لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

(وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) ، وهو الدّخان الأسود.

(لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) : لا بارد : أي لا راحة فيه. ولا كريم : ولا حسن لهم ؛ (حيث لا نفع فيه).

(إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ) : أي : كانوا في الدنيا ممتّعين.

(وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) أي الذّنب العظيم.

(وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟) أي : أنهم يكذّبون بالبعث.

ثم يقال لهم : (إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ) اليوم (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) وجاء في التفسير : أن الزقوم شجرة في أسفل جهنم إذا طرح الكافر في جهنم لا يصل إليها إلا بعد أربعين خريفا.

(فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ)» شراب لا تهنأون به (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) : وهي الإبل العطاش. ويقال : الهيم أي الرّمل ينضب فيه كلّ ما يصبّ عليه.

(هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) : يوم القيامة.

قوله جل ذكره : (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ)

نحن خلقناكم : يا أهل مكة ـ فهلّا آمنتم لتتخلصوا؟ توبّخون وتعاتبون ... واليوم تعتذرون! ولكن لا ينفعكم ذلك ولا يسمع منكم شىء.

وإن أشدّ العقوبات عليهم يومئذ أنهم لا يتفرّغون من آلام نفوسهم وأوجاع أعضائهم إلى التحسّر على مافاتهم في حقّ الله.

ويقال : أشدّ البلاء ـ اليوم ـ على قلوب هذه الطائفة (١) خوفهم من أن يشغلهم ـ غدا ـ بمقاساة آلامهم عن التحسّر على ما تكدّر عليهم من المشارب في هذا الطريق. وهذه محنة لا شىء أعظم على الأصحاب منها. وإنّ أصحاب القلوب ـ اليوم ـ يبتهلون إليه ويقولون : إن

__________________

(١) يقصد الصوفية.

٥٢١

حرمتنا مشاهد الأنس فلا تشغلنا بلذّات تشغلنا عن التحسّر على ما فاتنا ، ولا بآلام تشغلنا عن التأسّف على ما عدمنا منك.

قوله جل ذكره : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩))

يقال : منى الرجل وأمنى. والمعنى : هل إذا باشرتم وأنزلتم وانعقد الولد ... أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون؟ والخلق هاهنا : التصوير ؛ أي : أأنتم تجمعون صور المولود وتركّبون أعضاءه .. أم نحن؟

وهم كانوا يقرّون بالنشأة الأولى فاحتجّ بهذا (على جواز النشأة الأخرى عند البعث الذي كانوا ينكرونه. وهذه الآية أصل فى) (١) إثبات الصانع ؛ فإن أصل خلقة الإنسان من قطرتين : قطرة من صلب الأب وهو المنى وقطرة من تريبة الأم (٢) ، وتجتمع القطرتان في الرّحم فيصير الولد. وينقسم الماء ان المختلطان إلى هذه الأجزاء التي هي أجزاء الإنسان من العظم والعصب والعرق والجلد والشّعر .. ثم يركبها على هذه الصور في الأعضاء الظاهرة وفي الأجزاء الباطنة حيث يشكّل كل عضو بشكل خاص ، والعظام بكيفية خاصة .. إلى غير ذلك.

وليس يخلو : إمّا أن يكون الأبوان يصنعانه ـ وذلك التقدير محال لتقاصر علمهما وقدرتهما عن ذلك وتمنّيهما الولد ثم لا يكون ، وكراهتهما الولد ثم يكون!

والنّطفة أو القطرة محال تقدير فعلها في نفسها على هذه الصورة لكونها من الأموات بعد ، ولا علم لها ولا قدرة.

أو من غير صانع .. وبالضرورة يعلم أنه لا يجوز.

فلم يبق إلّا أن الصانع القديم الملك العليم هو الخالق (٣).

قوله جل ذكره : (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١))

__________________

(١) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص.

(٢) تريبة الأم عظمة الصدر والجمع ترائب.

(٣) هذا نموذج طيب يصوّر طريقة القشيري متكلما.

٥٢٢

يكون الموت في الوقت الذي يريده ؛ منكم من يموت طفلا ومنكم من يموت شابّا ، ومنكم من يموت كهلا ، وبعلل مختلفه وبأسباب متفاوتة وفي أوقات مختلفة.

(وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) فى تقديرنا فيقوتنا شىء ولسنا بعاجزين عن أن نخلق أمثالكم ، ولا بعاجزين عن تبديل صوركم التي تعلمون ؛ إن أردنا مسخكم وتبديل صوركم فلا يمنعنا عن ذلك أحد.

