لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

بعثوا ـ أضعف من كلّ ضعيف ؛ لأن القوى هنالك تسقط ، والدعاوى تبطل.

قوله جل ذكره : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ)

من ثقلت موازينه بالخيرات فهو في عيشة راضية ؛ أي مرضية.

ووزن الأعمال يومئذ يكون بوزن الصحف. ويقال : يخلق بدل كلّ جزء من أفعاله جوهرا ، وتوزن الجواهر ويكون ذلك وزن الأعمال.

(وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ)

من خفّت موازينه من الطاعات ـ وهم الكفار ـ فمأواه هاوية.

(وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ؟ نارٌ حامِيَةٌ)

سؤال على جهة التهويل (١). ولم يرد الخبر بأن الأحوال توزن ، ولكن يجازى كلّ بحالة مما هو كسب له ، أو وصل إلى أسبابها بكسب منه. (٢)

__________________

(١) هكذا في م وهي في ص (التحويل) وهي خطأ من الناسخ.

(٢) بعد أن تحدث عن ميزان الأعمال تحدث عن ميزان الأحوال ... ومن المعلوم أن الأعمال جهود كسبية ، والأحوال مواهب فيضية ... ولكن قد يكون فيها شىء من الكسب فمثلا : إذا رضى العبد بالقبض أنعم الحقّ عليه بالبسط ، وإذا راعى حدود الوقت ظفر بمقضيات الوقت وإلا .. كان الوقت عليه مقتا والإنسان لا يحاسب إلا على ما كسب.

٧٦١

سورة التكاثر

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(بِسْمِ اللهِ) : اسم عزيز تقدّس في آزاله عن كل مكان ، ولم يحتج في آباده إلى زمان أو إلى مكان ؛ لا يقطعه حدّ فأنّى يجوز في وصفه المكان؟ ولا يقطعه عدّ فأنّى تجوز في وصفه الزيادة والنقصان؟ (١)

قوله جل ذكره : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢))

أي : شغلكم تفاخركم فيما بينكم إلى آخر أعماركم إلى أن متّم.

ويقال : كانوا يفتخرون بآبائهم وأسلافهم ؛ فكانوا يشيدون بذكر الأحياء ، وبمن مضى من أسلافهم.

فقال لهم : شغلكم تفاخركم فيما بينكم حتى عددتم أمواتكم مع أحيائكم. وأنساكم تكاثركم بالأموال والأولاد طاعة الله.

(كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ)

على جهة التهويل.

(كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ)

أي : لو علمتم حقّ اليقين لارتدعتم عمّا أنتم فيه من التكذيب.

__________________

(١) واضح مدى ارتباط اتجاه القشيري في إشارة البسملة بالجوّ العام للسورة الذي ينبنى على اتخاذ الزيادة والنقصان مقياسا للتفاخر والادعاء.

٧٦٢

(لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)

أراد جميع ما أعطاهم الله من النعمة ، وطالبهم بالشكر عليها.

ومن النعيم الذي يسأل عنه العبد تخفيف الشرائع ؛ والرّخص في العبادات.

ويقال : الماء الحار في الشتاء ، والماء البارد في الصيف.

ويقال : منه الصحّة في الجسد ، والفراغ. (١) ويقال : الرضاء بالقضاء. ويقال : القناعة في المعيشة.

ويقال : هو المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) في البخاري وفي سنن ابن ماجه : «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ». رومعنى الغبن : أنهما نعمتان ولكن غالب الناس يصرفهما في غير محالهما.

٧٦٣

سورة العصر

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

كلمة من سمعها لم يدّخر عنها (١) ماله ؛ لأنّه علم أنه ـ سبحانه ـ يحسن مآله ، ومن عرفها لم يؤثر عليها نفسه ؛ لأنّه لم يجد بدونها أنسه.

كلمة من صحبها لم يمنع عنها روحه ؛ إذ وجد الحياة الأبدية له ممنوحة. (٢)

قوله جل ذكره : (وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢))

(الْعَصْرِ) : الدهر ـ أقسم به

ويقال : أراد به صلاة العصر. ويقال : هو العشيّ.

