لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

سورة النّازعات (١)

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

(بِسْمِ اللهِ) اسم عزيز لربّ عزيز ، سماعه يحتاج إلى سمع عزيز ، وذكره يحتاج إلى وقت عزيز ، وفهمه يحتاج إلى قلب عزيز.

وأنّى لصاحب سمع بالغيبة مبتذل ، ووقت معطّل في الخسائس مستغرق ، وقلب فى الاشتغال بالأغيار مستعمل .. أنّى له أن يصلح لسماع هذا الاسم؟!.

قوله جل ذكره : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١))

أي الملائكة ؛ تنزع أرواح الكفّار من أبدانهم.

(غَرْقاً) : أي إغراقا كالمغرق في قوسه (٢).

ويقال : هى النجوم تنزع من مكان إلى مكان.

(وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً)

هى أنفس المؤمنين تنشط للخروج عند الموت.

ويقال : هى الملائكة تنشط أرواح الكفّار ، وتنزعها فيشتدّ عليهم خروجها.

ويقال : هى الوحوش تنشط من بلد إلى بلد.

ويقال : هى الأوهاق (٣).

__________________

(١) هكذا في ص وهي في م (سورة والنازعات) بإثبات الواو.

(٢) إغراق النازع في القوس أن يبلغ مداها ويستوفى شدها.

(٣) هكذا في م وهي فى (ص الارهاق) بالراء وهي خطأ في النسخ ، والأوهاق جمع وهق بحركتين وقد يسكن : الحبل تشد به الإبل والخيل حتى تؤخذ وفي طرفه أنشوطة. وأوهق الدابة أي طرح في عنقها الوهق ، وعن عكرمة وعطاء : الأوهاق تنشط السهام.

٦٨١

ويقال : هى النجوم تنشط من المشارق إلى المغارب ومن المغارب إلى المشارق.

(وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً)

الملائكة تسبح في نزولها.

ويقال : هى النجوم تسبح في أفلاكها.

ويقال : هى السفن في البحار.

ويقال : هى أرواح المؤمنين تخرج بسهولة لشوقها إلى الله.

(فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً)

الملائكة يسبقون إلى الخير والبركة ، أو لأنها تسبق الشياطين عند نزول الوحى ، أو لأنها تسبق بأرواح الكفار إلى النار.

ويقال : هى النجوم يسبق بعضها بعضا في الأفول.

(فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً)

الملائكة تنزل بالحرام والحلال.

ويقال : جبريل بالوحى ، وميكائيل بالقطر والنبات ، وإسرافيل بالصّور ، وملك الموت يقبض الأرواح .. عليهم‌السلام.

وجواب القسم قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) (١)

قوله جل ذكره : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ)

تتحرك الأرض حركة شديدة.

(تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ)

النفخة الأولى في الصّور. وقيل : الراجفة النفخة الأولى والرادفة النفخة الثانية.

__________________

(١) هذه هي الآية رقم ٢٦ بالسورة وهو اختيار الترمذي أيضا .. وهي كما ترى متأخرة جدا. ويرى بعض المفسرين أن جواب القسم مضمر لأنه لا يخفى على السامع ، ويرى آخرون ـ كالفراء ـ أنه البعث بدليل (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً).

ويرى القرطبي : أنه قسم جوابه : إن القيامة حق.

٦٨٢

(قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ)

خائفة.

(يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) (١)

أي إلى أول أمرنا وحالنا ، يعنى أئذا متنا نبعث ونردّ إلى الدنيا (ونمشى على الأرض بأقدامنا)؟. قالوه على جهة الاستبعاد.

(أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً)

أي بالية.

(تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ)

رجعة ذات خسران (مادام المصير إلى النار).

قوله جل ذكره : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤))

(٢) جاء في التفسير إنها أرض المحشر ، ويقال : إنها أرض بيضاء لم يعص الله فيها (٣) ويقال : الساهرة نفخة الصّور تذهب بنومهم وتسهرهم.

قوله جل ذكره : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً)

أي الأرض المطهرة المباركة. (طُوىً) اسم الوادي هناك.

(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى).

__________________

(١) سميت الأرض الحافرة لأنها مستقر الحوافر.