ويقال : وننشئكم فيما لا تعلمون من حكم السعادة والشقاوة (١).

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢))

أي : أنتم أقررتم بالنشأة الأولى .. فهلّا تذكّرون لتعلموا جواز الإعادة ؛ إذ هي في معناها (٢).

قوله جل ذكره : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤))

أي : إذا ألقيتم الحبّ في الأرض .. أأنتم تنبتونه أم نحن المنبتون؟ وكذلك وجوه الحكمة في إنبات الزّرع ، وانقسام الحبّة الواحدة على الشجرة النابتة منها (فى قشرها ولحائها وجذعها وأغصانها وأوراقها وثمارها) (٣) ـ كل هذا :

(لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥))

لو نشاء لجعلناه حطاما يابسا بعد خضرته ، فصرتم تتعجبون وتندمون على تعبكم فيه ، وإنفاقكم عليه ، ثم تقولون :

(إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧))

أي : لملزمون غرامة ما أنفقنا في الزّرع ، وقد صار ذلك غرما علينا ـ فالمغرم من ذهب إنفاقه بغير عوض.

__________________

(١) وضع هذا السطر في مكان تال بعد (فى معناها) فنقلناه إلى موصعه الصحيح.

(٢) أي أن الإعادة لا تفترق في شىء عن الخلق الأول.

(٣) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص.

٥٢٣

(بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) بل نحن محرومون بعد أن ضاع منّا الرزق.

قوله جل ذكره : (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠))

أأنتم أنزلتموه من السحاب .. أم نحن ننزله متى نشاء أنّى نشاء كما نشاء على من نشاء وعلى ما نشاء؟ ونحن الذين نجعله مختلفا في الوقت وفي المقدار وفي الكيفية ، فى القلّة وفي الكثرة.

ولو نشاء لجعلناه ملحا .. أفلا تشكرون عظيم نعمة الله ـ سبحانه ـ عليكم في تمكينكم من الانتفاع بهذه الأشياء التي خلقها لكم.

قوله جل ذكره : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣))

ورى الزّند يرى فهو وار ... وأوراه يوريه أي يقدحه.

يعنى : إذا قدحتم الزند .. أرأيتم كيف تظهر النار ـ فهل أنتم تخلقون ذلك؟

أأنتم أنشأتم شجرتها ـ يعنى المرخ والعفار (١) ـ أم نحن المنشئون؟

(نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) : أي يمكن الاستدلال بها.

(وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) : يقال : أقوى الرجل إذا نزل بالقواء أي : الأرض الخالية.

فالمعنى : أن هذه النار (تَذْكِرَةً) يتذكّر بها الإنسان ما توعده به في الآخرة من نار جهنم ، و (مَتاعاً) : يستمتع بها المسافر في سفره في وجوه الانتفاع المختلفة.

__________________

(١) المرخ : شجر ينفرش ويطول في السماء ليس له ورق ولا شوك ، سريع الورى يتقدح به.

والعفار : شجيرة من الفصيلة الأريكية لها ثمر لبّى أحمر ، ويتخذ منها الزناد فيسرع الورى. وفي أمثال العرب : «فى كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار».

٥٢٤

قوله جل ذكره : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤))

أي : اسبح بفكرك في بحار عقلك ، وغص بقوة التوحيد فيها تظفر بجواهر العلم ، وإيّاك أن تقصّر في الغوص لسبب أو لآخر ، وإياك أن تتداخلك الشّبه فيتلف رأس مالك ويخرج من يدك وهو دينك واعتقادك ... وإلّا غرقت في بحار الشّبه ، وضللت.

وهذه الآيات (١) التي عدّها الله ـ سبحانه ـ تمهّد لسلوك طريق الاستدلال ، فكما فى الخبر «فكر ساعة خير من عبادة سنة» ـ وقد نبّه الله سبحانه بهذا إلى ضرورة التفكير.

قوله جل ذكره : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠))

قيل : هى مواقع نجوم السماء. ويقال : مواقع نجوم القرآن على قلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) : والكرم نفى الدناءة ـ أي : أنه غير مخلوق (٢) ويقال : هو «قرآن كريم» : لأنه يدل على مكارم الأخلاق.

ويقال هو قرآن كريم لأنه من عند ربّ كريم على رسول كريم ، على لسان ملك كريم. (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) : يقال : فى اللوح المحفوظ. ويقال : فى المصاحف. وهو محفوظ عن التبديل. (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) عن الأدناس والعيوب والمعاصي.

