لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

ويقال : شاهدا من قبلنا ، ومبشّرا بأمرنا ، ونذيرا من لدنّا ولنا ومنا.

قوله جل ذكره : (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩))

قرىء (١) : «ليؤمنوا» بالياء ؛ لأن ذكر المؤمنين جرى ، أي ليؤمن المؤمنون بالله ورسوله ويعزروه وينصروه أي الرسول ، ويؤقروه : أي يعظّموا الرسول. وتسبّحوه : أي تسبّحوا الله وتنزهوه بكرة وأصيلا (٢).

وقرىء : (لِتُؤْمِنُوا) ـ بالتاء ـ أيها المؤمنون بالله ورسوله وتعزروه ـ على المخاطبة. وتعزيره يكون بإيثاره بكلّ وجه على نفسك ، وتقديم حكمه على حكمك. وتوقيره يكون باتباع سنّته ، والعلم بأنه سيّد بريّته (٣).

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ)

وهذه البيعة هي بيعة الرضوان بالحديبية تحت سمرة (٤).

وذلك أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعث عثمان رضى الله عنه إلى قريش ليكلّمهم فأرجفوا بقتله. وأتى عروة بن مسعود (٥) إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال :

جئت بأوشاب الناس لتفضّ بيضتك بيدك ، وقد استعدت قريش لقتالك ، وكأنّى بأصحابك

__________________

(١) قراءة ابن كثير وابن محيصن وأبى عمرو ... وكذلك «يسبحوه» بالياء ، والباقون بالتاء على الخطاب

(٢) ونلاحظ أن القشيري قد توقف قبل تسبحوه فجعلها بالتاء ، وهناك من المفسرين من يرى ذلك أيضا (انظر القرطبي ح ١٦ ص ٢٦٧).

(٣) عزرت الرجل أي رددت عنه ونصرته وأيّدته ـ وهو من الأضداد ـ لأنه قد يأتى بمعنى أدّبته ولسته.

(٤) إشارة إلى قوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) والسمرة : شجرة الطلح.

(٥) جاء في السيرة لابن إسحاق ـ ٣ ص ٧٧٨.

بعد أن خرج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت ، فلما سمعت قريش بذلك استعدت لقتاله مع أنه لم يكن ينوى قتالا وتعاقبت السفراء بينه وبينهم ، وكان كل سفير من قريش يذهب إلى النبي ثم يعود ليقنع قريش بحقيقة نية النبي ولكنهم كانوا لا يرضون بما جاء به ، حتى جاء دور عروة بن مسعود الثقفي ـ وهو عند قريش غير متهم وقال للنبى «إن قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود النمور ، يعاهدون الله لا تدخلها أبدا عليهم عنوة. وحينما قال عروة : وايم الله لكأنى بهؤلاء ـ يريد أصحاب الرسول ـ قد انكشفوا عنك غدا. فانبرى أبوبكر قائلا : أنحن ننكشف عنه ... إلخ.

٤٢١

قد انكشفوا عنك إذا مسّهم حرّ السلاح! فقال أبو بكر : أتظن أنّا نسلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟

فبايعهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن يقاتلوا وألا يهربوا (١) ، فأنزل الله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) : أي عقدك عليهم هو عقد الله.

قوله جل ذكره : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ).

أي (يَدُ اللهِ) : فى المنة عليهم بالتوفيق والهداية (٢) : (فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) بالوفاء حين بايعوك.

ويقال : قدرة الله وقوته في نصرة دينه ونصرة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوق نصرهم لدين الله ولرسوله.

وفي هذه الآية تصريح بعين الجمع (٣) كما قال : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى)

قوله جل ذكره : (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ)

أي عذاب النكث عائد عليه.

(وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً).

أي من قام بما عاهد الله عليه على التمام فسيؤتيه أجرا عظيما.

وإذا كان العبد بوصف إخلاصه ، بعامل الله في شىء هو به متحقّق ، وله بقلبه شاهد فإنّ الوسائط التي تظهرها أمارات التعريفات تجعله محوا في أسراره ... والحكم عندئذ راجع إلى الواحد ـ جلّ شأنه (٤).