(٢) سميت الأرض بالساهرة لأن فيها نوم الحيوان وسهره (الفراء) ، وقال أبو كبير الهذلي :

يرتدن ساهرة كأن جميعها

وعميمها أسداف ليل مظلم

(٣) هذا رأى ابن عباس.

٦٨٣

قلنا له : اذهب إلى فرعون إنه طغى ، فقل له : هل يقع لك أن تؤمن وتتطهر من ذنوبك.

وفي التفسير : لو قلت لا إله إلا الله فلك ملك لا يزول ، وشبابك لا يهرم ، وتعيش أربعمائة سنة في السرور والنعمة .. ثم لك الجنة في الآخرة.

(وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى)

أقرّر لك بالآيات صحّة ما أقول ، وأعرفك صحة الدين .. فهل لك ذلك؟ فلم يقبل.

ويقال : أظهر له كل هذا التلطّف ولكنه في خفيّ سرّه وواجب مكره به أنه صرف قلبه عن إرادة هذه الأشياء ، وإيثار مراده على مراد ربّه ، وألقى في قلبه الامتناع ، وترك قبول النّصح .. وأيّ قلب يسمع هذا الخطاب فلا ينقطع لعذوبة هذا اللفظ؟ وأيّ كبد تعرف هذا فلا تتشقّق لصعوبة هذا المكر؟

قوله جل ذكره : (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠))

جاء في التفسير : هى إخراج يده بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس. فقال فرعون : حتى أشاور هامان (١) ، فشاوره ، فقال له هامان : أبعد ما كنت ربّا تكون مربوبا؟! وبعد ما كنت ملكا تكون مملوكا؟

فكذّب فرعون عند ذلك ، وعصى ، وجمع السّحرة ، ونادى :

(فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى)

ويقال : إنّ إبليس لمّا سمع هذا الخطاب فرّ وقال : لا أطيق هذا!

ويقال قال : أنا ادّعيت الخيرية على آدم فلقيت ما لقيت .. وهذا يقول : أنا ربّكم الأعلى.

قوله جل ذكره : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦))

__________________

(١) يقصد القشيري من بعيد إلى شيئين : أو لهما أن فساد الملوك قد يكون بسبب وزرائهم وحاشيتهم .. ولعلنا نذكر ما قلناه في المدخل عن أن أشد المحنة التي ألمت بالقشيري كانت بسبب الكندري وزير السلطان طغرل.

وثانيهما أن الصحبة السيئة قد تؤدى إلى هلاك الصاحب والمصحوب ، وفي هذا تحذير لأرباب الطريق (راجع باب الصحبة في الرسالة ص ١٤٥).

٦٨٤

أي في إهلاكنا فرعون لعبرة لمن يخشى.

قوله جل ذكره : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها)

(فَسَوَّاها) جعلها مستوية. (وَأَغْطَشَ لَيْلَها) أظلم ليلها. (ضُحاها) ضوؤها ونهارها. (دَحاها) بسطها ومدّها.

(أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها)

أخرج من الأرض العيون المتفجرة بالماء ، وأخرج النبات ..

(وَالْجِبالَ أَرْساها)

أثبتها أوتادا للأرض.

(مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ)

أي أخرجنا النبات ليكون لكم به استمتاع ، وكذلك لأنعامكم.

(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى)

الداهية العظمى ... وهي القيامة.

(يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى)

وبرزت الجحيم لمن يرى ، فأمّا من طغى وكفر وآثر الحياة الدنيا فإنّ الجحيم له المأوى والمستقرّ والمثوى.

(وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى)

(مَقامَ رَبِّهِ) وقوفه غدا في محل الحساب. ويقال : إقبال الله عليه وأنّه راء له .. وهذا عين المراقبة ، والآخر محلّ المحاسبة.

٦٨٥

(وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) أي لم يتابع هواه.

قوله جل ذكره : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢))

أي متى تقوم؟

(فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها)

من أين لك علمها ولم نعلمك ذلك (١).

(إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها)

أي إنما يعلم ذلك ربّك.

(إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها)

أي تخوّف ، فيقبل تخويفك من يخشاها ويؤمن.

(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها)

كأنهم يوم يرون القيامة لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ؛ فلشدة ما يرون تقل عندهم كثرة ما لبثوا تحت الأرض.

