لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

وقطع الرّحم ، ويريد بهم الأخلاق الكريمة كالجود والإيثار والسخاء وصلة الرّحم ، ويديم لهم التوفيق والعصمة والتسديد ، ويطهرهم من الذنوب والعيوب.

قوله جل ذكره : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤))

إذ كرن عظيم النعمة وجليل الحالة التي تجرى في بيوتكن ؛ من نزول الوحى ومجىء الملائكة ، وحرمة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والنور الذي يقتبس في الآفاق ، ونور الشمس الذي ينبسط على العالم ، فاعرفن (١) هذه النعمة ، وارعين هذه الحرمة.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ...)

الإسلام هو الاستسلام ، والإخلاص ، والمبالغة في المجاهدة والمكابدة.

(وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ...)

الإيمان هو التصديق وهو مجمع الطاعات ، ويقال هو التصديق والتحقيق ، ويقال هو انتسام الحقيقة في القلب. ويقال هو حياة القلب أولا بالعقل ، ولقوم بالعلم ، ولآخرين ، بالفهم عن الله ، ولآخرين بالتوحيد ، ولآخرين بالمعرفة ، ولآخرين إيمانهم حياة قلوبهم بالله.

(وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ ...)

القنوت طول العبادة.

(وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ ...)

فى عهودهم وعقودهم ورعاية حدودهم.

__________________

(١) عرف هنا بمعنى ذكر الفضل .. وبهذه المناسبة أكشف للقارىء عن شىء حيرنى دهرا طويلا حينما كنت أقرأ فائية ابن الفارض التي أولها :

قلبى يحدثنى بأنك متلغى

روحى فداك عرفت أم لم تعرف

فطالما أزعجنى الشطر التالي من هذا البيت ؛ لأنى كنت أربط بين عرف وبين علم. فكنت أسائل لغمى كيف يخاطب ابن الفارض ربه على هذا النحو؟ حق اهتديت الى أن المعنى : التي سأفتديك بروحى حتى ولو ثلفت فى ذلك ، وسأبق عليه ، سواء ذكرت لى ما أصنع ، واحتسبته .. أم لم تفعل.

١٦١

(وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ ..)

على الخصال الحميدة ، وعن الصفات الذميمة ، وعند جريان مفاجآت القضية.

(وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ ..).

الخشوع إطراق السريرة عند بواده الحقيقة.

(وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ ..)

بأموالهم وأنفسهم حتى لا يكون لهم مع أحد خصومة فيما نالوا منهم ، أو قالوا فيهم (١)

(وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ ..)

المسكين عمّا لا يجوز في الشريعة والطريقة.

(وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ ..)

فى الظاهر عن الحرام ، وفي الإشارة عن جميع الآثام.

(وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ ..)

بألسنتهم وقلوبهم وفي عموم أحوالهم لا يفترون ، ولا يتداخلهم نسيان.

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً).

فهؤلاء لهم جميل الحسنى ، وجزيل العقبى.

قوله جل ذكره : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦))

الافتيات عليه في أمره والاعتراض عليه في حكمه وترك الانقياد لإشارته .. قرع لباب الشّرك ؛ فمن لم يمسك عنه سريعا وقع في وهدته.

قوله جل ذكره : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ

__________________

(١) وهذا من أمارات الفتوّة (أنظر الرسالة ص ١١٣)

١٦٢

عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧))

أنعم الله عليه بأن ذكره وأفرده من بين الصحابة باسمه.

ويقال : أنعم الله عليه بإقبالك عليه وتبنّيك له. ويقال : بأن أعتقته ، ويقال : بالإيمان والمعرفة. وأنعمت عليه بالعتق وبأن تبنّيته. (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) إقامة للشريعة مع علمك بأن الأمر في العاقبة إلى ماذا يئول ؛ فإنّ الله أطلعك عليه ، وقلت له : (اتَّقِ ..). قوله : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) : أي لم تظهر لهم أنّ الله عرّفك ما يكون من الأمر فى المستأنف.

(وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ..) من ميلك ومحبتك لها لا على وجه لا يحلّ. (وَتَخْشَى النَّاسَ ..) أي وتخشى عليهم أن يقعوا في الفتنة من قصة زيد ، وكانت تلك الخشية إشفاقا منك عليهم ، ورحمة بهم.