__________________

(١) قال جابر بن عبد الله بايعنا رسول الله (ص) تحت الشجرة على الموت وعلى ألا نفر فما نكث أحد منا البيعة إلّا جد بن قيس وكان مناففا اختبأ تحت بطن بعيره ولم يسر مع القوم.

(٢) نلاحظ أن القشيري هنا يؤول اليد حتى ينفى عن الله الاتصاف بالجارحة.

(٣) أنت حين بايعت أو حين رميت فأنت من حيث الظاهر تقوم بعمل وأنت في حال الفرق ، ولكن الحقيقة أنه لا فاعل إلا الله فمنه التوفيق والسداد والإصابة .. وهذا هو حال الجمع. وبمقدار ما يكون العبد في منزلة التمكين وبعيدا عن التلوين يكون دنوه من حال الجمع ، التي بعدها حال جمع الجمع .. ونبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عندها إذ هو صلوات الله عليه محمول لا متحمل ؛ اى بربه لا بنفسه.

(٤) أي إذا أفضى العبد بشىء من العرفان عندئذ فيكون نطقة وما يظهر عليه من الله وبالله.

٤٢٢

قوله جل ذكره : (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ)

لمّا قصد رسول الله عليه وسلم التوجه إلى الحديبية تخلّف قوم من الأعراب عنه. قيل : هم أسلم وجهينة وغفار ومزينة وأشجع ، وقالوا : (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) وليس لنا من يقوم بشأننا وقالوا : انتظروا ماذا يكون ؛ فماهم في قريش إلّا أكلة رأس (١). فلما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءوه معتذرين بأنه لم يكن لهم أحد يقوم بأمورهم! وقالوا : استغفر لنا.

فأطلعه الله ـ سبحانه ـ على كذبهم ونفاقهم ؛ وأنهم لا يقولون ذلك إخلاصا ، وعندهم سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ، فإنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.

(قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً)

فضحهم. ويقال : ما شغل العبد عن الله شؤم عليه.

ويقال : عذر المماذق وتوبة المنافق كلاهما ليس حقائق.

قوله جل ذكره (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢))

حسبتم أن لن يرجع الرسول والمؤمنون من هذه السفرة إلى أهليهم أبدا ، وزيّنت لكم الأمانى ألا يعودوا ، وأنّ الله لن ينصرهم. (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) أي هالكين فاسدين.

__________________

(١) أي هم قليل.

٤٢٣

ويقال : إنّ العدوّ إذا لم يقدر أن يكيد بيده يتمنّى ما تتقاصر عنه مكنته ، وتلك صفة كلّ عاجز ، ونعت كلّ لئيم. ثم إن الله ـ سبحانه ـ بعكس ذلك عليه حتى لا يرتفع مراده (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (١).

ويقال : من العقوبات الشديدة التي يعاقب الله بها المبطل أن يتصّور شيئا يتمنّاه ويوطّن نفسه عليه لفرط جهله. ويلقى الحقّ في قلبه ذلك التمني حتى تسول له نفسه أن ذلك كالكائن .. ثم يعذبه الله بامتناعه.

قوله جل ذكره : (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣))

وما هو آت فقريب .. وإنّ الله ليرخى عنان الظّلمة ثم لا يفلتون من عقابه .. وكيف ـ وفي الحقيقة ـ ما يحصل منهم هو الذي يجريه (٢) عليهم؟

قوله جل ذكره : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤))

يغفر ـ وليس له شريك يقول له : لا تفعل ، ويعذّب من يشاء ـ وليس هناك مانع عن فعله يقول له : لا تفعل.

قوله جل ذكره : (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا)

وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين لما رجعوا من الحديبية وعدهم الله خيبر ،

__________________

(١) آية ٤٣ سورة فاطر.

(٢) هكذا في ص وهي في م (يحزيه) بالزاي وقد رجحنا (يجريه) أولا لاتصالها بمذهب القشيري وكون الله ـ على الحقيقة ـ فاعل كل شىء حتى أكساب العباد. وثانيا لأنها لو كانت بالزاي لقال : يجزيهم عليه.