__________________

(١) روى الإمام البخاري في نهاية حديثه عن هذه السورة قال : حدثنا أحمد بن المقدام حدثنا الفضيل بن سليمان حدثنا أبو حازم حدثنا سهل بن سعد رضى الله عنه قال : رأيت رسول الله (ص) قال بأصبعيه هكذا بالوسطى والتي تلى الإبهام بعثت والساعة كهاتين.» (البخاري ح ٣ ص ١٤٢).

٦٨٦

سورة عبس (١)

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

(بِسْمِ اللهِ) .. اسم كريم بسط للمؤمنين بساط جوده ، اسم عزيز انسدّ على الأولين والآخرين طريق وجوده .. وأنّى بذلك ولا حدّ له؟ من الذي يدركه بالزمان والزمان خلقه؟ ومن الذي يحسبه في المكان والمكان فعله؟ ومن الذي يعرفه ـ إلّا وبه يعرفه؟ ومن الذي يذكره (٢) ـ إلا وبه يذكره؟

قوله جل ذكره : (عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢))

نزلت في ابن أمّ مكتوم ، وكان ضريرا .. أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان عنده العباس ابن عبد المطلب وأمية بن خلف الجمحىّ (٣) ـ يرجو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيمانهما ، فكره أن يقطع حديثه معهما ، فأعرض عن ابن أمّ مكتوم ، وعبس وجهه ، فأنزل الله هذه الآية.

وجاء في التفسير : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج على أثره ، وأمر بطلبه ، وكان بعد ذلك يبرّه ويكرمه ، فاستخلفه على المدينة مرتين.

وجاء في التفسير : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعبس ـ بعد هذا ـ فى وجه فقير قط ، ولم يعرض عنه.

__________________

(١) هكذا في م وهي في ص (سورة الأعمى)

(٢) هكذا في ص. هى في نظرنا أصوب من (يدركه) التي في م لأن السياق بعدها سيكون : (إلا وبه يدركه) والله سبحانه منزه عن الدرك واللحوق كما نعرف من مذهب القشيري. أما الذكر فهذا مقبول على حد تعبير. ذى النون المصري : (لا أعرفك إلا بك ولا أذكرك إلا بك).

(٣) يقول ابن العربي : غير صحيح أن أمية هذا كان في هذا المجلس ، فقد كان بمكة وابن أم مكتوم كان بالمدينة وكان موته كافرا ، ولم يقصد المدينة ، ولا اجتمع بالنبي.

٦٨٧

ويقال : فى الخطاب لطف .. وهو أنه لم يواجهه بل قاله على الكناية (١) ، ثم بعده قال :

(وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى)

أي يتذكر بما يتعلم منك أو.

(أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى).

قوله جل ذكره : (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧))

أمّا من استغنى عن نفسه فإنه استغنى عن الله.

ويقال : استغنى بماله فأنت له تصدّى ، أي تقبل عليه بوجهك.

(وَما عَلَيْكَ ..) فأنت لا تؤاحذ بألا يتزكّى هو فإنما عليك البلاغ.

(وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى)

لطلب العلم ، ويخشى الله فأنت عنه تتلهّى ، وتتشاغل ... وهذا كله من قبيل العتاب معه لأجل الفقراء.

قوله جل ذكره : (كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢))

القرآن تذكرة ؛ فمن شاء الله أن يذكره ذكره ، ومن شاء الله ألا يذكره لم يذكّره ؛ أي بذلك جرى القضاء ، فلا يكون إلا ما شاء الله.

ويقال : الكلام على جهة التهديد ؛ ومعناه : فمن أراد أن يذكره فليذكره ، ومن شاء ألا يذكره فلا يذكره! كقوله (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (٢).

وقال سبحانه : (ذَكَرَهُ) ولم يقل «ذكرها» لأنه أراد به القرآن.

قوله جل ذكره : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣))

__________________

(١) أي تحدث عن عبوس الوجه بضمير الغائب ، ثم جاء العتاب بضمير الخطاب.

(٢) آية ٢٩ سورة الكهف.

٦٨٨

أي صحف إبراهيم وموسى وما قبل ذلك ، وفي اللوح المحفوظ.

(مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ)

مرفوعة في القدر والرتبة ، مطهرة من التناقض والكذب.

(بِأَيْدِي سَفَرَةٍ)

أي : الملائكة الكتبة.

(كِرامٍ بَرَرَةٍ)

كرام عند الله بررة.

قوله جل ذكره : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ!)

لعن الإنسان ما أعظم كفره!.

(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ)

خلقه وصوّره وقدّره أطوارا : من نطفة ، ثم علقة ، ثم طورا بعد طور.

قوله جل ذكره : (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ)

يسّر عليه السبيل في الخير والشرّ ، وألهمه كيف التصرّف.

ويقال : يسّر عليه الخروج من بطن أمّه يخرج أولا رأسه منكوسا.

(ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ)

أي : جعل له قبرا لئلا تفترسه السّباع والطيور ولئلا يفتضح.

(ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ)

بعثه من قبره.

(كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ)

أي : عصى وخالف ما أمر به.

٦٨٩

ويقال : لم يقض الله له ما أمره به ، ولو قضى عليه وله ما أمره به لما عصاه (١).

قوله جل ذكره : (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠))

فى الإشارة : صببنا ماء الرحمة على القلوب القاسية فلانت للتوبة ، وصببنا ماء التعريف على القلوب فنبتت فيها أزهار التوحيد وأنوار التجريد.

(وَقَضْباً) أي القت (٢).

(وَحَدائِقَ غُلْباً) متكائفة غلاظا.

(وَفاكِهَةً وَأَبًّا)

الفاكهة : جميع الفواكه ، و (أَبًّا) : المرعى.

(مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ ...)

(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) أي : القيامة ؛ فيومئذ يفر المرء من أخيه ، وأمه وأبيه ، ثم بيّن ما سبب ذلك فقال :

(لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)

لا يتفرّغ إلى ذاك ، ولا ذاك إلى هذه. كذلك قالوا : الاستقامة أن تشهد الوقت

__________________

(١) أي : كلّا لم يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان ، بل أمره بما لم يقض له ـ وهذا الرأى للإمام ابن فورك شيخ القشيري.

(٢) سمىّ القت قضبا لأنه يقضب ، أي يقطع بعد ظهوره مرة بعد مرة (الحسن) ويرى ابن عباس أنه الرطب لأنه يقضب من النخل ، ولأنه ذكر العنب قبله.

٦٩٠

قيامة ، فما من وليّ ولا عارف إلّا وهو ـ اليوم ـ بقلبه يفرّ من أخيه وأمه وأبيه ، وصاحبته وبنيه.

فالعارف مع الخلق ولكنه يفارقهم بقلبه ـ قالوا :

فلقد جعلتك في الفؤاد محدّثى

وأبحت جسمى من أراد جاوسى (١)

قوله جل ذكره : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١))

وسبب استبشارهم مختلف ؛ فمنهم من استبشاره لوصوله إلى جنّته ، ومنهم لوصوله إلى الحور العين من حظيته .. ومنهم ومنهم ، وبعضهم لأنه نظر إلى ربّه فرآه.

(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ)

وهي غبرة الفسّاق. (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ). وهي ذلّ الحجاب.

__________________

(١) أحد بيتين ينسبان إلى رابعة العدوية ، والثاني :

فالجسم منى للجليس مؤانس

وحبيب قلبى في الفؤاد أنيسى

(نشأة التصوف الإسلامى ص ١٩١ ط المعارف تأليف بسيونى).

٦٩١

سورة التّكوير

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

(بِسْمِ اللهِ) كلمة أثلجت من قوم قلوبا ، وأوهجت من آخرين قلوبا ؛ من المطيعين أثلجتها ، ومن العاصين أوهجتها ، ومن المريدين أبهجتها ، ومن العارفين أزعجتها.

قوله جل ذكره : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١))

ذهب ضوؤها.

(وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ)

تناثرت وسقطت على الأرض.

قوله جل ذكره : (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) (١)

أزيلت عنها مناكبها.

(وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ)

وهي النّوق الحوامل التي أتى حملها عشرة أشهر .. أهملت في ذلك اليوم لشدة أهواله ، (واشتغال الناس بأنفسهم عنها).

(وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ)

أحييت ، وجمعت في القيامة ليقتصّ لبعضها من بعض ؛ فيقتصّ للجمّاء من القرناء (٢) ـ وهذا على جهة ضرب المثل ؛ إذ لا تكليف عليها.

__________________

(١) تأخرت هذه الآية بعد آية (العشار) فى م فوضعناها في مكانها الصحيح.

(٢) هذا رأى ابن عباس كما رواه عنه عكرمة ، والجماء : ما ليس لها قرن ، وفي أمثالهم «عند النطاح يغلب الكبش الأجم».

٦٩٢

ولا يبعد أن يكون بإيصال منافع إلى ما وصل إليه الألم ـ اليوم ـ على العوض ..

جوازا لا وجوبا على ما قاله أهل البدع.

(وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ)

أو قدت ـ من سجرت التنور أسجره سجرا ، أي : أحميته.

(وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) (١)

بالأزواج.

(وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ)

نشرت ، أي : بسطت.

(وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ)

أي : نزعت وطويت.

(وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ)

أوقدت.

(وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ)

أي : قرّبت من المتقين.

قوله جل ذكره : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ)

هو جواب لهذه الأشياء ، وهذه الأشياء تحصل عند قيام القيامة.

وفي قيام قيامة هذه الطائفة (يقصد الصوفية) عند استيلاء هذه الأحوال عليهم ، وتجلّى هذه المعاني لقلوبهم توجد هذه الأشياء.

__________________

(١) قرنت بأشكالها في الجنة والنار ، قال تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقرن كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون كعمله».

٦٩٣

فمن اختلاف أحوالهم : أنّ لشموسهم في بعض الأحيان كسوفا وذلك عند ما يردّون (١).

ونجوم علومهم قد تنكدر لاستيلاء الهوى على المريدين في بعض الأحوال ، فعند ذلك (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ).

قوله جل ذكره : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦))

أي : أقسم ، والخنّس والكنّس هي النجوم إذا غربت (٢).

ويقال : البقر الوحشي (٣).

قوله جل ذكره : (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ)

عسعس : أي جاء وأقبل.

(تَنَفَّسَ) : خرج من جوف الليل.

أقسم بهذه الأشياء ، وجواب القسم :

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ).

إن هذا القرآن لقول رسول كريم ، يعنى به جبريل عليه‌السلام.

(ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مَكِينٍ)

من المكانة ، وقد بلغ من قوته أنه قلع قرية آل لوط وقلبها.

(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ)

وهذا أيضا من جواب القسم.

(وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ)

رأى محمد جبريل عليه‌السلام بالأفق المبين ليلة المعراج.

__________________

(١) «عند ما يردّون» فى أحوال القبض بعد البسط والهجر بعد الوصل ، والخوف بعد الرجاء والفرق بعد الجمع .. ونحو ذلك.

(٢) قيل هي الكواكب الخمسة الدراري : زحل ، والمشترى ، وعطارد ، والمريخ ، والزّهرة (فى رواية عن على ابن أبى طالب).

(٣) فسرت هكذا في رواية عن عبد الله بن مسعود ، وأخرى عن ابن عباس.

٦٩٤

ويقال : رأى ربّه وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأفق المبين.

(وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ)

بمتّهم (١)

قوله جل ذكره : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦))

إلى متى تتطوحون في أودية الظنون والحسبان؟

وإلى أين تذهبون عن شهود مواضع الحقيقة؟

وهلّا رجعتم إلى مولاكم فيما سرّكم أو أساءكم؟

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ)

ما هذا القرآن إلّا ذكرى لمن شاء منكم أن يستقيم ... وقد مضى القول فى الاستقامة.

(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)

أن يشاءوا (٢).

__________________

(١) لا تكون بهذا المعنى إلا إذا قرئت (بظنين) بالظاء ، وهي قراءة ابن كثير ، وأبى عمرو والكسائي. والآخرين بالضاد فيكون المعنى (ببخيل) أي لا يبخل عليكم بما يعلم من أخبار السماء.

(٢) كنا ننتظر من القشيري الذي ينادى بأن كل شىء من الله وإلى الله حتى أكساب العباد أن يفيض في توضيح هذه الآية أكثر من ذلك ؛ لأنها ناصعة صريحة في نسبة المشيئة ـ كل المشيئة ـ لله ، وأن الإنسان إذا وصف بالمشيئة فهى مرتبطة بالمشيئة الإلهية.