ويقال : وتستحى من الناس ـ والله أحقّ أن تستحى منه.

ويقال : تخشى الناس ألا يطيقوا سماع هذه الحالة ولا يقووا على تحمّلها ، فربما يخطر ببالهم ما ينفى عنهم وسعهم ..

(فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها ..) لكى لا يكون عليك حرج ، ولكى لا يكون على المؤمنين حرج في الزواج بزوجات أدعيائهم ، فإنما ذلك يحرّم في الابن إذا كان من الصّلب.

١٦٣

(وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨))

لا يعارض ولا يناقض ، ولا يردّ ولا يجحد. وما كان على النبيّ من حرج بوجه لكونه معصوما.

قوله جل ذكره : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٣٩))

(وَيَخْشَوْنَهُ) : علما منهم بأنه لا يصيب أحدا ضرر ولا محذور ولا مكروه إلا بتقديره ؛ فيفردونه بالخشية إذ علموا أنه لا شىء لأحد من دونه.

قوله جل ذكره : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠))

لم يكن مضافا إلى ولد فله عليكم شفقة الآباء .. ولكن ليس بأبيكم.

ويقال نسبه ظاهر .. ولكن إنما يعرف بي لا بنسبه ؛ فقلّما يقال : محمد بن عبد الله ، ولكن إلى أبد الأبد يقال : محمد رسول الله. وشعار الإيمان وكلمة التوحيد ـ بعد لا إله إلا الله ـ محمد رسول الله.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢))

الإشارة فيه أحبّوا الله ؛ لأنّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «من أحبّ شيئا. أكثر من ذكره» فيجب أن تقول : الله ، ثم لا تنس الله بعد ذكرك الله.

ويقال : اذكروا الله بقلوبكم ؛ فإنّ الذكر الذي تمكن استدامته ذكر القلب ؛ فأمّا ذكر اللسان فإدامته مسرمدا كالمتعذر.

١٦٤

(وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) : التسبيح من قبيل الذكر ، ولكنه ذكره بلفظين لئلا تعتريك سآمة (١).

قوله جل ذكره : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣))

الصلاة في الأصل الدعاء (٢) ؛ فصلاته ـ سبحانه ـ دعاؤه لنا بالتقريب ، وصلاة الملائكة دعاؤهم إليه لنا : بالغفران للعاصى ، وبالإحسان للمطيع.

ويقال الصلاة من الله بمعنى الرحمة ، ومن الملائكة بمعنى الشفاعة.

(لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) : من الظلمات الكفر إلى نور الإيمان.

ويقال ليخرجكم من الظلمات إلى النور أي يعصمكم من الضلال بروح الوصال.

ويقال ليخرجكم من ظلمات التدبير إلى فضاء شهود التقدير.

ويقال ليخرجكم من ظلمات نفوسكم إلى أنوار البصائر في قلوبكم.

ويقال ليخرجكم من أسباب التفرقة إلى شهود عين التوفيق ، والتحقق بأوصاف الجمع.

ويقال يصونكم من الشّرك ، ويثبتكم بشواهد الإيمان.

قوله جل ذكره : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤))

التحية إذا قرنت بالرؤية ، واللقاء إذا قرن بالتحية فلا يكون ذلك إلا بمعنى رؤية البصر.

والسلام خطاب يفاتح به الملوك إخبارا عن علوّ شأنهم ورتبتهم ، فإلقاؤه حاصل وخطابه

__________________

(١) هذه لفتة هامة تهم البلاغيين.

(٢) يوضح القشيري هنا ما يسمى عنه (نعم المنع) ، وهي صنف آخر يختلف عن (نعم المنح) ، والعبد ـ ـ لقصر نظره ـ يشكر على هذه ، وتخفى عليه تلك.

١٦٥

مسموع ، ولا يكون ذلك إلا برؤية البصر (١).

(أَجْراً كَرِيماً) : الكرم نفى الدناءة ، وكريما أي حسنا.

وفي الإشارة أجرهم موفور على عمل يسير ؛ فإنّ الكريم لا يستقصى عند البيع والشراء فى الأعداد ، وذلك تعريف بالإحسان السابق في وقت غيبتك (٢).