(الْإِنْسانَ) : أراد به جنس الإنسان. و «الخسر» : الخسران.

والمعنى : إن الإنسان لفى عقوبة من ذنوبه. ثم استثنى المؤمنين فقال :

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ)

الذين أخلصوا في العبادة وتواصوا بما هو حقّ ، وتواصوا بما هو حسن وجميل ، وتواصوا بالصبر.

وفي بعض التفاسير : قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا) يعنى أبابكر ، (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : يعنى عمر

__________________

(١) هكذا في ص وهي في م (عنة).

(٢) هكذا في م وهي في ص (مفتوحة) وإن كانت هناك زيادة كالميم تتلو الميم الأولى.

٧٦٤

و (وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ) يعنى عثمان ، و (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) يعنى عليّا ـ رضى الله عنهم أجمعين. (١)

والخسران الذي يلحق الإنسان على قسمين : فى الأعمال ويتبيّن ذلك في المآل ، وفي الأحوال ويتبيّن ذلك في الوقت والحال ؛ وهو القبض بعد البسط ، والحجبة بعد القربة ، والرجوع إلى الرّخص بعد إيثار الأشقّ والأولى.

(وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ) : وهو الإيثار مع الخلق ، والصدق مع الحقّ.

(وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) : على العافية ... فلا صبر أتمّ منه.

ويقال : بالصبر مع الله ... وهو أشدّ أقسام الصبر (٢)

__________________

(١) تنسب هذه الرواية إلى أبيّ بن كعب الذي قال : قرأت على رسول الله (ص) (وَالْعَصْرِ) ثم قلت : ما تفسيرها يا نبيّ الله؟ فقال : (وَالْعَصْرِ) قسم من الله ، أقسم ربكم بآخر النهار (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) :

أبو جهل ... إلى آخر الرواية كما نقلها القشيري.

(٢) انظر «الرسالة» باب الصبر ص ٩٢.

٧٦٥

سورة الهمزة

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(بِسْمِ اللهِ) : اسم من لا غرض له في أفعاله ، اسم من لا عوض عنه في جلاله وجماله. اسم من لا يصبر العبد عنه مختارا ، اسم من لا يجد الفقير (١) من دونه قرارا ، اسم من لا يجد أحد من حكمه فرارا.

قوله جل ذكره : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١))

يقال : رجل همزة لمزة : أي كثير الهمز والّلمز للناس وهو العيب والغيبة.

ويقال : الهمزة الذي يقول في الوجه ، والّلمزة الذي يقول من خلفه.

ويقال : الهمز الإشارة بالرأس والجفن وغيره ، واللّمز باللسان.

ويقال : الهمزة الذي يقول ما في الإنسان ، واللّمزة الذي يقول ما ليس فيه.

قوله جل ذكره : (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ)

«جمّع» بالتشديد (٢) على التكثير ، وبالتخفيف.

(يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ)

أي : يبقيه في الدنيا .. كلّا ليس كذلك :

__________________

(١) الفقير هنا المقصود به الصوفيّ المفتقر إلى الله ، انظر آخر السورة.

(٢) هكذا في م وهي في ص غير موجودة ، مما قد يشعر باحتمال انصراف الكلام إلى (عَدَّدَهُ) فهى أيضا تقرأ على التشديد والتخفيف.

٧٦٦

(كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ)

ليطرحنّ في جهنّم. (وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ)؟ على جهة التهويل لها.

فهم في نار الله الموقدة التي يبلغ ألمها الفؤاد.

(إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ)

مطبقة.

(فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ)

(عَمَدٍ) جمع عماد. وقيل : إنها عمد من نار تمدّد وتضرب عليهم ؛ كقوله : (أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) (١)

ويقال : الغنى بغير الله فقر ، والأنس بغيره وحشة ، والعزّ بغيره ذلّ.

ويقال : الفقير من استغنى بماله ، والحقير : من استغنى بجاهه ، والمفلس : من استغنى بطاعته ، والذليل : من استغنى بغير الله ، والجليل : من استغنى بالله.