__________________

(١) إذا تدبرنا هذه الآيات ألفينا القرآن يخاطب العقل الإنسانى بالتدبر في ثلاثة أشياء : الغذاء والماء والنار ، وبدون الثلاثة لا تقوم الحياة ولا تنتظم.

(٢) هذه إحدى الأفكار الخطيرة التي اشتجر حولها الخلاف بين الأشاعرة الذين يقولون : (القرآن غير مخلوق) وبين المعتزلة الذي يقولون : إنه مخلوق.

٥٢٥

ويقال : هو خبر فيه معنى الأمر : أي لا ينبغى أن يمسّ المصحف إلا من كان متطهرا من الشّرك ومن الأحداث (١).

ويقال : لا يجد طعمه وبركته إلّا من آمن به.

ويقال : لا يقربه إلّا الموحّدون ، فأمّا الكفّار فيكرهون سماعه فلا يقربونه.

وقرئ المطهّرون : أي الذين يطهّرون نفوسهم عن الذنوب والخلق الدّنيّ.

ويقال : لا يمس خيره إلّا من طهّر يوم القسمة عن الشقاوة.

ويقال : لا يفهم لطائفة إلّا من طهّر سرّه عن الكون (٢).

ويقال : المطهّرون سرائرهم عن غيره.

ويقال : إلا المحترمون له القائمون بحقّه.

ويقال : إلا من طهّر بماء السعادة ثم بماء الرحمة (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) : أي منزّل من قبله ـ سبحانه.

قوله جل ذكره : (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢))

أبهذا القرآن أنتم تنافقون ، وبه تكذّبون.

(وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ ...) : كانوا إذ أمطروا يقولون : أمطرنا بنوء كذا.

يقول : أتجعلون بدل إنعام الله عليكم بالمطر الكفران به ، وتتوهمون أن المطر ـ الذي هو نعمة من الله ـ من الأنواء والكواكب؟!.

ويقال : أتجعلون حظّكم ونصيبكم من القرآن التكذيب؟.

قوله جل ذكره : (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥))

__________________

(١) هى هنا جمع حدث أي النجاسة التي ترتفع بالوضوء أو الغسل أو التيمم.

(٢) لنتذكر أن هذا الكتاب الذي وضعه القشيري هو لفهم (لطائف الإشارات) القرآنية ، ولندرك رأيه فى سمات هذا اللون من التفسير وأهله.

٥٢٦

يخاطب أولياء الميت (١) فيقول : هلّا إذا بلغت روحه الحلقوم ، وأنتم تنظرون إلى هذا المريض ، رجعتم إلى الله تعالى ، وتحققتم به؟ فنحن أقرب إليه منكم بالعلم والرؤية والقدرة ... ولكن لا تبصرون!

ويقال : أقرب ما يكون العبد من الحقّ عند ما يتم استيلاء ذكره وشهوده عليه ، فينتفى إحساس العبد بغيره ، وعلى حسب انتفاء العلم والإحساس بالأغيار ـ حتى عن نفسه ـ يكون تحقّق العبد في سرّه حتى لا يرى غير الحقّ.

فالقرب والبعد معناهما : أنّ العبد في أوان صحوه وأنه لم يؤخذ ـ بعد ـ عن نفسه ؛ فإذا أخذ عنه فلا يكون إلا الحق ... لأنه حينئذ لا قرب ولا بعد.

قوله جل ذكره : (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧))

ليس لكم من أمر الموت شىء.

(تَرْجِعُونَها) أي : تردّون الروح إلى الجسد.

(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) : فى أنه لا بعث (٢).

قوله جل ذكره : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩))

المقرّبون هم الذين قرّبهم الله بفضله ، فلهم (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ).

ويقال : الرّوح الاستراحة ، والريحان الرزق.

وقيل : الرّوح في القبر ، والريحان : فى الجنة.

__________________

(١) فى م (البيت) وفي ص (الميت) وهذه هي الصواب.

(٢) نشعر أن تفسير القشيري هنا مقتضب ، ويلزم التوضيح : ترتيب الآية هو : فلو لا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين .. أمّا نحن فنحن أقرب إليه منكم يا أهل الميت بقدرتنا وعلمنا أو بملائكة الموت. أمّا أنتم .. فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغه الحلقوم إن لم يكن ثمة قابض وكنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت والمبدئ المعيد؟!

٥٢٧

ويقال : لا يخرج مؤمن من الدنيا حتى يؤتى بريحان من رياحين الجنة فيشمه قبل خروج روحه ، فالرّوح راحة عند الموت ، والريحان في الآخرة.

وقيل : كانت قراءة النبي (ص) «الروح» بضم الراء أي لهم فيها حياة دائمة.

