدّر ذلك على مقدار إرادتهم.

(وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً)

المقصود منه الطّيب ، فقد كانوا (أي العرب) يستطيبون الزنجبيل ، ويستلذون نكهته ،

__________________

(١) جمع حجلة وهي ستر يضرب على سرير العروس كالقبة.

(٢) من هذا يتضح أن القشيري برى أن الجنة وصفت بما يمكن أن يكون منتهى تصوراتهم الدنيوية لمجالات النعمة ... فالألفاظ هي الألفاظ ولكن الحقائق شىء آخر.

٦٦٤

وبه يشبّهون الفاكهة ، ولا يريدون به ما يقرص اللسان (١).

(عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨))

أي : يسقون من عين ـ أثبت السقيّ وأجمل من يسقيهم ؛ لأنّ منهم من يسقيه الحقّ ـ سبحانه ـ بلا واسطة.

قوله جل ذكره : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً)

أي : يخدمهم ولدان مخلدون (وصفا لا يجوز واحد منهم حدّ الوصائف) (٢).

وجاء في التفسير : لا يهرمون ولا يموتون. وجاء مقرّطون.

إذا رأيتهم حسبتهم من صفاء ألوانهم لؤلؤا منثورا (٣).

وفي التفسير : ما من إنسان من أهل الجنة إلا ويخدمه ألف غلام.

قوله جل ذكره : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ثَمَّ) :

ثم أي في الجنة.

(مُلْكاً كَبِيراً) : فى التفاسير أن الملائكة تستأذن عليهم بالدخول.

وقيل : هو قوله : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها) (٤) ويقال : أي لا زوال له.

__________________

(١) من ذلك قول المسيب بن علس يصف ثغر المرأة :

وكأن طعم الزنجبيل به

إذ ذقته وسلافة الخمر

وقال الأعشى :

كأن القرنفل والزنجبي

ل باما بفيها وأريا مشورا

(والأرى ـ هو العسل).

(٢) هكذا في النسختين وفيها شىء من غموض.

(٣) قيل : إنما شبههم باللؤلؤ المنثور لأنهم سراع في الخدمة ، بخلاف الحور العين إذ شبههن باللؤلؤ المكنون المخزون لأنهن لا يمتهنّ بالخدمة (القرطبي ح ١٩ ص ١٤٤).

(٤) آية ٣٥ سورة ق.

٦٦٥

(عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً)

يحتمل أن يكون هذا الوصف للأبرار. ويصح أن يكون للولدان وهو أولى ، والاسم يوافق الاسم دون العين (١).

(شَراباً طَهُوراً) : الشراب الطهور هو الطاهر في نفسه المطهّر لغيره.

فالشراب يكون طهورا في الجنة ـ وإن لم يحصل به التطهير لأن الجنة لا يحتاج فيها إلى التطهير.

ولكنه ـ سبحانه ـ لمّا ذكر الشراب ـ وهو اليوم في الشاهد نجس ـ أخبر أنّ ذلك الشراب غدا طاهر ، ومع ذلك مطهّر ؛ يطهّرهم عن محبة الأغيار ، فمن يحتس من ذلك الشراب شيئا طهّره عن محبة جميع المخلوقين والمخلوقات.

ويقال : يطهّر صدورهم من الغلّ والغشّ ، ولا يبقى لبعضهم مع بعض خصيمة (ولا عداوة) (٢) ولا دعوى ولا شىء.

ويقال : يطهّر قلوبهم عن محبة الحور العين.

ويقال : إن الملائكة تعرض عليهم الشراب فيأبون قبوله منهم ، ويقولون :

لقد طال أخذنا من هؤلاء ، فإذا هم بكاسات تلاقى أفواههم بغير أكفّ ؛ من غيب إلى عبد.

ويقال : اليوم شراب وغدا شراب ... اليوم شراب الإيناس (٣) وغدا شراب الكأس ، اليوم شراب من الّلطف وغدا شراب يدار على الكفّ.

__________________

(١) أرأيت كيف يلمح القشيري على هذا المعنى؟

(٢) غير موجودة في م وموجودة في ص.

(٣) هكذا في ص وهي في م (الأنفاس) ، والصواب ما أثبتنا كما يتضح فيما بعد (آنسه).

