لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩))

نزلت هذه الآية في الأنصار. (تَبَوَّؤُا الدَّارَ) أي سكنوا المدينة قبل المهاجرين .. (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) من أهل مكة.

(وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً) مما خصّص به المهاجرون من الفيء ، ولا يحسدونهم على ذلك ، ولا يعترضون بقلوبهم على حكم الله بتخصيص المهاجرين ، حتى لو كانت بهم حاجة أو اختلال أحوال.

(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

قيل نزلت الآية (١) فى رجل منهم أهديت له رأس شاة فطاف على سبعة أبيات حتى انتهى إلى الأول.

وقيل نزلت في رجل منهم نزل به ضيف فقرّب منه الطعام وأطفأ السراج ليوهم ضيفه أنه يأكل ، حتى يؤثر به الضيف على نفسه وعلى عياله ، فأنزل الله الآية في شأنه (٢).

ويقال : الكريم من بنى الدار لضيفانه وإخوانه (واللئيم من بناها لنفسه) (٣).

وقيل : لم يقل الله : ومن يتّق شحّ نفسه بل قال : ومن يوق شحّ نفسه (٤).

ويقال : صاحب الإيثار يؤثر الشبعان على نفسه ـ وهو جائع.

__________________

(١) حديث القشيري عنه وفيما بعد عن الإيثار يصلح أن يكون متمما للفصل الذي عقده في رسالته عن الفتوة ص ١١٣.

(٢) هكذا في رواية أبى هريرة (البخاري ح ٣ ص ١١٣).

(٣) ما بين القوسين موجود في ص وغير موجود في م.

(٤) فتقاه من الله لا من نفسه.

٥٦١

ويقال : من ميّز بين شخص وشخص فليس بصاحب إيثار حتى يؤثر الجميع دون تمييز.

ويقال : الإيثار أن ترى أنّ ما بأيدى الناس لهم ، وأن ما يحصل في يدك ليس إلا كالوديعة والأمانة عندك تنتظر الإذن فيها.

ويقال : من رأى لنفسه ملكا فليس من أهل الإيثار.

ويقال : العابد يؤثر بدنياه غيره ، والعارف يؤثر بالجنة غيره (١).

وعزيز من لا يطلب من الحقّ لنفسه شيئا : لا في الدنيا من جاه أو مال ، ولا في الجنّة من الأفضال ، ولا منه أيضا ذرّة من الإقبال والوصال وغير ذلك من الأحوال (٢).

... وهكذا وصف الفقير ؛ يكون بسقوط كلّ أرب.

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠))

أي والذين هاجروا من بعدهم ، ثم أجيال المؤمنين من بعد هؤلاء إلى يوم القيامة .. كلّهم يترّحمون على السلف من المؤمنين الذين سبقوهم ، ويسلكون طريق الشفقة على جميع المسلمين ، ويستغفرون لهم ، ويستجيرون من الله أن يجعل لأحد من المسلمين في قلوبهم غلّا أي حقدا. ومن (٣) لا شفقة له على جميع المسلمين فليس له نصيب من الدّين.

قوله جل ذكره : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ

__________________

(١) ومن قبيل ذلك ما يقوله له الحسين النوري (ت ٢٩٥ ه‍) :

«اللهم إن يكن قد سبق في مشيئتك التي لا تتخلف أن تملأ النار من الناس أجمعين فإنك قادر على أن تملأها بي وحدي وأن تذهب بهم إلى الجنة».

(٢) لأن الأحوال من الله ، فهى من عين الجود ، كما أن المقامات ببذل المجهود.

(٣) سقطت (ومن) من م وهي موجودة في ص ، وهي ضرورية للسياق.

٥٦٢

لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١))

يريد بهم منافقى المدينة ؛ ظاهروا بنى النضير وقريظة ، وعاهدوهم على الموافقة بكلّ وجه ، فأخبر الله ـ سبحانه ـ أنهم ليسوا كما قالوا وعاهدوا عليه ، وأخبر أنّهم لا يتناصرون ، وأنّهم يتخاذلون ، ولئن ساعدوهم في بعض الحروب فإنهم يتخاذلون إن رأوهم ينهزمون أمام من يجاهدونهم.

قوله جل ذكره : (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣))

أخبر ـ سبحانه ـ أن المسلمين أشدّ رهبة في صدورهم من الله (١) ، وذلك لقلّة يقينهم ، وإعراض قلوبهم عن الله.