ويقال : بيّن أن المعرفة إذا اتّقدت في قلب المؤمن أحرقت كلّ سؤل وأرب فيه ، ولذلك تقول جهنّم ـ غدا ـ للمؤمن : «جز ، يا مؤمن ... فإنّ نورك قد أطفأ لهبى»!

__________________

(١) آية ٢٩ سورة الكهف.

٧٦٧

سورة الفيل

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

(بِسْمِ اللهِ) : اسم غنيّ من أطاعه أغناه ، ومن خالفه أضلّه وأعماه.

اسم عزيز من وافقه رقّاه إلى الرتبة العليا ، ومن خالفه ألقاه في المحنة الكبرى.

قوله جل ذكره : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١))

ألم ينته إليك فيما أنزل عليك علم ما فعل ربّك بأصحاب الفيل؟.

وفي قصة أصحاب الفيل دلالة على تخصيص الله البيت العتيق بالحفظ والكلاءة. وذلك : أنّ أبرهة ـ ملك اليمن ـ كان نصرانيا ، وبنى بيعة لهم بصنعاء ، وأراد هدم الكعبة ليصرف الحجّ إلى بيعتهم.

وقيل : نزل جماعة من العرب ببلاد النجاشي ، وأوقدوا نارا لحاجة لهم ، ثم تغافلوا عنها ولم يطفئوها ، فهبّت الريح وحملت النار إلى الكنيسة وأحرقتها ، فقصد أبرهة الكعبة ليهدمها بجيشه.

فلمّا قرب من مكة أصاب مائتى جمل لعبد المطلب ، فلمّا أخبر بذلك ركب إليهم ، فعرفه رجلان ، فقالا له :

ارجع .. فإن الملك غضبان.

٧٦٨

فقال : واللات والعزّى لا أرجع إلّا بإبلى.

فقيل لأبرهة : هذا سيّد قريش ببابك ؛ فأذن له ، وسأله عن حاجته ؛ فأجاب أبرهة : إنها لك غدا ، إذا تقدّمت إلى البيت (١).

فعاذ عبد المطلب إلى قريش ، وأخبرهم بما حدث ، ثم قام وأخذ بحلقة باب الكعبة وهو يقول :

لا همّ إنّ العبد

يمنع رحله فامنع حلالك

لا يغلبنّ صليبهم

ومحالهم عدوا محالك

إن يدخلوا البلد الحرا

م فأمر ما بدا لك (٢)

فأرسل الله عليهم طيرا أخضر (٣) من جهة البحر طوال الأعناق ، فى منقار كل طائر حجر وفي مخلبه حجران.

قيل : الحجرة منها فوق العدس دون الحمص.

وقيل : فوق الحمص دون الفستق ، مكتوب على كل واحدة اسم صاحبها.

وقيل : مخطّطة بالسّواد. فأمطرت عليهم ، وماتوا كلّهم.

وقيل : كان الفيل ثمانية ؛ وقيل : كان فيلا واحدا.

وفي رواية : إنه كان قبل مولده صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأربعين سنة.

وقيل : بثلاثة وعشرين سنة. وفي رواية «ولدت عام الفيل» (٤).

قوله جل ذكره : (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢))

أي : مكرهم في إبطال.

__________________

(١) قيل : إن النجاشي قال له : لقد أعجبتنى حين رأيتك ، ولكنى زهدت فيك حين كلمتنى .. أتكلمنى في بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه؟ فقال له عبد المطلب : أنا رب الإبل ... أما البيت فله رب سيمسكه.

(٢) الحلال جمع حل. والمحال : القوة. والعدو بالعين المهملة : الاعتداء.

(٣) قال سعيد بن جبير : هى طير خضر لها مناقير صفر.

(٤) وفي رواية : «ولدت يوم الفيل». وقال قيس بن مخرمة : «ولدت أنا ورسول الله (ص) عام الفيل».

٧٦٩

(وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ)

(أَبابِيلَ) مجتمعة ومتفرّقة.

(تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ)

قيل بالفارسية : سنگك أو گل ـ أي طين طبخ بالنار كالآجر (١).

(فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)

(كَعَصْفٍ) كأطراف الزرع قبل أن يدرك. (مَأْكُولٍ) أي ثمره مأكول.

