لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

قوله جل ذكره : (لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨))

هذه الكلمة فيها نفى ما أثبتوه بجهلهم ، وإثبات ما نفوه بجحدهم.

(رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) : مربّى (١) أصلكم ونسلكم.

قوله جل ذكره : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩))

اللّعب فعل يجرى على غير ترتيب تشبيها باللّعاب الذي يسيل لا (٢) على نظام مخصوص ؛ فوصف المنافق باللّعب ؛ وذلك لتردّده وتحيّره نتيجة شكّه في عقيدته.

قوله جل ذكره : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠))

هذا من أشراط الساعة ؛ إذ يتقدم عليها (٣).

وقيامة هؤلاء (يقصد الصوفية) معجّلة (أي تتم هنا في هذه الدنيا) فيومهم الذي تأتى السماء فيه بدخان مبين هو يوم غيبة الأحباب ، وانسداد ما كان مفتوحا من الأبواب ، أبواب الأنس بالأحباب وفي معناه قالوا :

فما جانب الدنيا بسهل ولا الضّحى

يطلق ولا ماء الحياة ببارد

قوله جل ذكره : (يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١))

__________________

(١) لاحظ كيف يربط القشيري بين «التربية» و «الرب».

(٢) سقطت (لا) من ص .. وهي ضرورية كما هو واضح من السياق ، وهي موجودة في م ، ولا تخفى على القارئ روعة الربط بين «اللعب» و «اللعاب» ، ومدى السخرية من دماغ المنافق وقد ماثلت فما تتحرك فيه الشكوك تحرّك اللعاب.

(٣) هناك اتجاهان في معنى «الدخان» فى هذه الآية : أحدهما أنه ـ كما يذكر القشيري أنه من أشراط الساعة ، خرّج الثعلبي عن حذيفة أنه سأل النبي (ص) : «يا نبى الله ، ما الدخان في هذه الآية؟ فقال : هو دخان يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين ليلة ويوما ، فأما المؤمن فيصيبه منه شبه الزكام ، وأمّا الكافر فيكون بمنزلة السكران يخرج الدخان من فمه ومنخره وعينيه وأذنيه ودبره». وأما الاتجاه الثاني فهو ما أصاب قريشا من الجوع بدعاء النبي عليهم ، وقد كشفه الله عنهم. ويؤيد ابن مسعود هذا القول الثاني بهذا الكشف ، لأنه لو كان قبل يوم القيامة ما كشفه الله عن الناس.

٣٨١

وعذاب هؤلاء (يقصد الصوفية) مقيم في الغالب ، وهو عذاب مستعذب ، أولئك يقولون :

(رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢))

وهؤلاء يستزيدون ـ على العكس من الخلق ـ العذاب ، وفي ذلك يقول قائلهم :

فكلّ مآربى قد نلت منها

سوى ملذوذ وجدي بالعذاب (١)

فهم يسألون البلاء والخلق يستكشفونه ، ويقولون :

أنت البلاء فكيف أرجو كشفه

إنّ البلاء إذا فقدت بلائي

قوله جل ذكره : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣))

إن خالفوا دواعى قلوبهم من الخواطر (٢) التي ترد من الحقّ عليهم عوقبوا ـ فى الوقت بما لا يتّسع لهم ويسعفهم ، فاذا أخذوا في الاستغاثة (٣) يقال لهم : أنّى لكم الذكرى وقد جاءكم الرسول (٤) على قلوبكم فخالفتم؟!

قوله جل ذكره : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥))

__________________

(١) البيت للحلاج مسبوق بهذا البيت :

أريدك ، لا أريدك للثواب

ولكنى أريدك للعقاب

(ديوان الحلاج المقطعة السابعة)

(٢) الخواطر من الحق ، والهواجس والوساوس من الشيطان.

(٣) هكذا في م وهي في ص (الاستعانة) وكلاهما مقبول في السياق.

(٤) الرسول هنا ـ لأن الحديث هنا عن الصوفية ـ مقصود به ما يرد على قلوبهم من لدن الحقّ من الكشوفات والمواصلات.

٣٨٢

حيث نورثكم حزنا طويلا ، ولا تجدون في ظلال انتقامنا مقيلا.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨))

فتنهم (١) بعد ما أصرّوا على جحودهم ولم يرجعوا إلى طريق الرشد من نفرة عنودهم (٢).

(وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) : يطالبهم بازالة الظلم عن بنى إسرائيل ، وأن يستبصروا ، واستنفرهم لله ، وأظهر الحجّة من قبل الله.

(فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ)

أمره بأن يسرى بعباده المؤمنين ، وعرّفهم أنهم سينقذون ، وأنّ عدوّهم (جُنْدٌ مُغْرَقُونَ)

قوله جل ذكره : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧))

ما خلفوه من أحوالهم ومن رياشهم ، وما تركوه من أسباب معاشهم استلبناه عنهم.

(كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ)

وأسكنّا قوما آخرين في منازلهم ودورهم.

قوله جل ذكره : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩))

لم يكن لهم من القدر والخطر ما يتحرك في العالم بسببهم ساكن ، أو يسكن متحرك

__________________

(١) هكذا في ص وهي مقبولة في السياق إشارة إلى ما في الآية الكريمة : «ولقد فتنا ...» أما في م فهى (فثبتهم) وواضح فيها خطا الناسخ.

(٢) نفر الجلد : ورم وتجافي عن اللحم ، ونفرت المرأة عن زوجها : أعرضت وصدّت ، ونفر من الشيء : فزع منه وانقبض غير راض به.

٣٨٣

فلا الخضراء بسببهم اغبرّت ، ولا الغبراء لغيبتهم اخضرّت. لم يبق منهم عين ولا أثر ، ولم يظهر من قبلهم على قلب أحد من عبادنا أثر. وكيف تبكى السماء لفقد من لم تستبشر به من قبل؟ بعكس المؤمن الذي تسرّ السماء بصعود عمله إليها ، فإنها تبكى عند غيابه وفقده (١).

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢))

نجّاهم ، وأقمى عدوّهم ، وأهلكه.

(وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ ...) أي علمنا ما يحتقبون من أوزارهم (٢) ، فرفعنا ـ باختيارنا ـ من أقدارهم ما وضعه فعلهم وتدنسّهم بأوضارهم.

ويقال : (عَلى عِلْمٍ) منا بأحوالهم أنهم يؤثرون أمرنا على كل شىء.

ويقال : (عَلى عِلْمٍ) منا بمحبة قلوبهم لنا مع كثرة ذنوبهم فينا.

ويقال : (عَلى عِلْمٍ) منا بما نودع عندهم من أسرارنا ، وما نكاشفهم به من حقائق حقّنا.

قوله جل ذكره : (وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣))

من مطالبته بالشكر عند الرخاء ، والصبر عند الكدر والعناء (٣).

قوله جل ذكره : (إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا

__________________

(١) عن شريح الحضرمي : قال النبي (ص) : «ألا لا غربة على مؤمن ، فما مات مؤمن في غربة غائبا عنه بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض».

(٢) في ص (إنذارهم) والسياق يرفضها ، والصواب ما في م.

(٣) لأن البلاء يكون بالنعمة والنقمة ، قال تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً).

٣٨٤

الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦))

اقترح أبو جهل على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يحيى لهم نفسا (١) :

«لتخبرنا : هل أنت صادق أم لا؟» فأخبر الله ـ سبحانه ـ أنهم اقترحوا هذا بعد قيام الحجّة عليهم ، وإظهار ما أزاح لهم من العذر : ثم قال جلّ ذكره :

(أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩))

(تُبَّعٍ) هو ملك لليمن ، وكان مسلما ، وكان في قومه كثرة ، وأهلك الله سبحانه قومه على كثرة عددهم ، وكمال قوّتهم.

قوله جل ذكره : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ..)

ما خلقناهما إلا بالحقّ ، بالحكم الحقّ ؛ وبالأمر الحقّ ... «فأنا محقّ في خلقهما» : أي كان لى خلقهما.

قوله جل ذكره : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢))

__________________

(١) حدّد أبو جهل ذلك حين قال النبي : ابعث لنا ـ إن كنت صادقا ـ رجلا مثل قصيّ بن كلاب لنسأله عمّا يكون بعد الموت.

وهذا القول من أبى جهل فيه ضعف ؛ لأن البعث يكون للجزاء لا للتكليف.

٣٨٥

يومئذ لا يغنى ناصر عن ناصر ولا حميم عن حميم ، ولا نسيب عن نسيب ... شيئا. ولا ينالهم نصر إلا من رحمه‌الله ؛ وبفضله ونعمته.