قوله جل ذكره : (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ)

أخبر أنهم لا يجسرون على مقاتلة المسلمين إلّا مخاتلة ، أو من وراء جدران. وإنما يشتدّ بأسهم فيما بينهم ، أي إذا حارب بعضهم بعضا ، فأمّا معكم ... فلا.

(تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ).

اجتماع النفوس ـ مع تنافر القلوب واختلافها ـ أصل كلّ فساد ، وموجب كلّ تخاذل ، ومقتضى تجاسر العدوّ.

__________________

(١) والمعنى أنهم بنفاقهم يقولون : نحن نخاف الله ، ولكنهم في الحقيقة يخافون منكم خوفا أشدّ من خوفهم من الله ، وذلك لقلة يقينهم ... إلخ.

٥٦٣

واتفاق القلوب ؛ والاشتراك في الهمّة ؛ والتساوي في القصد يوجب كلّ ظفر وكلّ سعادة .. ولا يكون ذلك للأعداء قطّ ؛ فليس فيهم إلا اختلال كلّ حال ، وانتقاض كلّ شمل.

قوله جل ذكره : (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥))

مثل بنى قريظة كمثل بنى النضير (١) ؛ ذاق النضير وبال أمرهم قبل قريظة بسنة (٢) ؛ وذاق قريظة بعدهم وبال أمرهم.

قوله جل ذكره : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦))

أي مثل هؤلاء المنافقين مع النضير ـ فى وعدهم بعضهم لبعض بالتناصر ـ كمثل الشيطان (إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ ...).

وكذلك أرباب الفترة وأصحاب الزّلّة وأصحاب الدعاوى .. هؤلاء كلّهم في درجة واحدة فى هذا الباب ـ وإن كان بينهم تفاوت ـ لا تنفع صحبتهم في الله ؛ قال تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (٣) وكلّ أحد ـ اليوم ـ يألف شكله ؛ فصاحب الدعوى إلى صاحب الدعوى ، وصاحب المعنى إلى صاحب المعنى.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))

__________________

(١) يرى النسفي أن : «مثلهم كمثل أهل بدر» (النسفي ـ ح ٤ ص ٢٤٣).

(٢) وكان ذلك عقب مرجع النبي (ص) من الأحزاب ؛ ففى رواية عن عائشة رضى الله عنها قالت : لما رجع النبي (ص) من الخندق ، ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل فقال : قد وضعت السلاح والله ما وضعناه فاخرج إليهم قال : فإلى أين؟ قال : هاهنا ـ وأشار إلى بنى قريظة (البخاري ح ٣ ص ٢٣).

(٣) آية ٦٧ سورة الزخرف.

٥٦٤

التقوى الأولى على ذكر العقوبة في الحال والفكر في العمل خيره وشرّه (١).

والتقوى الثانية تقوى المراقبة والمحاسبة ، ومن لا محاسبة له في أعماله ولا مراقبة له في أحواله .. فعن قريب سيفتضح (٢).

وعلامة من نظر لغده أن يحسن مراعاة يومه ؛ ولا يكون كذلك إلّا إذا فكّر فيما عمله فى أمسه والناس في هذا على أقسام : مفكّر في أمسه : ما الذي قسم له في الأزل؟ وآخر مفكّر فى غده : ما الذي يلقاه؟؟ وثالث مستقل بوقته فيما يلزمه في هذا الوقت فهو مصطلم عن شاهده موصول بربّه ، مندرج في مذكوره (٣) ؛ لا يتطلّع لماضيه ولا لمستقبله ، فتوقيت الوقت يشغله عن وقته (٤).

قوله جل ذكره : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩))

تركوا طاعته فتركهم في العذاب ؛ وهو الخذلال حتى لم يتوبوا .. أولئك هم الفاسقون (٥).

قوله جل ذكره : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠))

لا يستوى أهل الغفلة مع أهل الوصلة.

وأصل كلّ آفة نسيان الربّ ، ولو لا النسيان لما حصل العصيان ، والذي نسى أمر نفسه فهو الذي لا يجتهد في تحصيل توبته ، ويسوّف فيما يلزمه به الوقت من طاعته.

__________________

(١) ويكون العبد فيها في مرحلة الغيبة (أي قبل السّكر) : فيما دام هناك وارد لثواب أو عقاب أو فكر فى حال أو مآل ـ فهذه في منازل السالكين دون المرحلة التالية.