ويقال : إذا كان عبد المطلب ـ وهو كافر ـ أخلص في التجائه إلى الله في استدفاع البلاء عن البيت ـ فالله لم يخيّب رجاءه ... ، وسمع دعاءه ... فالمؤمن المخلص إذا دعا ربّه لا يردّه خائبا.

ويقال : إنما أجيب لأنّه لم يسأل الله لنفسه ، وإنما لأجل البيت .. وما كان لله لا يضيع.

__________________

(١) أخرج الفريابي عن مجاهد قال : سجيل بالفارسية أولها حجارة وآخرها طين. (نقله السيوطي في إتقانه ح ١ ص ١٣٨ في باب ما وقع في القرآن بغير لغة العرب.

٧٧٠

سورة قريش

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

(بِسْمِ) : الباء فى (بِسْمِ) تشير إلى براءة سرّ الموحّدين عن حسبان الحدثان ، وعن كلّ شىء ممّا لم يكن فكان ، وتشير إلى الانقطاع إلى الله في السّرّاء والضرّاء ، والشّدّة والرخاء.

والسين تشير إلى سكونهم في جميع أحوالهم تحت جريان ما يبدو من الغيب بشرط مراعاة الأدب.

والميم تشير إلى منّة الله عليهم بالتوفيق (١) لما تحقّقوا به من معرفته ، وتخلّقوا به من طاعته (٢).

قوله جل ذكره : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢))

«الإيلاف» : مصدر آلف ، إذا جعلته يألف ... وهو ألف إلفا (٣).

والمعنى : جعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش ، أي ليألفوا رحلتهم في الشتاء والصيف.

وكانت لهم رحلتان للامتيار (٤) : رحلة إلى الشام في القيظ ، ورحلة إلى اليمن في الشتاء.

__________________

(١) هكذا في ص وهي في م (بالتحقيق).

(٢) يستطيع القارئ أن يربط بين فحوى البسملة كما يتذوقها القشيري هنا وبين الجو العام للسورة.

(٣) عند هذه النقطة تنتهى النسخة (ص) ونعتمد فيما بقي من الكتاب على النسخة م.

(٤) الامتيار طلب السيرة وجمعها.

٧٧١

والمعنى : أنعم الله عليهم بإهلاك عدوّهم ليؤلّفهم رحلتيهم.

وقيل : فليعبدوا ربّ هذا البيت لإيلاف قريش ، كأنه أعظم المنّة عليهم. وأمرهم بالعبادة :

(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ)

فليعبدوه لما أنعم به عليهم.

وقيل : فليعبدوا ربّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع بعد ما أصابهم من القحط حينما دعا عليهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

(وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ).

حين جعل الحرم آمنا ، وأجارهم من عدوّهم.

ويقال : أنعم عليهم بأن كفاهم الرحلتين بجلب الناس الميرة إليهم من الشام ومن اليمن.

ووجه المنّة في الإطعام والأمان هو أن يتفرّغوا إلى عبادة الله ؛ فإنّ من لم يكن مكفىّ الأمور لا يتفرّغ إلى الطاعة ، ولا تساعده القوة ولا القلب ـ إلّا عند السلامة بكلّ وجه وقد قال تعالى.

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) (٢) فقدّم الخوف على جميع أنواع البلاء.

__________________

(١) دعا عليهم الرسول (ص) لمّا كذّبوه وقال : «اللهم اجعلها عليهم سنين كسنى يوسف» فاشتد القحط ، فقالوا : يا محمد ادع الله لنا فإنّا مؤمنون ، فدعا فأخصبت الأرض ، وحملوا الطعام إلى سائر البلدان.

(٢) آية ١٥٥ سورة البقرة.

٧٧٢

سورة الدّين (١)

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

(بِسْمِ اللهِ) كلمة سماعها غذاء أرواح المحبين ، ضياء أسرار الواجدين ، شفاء قلوب المتيّمين ؛ بلاء مهج المساكين ، دواء كلّ فقير مسكين (٢).

قوله جل ذكره : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١))

نزلت الآية على جهة التوبيخ ، والتعجّب من شأن تظلّم اليتيم من الكفار.