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧))

يا أيها المشرّف من قبلنا إنّا أرسلناك شاهدا بوحدانيتنا ، وشاهدا تبشّر بمتابعتنا ، وتحذّر من مخالفة أمرنا ، وتعلم الناس مواضع الخوف منّا ، وداعيا إلينا بنا ، وسراجا يستضيئون به ، وشمسا بنبسط شعاعها على جميع من صدّقك ، وآمن بك ، فلا يصل إلينا إلّا من اتّبعك وخدمك ، وصدّقك وقدّمك.

(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بفضلنا معهم ، ونيلهم طولنا عليهم ، وإحساننا إليهم. ومن لم تؤثر فيه بركة إيمانه بك فلا قدر له عندنا.

قوله جل ذكره : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٤٨))

لا توافق من أعرضنا عنه ، وأضللنا به من أهل الكفر والنفاق ، وأهل البدع والشّقاق. وتوكل على الله بدوام الانقطاع إليه ، وكفى بالله وكيلا.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ

__________________

(١) يضاف هذا الكلام إلى المبدأ الذي يتحمس له القشيري وهو الرؤية العيانية للحق في الآخرة.

(٢) يقصد القشيري : أولئك الذين أحسن الله إليهم في سابق علمه ، وهم مازالوا في كتم العدم ـ على حد تعبيره في مواضع مناظرة.

١٦٦

الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩))

إذا آثرتم فراقهنّ فتمتّعوهن ليكون لهن عنكم تذكرة في أيام الفرقة في أوائلها إلى أن تتوطّن نفوسهن على الفرقة.

(وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) : لا تذكروهن بعد الفراق إلا بخير ، ولا تستردوا منهن شيئا تخلّفتم به معهن ، فلا تجمعوا عليهن الفراق بالحال والإضرار من جهة المال.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ ... غَفُوراً رَحِيماً (٥٠))

وسّعنا الأمر عليك في باب النكاح بكم شئت ؛ فإنك مأمون من عيب عدم التسوية بينهن وعدم مراعاة حقوقهن ، ومن الحيف عليهن. والتّوسعة في باب النكاح تدلّ على الفضيلة كالحرّ والعبد.

(تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ...)

(مَن تشاء) : على ما تتعلّق به إرادتك ، ويقع عليه اختيارك ، فلا حرج عليك ولا جناح.

١٦٧

(لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢))

لما اخترتهنّ أثبت الله لهن حرمة ، فقال : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) فكما اخترنك فلا تختر عليهن امرأة أخرى تطبيبا لقلوبهن ، ونوعا للمعادلة بينه وبينهن ، وهذا يدل على كرمه ـ والحفاظ كرم ودين (١).

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا ...) الآية.

أمرهم بحفظ الأدب في الاستئذان ، ومراعاة الوقت ، ووجوب الاحترام ؛ فإذا أذن لكم فادخلوا على وجه الأدب ، وحفظ أحكام تلك الحضرة ، وإذا انتهت حوائجكم فاخرجوا ، ولا تتغافلوا عنكم ، ولا يمنعنّكم حسن خلقه من حفظ الأدب ، ولا يحملنّكم فرط احتشامه على إبرامه (٢).

(فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) : حسن خلقه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ جرّهم إلى المباسطة معه ، حتى أنزل الله هذه الآية.

(وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) : نقلهم عن مألوف العادة إلى معروف الشريعة ومفروض العبادة ، وبيّن أن البشر بشر ـ وإن كانوا من الصحابة ، فقال :

(ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)

__________________

(١) ضبطناها هكذا (دين) بفتح الدال وتسكين الياء فبها يستقيم المعنى ويقوى السياق.

(٢) أي إضجاره وإملاله.

١٦٨

فلا ينبغى لأحد أن يأمن نفسه ـ ولهذا يشدّد الأمر في الشريعة بألا يخلو رجل بامرأة ليس بينهما محرمة.

(وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) (١).

وهذا من خصائصه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي هذا شبه رخصة لمن يلاحظ شيئا من هذا ، فيهتم بالاتصال من له ميل إليهنّ بغيرهن بعد وفاته ـ وإن كان التحرّز عنه ـ وعن أمثال هذا من ترك الحظوظ ـ أتمّ وأعلى.