(٢) تفيد هذه الإشارة في توضيح الفرق في الاصطلاح بين : المراقبة والمحاسبة.

(٣) لأن أقصى درجات الذكر أن يفنى الذاكر في المذكور ، وقد اعتبرنا الأوصاف أسماء مفعول تعبيرا عن فناء الإرادة الإنسانية ، وتجرد العبد من كل فعل في نفسه ولنفسه.

(٤) ولهذا يقولون : الصوفىّ ابن وقته ؛ ومعناه أنه مشتغل بما هو أولى به في الحال ، قائم بما هو مطالب به فى الحين ، مستسلم لما يبدوله من الغيب من غير اختيار له. ومن ساعده الوقت فالوقت له وقت ، ومن ناكده الوقت فالوقت عليه مقت. (الرسالة ص ٣٤).

(٥) سيعود القشيري لاتمام إشارة هذه الآية بعد الآية التالية.

٥٦٥

قوله جل ذكره : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١))

أي لو كان للجبل عقل وصلاح فكر وسرّ ، وأنزلنا عليه هذا القرآن لخضع وخشع. ويجوز أن يكون على جهة ضرب المثل كما قال : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) (١) ويدل عليه أيضا قوله :

(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) : ليعقلوا ويهتدوا ، أي بذلك أمرناهم ، والمقصود بيان قسوة قلوبهم عند سماع القرآن.

ويقال : ليس هذا الخطاب على وجه العتاب معهم ، بل هو على سبيل المدح وبيان تخصيصه إيّاهم بالقوة ؛ فقال : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) لم يطق ولخشع ـ وهؤلاء خصصتهم بهذه القوة حتى أطاقوا سماع خطابى (٢).

قوله جل ذكره : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢))

(الْغَيْبِ) : ما لا يعرف بالضرورة ، ولا يعرف بالقياس من المعلومات (٣). ويقال : هو ما استأثر الحقّ بعلمه ، ولم يجعل لأحد سبيلا إليه.

(وَالشَّهادَةِ) : ما يعرفه الخلق.

وفي الجملة : لا يعزب عن علمه معلوم.

__________________

(١) آية ٩٠ سورة مريم.

(٢) يتصل هذا بموضوع السماع عند الصوفية ، وقد عقد السراج له فصلا ممتعا فى «اللمع» ، ومن أقواله المتصلة بهذه النقطة الى أثارها القشيري يقول السراج : ألا ترى أحدهم يكون ساكنا فيتحرك ويظهر منه الزفير والشهيق ، وقد يكون من هو أقوى منه ساكنا في وجده لا يظهر منه شىء من ذلك (اللمع ص ٣٧٥) ويجيب الجنيد حين سئل عن سكونه وقلة اضطرابه عند السماع : وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب).

(٣) أي لا يعرف بالضرورة العقلية ولا بالقياس العقلي لأن العقل يستمد أحكامه من المحسات ، والغيب بعيد عن المحسات ، فلا سبيل للخلق إليه بوسائلهم المحدودة وحدها.

٥٦٦

قوله جل ذكره : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣))

الملك : ذو القدرة على الإيجاد.

القدوس : المنزّه عن الآفة والنقص.

السلام : ذو السلامة من النقائص ، الذي يسلّم على أوليائه ، والذي سلم المؤمنون من عذابه.

المؤمن : الذي يصدق عبده في توحيده فيقول له : صدقت يا عبدى.

والذي يصدّق نفسه في إخباره أي يعلم أنه صادق.

ويكون بمعنى المصدق لوعده. ويكون بمعنى المخبر لعباده بأنه يؤمّنهم من عقوبته.

المهيمن : الشاهد ، وبمعنى الأمين ، ويقال مؤيمن (مفيعل) من الأمن قلبت همزته هاء وهو من الأمان ، ويقال بمعنى المؤمن.

العزيز : الغالب الذي لا يغلب ، والذي لا مثيل له ، والمستحق لأوصاف الجلال ، وبمعنى : المعزّ لعباده. والمنيع الذي لا يقدر عليه أحد.

الجبّار : الذي لا تصل إليه الأيدى. أو بمعنى المصلح لأمورهم من : جبر الكسر. أو بمعنى القادر على تحصيل مراده (١) من خلقه على الوجه الذي يريده من : جبرته على الأمر وأجبرته.