٦٦٦

ويقال : من سقاه اليوم شراب محبّته آنسه وشجّعه ؛ فلا يستوحش في وقته من شىء ، ولا يضنّ بروحه عن بذل. ومن مقتضى شربه بكأس محبته أن يجود على كلّ أحد بالكونين من غير تمييز ، ولا يبقى على قلبه أثر للأخطار.

ومن آثار شربه تذلّله لكلّ أحد لأجل محبوبه ، فيكون لأصغر الخدم تراب القدم ، لا يتحرّك فيه للتكبّر عرق.

وقد يكون من مقتضى ذلك الشراب أيضا في بعض الأحايين أن يتيه على أهل الدارين.

ومن مقتضى ذلك الشراب أيضا أن يملكه سرور ولا يتمالك معه من خلع العذار وإلقاء قناع الحياء (١) ويظهر ما هو به من المواجيد :

يخلع فيك العذار قوم

فكيف من ماله عذار؟

ومن موجبات ذلك الشراب سقوط الحشمة ، فيتكلم بمقتضى البسط ، أو بموجب لفظ الشكوى ، وبما لا يستخرج منه ـ فى حال صحوه ـ سفيه بالمناقيش (٢) ... وعلى هذا حملوا قول موسى : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (٣)

فقالوا : سكر من سماع كلامه (٤) ، فنطق بذلك لسانه. وأمّا من يسقيهم شراب التوحيد فينفى عنهم شهود كلّ غير فيهيمون في أودية العزّ ، ويتيهون في مفاوز الكبرياء ، وتتلاشى

__________________

(١) هكذا في م وهي في ص (الحياة) ، والملائم لخلع العذار إلقاء قناع (الحياء). والمقصود بهما تجاوز حد الصبر على المكتوم من الحب ، ونطق العبد وهو في غلبات الشهود بشطحات ظاهرها مستشنع وإن كان باطنها فى غاية السلامة (انظر تعريف السراج للشطح في اللمع).

(٢) المناقيش جمع منقاش ، ويقال في المثل : استخرجت منه حقى بالمناقيش أي تعبت كثيرا حتى استخرجت منه حقى (الوسيط).

(٣) آية ١٤٣ سورة الأعراف.

(٤) الضمير فى (كلامه) يعود على الرب ؛ سبحانه حينما قال : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ) ، وفي موضع آخر يصف القشيري موسى عليه‌السلام بأنه كان في حال التلوين فظهر عليه ما ظهر ، بينما المصطفى (ص) ليلة المعراج كان فى حال التمكين فما زاغ بصره وما طغى.

٦٦٧

جملتهم في هواء الفردانية .. فلا عقل ولا تمييز ولا فهم ولا إدراك .. فكلّ هذه المعاني ساقطة.

فالعبد يكون في ابتداء الكشف مستوعبا ثم يصير مستغرقا ثم يصير مستهلكا .. (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) (١).

قوله جل ذكره : (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢))

يقال لهم : هذا جزاء لكم ، (مَشْكُوراً) : وشكره لسعيهم تكثير الثواب على القليل من العمل ـ هذا على طريقة العلماء ، وعند قوم شكرهم جزاؤهم على شكرهم.

ويقال : شكره لهم ثناؤه عليهم بذكر إحسانهم على وجه الإكرام.

قوله جل ذكره : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً)

فى مدّة (٢) سنين.

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً)

أي : ارض بقضائه ، واستسلم لحكمه.

(وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) : أي : ولا كفورا ، وهذا أمر له بإفراد ربّه بطاعته.

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً)

الفرض في الأول ، ثم النّفل (٣)

(إِنَّ هؤُلاءِ ...)

__________________

(١) آية ٤٢ سورة النجم.

(٢) هكذا في النسختين ولا نستبعد أنها في الأصل (عدة) وكلاهما صحيح في السياق.

(٣) فالصلاة جاءت في الأول (بكرة وأصيلا) صلاة الصبح ثم الظهر والعصر (ومن الليل) المغرب والعشاء ثم من بعد ذلك النفل وهو (وسبحه ليلا طويلا) : لأنه تطوع ، قيل : هو منسوخ بالصلوات الخمس ، وقيل : هو خاص بالنبي (ص) وحده.

٦٦٨

أي كفّار قريش.

(يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً).

أي : لا يعملون ليوم القيامة.

قوله جل ذكره : (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨))

أعدمناهم ، وخلقنا غيرهم بدلا عنهم. ويقال : أخذنا عنهم الميثاق (١).

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ...)