٦٩٥

سورة الانفطار

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(بِسْمِ اللهِ) كلمة منيعة ليس يسمو إلى فهمها كلّ خاطر ؛ فإذا كان الخاطر غير عاطر فهو عن علم حقيقتها متقاصر.

قوله جل ذكره : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١))

أي : انشقت.

(وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ)

تساقطت وتهافتت.

(وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ)

أي : فتح بعضها على بعض.

(وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ)

أي : قلب ترابها ، وبعث الموتى الذين فيها ، وأخرج ما فيها من كنوز وموتى.

(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ)

جواب لهذه الأمور ؛ أي إذا كانت هذه الأشياء : علمت كلّ نفس ما قدّمت من خيرها وشرّها.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)

٦٩٦

أي : ما خدعك وما سوّل لك حتى عملت (١) بمعاصيه؟

ويقال : سأله وكأنما في نفس السؤال لقّنه الجواب يقول : غرّنى كرمك بي ، ولو لا كرمك لما فعلت ؛ لأنّك رأيت فسترت ، وقدّرت فأمهلت.

ويقال : إن المؤمن (٢) وثق بحسن إفضاله فاغترّ بطول إمهاله فلم يرتكب الزلّة لاستحلاله ، ولكنّ طول حلمه عنه حمله على سوء خصاله ، وكما قلت (٣) :

يقول مولاى : أما تستحى

مما أرى من سوء أفعالك

قلت : يا مولاى رفقا فقد

جرّأنى (٤) كثرة أفضالك

قوله جل ذكره : (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨))

أي : ركّب أعضاءك على الوجوه الحكميّة (٥) فى أي صورة ماشاء ، من الحسن والقبح ، والطول والقصر. ويصح أن تكون الصورة هنا بمعنى الصّفة ، و (فِي) بمعنى «على» ؛ فيكون معناه : على أي صفة شاء ركّبك ؛ من السعادة أو الشقاوة ، والإيمان أو المعصية ..

قوله جل ذكره : (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ)

أي : القيامة (٦).

(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ)

هم الملائكة الذين يكتبون الأعمال. وقد خوّفهم برؤية الملائكة وكتابتهم الأعمال لتقاصر

__________________

(١) هكذا في ص وهي في م (علمت) وهي خطأ في النسخ.

(٢) يقصد القشيري هنا (المؤمن العاصي) .. المنزلة بين المنزلتين (بين المؤمن والكافر).

(٣) ينبغى ملاحظة ذلك إذا أردنا أن ندرس (القشيري الشاعر) : أنظر هذه الدراسة في كتابنا عن (الإمام القشيري).

(٤) هكذا في م وهي في ص (أفسدنى) وكلاهما صحيح.

(٥) هكذا في النسختين ، وقد كنا نريد أن نظن أنها ربما كانت (الحكيمة) ، ولكن ارتباط السياق بالمشيئة (.. ما شاء ركّبك) جعلنا نحجم عن هذا الظن.

(٦) بدليل قوله تعالى فيما بعد (يصلونها يوم الدين).

٦٩٧

حشمتهم من اطّلاع الحق ، ولو علموا ذلك حقّ العلم لكان توقّيهم عن المخالفات لرؤيته ـ سبحانه ، واستحياؤهم من اطّلاعه ـ أتمّ من رؤية الملائكة.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤))

(الْأَبْرارَ) : هم المؤمنون ؛ اليوم في نعمة العصمة ، وغداهم في الكرامة والنعمة (الْفُجَّارَ) : اليوم في جهنم باستحقاق اللعنة والإصرار على الشّرك الموجب للفرقة ، وغدا فى النار على وجه التخليد والتأييد.

ويقال : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ). فى روح الذّكر ، وفي الأنس في أوان خلوتهم.

(وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ). فى ضيق قلوبهم وتسخّطهم على التقدير ، وفي ظلمات تدبيرهم ، وضيق اختيارهم.

(يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ)

(يَصْلَوْنَها) أي النار. (يَوْمَ الدِّينِ). يوم القيامة.

(وَما هُمْ عَنْها) عن النار. (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ؟) قالها على جهة التهويل.

(يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)

الأمر لله يومئذ ، ولله من قبله ومن بعده ، ولكن (يَوْمَئِذٍ) تنقطع الدعاوى ، إذ يتضح الأمر وتصير المعارف ضرورية.

٦٩٨

سورة المطفّفين

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

(بِسْمِ اللهِ) اسم عزيز رداؤه كبرياؤه ، وسناؤه علاؤه ، وعلاؤه بهاؤه ، وجلاله جماله ، وجماله جلاله. الوجود له غير مستفتح ، والموجود منه غير مستقبح. المعهود منه لطفه ، المأمول منه لطفه .. كيفما قسم للعبد فالعبد عبده ؛ إن أقصاه فالحكم حكمه ، وإن أدناه فالأمر أمره (١).

قوله جل ذكره : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣))

(وَيْلٌ) : الويل كلمة تذكر عند وقوع البلاء ، فيقال : ويل لك ، وويل عليك! و «المطفّف». الذي ينقص الكيل والوزن ، وأراد بهذا الذين يعاملون الناس فإذا أخذوا لأنفسهم استوفوا ، وإذا دفعوا إلى من يعاملهم نقصوا ، ويتجلّى ذلك فى : الوزن والكيل ، وفي إظهار العيب ، وفي القضاء والأداء والاقتضاء ؛ فمن لم يرض لأخيه المسلم ما لا يرضاه لنفسه

__________________

(١) هذا هو نصر تفسير البسملة كما جاء في م أمّا في ص فهى على النحو التالي :

ـ [بسم اللّه : اسم جليل جلاله لا بالأشكال ، وجماله لا على احتذاء أمثال ، وأفعاله لا بأغواض وأعلال ، وقدرته لا باجتلاب ولا احتيال ، وعلمه لا بضرورة ولا استدلال ، فهو الذي لم يزل ولا يزال ، ولا يجوز عليه فناء ولا زوال].

وهذا هو تفسير بسملة سورة الانشقاق كما جاء في م وكما سنرى ، ومعنى هذا أن اضطرابا حدث في الأمر. وما دمنا نعرف أن القشيري لا يستوحى إشارته من كل بسملة بطريقة عفوية ، ولكن على أساس المغزى العام للسورة .. فقد اخترنا أن تكون بسملة «المطففين» هي هذه على أساس أن قسمة اللّه للعبد قسمة عادله لبس فيها (تطفيف) ، وأن ما أوجده اللّه من وجود (غير مستقبح).

٦٩٩

فليس بمنصف. وأمّا الصّدّيقون فإنهم كما ينظرون للمسلمين فإنهم ينظرون لكلّ من لهم معهم معاملة ـ والصدق عزيز ، وكذلك أحوالهم في الصّحبة والمعاشرة .. فالذي يرى عيب الناس ولا يرى عيب نفسه فهو من هذه الجملة ـ جملة المطففين ـ كما قيل :

وتبصر في العين منّى القذى

وفي عينك الجذع لا تبصر

ومن اقتضى حقّ نفسه ـ دون أن يقضى حقوق غيره مثلما يقتضيها لنفسه ـ فهو من جملة المطففين.

والفتى من يقضى حقوق الناس ولا يقتضى من أحد لنفسه حقّا.

قوله جل ذكره : (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ)

أي : ألا يستيقن هؤلاء أنهم محاسبون غدا ، وأنهم مطالبون بحقوق الناس؟.

ويقال : من لم يذكر ـ في حال معاملة الناس ـ معاينة القيامة ومحاسبتها فهو في خسران في معاملته.

ويقال : من كان صاحب مراقبة للّه ربّ العالمين استشعر الهيبة في عاجله ، كما يكون حال الناس في المحشر ؛ لأنّ اطلاع الحقّ اليوم كاطلاعه غدا.

قوله جل ذكره : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ؟ كِتابٌ مَرْقُومٌ)

«سِجِّينٍ (١)» قيل : هي الأرض السابعة ، وهي الأرض السفلى ، يوضع كتاب أعمال الكفار هنالك إذلالا لهم وإهانة ، ثم تحمل أرواحهم إلى ما هنالك.

__________________

(١) في رواية عن أنس أنه قال : قال صلى اللّه عليه وسلم : «سجّين أسفل الأرض السابعة».

٧٠٠