المتكبر : المتقدّس عن الآفات.

قوله جل ذكره : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤))

__________________

(١) هكذا في م وهي في ص (مرات).

٥٦٧

هو المنشئ للأعيان والآثار.

(لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) : المسمّيات الحسان.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : مضى معناهما ، وقد استقصينا الكلام في معانى هذه الأسماء (فى كتابنا المسمّى : «البيان والأدلة في معانى أسماء الله تعالى») (١).

__________________

(١) ما بين القوسين غير موجود في م وهو موجود في ص. وهذه أول مرة نعرف للقشيرى كتابا بهذا الاسم فلم يرد ذكره في كتب الفهارس والتراجم. وكنا نعلم حتى هذه اللحظة أن القشيري قد عالج دراسة الأسماء والصفات في كتابين فقط أولهما : التحبير في التذكير تحقيق بسيونى. والثاني : شرح أسماء الله الحسنى تحقيق الحلواني.

٥٦٨

سورة الممتحنة

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(بِسْمِ اللهِ) اسم ملك لا أصل لملكه عند حدث ولا نسل له ، فعنه يرث. ملك لا يستظهر بجيش وعدد ، ولا يتعزّز بقوم وعدد. ملك للخلق (١) بأجمعهم ـ لكنه اختار قوما ـ لا لينتفع بهم ـ بل لنفعهم ، وردّ آخرين وأذلّهم بمنعهم ووضعهم :

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي)

(٢) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك (٣) وأوحى الله سبحانه إلى داود عليه‌السلام : «عاد نفسك فليس لى في المملكة منازع غيرها». فمن عادى نفسه فقد قام بحقّ الله ، ومن لم يعاد نفسه لحقته هذه الوصمة. وأصل الإيمان الموالاة والمعاداة في الله ومن جنح إلى الكفار أو إلى الخارجين عن دائرة الإسلام انحاز إلى جانبهم.

__________________

(١) هكذا في م وهي الصواب أما في ص فهى (الحق) وهي خطأ من الناسخ.

(٢) نزلت الآية في حاطب بن أبى بلتعة الذي بعث في السّرّ بكتاب مع امرأة يقال لها سارة إلى أهل مكة يحذّرهم فيه من استعداد النبي لهم والتهيؤ لقتالهم ، فوضعت الكتاب في عقاص شعرها. ونزل جبريل على الرسول ليخبره بالأمر ، فأرسل في إثرها فرسانه ، فانتزعوا الكتاب منها.

وحينما همّ عمر رضى الله عنه بضرب عنق حاطب قال الرسول : وما يدريك يا عمر لعلّ الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟ ففاضت عينا عمر ، ونزلت الآية.

(٣) ينظر الصوفية إلى النفس على أنها محلّ المعلولات (الرسالة ص ٤٨).

٥٦٩

قوله جل ذكره : (وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ).

أنا أعلم (بِما أَخْفَيْتُمْ) من دقائق التصنّع وخفيّات الرياء.

(وَما أَعْلَنْتُمْ) من التزيّن للناس.

(بِما أَخْفَيْتُمْ) من الاستسرار بالزّلة ، (وَما أَعْلَنْتُمْ) ، من الطاعة والبرّ.

(بِما أَخْفَيْتُمْ) من الخيانة (وَما أَعْلَنْتُمْ) من الأمانة.

(بِما أَخْفَيْتُمْ) من الغلّ والغشّ للناس ، (وَما أَعْلَنْتُمْ) من الفضيحة للناس.

(بِما أَخْفَيْتُمْ) من ارتكاب المحظورات ، (وَما أَعْلَنْتُمْ) من الأمر بالمعروف.

(بِما أَخْفَيْتُمْ) من ترك الحشمة منى وقلة المبالاة باطّلاعى ، وما أعلنتم من تعليم الناس ووعظهم.

(وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) فقد حاد عن طريق الدين ، ووقع فى الكفر.

قوله جل ذكره : (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ)

إن يظفروا بكم وصادفوكم يكونوا لكم أعداء ، ولن تسلموا من أيديهم بالسوء ولا من ألسنتهم بالذمّ وذكر القبيح.

(وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) : ولن ينفعكم تودّدكم وتقرّبكم إليهم ، ولا ما بينكم وبينهم من الأرحام. ثم عقوبة الآخرة تدرككم (١).

__________________

(١) لأنكم حينئذ تكونون قد آثرتم قرابتكم بأعدائكم على حقوق الله.