ويقال : الرّوح لقلوبهم ، والريحان لنفوسهم ، والجنّة لأبدانهم.

ويقال : روح في الدنيا ، وريحان في الجنة ، وجنّة نعيم في الآخرة.

ويقال : روح وريحان معجّلان ، وجنة نعيم مؤجلة.

ويقال : روح للعابدين ، وريحان للعارفين ، وجنّة نعيم لعوام المؤمنين.

ويقال : روح نسيم القرب ، وريحان كمال البسط ، وجنة نعيم في محل المناحاة.

ويقال : روح رؤية الله ، وريحان سماع كلامه بلا واسطة ، وجنة نعيم أن يدوم هذا ولا ينقطع.

قوله جل ذكره : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١))

أن نخبرك بسلامة أحوالهم.

ويقال : سترى فيهم ما تحب من السلامة.

ويقال : أمان لك في بابهم ؛ فلهم السلامة. ولا تشغل قلبك بهم ويقال : فسلام لك ـ أيها الإنسان ـ إنك من أصحاب اليمين ، أو أيها الإنسان الذي من أصحاب اليمين.

قوله جل ذكره : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤))

إن كان من المكذبين لله ، الضالّين عن دين الله فله إقامة في الجحيم.

٥٢٨

قوله جل ذكره : (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦))

هذا هو الحق اليقين الذي لا محالة حاصل.

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي قدّس الله عمّا لا يجوز في وصفه.

ويقال : صلّ لله. ويقال : اشكر الله على عصمة أمّتك من الضّلال ، وعلى توفيقهم فى اتّباع سنّتك.

٥٢٩

سورة الحديد

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

سماع بسم الله الرّحمن الرّحيم شراب يسقى به الحقّ ـ سبحانه وتعالى ـ قلوب أحبّائه ، فإذا شربوا طربوا ، وإذا طربوا انبسطوا (١) ، ثم لشهود حقّه (٢) تعرّضوا ، وبنسيم قربه استأنسوا (٣) ، وعند الإحساس بهم غابوا .. فعقولهم تستغرق (٤) فى لطفه ، وقلوبهم تستهلك فى كشفه.

قوله جل ذكره : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١))

التسبيح التقديس والتنزيه ، ويكون بمعنى سباحة الأسرار في بحار الإجلال ، فيظفرون بجواهر التوحيد وينظمونها في عقود الإيمان ، ويرصّعونها في أطواق الوصلة :

وقوله (ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) المراد به «من» فى السماوات والأرض ، يسجدون لله طوعا وكرها ؛ طوعا تسبيح طاعة وعبادة ، وكرها تسبيح علامة ودلالة.

وتحمل (ما) على ظاهرها فيكون المعنى : ما من مخلوق من عين أو أثر إلا ويدلّ على الصانع ، وعلى إثبات جلاله ، وعلى استحقاقه لنعوت كبريائه.

__________________

(١) انبسطوا أي : ذاقوا حال البسط. ويصل العارف إلى القبض والبسط بعد حال الرجاء والخوف. والمبسوط قد يكون فيه بسط يسع الخلق فلا يستوحش من أكثر الأشياء ، ويكون مبسوطا لا يؤثر فيه شىء بحال من الأحوال (الرسالة ص ٣٥).

(٢) شهود حق الله لا يتم إلا بعد اختفاء حظوظ العبد.

(٣) من الأنس. سئل الجنيد عنه فقال : هو ارتفاع الحشمة مع وجود الهيبة. وسئل ذو النون عنه فقال : هو انبساط المحب إلى المحبوب.

وسئل الشبلي عنه فقال : هو حشتك منه (التعرف للكلاباذى ص ١٢٦ ، ١٢٧).

(٤) ضبطناها هكذا مبنية للمجهول لأن المفروض أن شمس الحقيقة يستغرق نورها نجوم العقل.

٥٣٠

ويقال : يسبح لله ما في السماوات والأرض ، كلّ واقف على الباب بشاهد الطّلب ... ولكنه ـ سبحانه عزيز (١).

ويقال : ما تقلّب أحد من جاحد أو ساجد إلا في قبضة العزيز الواحد ، فما يصرّفهم إلا من خلقهم ؛ فمن مطيع ألبسه نطاق وفاقه ـ وذلك فضله ، ومن عاص ربطه بمثقلة الخذلان ـ وذلك عدله.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : العزيز : المعزّ لمن طلب الوصول ، بل العزيز : المتقدّس عن كل وصول ... فما وصل من وصل إلا حظّه ونصيبه وصفته على ما يليق به.