أي : القرآن تذكرة.

(فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً).

بطاعته.

(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً)

أي : عذابا أليما موجعا يخلص وجعه إلى قلوبهم.

__________________

(١) تأخرت هذه العبارة عن موضعها ، فأرجعناها إلى مكانها.

٦٦٩

سورة المرسلات

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(بِسْمِ اللهِ) كلمة من سمعها بسمع الوجد وفي له فلم ينظر إلى أحد ، ومن سمعها بسمع العلم جادله فلم يبخل بروحه على أحد.

ومن سمعها بسمع التوحيد جرّد سرّه عن إيثار (١) ما سواه في الدنيا والعقبى عينا وأثرا فما كان هذا كله إلا حاصلا به كائنا منه.

قوله جل ذكره : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١))

(الْمُرْسَلاتِ) : الملائكة ، (عُرْفاً) أي : أرسلوا بالمعروف من الأمر ، أو كثيرين كعرف الفرس.

(فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً)

الرياح الشديدة (العواصف تأتى بالعصف وهو ورق الزرع وحطامه).

(وَالنَّاشِراتِ نَشْراً)

الأمطار (لأنها تنشر النبات. فالنشر بمعنى الإحياء). ويقال : السّحب تنشر الغيث. ويقال : الملائكة.

(فَالْفارِقاتِ فَرْقاً)

الملائكة ؛ تفرق بين الحلال والحرام.

(فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً).

__________________

(١) هكذا في ص وهي في م (ثياب) وهي خطأ من الناسخ.

٦٧٠

الملائكة : تلقى الوحى على الأنبياء عليهم‌السلام ؛ إعذارا وإنذارا ..

وجواب القسم :

(إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ)

فأقسم بهذه الأشياء : إنّ القيامة لحقّ.

قوله جل ذكره : (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ)

إنما تكون هذه القيامة. و (طُمِسَتْ) : ذهب ضوؤها.

(وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ)

ذهب بها كلّها بسرعة ، حتى لا يبقى لها أثر.

(وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ)

أي : جعل لها وقتا وأجلا لفصل القضاء يوم القيامة.

ويقال : أرسلت لأوقات معلومة.

(وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ)

على جهة التعظيم له.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)

مضى تفسير معنى الويل.

ويقال في الإشارات : فإذا نجوم المعارف طمست بوقوع الغيبة.

وإذا الجبال نسفت : القلوب الساكنة بيقين الشهود حرّكت عقوبة على ما همّت بالذي لا يجوز. فويل يومئذ لأرباب الدعاوى الباطلة الحاصلة من ذوى القلوب المطبقة الخالية من المعاني.

قوله جل ذكره : (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧))

الذين كذّبوا رسلهم ، وجحدوا آياتنا ؛ فمثلما أهلكنا الأولين كذلك نفعل بالمجرمين إذا فعلوا مثل فعلهم.

٦٧١

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) الذين لا يستوى ظاهرهم وباطنهم في التصديق.

وهكذا كان المتقدمون من أهل الزّلّة والفترة في الطريقة ، والخيانة في أحكام المحبة فعذّبوا بالحرمان في عاجلهم ، ولم يذوقوا من المعاني شيئا.

قوله جل ذكره : (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ)؟.

أي : حقير. وإذ قد علمتم ذلك فلم لم تقيسوا أمر البعث عليه؟

ويقال : ذكّرهم أصل خلقتهم لئلا يعجبوا بأحوالهم ؛ فإنه لا جنس من المخلوقين والمخلوقات أشدّ دعوى من بنى آدم. فمن الواجب أن يتفكّر الإنسان في أصله ... كان نطفة وفي انتهائه يكون جيفة ، وفي وسائط حاله كنيف في قميص!! فبالحريّ ألّا يدلّ ولا يفتخر :

كيف يزهو من رجيعه

أبد الدهر ضجيعه

فهو منه وإليه

وأخوه ورضيعه

وهو يدعوه إلى الحشّ (١)

بصغر فيطيعه؟!!

ويقال : يذكّرهم أصلهم .. كيف كان كذلك .. ومع ذلك فقد نقلهم إلى أحسن صورة ، قال تعالى :

(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) ، والذي يفعل ذلك قادر على أن يرقّيك من الأحوال الخسيسة إلى تلك المنازل الشريفة.