قوله جل ذكره : (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤))

حفظ القلب مع الله ، ومراعاة الأمر ـ بينه وبين الله ـ على الصّحة في دوام الأوقات لا يقوى عليه إلا الخواصّ من أهل الحضور.

قوله جل ذكره : (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ ...) الآية.

لما نزلت آية الحجاب شقّ عليهن وعلى النسوان وعلى الرجال في الاستتار ، فأنزل الله عزوجل هذه الآية للرخصة في نظر هؤلاء إلى النساء ، ورؤية النساء لهم على تفصيل الشريعة.

__________________

(١) يستند القرطبي إلى رواية نقلها أبو نصر عبد الرحمن القشيري ـ ابن القشيري صاحب هذا الكتاب ـ عن ابن عباس الذي يقول : قال رجل من سادات قريش من العشرة الذين كانوا مع الرسول على حراء ـ فى نفسه ـ لو توفى الرسول لتزوجت عائشة ، وهي بنت عمى. قال مقاتل : هو طلحة بن عبيد الله. ولكن هذا الرجل ندم على ما حدثت به نفسه ، فمشى إلى مكة على رجليه وكفّر بالتصدق وعتق الرقيق. (القرطبي ج ١٤ ص ٢٢٨).

١٦٩

قوله جل ذكره : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦))

أراد الله ـ سبحانه ـ أن تكون للأمة عنده ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يد خدمة كما له بالشفاعة عليهم يد نعمة ، فأمرهم بالصلاة عليه ، ثم كافأ ـ سبحانه عنه ؛ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من صلّى عليّ مرة صلى الله عليه عشر مرات. وفي هذا إشارة إلى أن العبد لا يستغنى عن الزيادة من الله في وقت من الأوقات ؛ إذ لا رتبة فوق رتبة الرسول ، وقد احتاج إلى زيادة صلوات الأمّة عليه.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨))

يؤذون الله ورسوله بعمل المعاصي التي يستحقون بها العقوبة ، ويؤذون أولياءه. ولمّا قال : من يطع الرسول فقد أطاع الله ، فكذلك من آذى رسوله وأنبياءه عليهم‌السلام والمؤمنين فقد آذاه ، ومعناه تخصيص حالتهم وإثبات رتبتهم.

ثم ذكر قوله : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ..) وذكر عقوبتهم ، فجعل إيذاء الرسول مقرونا بما ذكر من إيذاء الله ، ثم ذكر إيذاء المؤمنين ، ويدلّ ذلك على أن رتبة المؤمنين دون رتبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ

__________________

(١) فى هذا رد ضمنى على من يدعى الوصول ، ويجهر بأن لواء الأنبياء يعقد له في معاريجه ، وأن الأنبياء أدنى من الأولياء.

١٧٠

جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩))

هذا تنبيه لهن على حفظ الحرمة وإثبات الرّتبة ، وصيانة لهن ، وأمر لهن بالتصاون والتعفّف. وقرن بذلك تهديده للمنافقين في تعاطيهم ما كان يشغل قلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الإرجاف في المدينة : ـ

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً).

إنهم لم يمتنعوا عن الإرجاف وأمثال ذلك لأجرينا معهم سنّتنا في التدمير على من سلف من الكفار (١).

ثم ذكر مسألة القوم عن قيام الساعة وتكذيبهم ذلك ، ثم استعجالهم قيامها من غير استعداد لها ، ثم أخبر بصعوبة العقوبة التي علم أنه يعذّبهم بها ، وما يقع عليهم من الندامة على ما فرّطوا.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩))

نسبوه إلى الأدرة (٢) ، وأنّ به عيبا في الخلقة ، ولكنه كان رجلا حييّا ، وكان إذا اغتسل لا يتجرّد (من ثوبه) (٣) ، فتوهموا به ذلك. وذات يوم خلا ليفسله ، ووضع ثيابه

__________________

(١) هكذا في م وهى في ص (الكبائر).

(٢) الأدرة (على وزن الغرفة) ـ انتفاخ الخصية ، والآدر ـ المصاب بذلك.

(٣) ما بين قوسين من عندنا ليتضح السياق.