٤٢٤

وأنّ فيها سيظفر بأعدائه ، فلمّا همّ بالخروج أراد هؤلاء المخلفون أن يتبعوه لما علموا في ذلك من الغنيمة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما يخرج معى إلى خيبر من خرج إلى الحديبية ، والله بذلك حكم ألا يخرجوا معنا»

فقال المتخلفون : إنما يقول المؤمنون ذلك حسدا لنا ؛ وليس هذا من قول الله! فأنزل الله تعالى ذلك لتكذيبهم ، ولبيان حكمه ألا يستصحبهم فهم أهل طمع ، وكانت عاقبتهم أنهم لم يجدوا مرادهم ، وردّوا بالمذلة وافتضح أمرهم.

قوله جل ذكره : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦))

جاء في التفاسير أنهم أهل اليمامة أصحاب مسيلمة ـ وقد دعاهم أبوبكر وحاربهم ، فالآية تدل على إمامته ... وقيل هم أهل فارس ـ وقد دعاهم عمر بن الخطاب وحاربهم ؛ فالآية تدل على صحة إمامته. وصحة إمامته تدل على صحة إمامة أبى بكر. (١) (أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) أولى شدّة. فإن أطعتم استوجبتم الثواب ، وإن تخّلفتم استحققتم العقاب. ودلت الآية على أنه يجوز أن تكون للعبد بداية غير مرضية ثم يتغير بعدها إلى الصلاح ـ كما كان لهؤلاء وأنشدوا :

إذا فسد الإنسان بعد صلاحه

فرجّ له عود الصلاح .. لعلّه

قوله جل ذكره : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ

__________________

(١) العبارات التي وردت في إثبات صحة الإمامين جاءت في م ولم ترد في ص.

٤٢٥

يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧))

هؤلاء أصحاب الأعذار .. رفع عنهم الحرج في تخلفهم عن الوقعة في قتال المشركين.

وكذلك من كان له عذر في المجاهدة مع النفس .. فإنّ الله يحبّ أن تؤتى رخصه كما كما يحب أن تؤتى عزائمه (١).

قوله جل ذكره : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨))

هذه بيعة الرضوان ، وهي البيعة تحت الشجرة بالحديبية ، وسميت بيعة الرضوان لقوله تعالى (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ...).

وكانوا ألفا وخمسمائة وقيل وثلاثمائة وقيل وأربعمائة. وكانوا قصدوا دخول مكة ، فلما بلغ ذلك المشركين قابلوهم صادّين لهم عن المسجد الحرام مع أنه لم يكن خارجا لحرب ، فقصده المشركون ، ثم صالحوه على أن ينصرف هذا العام ، ويقيم بها ثلاثا ثم يخرج ، (وأن يكون بينه وبينهم صلح عشرة أعوام بتداخل فيها الناس ويأمن بعضهم بعضا) (٢) وكان النبي قد رأى في منامه أنهم يدخلون المسجد الحرام آمنين ، فبشر بذلك أصحابه ، فلما صدهم المشركون خامر قلوبهم شىء ، وعادت إلى قلوب بعضهم تهمة حتى قال الصّدّيق : لم يقل العام! فسكنت قلوبهم بنزول الآية ؛ لأن الله سبحانه علم ما في قلوبهم من الاضطراب والتشكك. فأنزل السكينة في قلوبهم ،

__________________

(١) هذه لفتة هامة جدا ، حيث لم نتعود من القشيري في سائر مصنفاته أن يستجيز الرخصة. وربما هو يتحدث هنا عن عامة المسلمين ، ولكن حينما يتحدث عن الصوفية يعتبر اللجوء إلى الرخصة بمثابة فسخ عقد الإرادة (أنظر الرسالة ص ١٩٩).

(٢) ما بين الأقواس تكملة من عندنا اعتمدنا فيها على المصادر المختلفة. أوردناها ليتضح الساق

٤٢٦

وثبّتهم باليقين. (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) هو فتح خيبر بعد مدة يسيرة ، وما حصلوا عليه من مغانم كثيرة من خيبر. وقيل ما يأخذونه إلى يوم القيامة (١).

وفي الآية دليل على أنه قد تخطر ببال الإنسان خواطر مشكّكة ، وفي الرّيب موقعة ، ولكن لا عبرة بها ؛ فإنّ الله سبحانه إذا أراد بعبد خيرا لازم التوحيد قلبه ، وقارن التحقيق سرّه فلا يضرّه كيد الشيطان ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) (٢).