قوله جل ذكره : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦))

(الْأَثِيمِ) مرتكب الذنوب. «المهل» : النحاس المذاب. (الْحَمِيمِ) : الماء الحار.

قوله جل ذكره : (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨))

ادفعوا به إلى وسط الحميم. ويقال له :

(ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) :

أنت كذلك عند قومك ، ولكنك عندنا ذليل مهين.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢))

آمنين من المجن من جميع الوجوه ، لباسهم من حرير ، وفراشهم من سندس وإستبرق ، (مُتَقابِلِينَ) : لا يبرحون ولا يبغون عنها حولا.

قوله جل ذكره : (كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤))

تباح لهم صحبتهن ، ولا يكون في الجنة عقد تزويج ولا طلاق ، ويمكّن الوليّ بهذه الأوصاف من هذه الألطاف. ثم قد يختطف قوم من بين هذه الأسباب ، فيتحررون عن هذه الجملة ؛ فكما أنهم في الدنيا مختطفون عن كلّ العلائق فإنهم في الآخرة تطمع الحور العين فى صحبتهم فيستلبهم الحقّ عن كلّ شىء. (١)

__________________

(١) الصوفية الخلّص يعبدون الله لا طمعا في جنة ولا خوفا من عذاب ، فرؤية الله جنتهم ، واحتجابه عنهم جهنهم الكبرى. ومبعث ذلك أنهم يحبون الله لذاته ، وفي ذلك يقول قائلهم :

إن ذا الحب لمن يفنى له

لا لدار ذات لهو وطرف

لا ولا الفردوس ـ لا يألفها

لا ولا الحوراء من فوق غرف

٣٨٦

الزاهد في الدنيا يحميه منها ، والعارف في الجنة يحميه من الجنة.

قوله جل ذكره : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦))

الموتة الأولى هي بقبض أرواحهم في الدنيا ، ويقيهم الله في الآخرة العذاب بفضله ، وذلك هو الظّفر بالبغية ، ونجاح السّؤل.

قوله جل ذكره : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ)

يا محمد ، ليتذكر به أهلك ، فارتقب العواقب تر العجائب. إنهم يرتقبون ، ولكن لا يرون إلا ما يكرهون.

٣٨٧

سورة الجاثية

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(بِسْمِ اللهِ) باسم ملك لا يستظهر بجيشه ، أحد لا يستمسك بعيشه (١) ، جبار ارتدى بكبريائه ، قهّار اتصف بعزّ سنائه.

(بِسْمِ اللهِ) باسم كريم صمد ، لا يستغرق وجوده أمد ، أبدىّ عظيم أحد ، لا يوجد من دونه مفرّ ولا ملتحد.

قوله جل ذكره : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢))

(الْعَزِيزِ) : فى جلاله ، (الْحَكِيمِ) : فى أفعاله.

(الْعَزِيزِ) : فى آزاله ، (الْحَكِيمِ) : فى لطفه بالعبد بوصف إقباله.

قوله جل ذكره : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣))

شواهد الربوبية لائحة ، وأدلة الإلهية واضحة ؛ فمن صحا من سكرة الغفلة ، ووضع سرّه في محالّ العبرة (٢) حظى ـ لا محالة ـ بحقائق الوصلة.

قوله جل ذكره : (وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤))

__________________

(١) هكذا في ص ، وفي م .. ولو صح أنها هكذا عن القشيري فربما كان قصده أن الله سبحانه ـ حى بدون عوامل استمساك تثبت هذه الحياة .. فهو حى لا بسبب أو عارض لأنه لا يفتقر إلى ذلك ، أما المحدث فإنه يعتمد فى حياته على ما يحفظ حياته ، وتزول هذه الحياة بزوال عوامل هذا الحفظ.

(٢) هكذا في م وهي في ص (بعزه) ونحن تؤثر الأولى لملاءمة الاعتبار لسياق التدبر في المخلوقات.

٣٨٨

إذا أنعم العبد نظره في استواء قدّه وقامته ، واستكمال عقله وتمام تمييزه ، وما هو مخصوص به في جوارحه وحوائجه ، ثم فكّر فيما عداه من الدواب ؛ فى أجزائها وأعضائها .. ثم وقف على اختصاص وامتياز بنى آدم من بين البريّة من الحيوانات في الفهم والعقل والتمييز والعلم ، ثم في الإيمان والعرفان ووجوه خصائص أهل الصفوة من هذه الطائفة في فنون الإحسان ـ عرف تخصّصهم بمناقبهم ، وانفرادهم بفضائلهم ، فاستيقن أن الله كرّمهم ، وعلى كثير من المخلوقات قدّمهم.