قوله جل ذكره : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢))

الملك مبالغة من الملك ، وهو القدرة على الإبداع ، ولا مالك إلا الله. وإذا قيل لغيره : مالك فعلى سبيل المجاز ؛ فالأحكام المتعلقة في الشريعة على ملك الناس صحيحة في الشرع ، ولكنّ لفظ الملك فيها توسّع كما أن لفظ التيمم في استعمال التراب ـ عند عدم الماء ـ فى السفر مجاز ، فالمسائل الشرعية في التيمم صحيحة ، ولكن لفظ التيمم في ذلك مجاز.

(يُحْيِي وَيُمِيتُ) : يحيى النفوس ويميتها. ويحيى القلوب بإقباله عليها ، ويميتها بإعراضه عنها. ويقال : يحييها بنظره وتفضّله ، ويميتها بقهره وتعزّزه.

قوله جل ذكره : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣))

(الْأَوَّلُ) : لاستحقاقه صفة القدم ، و (الْآخِرُ) لاستحالة نعت العدم.

و (الظَّاهِرُ) بالعلو والرفعة ، و (الْباطِنُ) : بالعلم والحكمة.

ويقال (الْأَوَّلُ) بلا ابتداء ، و (الْآخِرُ) بلا انتهاء ، و (الظَّاهِرُ) بلا خفاء ، و (الْباطِنُ) بنعت العلاء وعزّ الكبرياء.

__________________

(١) أي حلّت الصمدية أن يستشرف من ذاتيتها أحد .. فكل واقف بالباب على البساط.

٥٣١

ويقال (الْأَوَّلُ) بالعناية ، و (الْآخِرُ) بالهداية ، و (الظَّاهِرُ) بالرعاية ، و (الْباطِنُ) بالولاية.

ويقال : (الْأَوَّلُ) بالخلق ، و (الْآخِرُ) بالرزق ، و (الظَّاهِرُ) بالإحياء ، و (الْباطِنُ) بالإماتة والإفناء.

قال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (١).

ويقال : (الْأَوَّلُ) لا بزمان ، و (الْآخِرُ) لا بأوان ، و (الظَّاهِرُ) بلا اقتراب ، و (الْباطِنُ) بلا احتجاب.

ويقال : (الْأَوَّلُ) بالوصلة ، و (الْآخِرُ) بالخلّة ، و (الظَّاهِرُ) بالأدلة ، و (الْباطِنُ) بالبعد (٢) عن مشابهة الجملة (٣).

ويقال : (الْأَوَّلُ) بالتعريف ، (وَالْآخِرُ) بالتكليف ، (وَالظَّاهِرُ) بالتشريف (وَالْباطِنُ) بالتخفيف (٤) ويقال : (الْأَوَّلُ) بالإعلام ، (وَالْآخِرُ) بالإلزام ، (وَالظَّاهِرُ) بالإنعام (وَالْباطِنُ) بالإكرام.

ويقال : (الْأَوَّلُ) بأن اصطفاك (وَالْآخِرُ) بأن هداك ، (وَالظَّاهِرُ) بأن رعاك ، (وَالْباطِنُ) بأن كفاك.

ويقال (٥) : من كان الغالب عليه اسمه (الْأَوَّلُ) كانت فكرته في حديث سابقته : بماذا سمّاه مولاه؟ وما الذي أجرى له في سابق حكمه؟ أبسعادته أم بشقائه؟.

__________________

(١) آية ٤٠ سورة الروم.

(٢) سقط ـ (بالبعد) فى النسخة م وموجودة في ص

(٣) المقصود (بالجملة) هنا جملة المخلوقات.

(٤) هكذا في م وهي في ص (بالتحقيق) وهذه وإن كانت ـ صحيحة ألا أن السياق الموسيقى الذي جرى عليه المصنف يرجح (بالتخفيف) على معنى أنه علم ضعف عباده فلم يكلفهم فوق طاقتهم.

(٥) هذه الفقرة هامة في بيان أن الصوفية حينما يتصدون لدراسة الأسماء والصفات يهتمون بالآداب ؛ والسلوك وكيف يتخلّق الصوفي بأخلاق الله ويتأدب بأسمائه أنظر مقدمة كتاب ؛ التحبير في التذكير تحقيق بسيونى).

٥٣٢

ومن كان الغالب على قلبه اسمه (الْآخِرُ) كانت فكرته فى : بماذا يختم له حاله؟ وإلام يصير ما له؟ أعلى التوحيد يخرج من دنياه أو ـ والعياذ بالله ـ فى النار غدا ـ مثواه؟

ومن كان الغالب على قلبه اسمه (الظَّاهِرُ) فاشتغاله بشكر ما يجرى في الحال من توفيق الإحسان وتحقيق الإيمان وجميل الكفاية وحسن الرعاية.