٥٧٠

وكذلك صفة المخالف ، ولا ينبغى للمرء أن يتعطّش إلى عشيرته ـ وإن داهنته في قالة ، ولا أن ينخدع بتغريرها ـ وإن لا ينته في حالة

قوله جل ذكره : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ)

أي لكم قدوة حسنة بإبراهيم ومن قبله من الأنبياء حيث تبرّءوا من الكفار من أقوامهم ؛

فاقتدوا بهم .. إلّا استغفار إبراهيم لأبيه ـ وهو كافر ـ فلا تقتدوا به.

ولا تستغفروا للكفار. وكان إبراهيم قد وعده أبوه أنه يؤمن فلذلك كان يستغفر له ، فلمّا تبيّن له أنه لن يؤمن تبّرأ منه

ويقال : كان منافقا .. ولم يعلم إبراهيم ذلك وقت استغفاره له.

ويقال : يجوز أنه لم يعلم في ذلك الوقت أنّ الله لا يغفر للكفار.

والفائدة في هذه الآية تخفيف الأمر على قلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بتعريفهم أنّ من كانوا قبلهم حين كذّبوا بأنبيائهم أهلكهم الله ، وأنهم صبروا ، وأنه ينبغى لذلك أن يكون بالصبر أمرهم.

قوله جل ذكره : (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).

أخبر أنهم قالوا ذلك.

ويصحّ أن يكون معناه : قولوا : (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا).

وقد مضى القول في معنى التوكل والإنابة.

٥٧١

قوله جل ذكره : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥))

ربّنا لا تظفرهم بنا ، ولا تقوّهم علينا.

والإشارة في الآية : إلى الأمر بسنّة إبراهيم في السخاء وحسن الخلق والإخلاص والصدق والصبر وكلّ خصلة له ذكرها لنا.

قوله جل ذكره : (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧))

وقفهم في مقتضى قوله تعالى : (عَسَى اللهُ) عند حدّ التجويز ... لا حكما بالقطع ، ولا دفع قلب باليأس .. ثم أمرهم بالاقتصاد في العداوة والولاية معهم بقلوبهم ، وعرّفهم بوقوع الأمر حسب تقديره وقدرته ، وجريان كلّ شىء على ما يريد لهم ، وصدّق هذه الترجية بإيمان من آمن منهم عند فتح مكة ، وكيف أسلم كثيرون ، وحصل بينهم وبين المسلمين مودة أكيدة.

قوله جل ذكره : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩))

أمرهم بشدة العداوة مع أعدائهم على الوجه الذي يفعلونه ، وأمّا من كان فيهم ذا خلق حسن ،

٥٧٢

أو كان منه للمسلمين وجه نفع أو رفق ـ فقد أمرهم بالملاينة معه. والمؤلفة قلوبهم شاهد لهذه الجملة ، فإنّ الله يحب الرّفق في جميع الأمور (١).

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ)

كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمتحنهن باليمين ، فيحلفن إنّهن لم يخرجن إلّا لله ، ولم يخرجن مغايظة لأزواجهن ، ولم يخرجن طمعا في مال.

وفي الجملة : الامتحان طريق إلى المعرفة ، وجواهر (٢) الناس تتبيّن بالتجربة (٣). ومن أقدم على شىء من غير تجربة تحسّى كأس الندم.

(وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) (٤).

لا توافقوا من خالف الحقّ في قليل أو كثير.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢))

__________________

(١) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله رفيق يحب الرفق ، ويعطى على الرفق ما لا يعطى على العنف».

(٢) هكذا في ص وهي في م (وجوابه) وهي خطأ في النسخ.

(٣) هكذا في ص وهي في م (المعرفة).

(٤) العصمة : ما يعتصم به من عقد وسبب ، والكوافر : جمع كافرة وهي التي بقيت في دار الحرب أو لحقت بدار الحرب مرتدة ، أي لا يكن بينكم وبينهن عصمة ولا علقة زوجية.

٥٧٣

إذا جاءك النساء يبايعنك على الإسلام فطالبهنّ وشارطهنّ بهذه الأشياء.