قوله جل ذكره : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥))

جعل الله العلوم الدينية كسبية مصحّحة بالدلائل ، محقّقة بالشواهد. فمن لم يستبصر بها زلّت قدمه عن الصراط المستقيم (١) ، ووقع في عذاب الجحيم ؛ فاليوم في ظلمة الحيرة والتقليد ، وفي الآخرة في التخليد في الوعيد.

قوله جل ذكره : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦))

فمن لا يؤمن بها فبأى حديث يؤمن؟ ومن أي أصل يستمد بعده؟ ومن أي بحر فى التحقيق يغترف؟ هيهات! ما بقي للإشكال في هذا مجال.

قوله جل ذكره : (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨))

__________________

(١) فى هذا ردّ على من يزعمون أن الصوفية يتنكرون العلوم الكسبية ؛ فهى كما هو واضح ذات أهمية قصوى في تثبيت الإيمان. هذا في الوقت الذي يقر القشيري بالعلوم الوهبية كما يتضح من الهامش رقم (٢) فى الصفحة التالية.

٣٨٩

كلّ صامت ناطق ؛ يصمت عن الكلام والقول وينطق بالبرهان في الحكم (١).

فمن استمع بسمع الفهم ، واستبصر بنور التوحيد فاز بذخر الدارين ، وتصدّى لعزّ المنزلين. ومن تصامم بحكم الغفلة وقع في وهدة الجهل ، ووسم بكيّ الهجر.

قوله جل ذكره : (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩))

قابله بالعناد ، وتأوّله على ما يقع له من وجوه المراد من دون تصحيح بإسناد ... فهؤلاء (لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) : مذلّ.

وقد يكاشف العبد من بواطن القلب بتعريفات لا يتداخله فيها ريب ، ولا يتخالجه منها شكّ فيما هو به من حاله ... فإذا استهان بها وقع في ذلّ الحجبة وهوان الفرقة (٢).

قوله جل ذكره : (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠))

فعند هذه الفترة ، وفي وقت هذه المحنة فلا عذر يقبل منهم ، ولا خطاب يسمع عنهم ، ولهم عذاب متصل ، ولا يردّون إلى ما كانوا عليه من الكشف :

فخلّ سبيل العين بعدك للبكا

فليس لأيام الصفاء رجوع

قوله جل ذكره : (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢))

عند ما يركبون البحر فلربما تسلم السفينة ولربما تغرق.

__________________

(١) يشير القشيري بذلك إلى أن كل شىء ناطق بالوحدانية ... إما نطق قالة ـ كما في حال الإنسان ، وإما نطق دلالة ـ كما في حال الجمادات.

(٢) يشير القشيري بذلك إلى العلوم الوهبية ، وضرورة اعتبارها رافدا هاما من روافد الإيمان الكشفى والتوحيد الشهودى.

٣٩٠

وكذلك العبد في فلك الاعتصام في بحار التقدير ، تمشى به رياح العناية ، وأشرعة التوكل مرفوعة ، والسّبل في بحر اليقين واضحة. وطالما تهب رياح السلامة فالسفينة ناجية. أمّا إن هبّت نكبات الفتنة فعندئذ لا يبقى بيد الملّاح شىء ، والمقادير غالبة ، وسرعان ما تبلغ قلوب أهل السفينة الحناجر.

قوله جل ذكره : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣))

(جَمِيعاً مِنْهُ) : كلّ ما خلق من وجوه الانتفاع بها ـ كلّه منه سبحانه ؛ فما من شىء من الأعيان الظاهرة إلّا ـ ومن وجه ـ للانسان به انتفاع .. وكلها منه سبحانه ؛ فالسماء لهم بناء ، والأرض لهم مهاد .. إلى غير ذلك. ومن الغبن أن يستسخرك ما هو مسخّر لك! (١) وليتأمل العبد كلّ شىء .. كيف إن كان خلل في شىء منها ماذا يمكن أن يكون؟! فلو لا الشمس .. كيف كان يمكن أن يتصرّف في النهار؟ (٢) ولو لم يكن الليل كيف كان يسكن بالليل؟ ولو لم يكن القمر ... كيف كان يهتدى إلى الحساب والآجال؟ ... إلى غير ذلك من جميع المخلوقات.