(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) ويدخل في ذلك جميع ما يغنمه المسلمون إلى القيامة فعجّل لكم هذه ـ يعنى خيبر (٣) ، وقيل : الحديبية.

(وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) لما خرجوا من المدينة حرسهم الله ، وحفظ عيالهم ، وحمى بيضتهم حين هبّ اليهود (٤) فى المدينة بعد خروج المسلمين ، فمنعهم الله عنهم.

أو يقال : كفّ أيدى الناس من أهل الحديبية.

(وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً)

لتكون هذه آية للمؤمنين وعلامة يستدّلون بها على حراسة الله لهم.

(وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) : فى التوكل على الله والثقة به.

ويقال : كفّ أيدى الناس عن العبد هو أن يرزقه من حيث لا يحتسب ، لئلا يحتاج إلى أن يتكفّف الناس.

ويقال : أن يرفع عنه أيدى الظّلمة.

__________________

(١) هذا أيضا قول ابن عباس ومجاهد.

(٢) آية ٢٠١ سورة الأعراف.

(٣) يرجح أنها خيبر ، لأن الحديبية كان فيها صلح.

(٤) يرجح الطبري ذلك ، لأن كف أيدى المشركين في الحديبية مذكور في قوله تعالى :

(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ)

٤٢٧

ويقال : ألا تحمله المطالبة بسبب كثرة العيال ونفقتهم الكبيرة على الخطر بدينه ؛ فيأخذ من الأشياء ـ برخصة التأويل ـ ما ليس بطيّب (١).

قوله جل ذكره : (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١))

قيل : فتح الروم وفارس (٢). وقيل : فتح مكة (٣).

وكان الله على كل شىء قديرا : فلا تعلقوا بغيره قلوبكم.

قوله جل ذكره : (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢))

يعنى : خيبر وأسد وغطفان وغيرهم ـ لو قاتلوكم لانهزموا ، ولا يجدون من دون الله ناصرا

قوله جل ذكره : (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣))

أي سنّة الله خذلانهم ولن تجد لسنة الله تحويلا.

قوله جل ذكره : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤))

قيل إن سبعين رجلا من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون قتله (فأخذناهم سلما فاستحييناهم) فأنزل الله هذه الآية في شأنهم (٤).

__________________

(١) مرة أخرى ننبه إلى إضافة هذا الكلام إلى موقف القشيري من الرخصة ومداها.

(٢) قال ابن عباس : هى أرض فارس والروم وجميع ما فتحه المسلمون. وهو قول الحسن ومقاتل وابن أبى ليل.

(٣) عن الحسن أيضا وقتادة ، وقال عكرمة : حنين.

(٤) فى ص ، وم (فأخذهم سلمان) ، وهما خطأ في النسخ ، فالرواية عن يزيد بن هارون قال : أخبرنا حماد ابن سلمة عن ثابت عن أنس أن (ثمانين) رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي (ص) من جبل التنعيم متسلحين يريدون

٤٢٨

وقيل أخذ اثنى عشر رجلا من المشركين ـ بلا عهد ـ فمنّ عليهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) وقيل : هم أهل الحديبية كانوا قد خرجوا لمنع المسلمين ، وحصل ترامى الأحجار بينهم ؛ فاضطرهم المسلمون إلى بيوتهم ، فأنزل الله هذه الآية يمن عليهم حيث كف أيدى بعضهم عن بعض عن قدرة من المسلمين لا عن عجز ؛ فأما الكفار فكفّوا أيديهم رعبا وخوفا ؛ وأمّا المسلمون فنهيا من قبل الله ، لما في أصلابهم من المؤمنين ـ أراد الله أن يخرجوا ، أو لما علم أن قوما منهم يؤمنون.

والإشارة فيه : أن من الغنيمة الباردة والنعم السنية أن يسلم الناس منك ، وتسلم منهم. وإن الله يفعل بأوليائه ذلك ، فلا من أحد عليهم حيف ، ولا منهم على أحد حيف ولا حساب ولا مطالبة ولا صلح ولا معاتبة ، ولا صداقة ولا عداوة .. وكذا من كان بالحق ـ وأنشدوا :

فلم يبق لى وقت لذكر مخالف

ولم يبق لى قلب لذكر موافق.