١٧١

على حجر فأمشى الله الحجر بثيابه ، وموسى يعدو خلفه حتى توسّط بنى إسرائيل ، وشاهدو خلقته سليمة ، فوقف الحجر ، وأخذ موسى ثيابه ولبسها (١) ، وهذا معنى قوله : (فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) فى القدر والمنزلة. والوجاهة النافعة ما كان عند الله لا عند الناس ، فقبول الناس لا عبرة به ولا خطر له ، ولا سيما العوام فإنهم يقبلون بلا شىء ، ويردّون بلا شىء قال قائلهم :

إن كنت عندك يا مولاى مطرحا

فعند غيرك محمول على الحدق

وقالوا : فإن أك في شراركم قليلا

فإنى في خياركم كثير

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١))

القول السديد كلمة الإخلاص ، وهي الشهادتان عن ضمير صادق.

ويقال سداد أقوالكم سداد أعمالكم ، ولقد هوّن عليكم الأمر فمن رضى بالقالة ـ وهي الشهادة بأن ترك الشّرك ـ وقالها بصدق أصلح الله له أعماله الدنيوية من الخلل ، وغفر له في الآخرة الزّلل ؛ أي حصلت له سعادة الدارين.

ويقال ذكر (أَعْمالَكُمْ) بالجمع (٢) ، وقدّمها على الغفران ؛ لأنه ما لم يصلح لك في حالك أعمالك وإن لم يكفك ما أهمّك من أشغالك .. لم تتفرغ إلى حديث آخرتك.

قوله جل ذكره : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها

__________________

(١) هذه رواية ابن عباس .. وفي رواية أخرى : اتهم بقتل أخيه هارون.

(٢) أي أن الله بفضله ينظر منك إلى القليل فيعتبره كثيرا.

١٧٢

وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢))

هنا إضمار أي : أهل السماوات والأرض والجبال.

وقيل أحياها وأعقلها ، وهو كقوله : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (١).

(فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها) : أي أبين أن تخنّ فيها ، (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) : أي خان فيها. وهم مراتب : فالكفار خانوا في الأصل الأمانة ـ وهي المعرفة ـ فكفروا. ومن دونهم خانوا بالمعاصي ، وبعضهم أشدّ وبعضهم أهون ، وكلّ احتقب من الوزر مقداره.

ويقال (فَأَبَيْنَ) إباء إشفاق لا إباء استكبار ، واستعفين ... فعفا عنهن ، وأعفاهن من حملها.

(وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) : قبلها ثم ما رعوها حقّ رعايتها .. كلّ بقدره.

(إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) بصعوبة حمل الأمانة في الحال ، والعقوبة التي عليها في المآل. وقوم قالوا عرض الأمانة على السماوات والأرض وعرضها على الإنسان ، فهن استعفين وهؤلاء (٢) لم يستعفوا ولم يراعوا.

ويقال : الأمانة القيام بالواجبات أصولها وفروعها.

ويقال : الأمانة التوحيد عقدا وحفظ الحدود جهدا.

ويقال : لمّا حمل آدم الأمانة وأولاده قال تعالى : (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (٣) .. وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟

ويقال حمل الإنسان بالله لا بنفسه. ويقال ظلم نفسه حيث لم يشفق مما أشفقت منه السماوات والأرضون. والظلم وضع الشيء في غير موضعه.

ويقال كاشف السماوات والأرض بوصف الربوبية والعظمة فأشفقوا ، وكاشف آدم

__________________

(١) آية ١١ سورة فصلت.

(٢) الإنسان هنا اسم جنس.

(٣) آية ٧٠ سورة الإسراء.

١٧٣

وذرّيته بوصف اللطف فقبلوا وحملوا ، وفي حال بقاء العبد بالله يحمل السماوات والأرض بشعرة من جفنه. ويقال كانت السماوات والأرض أصحاب الجثت والمبانى فأشفقوا من حمل الأمانة. والحمل إنما تحمله القلوب. وآدم كان صاحب معنى فحمل ، وأنشدوا :

حملت جبال الحكم فوقى وإننى

لأعجز عن حمل القميص وأضعف

ويقال لما عرض الحقّ الأمانة على الخلق علّق آدم بها همّته ، فصرف بهمته جميع المخلوقات عنها ، فلمّا أبوا وأشفقوا حملها الإنسان طوعا لا كرها.