ومن كان الغالب على قلبه اسمه (الْباطِنُ) كانت فكرته في استبهام أمره عليه فيتعثّر ولا يدرى .. أفضل ما يعامله به ربّه أم مكر ما يستدرجه به ربّه؟

ويقال : (الْأَوَّلُ) علم ما يفعله عباده ولم يمنعه علمه من تعريفهم ، (وَالْآخِرُ) رأى ما عملوا ولم يمنعه ذلك من غفرانهم (وَالظَّاهِرُ) ليس يخفى عليه شىء من شأنهم ، وليس يدع شيئا من إحسانهم (وَالْباطِنُ) يعلم ما ليس لهم به علم من خسرانهم ونقصانهم فيدفع (١) عنهم فنون محنهم وأحزانهم.

قوله جل ذكره :(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ)

مضى الكلام في ذلك.

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ منها)

أي ما يدخل فيها من القطر ، والكنوز ، والبذور ، والأموات الذين يدفنون فيها ، (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من النبات وانفجار العيون وما يستخرج من المعادن.

(وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ).

من المطر والأرزاق. أو ما يأتى به الملائكة من القضاء والوحى.

(وَما يَعْرُجُ فِيها).

أي وما يصعد إليها من الملائكة ، وطاعات العباد ، ودعوات الخلق ، وصحف المكلّفين ، وأرواح المؤمنين.

__________________

(١) هنا إشارة لنعم الدفع أو المنع التي لا يفطن إليها الناس.

٥٣٣

(وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

(وَهُوَ مَعَكُمْ) بالعلم والقدرة.

ويقال (١) : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) إذا دفن العبد فالله سبحانه يعلم ما الذي كان فى قلبه من إخلاص في توحيده ، ووجوه أحزانه خسرانه ، وشكّه وجحوده ، وأوصافه المحمودة والمذمومة .. ونحو ذلك مما يخفى عليكم.

(وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) على قلوب أوليائه من الألطاف والكشوفات وفنون الأحوال العزيزة.

(وَما يَعْرُجُ فِيها) من أنفاس الأولياء إذا تصاعدت ، وحسراتهم إذا علت.

قوله جل ذكره : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦)) مضى معناه.

قوله جل ذكره : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧))

صدّقوا بالله ورسوله ، وتصدّقوا (مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) بتمليككم ذلك وتصييره إليكم. والذين آمنوا منكم وتصدّقوا على الوجه الذي أمروا به لهم ثواب عظيم ؛ فإنّ ما تحويه الأيدى معرّض للزوال ، فالسّعيد من قدّم في دنياه ماله في الآخرة عمارة حاله ، والشقيّ من سار فيما له في الآخرة وبال مآله.

قوله جل ذكره : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨))

__________________

(١) هذه الفقرة استدراك أثبته القشيري متأخرا عن موضعه الأصل قليلا.

٥٣٤

أي شىء لكم في ترككم الإيمان بالله وبرسوله ، وما أتاكم به من الحشر والنشر ، وقد أزاح العلّة بأن ألاح لكم الحجّة ، وقد أخذ ميثاقكم وقت الذّرّ ، وأوجب عليكم ذلك بحكم الشّرع.

قوله جل ذكره : (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩))

ليخرجكم من ظلمات الجهل إلى نور العلم ، ومن ظلمات الشكّ إلى نور اليقين.

وكذلك يريهم في أنفسهم من الآيات بكشوفات السّرّ وما يحصل به التعريف مما يجدون فيه النفع والخير ؛ فيخرجهم من ظلمات التدبير (١) إلى سعة فضاء التفويض ، وملاحظة فنون جريان المقادير.

وكذلك إذا أرادت النّفس الجنوح إلى الرّخص والأخذ بالتخفيف (٢) وما تكون عليه المطالبة بالأشقّ ـ فإن بادر إلى ما تدعوه الحقيقة إليه وجد في قلبه من النور ما يعلم به ظلمة هواجس النّفس (٣).

قوله جل ذكره : (وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

ما في أيديكم ميراثه لله ، وعن قريب سينقل إلى غيركم ولا تبقون بتطاول أحمالكم. وهو بهذا يحثهم على الصدقة والبدار إلى الطاعة وترك الإخلاد إلى الأمل .. ثم قال :

(لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً

__________________

(١) أي ظلمات التدبير الإنسانى ، والتعويل على النفس ، فاعتماد الإنسان على تدبيره مجلبة لشقائه .. وأنيّ للطين أن يكون ذا تدبير؟!