قوله جل ذكره : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥))

(كَفَرُوا) وجحدوا ، (وَصَدُّوكُمْ) ومنعوكم عن المسجد الحرام سنة الحديبية.

(وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً) (٢) : أي منعوا الهدى أن يبلغ منحره ، فمعكوفا حال من الهدى أي محبوسا.

__________________

ـ غرة (أن يصيبوه على غفلة) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، فأخذناهم سلما فاستحييناهم. (أي أخذوا قهرا وأسلموا أنفسهم (وقال ابن الأثير) السلم (بكسر السين وفتحها لغتان في الصلح). وفي رواية قتادة أن النبي سألهم : «هل لكم على ذمة؟ (أي عهد) قالوا : لا ، فأرسلهم فنزلت.

وفي رواية الترمذي أنهم ثمانون رجلا هبطوا عليه عند صلاة الصبح ، فأخذهم وأعتقهم. وذكر ابن هشام أنهم يسمّون العتقاء .. ومنهم معاوية وأبوه.

(١) عن قتادة : أن المشركين رموا رجلا من أصحاب النبي يقال له زنيم بسهم فقتلوه ، فبعث النبي خيلا فأتو باثنى عشر فارسا من الكفار ، فقال لهم النبي (ص) : هل لكم على ذمة؟ ... إلخ.

(٢) فى البخاري عن ابن عمر قال : خرجنا مع رسول الله (ص) معتمرين فحال كفار قريش دون البيت فنحر الرسول وحلق رأسه ، فنحروا بنحره وحلقوا ، وقد غضب الرسول ممن توقف عن ذلك.

٤٢٩

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد ساق تلك السّنة سبعين بدنة.

قوله جل ذكره : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ) (١) (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ)

لو تسلطتم عليهم لأصابتهم معرة ومضرّة منكم بغير علم لسلّطناكم عليهم ولأظفرناكم بهم.

وفي هذا تعريف للعبد بأن أمورا قد تنغلق وتتعسّر فيضيق قلب الإنسان .. ولله في ذلك سرّ ، ولا يعدم ما يجرى من الأمر أن يكون خيرا للعبد وهو لا يدرى .. كما قالوا :

كم مرة حفّت بك المكاره

خير لك الله .. وأنت كاره

قوله جل ذكره : (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦))

يعنى الأنفة (٢) ؛ أي دفعتهم أنفة الجاهلية أن يمنعوكم عن المسجد الحرام سنة الحديبية ، فأنزل الله سكينته في قلوب المؤمنين حيث لم يقابلوهم بالخلاف والمحاربة ، ووقفوا واستقبلوا الأمر بالحلم.

(وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) وهي كلمة التوحيد تصدر عن قلب صادق : فكلمة التقوى يكون معها الاتقاء من الشّرك.

__________________

(١) أن تطئوهم : بالقتل والإيقاع بهم. يقال وطئت القوم : أي أوقعت بهم. فجواب لو لا محذوف والمعنى : ولو أن تطئوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم لأذن الله لكم في دخول مكة ، ولسلطكم عليهم ، ولكننا صنا من كان فيها يكتم وإيمانه.

(٢) هكذا في م وهي في ص (الإنية) وقد رجحنا الأولى.

٤٣٠

(وَكانُوا أَحَقَّ بِها) حسب سابق حكمه وقديم (١) علمه .. (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)

ويقال : الإلزام في الآية هو إلزام إكرام ولطف ، لا إلزام إكراه وعنف ؛ وإلزام برّ لا إلزام جبر ..

وكم باسطين إلى وصلنا

أكفهمو ... لم ينالوا نصيبا!

ويقال كلمة التقوى : التواصي بينهم بحفظ حق الله.

ويقال : هى أن تكون لك حاجة فتسأل الله ولا تبديها للناس.

ويقال : هى سؤالك من الله أن يحرسك من المطامع.

قوله جل ذكره : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧))

أي صدقه (٢) فى رؤياه ولم يكذبه ؛ صدقه فيما أراه (٣) من دخول مكة (آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) كذلك أراه لما خرج إلى الحديبية وأخبر أصحابه. فوطّن أصحابه نفوسهم على دخول مكة في تلك السنة. فلمّا كان من أمر الحديبية عاد إلى قلوب بعض المسلمين شىء ، حتى قيل لهم لم يكن في الرؤيا دخولهم في هذا العام ، ثم أذن الله في العام القابل ، فأنزل الله : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ) فكان ذلك تحقيقا لما أراه ، فرؤياه صلوات الله عليه حق ؛ لأن رؤيا الأنبياء حق

__________________

(١) هكذا في ص وهي في م (وقدر) وقد رجحنا الأولى.