قوله جل ذكره : (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣))

اللام فى (لِيُعَذِّبَ) للصيرورة والعاقبة ؛ أي صارت عاقبة هذا الأمر عذاب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ، ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات بالمغفرة والتجاوز (تمّت السورة) (١) قد يقال : المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات والعاصون من المؤمنين والمؤمنات ورد ذكرهم .. فأين العابدون وذكرهم؟

ولكنهم في جملة من مضى ذكرهم ، وليسوا في المشركين ولا في المنافقين ، فلا محالة فى جملة العاصين الذين تاب عليهم.

فيا أيها العاصي ، كنت تحذر أن يخرجك العابدون من جملتهم ، فاشهد الجبّار ـ فى هذا الخطاب ـ كيف أدرجك في جملتهم (٢)؟!

__________________

(١) هكذا في الأصل ، وهذه أول مرة يستدرك بها المصنف شيئا عقب خاتمة سورة.

(٢) هذا الاستدراك لافت للنظر من حيث يدل على رحابة صدر الصوفية ، وشدة حرصهم على فتح أبواب الأمل أمام العصاة الراغبين في التوبة ، (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً).

١٧٤

سورة سبأ

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

«بسم الله كلمة سلّابة غلّابة ، نهّابة وهابة ؛ تسلب القلوب .. ولكن لا كل قلب ، وتغلب الألباب ولكن ليس كل لب ، وتنهب الأرواح ولكن من الأحباب ، وتهب الارتياح .. ولكن لقوم مخصوصين من الطلّاب.

قوله جل ذكره : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١))

افتتح السورة بذكر الثناء على نفسه ، ومدحه لنفسه إخبار عن جلاله ، واستحقاقه لنعوت عزّه وجماله ، فهو في الأزل حامد لنفسه محمود ، وواحد موجود ، فى الآزال معبود ، وبالطلبات مقصود.

(الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) : الملك لا يكون بالشركة ؛ فلا ملك إلا الله. وإن أجرى هذا الاسم على مخلوق فالزنجيّ لا يتغير لونه وإنّ سمّى كافورا!

(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) من الذين أعتقهم ، وفي النعمة أغرقهم.

(وَهُوَ الْحَكِيمُ) بتخليد قوم في الجنة ، وتأبيد قوم في النار.

قوله جل ذكره : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢))

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) من الحبّ تحت الأرض ، والماء يرسب فيها ،

١٧٥

والأشياء التي تلقى عليها ، والناس يقبرون في الأرض.

(وَما يَخْرُجُ مِنْها) من النبات والأزهار ، والموتى يبعثون.

(وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من القطر والملك ، والبركة والرزق ، والحكم

(وَما يَعْرُجُ فِيها) من الصحف ، وحوائج الناس : وهمم الأولياء.

(وَهُوَ الرَّحِيمُ) بعباده ، (الْغَفُورُ) لجميع المذنبين من المسلمين.

قوله جل ذكره : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣))

كرّر في القرآن تكذيبهم بالساعة ، واستبعادهم لذلك ، والردّ عليهم. وأخبر عن سابق علمه بهم ، وأنه لا يخرج شىء من معلوماته عن علمه ، فأثبت علمه بكل شىء وشموله لكل شىء .. لأنه لو لم يكن له علم لكان نقصا ، ولأنه لو خرج معلوم واحد عن علمه لكان بقدرته نقص ، والنقص ـ بأى وصف كان ـ لا يجوز في صفته بحال.

قوله جل ذكره : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) الآيات ..

المحسنون منهم يجازيهم بالخيرات المتصلة ، والكافرون منهم يكافئهم على كفرهم بالعقوبات غير منفصلة.

ويرى الذين أوتوا العلم كتابك الذي أتيت به حقا وصدقا. والذين كفروا قال بعضهم لبعض : إنّهم يرون أن هذا الذي تقول به من النشر والحساب والبعث كذب ، أو أنّ بك جنّة ، ثم أقام عليهم حجة التجويز بما أجرى به سنّته في الخلق والإبداع .. فما زادهم ذلك إلا جحودا ، وما قابلوه إلا عنودا.