قوله جل ذكره : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤))

(٣) ندبهم إلى حسن الخلق ، وجميل العشرة ، والتجاوز عن الجهل ، والتنقى من كدورات البشرية. ومقتضيات الشّحّ.

__________________

(١) هذا الكلام ينصرف إلى الدنيا بأسرها .. فلا ينبغى أن يسترقك ما هو هبة لك.

(٢) بحثا عن معاشه.

(٣) يقال إن الآية نزلت بسبب أن رجلا من قريش شتم عمر بن الخطاب فهمّ أن يبطش به. ويقال نزلت فى عمر حينما أراد أن يبطش بغلام عبد الله بن أبيّ حين ذهب ليستقى فمنعه حتى ملئت قرب النبي وقرب أبى بكر ، فلما بلغ ذلك عبد الله قال : ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل : سمن كلبك يأكلك ، فلما بلغ عمر ذلك اشتمل سيفه وأراد التوجه لقتله ، فأنزل الله هذه الآية.

٣٩١

وبيّن أنّ الله ـ سبحانه ـ لا يفوته أحد. فمن أراد أن يعرف كيف يحفظ أولياءه ، وكيف يدمّر أعداءه. فليصبر أياما قلائل ليعلم كيف صارت عواقبهم.

قوله جل ذكره : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥))

من عمل صالحا فله مهناه ، ومن ارتكب سيئة قاسى بلواه ... ثم مرجعه إلى مولاه.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦))

كرّر في غير موضع ذكر موسى وذكر بنى إسرائيل .. بعضه على الجملة وبعضه على التفصيل. وهنا أجمل في هذا الموضع ، ثم عقبه حديث نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال :

(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)

أفردناك بلطائف فاعرفها ، وسننّا لك طرائق فاسلكها ، وأثبتنا لك حقائق فلا تتجاوزها ، ولا تجنح إلى متابعة غيرك :

(إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً ...)

إن أراد بك نعمة فلا يمنعها أحد ، وإن أراد بك فتنة فلا يصرفها عنك أحد. فلا تعلّق بمخلوق فكرك ، ولا تتوجه بضميرك إلى شىء وثق بربّك ، وتوكّل عليه.

قوله جل ذكره : (هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠))

أنوار البصيرة إذا تلألأت انكشفت دونها تهمة التجويز.

ونظر الناس على مراتب (١) : فمن ناظر بنور نجومه (٢) ـ وهو صاحب عقل ،

__________________

(١) هكذا في م وهي في ص (مراكب) بكاف وهي خطأ من الناسخ.

(٢) هكذا في م وهي في ص (وما هو) وهي خطأ من الناسخ.

٣٩٢

ومن ناظر بنور فراسته وهو صاحب ظنّ يقوّيه لوح ـ ولكنه من وراء السّرّ (١) ، ومن ناظر بيقين علم بحكم برهان وشرط فكر ، ومن ناظر بعين إيمان بوصف اتّباع ، ومن ناظر بنور بصيرة هو على نهار ، وشمسه طالعة وسماؤه من السحاب (٢) مصحية (٣).

قوله جل ذكره : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١))

أمن خفضناه في حضيض الضّعة كمن رفعناه إلى أعالى المنعة؟

أمن أخذنا بيده ورحمناه كمن داسه الخذلان فرجمناه؟

أمن وهبناه بسط وقت وأنس حال وروح لطف حتى خصصناه ورقيناه ، ثم قرّبناه وأدنيناه كمن ترك جهده واستفراغ وسعه وإسبال دمعه واحتراق قلبه .. فما أنعشناه؟.

قوله جل ذكره : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً ...)

من لم يسلك سبيل الاتباع ، ولم يستوف أحكام الرياضة ، ولم ينسلخ عن هواه بالكلّيه ، ولم يؤدّبه إمام مقتدى فهو ينجرف في كل وهدة ، ويهيم في كلّ ضلالة ، ويضلّ فى كل فجّ ، خسرانه أكثر من ربحه!! أولئك في ضلال بعيد ؛ يعملون القرب على ما يقع لهم من نشاط نفوسهم (٤) ، زمامهم بيد هواهم ، أولئك أهل (٥) المكر .. استدرجوا وما يشعرون!.