(٢) أي على حذف الجار كقوله تعالى : (صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ)

(٣) إشارة إلى الرؤيا التي أراه إياها من دخوله وصحبه مكة آمنين.

٤٣١

وكان في ذلك نوع امتحان لهم : (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا) أنتم من الحكمة في التأخير (١).

وقوله : (إِنْ شاءَ اللهُ) معناه إذ شاء الله كقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

وقيل. قالها على جهة تنبيههم إلى التأدّب بتقديم المشيئة في خطابهم (٢)

وقيل يرجع تقديم المشيئة إلى : إن شاء الله آمنين أو غير آمنين.

وقيل. يرجع تقديم المشيئة إلى دخول كلّهم أو دخول بعضهم ؛ فإن الدخول كان بعد سنة ، ومات منهم قوم.

قوله جل ذكره : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨))

أرسل رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالدين الحنفي ، وشريعة الإسلام ليظهره على كل ما هو دين (٣) ؛ فما من دين لقوم إلا ومنه في أيدى المسلمين سرّ ؛ وللإسلام العزة والغلبة عليه بالحجج والآيات.

وقيل : ليظهره وقت نزول عيسى عليه‌السلام (٤).

وقيل : فى القيامة حيث يظهر الإسلام على كل الأديان.

وقيل : ليظهره على الدين كله بالحجة والدليل.

قوله جل ذكره : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ)

__________________

(١) قد تكون الحكمة في التأخير هو ما سيحدث لهم من الخير والصلاح والتفوق وكثرة العدد ، فإنه عليه‌السلام رجع من هذا الموقف إلى خيبر فافتتحها ، ورجع بأموال وعدة ورجال أضعاف ما كان عليه في ذلك العام ، وأقبل على مكة في أهبة وعدة. يدلك على ذلك أنهم كانوا عام الحديبية سنة ست عددهم ألف وأربعمائة ، وكانوا بعده عشرة آلاف.

(٢) إشارة إلى قوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ).

(٣) أي أن (الدين) فى الآية اسم جنس ، أو اسم بمعنى المصدر ، ويستوى فيه المفرد والجمع.

(٤) أي عند نزوله لا يبقى على وجه الأرض كافر.

٤٣٢

(أَشِدَّاءُ). جمع شديد ، أي فيهم صلابة مع الكفار.

(رُحَماءُ). جمع رحيم ، وصفهم بالرحمة والتوادّ فيما بينهم.

(... تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً)

تراهم راكعين ساجدين يطلبون من الله الفضل والرضوان.

(... سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ)

أي علامة التخشع التي على الصالحين.

ويقال : هى في القيامة يوم تبيضّ وجوه ، وأنهم يكونون غدا محجلين.

وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» (١)

ويقال في التفسير : (مَعَهُ) أبوبكر ، و (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) عمر ؛ و (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) : عثمان ، و (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) عليّ رضى الله عنهم (٢)

وقيل : الآية عامة في المؤمنين.

(ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ).

هذا مثلهم في التوراة ، وأمّا مثلهم في الإنجيل فكزرع (٣) أخرج شطأه أي : فراخه.

__________________

(١) جاء في سنن ابن ماجة : حدثنا إسماعيل بن محمد الطلحى قال «حدثنا ثابت بن موسى عن شريك عن الأعمش عن أبى سفيان عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كثرت صلاته ...» وقال ابن العربي : هو مدسوس على وجه الغلط.

(٢) هكذا في م أما في ص فلم يرد ذكر الصحابة رضوان الله عليهم سوى الجزء الأخير الخاص بعلى كرم الله وجهه ، وقد يمكن لو تذكرنا ما جاء في هامش ص ٤٢٥ ـ أن نستنبط أن ناسخ ص ـ الذي هو فارسى الأصل كما قلنا فى مدخل الكتاب ـ ربما كان شيعيا.