فقال : أرأيت الذي يكذّب بالدين ، وبالحساب والجزاء؟

(فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ)

يدفعه بجفوة ، ويقال : يدفعه عن حقّه (٣).

(وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ)

أي : لا يحثّ على إطعام المسكين ، وإنما يدعّ اليتيم ؛ لأنّ الله تعالى قد نزع الرحمة من قلبه ، ولا تنزع الرحمة إلّا من قلب شقيّ.

وهو لا يحث على طعام المسكين ، لأنه في شحّ نفسه وأمر بخله.

قوله جل ذكره : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ)

__________________

(١) يقول السيوطي في إتقانه : تسمى سورة أرأيت ، وسورة الدين ، وسورة الماعون (الإتقان ح ١ ص ٥٥)

(٢) مرة أخرى نلفت النظر إلى ما بين إشارات البسملة والجو العام للسورة.

(٣) قال ابن جريح : نزلت في أبى سفيان ، وكان ينحر في كل أسبوع جزورا فطلب منه يتيم شيئا ، فقرعه بعصاه.

٧٧٣

السّاهى عن الصبرة الذي لا يصلّى. ولم يقل : الذين هم في صلاتهم ساهون .. ولو قال ذلك لكان الأمر عظيما.

(الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) : أي يصلون ويفعلون ذلك على رؤية الناس ـ لا إخلاص لهم

(وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ)

الماعون. مثل الماء ، والنار ، والكلأ ، والفأس ، والقدر وغير ذلك من آلة البيت ، ويدخل في هذا : البخل ، والشّحّ بما ينفع الخلق مما هو ممكن ومستطاع.

٧٧٤

سورة الكوثر

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

(بِسْمِ اللهِ) اسم يجلّ العبد بإجلاله ولا يجل هو إلا باستحقاق علوّه في آزاله.

اسم عزيز أعزّ من شاء بأفضاله وإقباله ؛ وأذلّ أعداءه بسلاسله وأغلاله ، والتخليد فى جحيمه وأنكاله.

قوله جل ذكره : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١))

(الْكَوْثَرَ) : أي الخير الكثير. ويقال : هو نهر في الجنة.

ويقال : النبوّة والكتاب. وقيل : تخفيف الشريعة.

ويقال : كثرة أمّته.

ويقال : الأصحاب والأشياع. ويقال : نور في قلبه.

ويقال : معرفته بربوبيته.

(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)

أي صلّ صلاة العيد (وَانْحَرْ) النّسك (١)

ويقال : جمع له في الأمر بين : العبادة البدنية ، والمالية.

ويقال (وَانْحَرْ) أي استقبل القبلة بنحرك. أو ارفع يديك في صلاتك إلى نحرك (٢)

__________________

(١) فى البخاري وغيره : قال رسول الله (ص) «أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلّى ، ثم نرجع فننحر ، من فعل فقد أصاب نسكنا ، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدّمه لأهله ، ليس من النّسك في شىء لأن ترتيب الآية : صلاة ثم نحر. وقال أنس : كان النبي (ص) ينحر ثم يصلى حتى نزلت.

(٢) عن على رضى الله عنه : لمّا نزلت الآية سأل النبيّ جبريل : ما هذه النحيرة التي أمرنى الله بها؟ قال : ليست بنحيرة ولكنه يأمرك إذا تحرّمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبّرت .. فزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيره.

٧٧٥

ويقال : ضع يمينك على يسارك في الصلاة واجعلها تحت نحرك.

(إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)

أي : لا يذكر بخير ، منقطع عنه كل خير. (١)

__________________

(١) قيل : هو العاص ، وقيل : هو أبو جهل ، وقيل : هو عقبة بن أبى معيط. والأبتر من الرجال : من لا ولد له ، أو مات أبناؤه وبقيت بناته.

٧٧٦

سورة الكافرون (١)

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(بِسْمِ اللهِ) كلمة من آمن بها أمن من زوال النّعمى ، وحظى بنعيم الدنيا والعقبى ، وسعد سعادة لا يشقى ، ووجد ملكا لا يفنى ، وبقي في العزّ والعلى.