قوله جل ذكره : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦))

(كِفاتاً) أي : ذات جمع ؛ فالأرض تضمهم وتجمعهم أحياء وأمواتا ؛ فهم يعيشون على ظهرها ، ويودعون بعد الموت في بطنها ..

(وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً).

__________________

(١) الحش بفتح الحاء وضمها ـ الكنيف.

والمقصود : كيف ترهو أيها الإنسان ، وإن ما يقذفه جسمك من فضلات ملازم لك حياتك : ليلك ونهارك ، وأنت تطيعه صاغرا إذا أمرك ودعاك بالذهاب إلى الحش؟

٦٧٢

أي : جبالا مرتفعات ، وجعلنا بها الماء سقيا لكم. يذكّرهم عظيم منّته بذلك عليهم. والإشارة فيه إلى عظيم منّته أنّه لم يخسف بكم الأرض ـ وإن عملتم ما عملتم.

(انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ)

يقال لهم : انطلقوا إلى النار التي كذّبتم بها.

(انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ)

كذلك إذا لم يعرف العبد قدر انفتاح طريقه إلى الله بقلبه ، وتعزّزه بتوكله .. فإذا رجع إلى الخلق عند استيلاء الغفلة نزع الله عن قلبه الرحمة ، وانسدّت عليه طرق رشده ، فيتردد من هذا إلى هذا إلى هذا.

ويقال لهم : انطلقوا إلى ما كنتم به تكذّبون. والاستقلال بالله جنّة المأوى ، والرجوع إلى الخلق قرع باب جهنم ... وفي معناه أنشدوا :

ولم أر قبلى من يفارق جنّة

ويقرع بالتطفيل باب جهنم

ثم يقال لهم إذا أخذوا في التنصّل والاعتذار :

(هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦))

فإلى أن تنتهى مدّة العقوبة فحينئذ : ان استأنفت وقتا استؤنف لك وقت. فأمّا الآن ... فصبرا حتى تنقضى أيام العقاب.

(هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ)

فعلنا بكم ما فعلنا بهم في الدنيا من الخذلان ، كذلك اليوم سنفعل بكم ما نفعل بهم من دخول النيران

قوله جل ذكره : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١))

٦٧٣

اليوم ... فى ظلال العناية والحماية ، وغدا ... هم في ظلال الرحمة والكلاءة.

اليوم .. فى ظلال التوحيد ، وغدا .. فى ظلال حسن المزيد.

اليوم .. فى ظلال المعارف ، وغدا .. فى ظلال اللطائف.

اليوم .. فى ظلال التعريف ، وغدا .. فى ظلال التشريف.

(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

اليوم تشربون على ذكره .. وغدا تشربون على شهوده ، اليوم تشربون بكاسات الصفاء وغدا تشربون بكاسات الولاء.

(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)

والإحسان من العبد ترك الكلّ لأجله! كذلك غدا : يجازيك بترك كلّ الحاصل عليك لأجلك.

قوله جل ذكره : (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ)

هذا خطاب للكفار ، وهذا تهديد ووعيد ، والويل يومئذ لكم.

قوله جل ذكره : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ)

كانوا يصروّن على الإباء والاستكبار فسوف يقاسون البلاء العظيم (١).

[ذكر في التفسير : أن المتقين دائما في ظلال الأشجار ، وقصور الدرّ مع الأبرار ، وعيون جارية وأنهار. ، وألوان من الفاكهة والثمار ... من كل ما يريدون من الملك الجبّار. ويقال لهم في الجنة : كلوا من ثمار الجنات ، واشربوا شرابا سليمان من الآفات. «بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» من الطاعات. «كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» من الكرامات. قيل : كُلُوا وَاشْرَبُوا «هَنِيئاً» : لا تبعة عليكم من جهة الخصومات ، ولا أذيّة في المأكولات والمشروبات

وقيل : الهنيء الذي لا تبعة فيه على صاحبه ، ولا أذيّة فيه من مكروه لغيره.]

__________________

(١) إلى هنا انتهى تفسير السورة في م النسخة ص. وكل ما بين القوسين الكبيرين موجود في النسخة م.

٦٧٤

سورة النّبإ (١)

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

(بِسْمِ اللهِ) اسم ملك تجمّل عباده بطاعته ، وتزيّن خدمه بعبادته ، وهو سبحانه لا يتجمّل بطاعة المطيعين ، ولا يتزيّن بخدمة العابدين ؛ فزينة العابدين صدار طاعتهم ، وزينة العارفين حلّة معرفتهم ، وزينة المحبّين تاج ولايتهم .. وزينة المذنبين غسل وجوههم بصوب (٢) عبرتهم.