١٧٦

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١))

(داوُدَ) اسم أعجمى ، وقيل سمى داود لأنه داوى (جرحه ، ورد في القصة أنه قال في إحدى مناجاته : يا رب ، إنى أرى في التوراة ما أعطيت لأوليائك وأنبيائك من الرتب فأعطنيها) (١) فقال : إنى ابتليتهم فصبروا ، فقال : إنى أصبر على بلائك ، فأعطنى ما أعطيتهم ، فأبلاه ، فوقف ، فأعطاه ما أعطاهم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) : تكلموا في هذا الفضل ؛ فمنهم من أراد ما ذكره بعده وهو قوله للطير : (أَوِّبِي مَعَهُ) ، وكذلك الجبال ، وكان في ذلك تنفيس في وقت حزنه وبكائه. وقيل ذلك الفضل رجوعه إلى الله ـ فى حال ما وقع له (٢) ـ بالتنصل والاعتذار. ويقال هو شهوده موضع ضرورته وأنه لا يصلح أمره غيره. ويقال طيب صوته عند قراءة الزبور حتى كان ليرغب في متابعته من يسمع إليه (٣). ويقال حلاوة صوته فى المناجاة. ويقال حسن خلقه مع أمته الذين اتبعوه ، ويقال توفيقه للحكم بين أمته بالعدل ...

قوله : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) أمر الجبال والطير بمجاوبته حتى خرج إلى الجبال والصحارى ينوح على نفسه.

ويقال أوحى الله له : يا داود ، كانت تلك الزّلّة مباركة عليك! فقال. يا رب ، وكيف؟ فقال : كنت تجىء قبلها (كما يجىء المطيعون والآن) (٤) تجىء كما يجىء أهل الذنوب!

__________________

(١) ما بين القوسين ساقط من ص موجود في م.

(٢) يشير القشيري بذلك إلى قصة داود مع زوجة أوريا ، وكيف تاب وأناب.

(٣) يقول القرطبي : كان قد أعطى من الصوت ما يتزاحم الوحوش من الجبال على حسن صوته ، وكانت الجبال تتجاوب صداه ، والماء الجاري ينقطع جريه. ويضيف القرطبي : «أيد بمساعدة الجبال والطير لئلا يجد فترة ، فإذا دخلت الفترة اهتاج أي ثار وتحرّك ، وقوى بمساعدة الجبال والطير.

(٤) موجودة في ص وغير موجودة في م.

١٧٧

يا داود ، إن أنين المذنبين أحبّ إلى من صراخ العابدين!

ويقال ، كان داود يقول. اللهم لا تغفر للخاطئين ، غيرة منه وصلابة في الدين ... فلما وقع له ما وقع كان يقول. اللهم اغفر للمذنبين ، فعسى أن تغفر لداود فيما بينهم.

ويقال لمّا تاب الله عليه ، واجتمع الإنس والجنّ والطير بمجلسه ، ورفع صوته ، وأداره فى حنكه على حسب ما كان من عادته تفرّقت الطيور وقالوا : الصوت صوت داود والحال ليست تلك! فأوحى الله إليه هذه وحشة الزّلة ، وتلك كانت أنس الطاعة .. فكان داود يبكى وينوح ويصيح والطير والجبال معه.

ويقال ليس كلّ من صاح وراءه معنى (١) ، فالمعنى كان مع داود لا مع الجبال والطير ...

(أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً). ألان له الحديد ، وجعل ذلك معجزة له ، وجعل فيه توسعة رزقه ، ليجد في ذلك مكسبا ، ليقطع طمعه عن أمته في ارتفاقه بهم ليبارك لهم في اتّباعه (٢).

قوله جل ذكره : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ)

أي آتينا سليمان الريح أي سخّر ناها له ، فكانت تحمل بساطة بالغدو مسيرة شهر ؛ وبالرواح مسيرة شهر.

وفي القصة أنه لا حظ يوما ملكه ، فمال الريح ببساطه ، فقال سليمان للريح : استو ،

فقالت الريح : استو أنت ، فما دمت مستويا بقلبك كنت مستويا بك ، فلما ملت ملت.

(وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ)

__________________

(١) هذه غمزة بمن يتظاهرون بالتواجد في مجالس السماع الصوفية ، إذ ينبغى الصدق ليتحول التواجد إلى وجد ثم إلى وجود.