ترك الشّرك ، وترك السرقة والزنا وقتل الأولاد والافتراء في إلحاق النّسب ، وألا يعصينك في معروف ؛ فلا يخالفنك فيما تأمرهن به ، ويدخل في ذلك ترك النياحة وشقّ الجيوب ونتف الشّعر عند المصيبة وتخميش (١) الوجوه والتبرّج وإظهار الزينة ... وغير ذلك مما هو من شعائر الدّين في الجملة.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣))

الذين غضب الله عليهم هم الكفار. يئسوا من الآخرة كما يئس أصحاب القبور أن يعودوا إلى الدنيا ويبعثوا (بعد ما تبينوا سوء منقلبهم).

ويقال : كما يئس الكفار حين اعتقدوا أن الخلق لا يبعثون في القيامة (٢).

__________________

(١) خمش. أي جرح بشرته.

(٢) هكذا في م وهي في ص (الآخرة) وكلاهما صحيح في السياق.

٥٧٤

سورة الصّف

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(بِسْمِ اللهِ) كلمة من وقفه الله لعرفانها لم يصبر عن ذكرها بلسانه ثم لا يفتر حتى يصل إلى المسمّى بها بجنانه : فى البداية بتأمّل برهانه لمعرفة سلطانه ، ثم لا يزال يزيده في إحسانه حتى ينتهى في شأنه بالتحقق مما هو كعيانه.

قوله جل ذكره : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١))

من أراد أن يصفو له تسبيحه فليصفّ قلبه من آثار نفسه ، ومن أراد أن يصفو له في الجنّة عيشه فليصفّ من أوضار ذنبه نفسه.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣))

جاء في التفاسير أنهم قالوا : لو علمنا ما فيه رضا الله لفعلنا ولو فيه كل جهد ... ثم لمّا كان يوم أحد لم يثبتوا ، فنزلت هذه الآية في العتاب (١).

وفي الجملة : خلف الوعد مع كلّ أحد قبيح ، ومع الله أقبح.

ويقال إظهار التجلّد من غير شهود مواضع الفقر إلى الحقّ في كلّ نفس يؤذن بالبقاء عمّا حصل بالدعوى (٢) ... والله يحب التبرّى من الحول والقوة.

__________________

(١) قال محمد بن كعب : لما أخبر الله تعالى نبيّه (ص) بثواب شهداء بدر قال بعض الصحابة : اللهم اشهد لئن لقينا قتالا لنفرغنّ فيه وسعنا ... ففروا يوم أحد ، فعيرهم الله بذلك.

(٢) أي بدعوى النّفس ؛ تسوّل له نفسه أن له في الأمر شيئا ، وأن تدبيره هو الذي مكّن له.

٥٧٥

ويقال : لم يتوعّد ـ سبحانه ـ زلّة بمثل ما على هذا حين قال : (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) (١).

قوله جل ذكره : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤))

المحبة توجب الإثار ، وتقديم مراد حبيبك على مراد نفسك ، وتقديم محبوب حبيبك على محبوب نفسك. فإذا كان الحقّ تعالى يحبّ من العبد أن يقاتل على الوجه الذي ذكره فمن لم يؤثر محبوب الله على محبوب نفسه ـ أي على سلامته ـ انسلخ من محبته لربّه ، ومن خلا من محبة الله وقع في الشقّ الآخر ، فى خسرانه.

قوله جل ذكره : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥))

لمّا زاغوا بترك الحدّ أزاغ الله قلوبهم بنقض العهد.

ويقال : لمّا زاغوا عن طريق الرّشد أزاغ الله قلوبهم بالصدّ والردّ والبعد عن الودّ.

ويقال : لمّا زاغوا بظواهرهم أزاغ الله سرائرهم.

ويقال : لمّا زاغوا عن خدمة الباب أزاغ الله قلوبهم عن التشوّق إلى البساط.

ويقال : لمّا زاغوا عن العبادة أزاغ الله قلوبهم عن الإرادة.

قوله جل ذكره : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي

__________________

(١) عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله (ص) : «أتيت ليلة أسرى بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت وقت (تمت وطالت)» قلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : «هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ولا يفعلون ، ويقرمون كتاب الله ولا يعلمون». (ابو نعيم من حديث مالك بن دنيار عن ثمامة).

٥٧٦

اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦))

بشّر كلّ نبيّ قومه بنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأفرد الله ـ سبحانه ـ عيسى بالذّكر فى هذا الموضع لأنه آخر نبيّ قبل نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فبيّن بذلك أن البشارة به عمّت جميع الأنبياء واحدا بعد واحد حتى انتهت بعيسى عليه‌السلام.