قوله جل ذكره : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣))

مختلفون بشدة إنكارهم أمر البعث ، ولا لتباس ذلك عليهم ، وكثرة مساءلتهم عنه ، وكثرة مراجعتهم إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في معناه.

تكرّر من الله إنزال أمر البعث ، وكم استدلّ عليهم في جوازه بوجوه من الأمثلة ... فهذا من ذلك ، يقول : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ. عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) : عن الخبر العظيم (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) قال الله تعالى على جهة الاحتجاج عليهم :

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً)

ذلّلناهم لهم حتى سكنوها

(وَالْجِبالَ أَوْتاداً؟).

__________________

(١) هذا هو اسم السورة كما جاء في ص أما في م فعنوانها (سورة عم يتساءلون).

(٢) هى في م (بضرب) وهي في ص (بصوت) وكلاهما غير مقبول في السياق ، وقد رجحنا أن تكون فى الأصل (بصوب) على أساس أن القشيري يستعمل الفعل (تتقطر) مع (العبرة) فى مواضع مماثلة ، كما أنها أقرب في الرسم.

٦٧٥

أوتادا للأرض حتى تميد بهم.

(وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً)

ذكرا وأنثى ، وحسنا وقبيحا .. وغير ذلك

(وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً)

أي راحة لكم ، لتنقطعوا عن حركاتكم التي تعبتم بها في نهاركم.

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً)

تغطّى ظلمته كلّ شىء فتسكنوا فيه.

(وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً)

أي وقت معاشكم.

(وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً)

أي سبع سموات.

(وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً)

أي الشمس ، جعلناها سراجا وقّادا مشتعلا.

(وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً الْمُعْصِراتِ)

الرياح التي تعصر السحاب (١).

(ماءً ثَجَّاجاً) مطرا صبّابا.

(لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً حَبًّا)

كالحنطة والشعير ، (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) بساتين يلتفّ بعضها ببعض.

وإذا قد علمتم ذلك فهلّا علمتم أنّى قادر على أن أعيد الخلق وأقيم القيامة؟

__________________

(١) والمعصرات أيضا السحائب تعتصر بالمطر ، وأعصر القوم أي : أمطروا ، وسنه (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) والمعصر الجارية أول ما أدركت الحيض. فالمعصر السحابة التي حان لها أن تمطر (الصحاح).

٦٧٦

فبعد أن عدّ عليهم بعض وجوه إنعامه ، وتمكينهم من منافعهم .. قال :

(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩))

مضى معناه

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً)

أي في ذلك اليوم تأتون زمرا وجماعات.

(وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً)

أي : تشقّقت وانفطرت.

(وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً)

أي كالسراب.

(إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً)

أي ممرا. ويقال : ذات ارتقاب لأهلها.

(لِلطَّاغِينَ مَآباً)

أي مرجعا.

(لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً)

أي دهورا ، والمعنى مؤبّدين

(لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً)

مضى معناه. ثم يعذّبون بعد ذلك بأنواع أخر من العذاب.

(جَزاءً وِفاقاً)

أي : جوزوا على وفق أعمالهم. ويقال : على وفق ما سبق به التقدير ، وجرى به الحكم.

(إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً)

٦٧٧

لا يؤمنون فيرجون الثواب ويخافون العقاب.

(وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) (١)

أي : تكذيبا.

(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً)

أي : كتبناه كتابا ، وعلمناه علما.

والمسبّح الزاهد يحصى تسبيحه ، والمهجور البائس يحصى أيام هجرانه ، والذي هو صاحب وصال لا يتفرّغ من وصله إلى تذكّر أيامه في العدد ، أو الطول والقصر.

والملائكة يحصون زلّات العاصين ، ويكتبونها في صحائفهم. والحق سبحانه يقول :

(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً) فكما أحصى زلّات العاصين وطاعات المطيعين فكذلك أحصى أيام هجران المهجورين وأيام محن الممتحنين ، وإنّ لهم في ذلك لسلوة ونفسا :

ثمان قد مضين بلا تلاق

وما في الصبر فضل عن ثمان

وكم من أقوام جاوزت أيام فترتهم الحدّ! وأربت أوقات هجرانهم على الحصر!