(٢) هذا تنبيه لمن يتصدر منزلة الإمامة : ألا يرتفق ، وألا يطلب عوضا ، وألا يطمع في الذين يتبعونه.

١٧٨

أي وآتيناه ذلك ، فكانت الشياطين مسخّرة له ، يعملون ما يشاء من الأشياء التي ذكرها سبحانه.

قوله جل ذكره : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (١).

أي اعملوا يا آل داود للشكر ، فقوله : (شُكْراً) منصوب لأنه مفعول له.

ويقال شكرا ؛ منصوب لأنه مفعول به مثل قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) (٢).

وقد مضى طرف من القول في الشكر. والشكور كثير الشكر ، والأصل في الشكر الزيادة ، والشكيرة اسم لما ينبت تحت الأشجار منها ، ودابة شكور إذا أظهرت من السّمن فوق ما تعطى من العلف ؛ فالشكور الذي يشكر على النعمة فوق ما يشكر أمثاله وأضرابه. وإذا كان الناس يشكرونه على الرخاء فالشكور يشكره في البلاء.

والشاكر يشكر على البذل ، والشكور على المنع (٣) ... فكيف بالبذل؟

والشكور يشكر بقلبه ولسانه وجوارحه وماله ، والشاكر ببعض هذه.

ويقال فى (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) قليل من يأخذ النعمة منى ولا يحملها على الأسباب ؛ فلا يشكر الوسائط ويشكرنى. والأكثرون يأخذون النعمة من الله ، ويجدون الخير من قبله ثم يتقلدون المنّة من غير الله ، ويشكرون غير الله.

قوله جل ذكره : (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ).

__________________

(١) يقول السهروردي في عوارفه : «فى أخبار داود عليه‌السلام : إلهى كيف أشكرك وأنا لا أستطيع أن أشكرك إلا بنعمة ثانية من نعمك؟ فأوحى إليه إذا عرفت هذا فقد شكرتنى. (عوارف المعارف ص ٣٤٤)»

(٢) آية ٤ سورة المؤمنين.

(٣) وردت العبارة في الرسالة هكذا : الشاكر يشكر عند البذل والشكور عند المطل (الرسالة ص ٨٩).

١٧٩

كان سليمان ـ عليه‌السلام ـ يتكىء على عصاه وقتما قبض ، وبقي على ذلك الوصف مدة ، والشياطين كانوا مسخّرين يعملون ما أمرهم به ، ويتصرفون على الوجه الذي رسم لهم ، وينتهون عمّا زجرهم ، فقد كانوا يتوهمّون أنه حيّ. ثم إنّ الأرضة (١) أكلت عصاه فخرّ سليمان فعلم الشياطين عندئذ أنه مات ، فرجعوا إلى أعمالهم الخبيثة ، وانفكّ عنهم ما كانوا عليه من التسخير ؛ وهكذا الملك الذي يقوم ملكه بغيره ، ويكون استمساكه بعصا .. فإنه إذا سقط سقط بسقوطه ، ومن قام بغيره زال بزواله.

قوله جل ذكره : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥))

كانوا في رغد من العيش وسلامة الحال ورفاهته ، فأمروا بالصبر على العافية والشكر على النعمة ، وهذا أمر سهل يسير ، ولكنهم أعرضوا عن الوفاق ، وكفروا بالنعمة ، وضيّعوا الشكر ، فبدّلوا وبدّل بهم الحال ، كما قالوا :

بدلت وتبدلنا يا حسرة لمن

ابتغى عوضا لسلمى فلم يجد

قوله جل ذكره : (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦))

كذلك من الناس من يكون في رغد من الحال ، واتصال من التوفيق ، وطرب من القلب ، ومساعدة من الوقت ، فيرتكب زلّة أو يسىء أدبا أو يتبع شهوة ، ولا يعرف قدر ما هو به ، فيتغير عليه الحال ؛ فلا وقت ولا حال ، ولا طرب ولا وصال ؛ يظلم عليه النهار وقد كانت لياليه مضيئة ، كما قلنا (٢) :

__________________

(١) الأرضة ـ دودة تأكل الخشب.

(٢) هكذا في ولكنها في ص : كما قالوا.

١٨٠