(٣) فعل هذا يجوز الوقف على (التوراة) ثم يستأنف الكلام فيكون هناك مثلان. وقال مجاهد : هو مثل واحد. وعند النسفي : مكتوب في الإنجيل : سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (ح ٤ ص ١٦٤).

٤٣٣

يقال : أشطأ الزرع إذا أخرج صغاره على جوانبه. (فَآزَرَهُ) أي عاونه. (فَاسْتَغْلَظَ) أي غلظ واستوى على سوقه ؛ وآزرت الصغار الكبار حتى استوى بعضه مع بعض. يعجب هذا الزرع الزرّاع ليغيظ بالمسلمين الكفار ؛ شبّه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) بالزرع حين تخرج طاقة واحدة ما ينبت حولها فتشتد ، كذلك كان وحده في تقوية دينه بمن حوله من المسلمين.

فمن حمل الآية على الصحابة : فمن أبغضهم دخل في الكفر ، لأنه قال : (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) أي بأصحابه الكفار. ومن حمله على المسلمين ففيه حجّة على الإجماع ، لأنّ من خالف الإجماع ـ فالله يغايظ به الكفار ـ فمخالف الإجماع كافر

قوله جل ذكره : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)

وعد المؤمنين والمؤمنات مغفرة للذنوب ، وأجرا عظيما في الجنة فقوله : (مِنْهُمْ) للجنس أو للذين ختم لهم منهم بالإيمان.

٤٣٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[«بِسْمِ اللَّهِ» : إخبار عن وجود الحقّ بنعت القدم.

«الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» : إخبار عن بقائه بوصف العلاء والكرم.

كاشف الأرواح بقوله : «بِسْمِ اللَّهِ» فهيمّها.

وكاشف النفوس بقوله : «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» فتيّمها ؛ فالأرواح دهشى في كشف جلاله ، والنفوس عطشى إلى لطف جماله].

عبد الكريم القشيري

في

بسملة «الشمس»

٤٣٥
٤٣٦

سورة الحجرات

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

«بِسْمِ اللَّهِ» اسم كريم من تنصّل إليه من زلّاته تفضّل عليه بنجاته ، ومن توسّل إليه بطاعاته تطوّل عليه بدرجاته.

«بِسْمِ اللَّهِ» اسم عزيز من تقرّب إليه بمناجاته قابله بلطف أفضاله ، ومن تحبّب إليه بإيمانه أقبل عليه بكشف جلاله وجماله.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) : شهادة للمنادى بالشّرف.

(لا تُقَدِّمُوا) أمر بتحمّل الكلف. قدّم الإكرام بالشرف على الإلزام بالكلف أي لا تقدموا بحكمكم (بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) : أي لا تقضوا أمرا من دون الله ورسوله ، أي لا تعملوا من ذات أنفسكم شيئا.

ويقال : قفوا حيثما وقفتم ، وافعلوا ما به أمرتم ، وكونوا أصحاب الاقتداء والاتّباع ... لا أرباب الابتداء والابتداع.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢))

٤٣٧

أمرهم بحفظ حرمته ، ومراعاة الأدب في خدمته وصحبته ، وألّا ينظروا إليه بالعين التي ينظرون بها إلى أمثالهم. وأنه إذا كان بخلقه يلاينهم فينبغى ألا يتبسّطوا معه متجاسرين ، ولا يكونوا مع ما يعاشرهم به من تخلّقه عن حدودهم زائدين.

ويقال : لا تبدأوه بحديث حتى يفاتحكم.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣))

هم الذين تقع السكينة عليهم من هيبة حضرته ، أولئك هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى بانتزاع حبّ الشهوات منها ، فاتقوا سوء الأخلاق ، وراعوا الأدب.

ويقال : هم الذين انسلخوا من عادات البشرية.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))

أي لو عرفوا قدرك لما تركوا حرمتك ، والتزموا هيبتك.

ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم ولم يستعجلوا ، ولم يوقظوك وقت القيلولة بمناداتهم لكان خيرا لهم (١).

أمّا أصحابه ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ الذين يعرفون قدره فإنّ أحدهم ـ كما في الخبر : «كأنه يقرع بابه بالأظافر».