__________________

(١) الفراسة مما يخلقه الله في قلب العبد من غير كسب منه ، وهي من ثمرات الإيمان الكامل ، وما يسميه القشيري هنا (لوحا) يسميه في موضع آخر (سواطع) أنوار تلمع في القلب تدرك بها المعاني (الرسالة ص ١١٦). ولمعرفة الفرق بين اللوائح واللوامع أنظر الرسالة ص ٤٣. ويعرف الجنيد الفراسة فيقول : هى مصادفة الإصابة ، ثم يذكر أنها موهبة كائنة دائمة (التعرف الكلاباذى ص ١٥٧).

(٢) هكذا في م وهي في ص (الصحاب) بالصاد وواضح في ذلك خطأ الناسخ.

(٣) هذه الدرجة الأخيرة ـ كما هو واضح ـ أعلى درجات النظر لخلوها من الآفات.

(٤) لأن النفس محل المعلومات ، فعملهم مرتهن بنفوسهم وأهوائهم.

(٥) هكذا فى (ص) وهي في م (أصل) وهي خطأ من الناسخ لأنهم «أهل» المكر إشارة إلى قوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ).

٣٩٣

قوله جل ذكره : (وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤))

لم يعتبروا بما وجدوا عليه خلفهم وسلفهم ، وأزجوا في البهيمية عيشهم وعمرهم ، وأعفوا عن كدّ الفكرة قلوبهم ... فلا بالعلم استبصروا ، ولا من التحقيق استمدوا. رأس مالهم الظنّ ـ وهم غافلون.

قوله جل ذكره : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥))

طلبوا إحياء موتاهم ، وسوف يرون ما استبعدوا.

ثم أخبر أنّ ملك السماوات والأرض لله ، وإذا أقام القيامة يحشر أصحاب البطلان ، فإذا جاءهم يوم الخصام :

(وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨))

كلّ بحسابه (١) مطالب ... فأمّا الذين آمنوا فلقد فازوا وسادوا ، وأمّا الذين كفروا فهلكوا وبادوا (٢) .. ويقال لهم : أأنتم الذين إذا قيل لكم حديث عقباكم كذّبتم مولاكم؟ فاليوم ـ كما نسيتمونا ـ ننساكم ، والنار مأواكم.

قوله جل ذكره : (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧))

لله الحمد على ما يبدى وينشى ، ويحيى ويفنى ، ويجرى ويمضى .. إذ الحكم لله ، والكبرياء لله ، والعظمة والسّناء لله ، والرفعة والبهاء لله.

__________________

(١) هذا أيضا رأى يحيى بن سلام ، وقيل «كتابها» المنزّل عليها لينظر هل عملوا بما فيه. وقيل : الكتاب هنا هو اللوح المحفوظ.

(٢) هكذا في م ، وهي في ص (ونادوا) وهي خطأ من الناسخ.

٣٩٤

سورة الأحقاف

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

(بِسْمِ اللهِ) كلمة للقلوب سالبة ، للعقول غالبة ، للمطيعين واهبة ، للعارفين ناهبة .. فالذين يهبهم فلهم لطفه ، والذين ينهبهم فمن محقه فهو عنه خلفه (١).

قوله جل ذكره : (حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢))

حميت قلوب أهل عنايتى فصرفت عنها خواطر التجويز ، وثبّتها في مشاهد اليقين بنور التحقيق ؛ فلاحت فيها شواهد البرهان ؛ فأضفنا إليها لطائف الإحسان ؛ فكمل منالها من عين الوصلة ، وغذيناهم بنسيم الأنس في ساحات القربة.

(الْعَزِيزِ) : المعزّ للمؤمنين بإنزال الكتاب عليهم.

(الْحَكِيمِ) ، المحكم لكتابه عن التبديل والتحويل.

قوله جل ذكره : (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣))

الكافرون معرضون عن موضع الإنذار ، مقيمون على حدّ الإصرار

__________________

(١) وفي ذلك يقول شاعرهم :

ألست لى خلفا؟ كفى شرفا

فما وراءك لى قصد ولا أمل

ويقول أبو حمزة موضحا كيف أن هذا الموت في سبيل محبوبه عين الحياة :

وتحيى محبا أنت في الحب حتفه

وذا عجب .. كون الحياة مع الحتف!