قوله جل ذكره : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨))

(١) فمن احتال لوهنه ، أو رام وهيه انعكس عليه كيده ، وانتقض عليه تدبيره.

(وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) : كما قالوا :

ولله سرّ في علاه وإنما

كلام العدى ضرب من الهذيان

كأنه قال : من تمنّى أن يطفئ نور الإسلام بكيده كمن يحتال ويزاول إطفاء شعاع الشمس بنفثه ونفخه فيه ـ وذلك من المحال.

قوله جل ذكره : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩))

لمّا تقاعد قومه عن نصرته ، وانبرى أعداؤه لتكذيبه ، وجحدوا ما شاهدوه من صدقه قيّض الله له أنصارا من أمته هم : نزّاع القبائل ، والآحاد الأفاضل ، والسادات الأماثل ، وأفراد المناقب ـ فبذلوا في إعانته ونصرة دينه مهجهم ، ولم يؤثروا عليه شيئا من كرائمهم ، ووقوه

__________________

(١) حكى عطاء عن ابن عباس : أن الوحى حين أبطا على رسول الله (ص) أربعين يوما قال كعب بن الأشرف : يا معشر اليهود : أبشروا! فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه ، وما كان ليتم أمره ؛ فحزن النبي (ص) فأنزل الله تعالى هذه الآية واتصل الوحى بعدها.

٥٧٧

بأرواحهم ، (وأمدّهم الله سبحانه بتوفيقه كى ينصروا دينه ، أولئك أقوام عجن الله بماء السعادة طينتهم ، وخلق من نور التوحيد أرواحهم) (١) وأهلّهم يوم القيامة للسيادة على أضرابهم.

ولقد أرسل الله نبيّه لدينه موضّحا ، وبالحقّ مفصحا ، ولتوحيده معلنا ، ولجهده فى الدعاء إليه مستفرغا .. فأقرع بنصحه قلوبا نكرا ، وبصّر بنور تبليغه عيونا عميا.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١))

سمّى الإيمان والجهاد تجارة لما في التجارة من الرّبح والخسران ونوع تكسّب من التاجر ـ وكذلك : فى الإيمان والجهاد ربح الجنّة وفي ذلك يجتهد العبد ، وخسرانها إذا كان الأمر بالضّدّ.

وقوله : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ ...) أي في ذلك جهادكم وإيمانكم واجتهادكم ، وهو خير لكم.

ثم بيّن الربح على تلك التجارة ما هو فقال :

(يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ

__________________

(١) حا بين القوسين ورد في م وسقط في ص.

٥٧٨

وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢))

قدّم ذكر أهمّ الأشياء ـ وهو المغفرة. ثم إذا فرغت القلوب عن العقوبة قال :

(وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ ...) فبعد ما ذكر الجنّة ونعيمها قال : (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) ، وبماذا تطيب تلك المساكن؟ لا تطيب إلّا برؤية الحقّ سبحانه ، ولذلك قالوا :

أجيراننا ما أوحش الدار بعدكم

إذا غبتمو عنها ونحن حضور!

نحن في أكمل السرور ولكن

ليس إلا بكم يتمّ السرور

عيب ما نحن فيه يا أهل ودّى

أنكم غيّب ونحن حضور

قوله جل ذكره : (وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣))

أي ولكم نعمة أخرى تحبونها : نصر من الله ؛ اليوم حفظ الإيمان وتثبيت الأقدام على صراط الاستقامة ، وغدا على صراط القيامة.

(وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) : الرؤية والزلفة. ويقال الشهود. ويقال : الوجود (١) أبد الأبد.

(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) : بأنهم لا يبقون عنك في هذا التواصل.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ

__________________

(١) لفظة (الوجود) بالمعنى الصوفي مقبولة هنا ، ولكننا في ذات الوقت لا نستبعد أن تكون (الخلود) إشارة إلى قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً).

٥٧٩

طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤))

أي كونوا أنصارا لدينه ورسوله كما أنّ عيسى لمّا استعان واستنصر الحواريين نصروه ... فانصروا محمدا إذا استنصركم.

ثم أخبر أنّ طائفة من بنى إسرائيل آمنوا بعيسى فأكرموا ، وطائفة كفروا فأذلّوا ، وأظفر أولياء على أعدائه ... لكى يعرف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ الله سبحانه يظفر أولياءه على أعدائه.

٥٨٠