قوله جل ذكره : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢))

من أصنامكم.

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ ما)

ما أعبد أي «من» أعبد.

(وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ)

فى زمانكم.

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ)

كرّر اللفظ على جهة التأكيد.

(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)

أي : لكم جزاؤكم على دينكم ، ولى الجزاء على دينى.

__________________

(١) من أسمائها : سورة العبادة ، والمقشقشة.

٧٧٧

والعبودية (١) القيام بأمره على الوجه الذي به أمر ، وبالقدر الذي به أمر ، وفي الوقت الذي فيه أمر.

ويقال : صدق العبودية في ترك الاختيار ، ويظهر ذلك في السكون تحت تصاريف الأقدار من غير انكسار.

ويقال : العبودية انتفاء الكراهية بكلّ وجه من القلب كيفما صرّفك مولاك.

__________________

(١) واضح أن إشارة القشيري تستند إلى «العبودية» بينما الآيات تتحدث عن «العبادة» ولكن الصلة وثيقة بين كليهما وبين «العبودة» : ارجع في ذلك إلى رسالة القشيري ص ٩٩.

٧٧٨

سورة النّصر

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

(بِسْمِ اللهِ) : اسم كريم يبصر ويستر ، ويعلم ويحلم (١) ، ويمدح ولا يفضح ، ويعفو عن جميع ما يجترم العبد ويصفح ؛ يعصى العبد على التوالي ، ويغفر الحقّ ولا يبالى.

قوله جل ذكره : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢))

النصر الظّفر بالعدوّ ، و (الْفَتْحُ) فتح مكة.

يسلمون جماعات جماعات.

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ)

أكثر حمد ربّك ، وصلّ له ، وقدّسه.

ويقال : صلّ شكرا لهذه النعمة.

(وَاسْتَغْفِرْهُ) وسل مغفرته.

(إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً).

لمن تاب ؛ فإنه يقبل توبته.

ويقال : نصرة الله ـ سبحانه ـ له بأن أفناه عن نفسه ، وأبعد عنه أحكام البشرية ، وصفّاه من الكدورات النفسانية. وأمّا (الْفَتْحُ) : فهو أن رقّاه إلى محلّ الدنوّ ، واستخلصه بخصائص الزلفة ، وألبسه لباس الجمع ، واصطلمه عنه ، وكان له عنه ، ولنفسه ـ سبحانه ـ منه ، وأظهر عليه ما كان مستورا من قبل من أسرار الحقّ ، وعرّفه ـ من كمال معرفته به ـ ما كان جميع الخلق متعطشا إليه (٢).

__________________

(١) فى ص (يحكم) ولكننا آثرنا أن تكون (يحلم) مرجحين أن ذلك أقرب إلى الأصل ؛ لأن الحلم هنا أقرب إلى السياق.

(٢) تعبر هذه الفقرة تعبيرا صادقا عن مدى نظرة الصوفية إلى المصطفى على أنه «الصوفيّ الأول».

٧٧٩

سورة أبى لهب

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

(بِسْمِ اللهِ) كلمة جبّارة للمذنبين ، تجبر أعمالهم ، وتحقّق آمالهم ، وهي للعارفين تصغر فى أعينهم أحوالهم ، وتكمّل ـ عن شواهدهم ـ امتحاءهم (١) واستئصالهم ، وتحقّق لهم ـ بعد فنائهم عنهم ـ وصالهم.

قوله جل ذكره : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤))

يلزمها إذا دخلها ؛ فلا براح له منها. وامرأته أيضا ستصلى النار معه.

(فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ).

__________________

(١) فى ص (امتحانهم) والصواب أن تكون (امتحاءهم) أي حصول «المحو» لهم.

(٢) حين قال أبو لهب : «إن كان ما يقوله ابن أخى حقا فإنى أفدى نفسى بما لى وولدى» فنزل : (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ).

(٣) وعلى الرفع قراءة نافع. وقرأ عاصم بالنصب على الذمّ كأنها اشتهرت بذلك ـ كقوله تعالى : (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا) آية ٦١ سورة الأحزاب.

٧٨٠