(٢) هكذا في م وهي الصواب أما (التحقيق) التي في ص فهى خطأ في النسخ ؛ لأن الأسير خاص جنوح إلى (التخفيف) كما نعلم

(٣) يتفق هذا مع قول الرسول الكريم «استفت قلبك ولو أفتاك المفتون».

٥٣٥

مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

لا يستوى منكم من أنفق قبل فتح مكة والحديبية والذين أنفقوا من بعد ذلك. بل أولئك أعظم ثوابا وأعلى درجة من هؤلاء ؛ لأنّ حاجة الناس كانت أكثر إلى ذلك وكان ذلك أشقّ على أصحابه (١).

ثم قال : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) إلّا أنّ فضيلة السّبق لهم ، ولهذا قالوا :

السباق السباق قولا وفعلا

حذّر النّفس حسرة المسبوق

قوله جل ذكره : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١))

المراد بالقرض الصدقة ، وإنما ذكرها سبحانه كذلك تطييبا لقلوبهم ، فكأن المتصدّق وهو يقرض شيئا كالذى يقطع شيئا من ماله ليدفعه إلى المستقرض.

ويقال (يُقْرِضُ) أي يفعل فعلا حسنا ، وأراد بالقرض الحسن هاهنا ما يكون من وجه حلال ثم عن طيب قلب ، وصاحبه مخلص فيه ، بلا رياء يشوبه ، وبلا منّ على الفقير ، ولا يكدّره تطويل الوعد ، ولا ينتظر عليه كثرة الأعواض.

ويقال : أن تقرضه وتقطع عن قلبك حبّ الدارين (٢) ، ففى الخبر : «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى» (٣) ومن لم يتحرّر من شىء فخروجه عنه تكلّف (٤).

__________________

(١) لأن الإسلام لم يكن بعد. قد عز واستمكن وانتشر في الأرجاء.

(٢) أي دون أن يكون قصدك على ما تفعل عوضا أو عرضا سواء في الدنيا أو في الآخرة إذ يكفى أن تعلم أي شرف لك أن : تقرض الله!!

(٣) حدث الليث عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن ابن المسيب عن أبى هريرة أن رسول الله (ص) قال : «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدا بمن تعول» البخاري ح ٣ ص ١٩١ (كتاب النفقات).

(٤) هكذا في ص وهي في م «تكلف» كما أثبتنا لأن السياق يقتضى ذلك. وتوجد بعد (تكلف) عبارة منبهة فى الخط والمعنى ، تشبه أن تكون : (وهو على من يصل إليه ربى به).

٥٣٦

قوله جل ذكره : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢))

وهو نور يعطى للمؤمنين والمؤمنات بقدر أعمالهم الصالحة ، ويكون لذلك النور مطارح شعاع يمشون فيها والنور يسعى بين أيديهم ، ويحيط جميع جهاتهم.

ويقال : (وَبِأَيْمانِهِمْ) كتبهم.

(بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ) أي بشارتكم اليوم ـ من الله جنات. وكما أن لهم في العرضة هذا النور فاليوم لهم في قلوبهم وبواطنهم نور يمشون فيه ، ويهتدون به في جميع أحوالهم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المؤمن ينظر بنور الله» وقال تعالى : (فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) (١).

وربما ينبسط ذلك النور على من يقرب منهم. وربما يقع من ذلك على القلوب قهرا ـ ولأوليائه ـ لا محالة ـ هذه الخصوصية.

قوله جل ذكره : (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ)

انتظرونا فنلحق بكم لنقتبس من نوركم. وذلك لأن المؤمنين والمنافقين يعطون كتبهم وهم في النور ، فإذا مرّوا ... انطفأ النور أمام المنافقين وسبق المؤمنون ، فيقول المنافقون للمؤمنين : انتظرونا حتى نقتبس من نوركم. فيقول المؤمنون :

(قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً)

أي إلى الدنيا وأخلصوا! ـ تعريفا لهم أنهم كانوا منافقين في الدنيا.

ويقال : ارجعوا إلى حكم الأزل فاطلبوا (٢) هذا من القسمة! ـ وهذا على جهة ضرب المثل والاستبعاد.

__________________

(١) آية ٢٢ سورة الزمر.

(٢) هكذا في ص وهي في م (قاطلعوا) وقد آثرنا الأولى لأنها آكد في الاستبعاد ـ وهو المقصود.

٥٣٧

(فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ).