قوله جل ذكره : (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً)

يا أيها المنعّمون في الجنة .. افرحوا وتمتعوا فلن نزيدكم إلا ثوابا.

أيها الكافرون .. احترقوا في النار .. ولن نزيدكم إلا عذابا (٢) ويا أيها المطيعون .. افرحوا وارتعوا فلن نزيدكم إلا فضلا على فضل.

يا أيها المساكين .. ابكوا واجزعوا فلن نزيدكم إلّا عزلا على عزل.

قوله جل ذكره : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤)

__________________

(١) فى (كِذَّاباً) يقول الفراء : هى لعة يمانية فسيحة ؛ يقولون : كذبت به كذابا وخرقت القميص خرّاقا. فكل فعل في وزن (فعّل) مصدره فعال مشددة في لغتهم.

(٢) قال أبو برزة : سألت النبي (ص) عن أشد آية في القرآن فقال : قوله تعالى : (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) أي : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) و (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً).

٦٧٨

لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦))

مسلّم للمتقين ما وعدناهم به .. فهنيئا لهم ما أعددنا لهم من الفوز بالبغية والظّفر بالسّؤل والمنية : من حدائق وأعناب ، ومن كواعب أتراب وغير ذلك.

فيا أيها المهيّمون المتيّمون هنيئا لكم ما أنتم فيه اليوم في سبيل مولاكم من تجرّد وفقر ، وما كلّفكم به من توكل وصبر ، وما تجرعتم من صدّ وهجر.

أحرى الملابس ما تلقى الحبيب به

يوم التزاور (١) فى الثوب الذي خلعا

قوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها ...) آذانهم مصونة عن سماع الأغيار ، وأبصارهم محفوظة عن ملاحظة الرسوم والآثار.

قوله جل ذكره : (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً)

وكيف تكون للمكوّن المخلوق الفقير المسكين مكنة أن يملك منه خطابا؟ أو يتنفّس بدونه نفسا؟ كلّا .. بل هو الله الواحد الجبّار.

قوله جل ذكره : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً)

إنما تظهر الهيبة على العموم لأهل الجمع في ذلك اليوم ، وأمّا الخواص وأصحاب الحضور فهم أبدا بمشهد العزّ بنعت الهيبة ، لا نفس (٢) لهم ولا راحة ؛ أحاط بهم سرادقها واستولت عليهم حقائقها.

__________________

(١) هكذا في م وهي في ص (التزاول) وهي خطأ من الناسخ ، والمقصود من النص الشعرى : أن الله يحب أن يرى على الفقراء ثياب التجرد لأنها الثياب التي خلعها عليهم بنفسه حينما آثروا حقه على حظوظهم.

(٢) هكذا في ص وهي في م (لا نفر لهم ولا فرحة) وربما كانت (فرجة) بالجيم.

٦٧٩

قوله جل ذكره : (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩))

هم بمشهد الحقّ ، والحكم عليهم الحقّ ، حكم عليهم بالحق ، وهم مجذوبون بالحقّ للحقّ.

قوله جل ذكره : (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً)

وهو عند أهل الغفلة بعيد ، ولكنّه في التحقيق قريب.

(يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ) (١) (: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً).

مضوا في ذلّ الاختيار والتعنّى (٢) ، وبعثوا في حسرة التمنّى ، ولو أنهم رضوا بالتقدير لتخلّصوا (٣) عن التمنّى.

__________________

(١) قيل : يراد بالكافر هنا أبى بن خلف أو عقبة بن أبى معيط. ويرى أبو نصر عبد الرحمن بن عبد الكريم القشيري ـ صاحب هذا الكتاب : هو إبليس ، يقول : يا ليتنى خلقت كآدم من تراب ولم أقل أنا خير منه لأنى من نار. (القرطبي ح ١٩ ص ١٨٩).

(٢) وردت في النسختين (التمني) وهي مقبولة ، ولكننا نرجح أنها ربما كانت في الأصل (التعنى) لأن الاختيار. كان في الدنيا ، واختيار المرء ـ حسب نظرية القشيري ـ مجلبة لعنائه وشقائه .. هذا فضلا عن أن إثبات (التعنى) يزيد المعنى ـ نظرا لتلون الفاصلة ـ قوة وجمالا.

(٣) هكذا في م وهي في ص (لتحصلوا) وواضح فيها خطأ الناسخ.

٦٨٠