__________________

(١) يقال : نزلت في قوم من بنى تميم منهم الأقرع بن حابس وسويد بن هاشم ، ووكيع بن وكيع ، وعيينة ابن حصن ، وأن الأقرع نادى النبي (ص) من وراء حجرته أن اخرج إلينا فإن مدحنا زين وذمّنا شين. وكان ذلك وقت الظهيرة والنبي في راحته وبعض شئونه الخاصة. فاستيقظ وخرج لهم.

٤٣٨

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦))

دلّت الآية (١) على ترك السكون إلى خبر الفاسق إلى أن يظهر صدقه.

وفي الآية إشارة إلى ترك الاستماع إلى كلام الساعي والنمّام والمغتاب للناس.

والآية تدلّ على قبول خبر الواحد إذا كان عدلا.

والفاسق هو الخارج عن الطاعة (٢). ويقال هو الخارج عن حدّ المروءة.

ويقال : هو الذي ألقى جلباب الحياء.

قوله جل ذكره : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧))

أي لو وافقكم محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كثير مما تطلبون منه لوقعتم في العنت ـ وهو الفساد (٣). ولو قبل قول واحد (قبل وضوح الأمر) لأصابتكم من ذلك شدة.

والرسول صلوات الله عليه لا يطيعكم في أكثر الأمور إذا لم ير في ذلك مصلحة لكم وللدين.

__________________

(١) يقال : نزلت في الوليد بن عقبة بن أبى معيط .. أرسله النبي (ص) ليجبى الصدقات من بنى المصطلق. فلما أبصروه تقدموا نحوه فهابهم ؛ فقد كانت بينه وبينهم إحنة .. فعاد من فوره إلى النبي وأخبره أنهم ارتدوا عن الإسلام ، فلم يقنع النبي (ص) بما سمع وأرسل إليهم خالد بن الوليد ليتثبت من الأمر فأخبروه أنهم على إسلامهم ، وأنهم كانوا خارجين إلى سفير النبي لإكرامه ، واستيقن خالد من ذلك حين سمع أذانهم وصلاتهم .. فعاد إلى النبي وجلى حقيقة الأمر.

(٢) مشتق من فسقت الرطبة أي خرجت من قشرها ، والفأرة من جحرها.

(٣) للعنت معان أخرى : فهو : الفجور والزنا ـ كما جاء في سورة النساء. وهو : الوقوع في أمر شاق كما جاء فى آخر سورة براءة.

٤٣٩

(وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) : الإسلام والطاعة والتوحيد ، وزيّنها في قلوبكم.

(وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ ..) : هذا من تلوين الخطاب.

وفي الآية دليل على صحة قول أهل الحقّ في القدر (١) ، وتخصيص المؤمنين بألطاف لا يشترك فيها الكفار. ولو لا أنّه يوفّر الدواعي للطاعات لحصل التفريط والتقصير فى العبادات.

(فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) : أي فعل هذا بكم فضلا منه ورحمة. والله عليم حكيم.

قوله جل ذكره : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩))

(٢) تدل الآية على أن المؤمن بفسقه ـ والفسق دون الكفر ـ لا يخرج عن الإيمان لأن إحدى الطائفتين ـ لا محالة ـ فاسقة إذا اقتتلا.

وتدل الآية على وجوب نصرة المظلوم ؛ حيث قال : (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى ...).

والإشارة فيه : أن النفس إذا ظلمت القلب بدعائه إلى شهواتها ، واشتغالها في فسادها فيجب

__________________

(١) يقصد القشيري أن القائلين بأن الله سبحانه المتفرد بخلق ذوات العباد وخلق أفعالهم وصفاتهم واختلاف ألسنتهم و... على صواب لأن الآية صريحة في خلق الأفعال ؛ فهو الذي حبّب إلى الإيمان والعكس.

(٢) يقال نزلت في ابن أبيّ حين وقف الرسول على مجلس به بعض الأنصار وهو على حمار فقال ابن أبى : حلّ سبيل حمارك فقد أذانا ، فانبرى له عبد الله بن رواحة قائلا :

والله إنّ بول حماره لأطيب من مسكك.

وبعد أن مضى الرسول (ص) طال الخوض بينهما حتى استبّا وتجالدا ، واشتبك الأوس والخزرج وتجالدوا بالعصى. وقيل بالأيدى والنعال والسعف ، فرجع الرسول (ص) إليهم فأصلح بينهم.

٤٤٠