«بسور : وهو جبل أصحاب الأعراف ، يستر بينهم وبين المنافقين ، فالوجه الذي يلى المؤمن فيه الرحمة وفي الوجه الآخر العذاب.

قوله جل ذكره : (يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ ...)

ألم نكن معكم في الدنيا في أحكام الإيمان في المناكحة والمعاشرة؟.

قالوا : بلى ، ولكنكم فتنتم أنفسكم ...

(وَتَرَبَّصْتُمْ ، وَارْتَبْتُمْ ، وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ).

تربصتم عن الإخلاص ، وشككتم ، وغرّكم الشيطان ، وركنتم إلى الدنيا.

قوله جل ذكره : (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥))

النار مأواكم ومصيركم ومتقلبكم.

وهى (مَوْلاكُمْ) أي هي أولى بكم ، وبئس المصير!

ويقال : مخالفة الضمائر والسرائر لا تنكتم بموافقة الظاهر (١) ، والأسرار لا تنكتم عند الاختبار

قوله جل ذكره : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ

__________________

(١) السياق حديث عن المنافقين وعن الكفار .. وأراد القشيري أن ينقل هذا السياق إلى الجو الصوفي فوجه تحذيره لأرباب ؛ الرياء والدعوى ، أولئك الذين يظنون أنهم إن تصاهروا بالقيام بموافقة الشريعة وموافقة القوم فإن الأسرّة سريعا ما تكشف السريرة ـ على حد تعبير ، فى موضع مماثل.

٥٣٨

مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦))

ألم يحن للذين آمنوا أن تتواضع قلوبهم وتلين لذكر الله وللقرآن وما فيه من العبر؟ وألا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل؟ وأراد بهم اليهود ، وكثير من اليهود فاسقون كافرون.

وأراد بطول الأمد الفترة التي كانت بين موسى ونبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي الخبر : أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصابتهم ملالة فقالوا : لو حدّثتنا.

فأنزل الله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ...) فبعد مدّة قالوا :

لو قصصت علينا!

فأنزل الله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ...) فبعد مدة قالوا : لو ذكّرتنا ووعظتنا!

فأنزل الله تعالى هذه السورة.

وفي هذه الآية ما يشبه الاستبطاء.

وإن قسوة القلب تحصل من اتباع الشهوة ، والشهوة والصفوة لا تجتمعان ؛ فإذا حصلت الشهوة رحلت الصفوة. وموجب القسوة هو انحراف القلب عن مراقبة الربّ. ويقال : موجب القسوة أوّله خطرة فإن لمّ تتدارك صارت فكرة وإن لّم تتدارك صارت عزيمة ، فإن لم تتدارك جرت المخالفة ، فإن لم تتدارك بالتلافى صارت قسوة وبعدئذ تصير طبعا ورينا (١)

قوله جل ذكره : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧))

يحيى الأرض بعد موتها بإنزال المطر عليها وإخراج النّبت منها.

__________________

(١) ران الثوب ؛ رينا أي تطبع وتدنّس ، ورانت النفس أي خبثت وغشت. (الوسيط).

٥٣٩

ويحيى القلوب الميتة ـ بعد إعراض الحقّ عنها ـ بحسن إقباله عليها (١).

قوله جل ذكره : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨))

أي المتصدقين والمتصدقات.

(وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) : يعنى في النوافل.

(يُضاعَفُ لَهُمْ) فى الحسنات ، الحسنة بعشر أمثالها .. إلى ما شاء الله

(وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) : ثواب كبير حسن. والثواب الكريم أنّه لا يضن بأقصى الأجر على الطاعة ـ وإن قلّت.

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ)

الصدّيقون : مبالغة في الصدق ، والشهداء : الذين استشهدوا في سبيل الله ، فالمؤمنون بمنزلة الصديقين والشهداء ـ لهم أجرهم في الجنة ونورهم في القيامة.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ).

والصدّيق من استوى ظاهره وباطنه.

ويقال : هو الذي يحمل الأمر على الأشقّ ، ولا ينزل إلى الرّخص ، ولا يجنح للتأويلات.

والشهداء : الذين يشهدون بقلوبهم مواطن الوصلة ، ويعتكفون بأسرارهم في أوطان القربة ، (وَنُورُهُمْ) : ما كحل الحقّ به بصائرهم من أنوار التوحيد.

__________________

(١) كان المفروض أن تكون العبارة هكذا.

(ويحى القلوب الميتة بعد إعراضه عنها).

فأستعمال (الحق) فى الإضافة مسألة لهم أرباب القلوب المتحققين الفانين عن الخلق الباقين بالحق.

٥٤٠