٣٩٥

قوله جل ذكره : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤))

أرونى .. أي أثر فيهم في الملك ، أو القدرة على النفع والضر؟ إن كانت لكم حجّة فأظهروها ، أو دلالة فبيّنوها .. وإذ قد عجزتم عن ذلك فهلّا رجعتم عن غيّكم وأقلعتم؟

قوله جل ذكره : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥))

من أشدّ ضلالا ممّن عبد الجماد الذي ليس له حياة ولا له في النفع أو الضر إثبات؟

قوله جل ذكره : (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦))

إذا حشر الناس للحساب وقعت العداوة بين الأصنام وعابديها.

قوله جل ذكره : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧))

رموا رسلنا بالسّحر ثم بالافتراء والمكر .. قل ـ يا محمد ـ كفى بالله بينى وبينكم شهيدا ؛ أنتم أشركتم به ، وأنا أخلصت له توحيدا. وما كنت بدعا من الرسل ؛ فلست بأول رسول أرسل ، ولا بغير ما جاءوا به من أصول التوحيد جئت ، إنما أمرتكم بالإخلاص في التوحيد ، والصدق في العبودية ، والدعاء إلى محاسن الأخلاق.

قوله جل ذكره : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ

٣٩٦

أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩))

وهذا قبل أن نزل قوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) (١).

وفي الآية دليل على فساد قول أهل القدر والبدع حيث قالوا : «إيلام البرىء قبيح في العقل». لأنه لو لم يجز ذلك لكان يقول : أعلم ـ قطعا ـ أنى رسول الله ، وأنى معصوم .. فلا محالة يغفر لى ، ولكنه قال : وما أدرى ما يفعل بي ولا بكم ؛ ليعلم أن الأمر أمره ، والحكم حكمه ، وله أن يفعل بعباده ما يريد (٢).

قوله جل ذكره : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠))(٣)

تبيّن له أنه لا عذر لهم بحال ، ولا أمان لهم من عقوبة الله. وما يستروحون إليه من حججهم عند أنفسهم كلّها ـ في التحقيق ـ باطل. وأخبر أن الكفار قالوا : لو كان هذا الذي يقوله

__________________

(١) آية (٢) سورة الفتح وبنزولها نسخت هذه الآية ، وزال فرح المشركين واليهود والمنافقين الذين كانوا يقولون : كيف نتبع نبيا لا يدرى ما يفعل به ولا بنا وأنه لا فضل له علينا ، ولو لا أنه ابتدع الذي يقوله من تلقاء نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به ـ وبنزول هذه الآية أرغم الله أنوفهم ، وقالت الصحابة : هنيئا لك يا رسول الله! وهنيئا لنا!

(٢) القشيري ينكر أن يذهب البشر إلى التماس تعليلات للأفعال الإلهية ؛ لأن أفعال الله سبحانه لا تخضع للأغراض ، فهو لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، فهو يعود بالأمر كله إلى الحكمة والإرادة الإلهيتين ، وطالما هما في غير نطاق الإنسانية فلا ينبغى إخضاعهما للمفاهيم الإنسانية من حسن وقبح ، وخير وشر ؛ لأن هذه المفاهيم متأثرة بالمصلحة والغرض .. والله منزه عن ذلك ، فله أن يفعل بعباده ما يشاء ، وإذا كان رب الأسرة لا يقودها إلا إلى الخير فما ظنك برب البرية وخالق كل شىء؟!

(٣) هو عبد الله بن سلام عند الجمهور ، ولهذا قيل إن هذه الآية مدنية ؛ لأن إسلامه كان بالمدينة. وروى أنه سأل النبي عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبى : ما أول أشراط الساعة وما أول طعام يأكله أهل الجنة ، وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه.؟ فقال الرسول (ص) : أول أشراط الساعة نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب ، وأول طعام أهل الجنة زيادة كبد حوت ، وأما الولد فاذا سبق ماء الرجل نزعه وإن سبق ماء المرأة نزعته. فقال : أشهد أنك رسول الله حقا. (صحيح البخاري ح ٢ ص ٢٢٦).

٣٩٧

من الحشر والنشر حقّا لم تتقاصر رتبتنا عند الله عن رتبة أحد ، ولتقدّمنا ـ فى الاستحقاق ـ على الكلّ. ولمّا لم يجدوا لهذا القول دليلا صرّحوا :

(فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ).

ولقد بعث الله أنبياءه ـ عليهم‌السلام ـ وأنزل عليهم الكتب ، وبيّن في كلّ كتاب ، وعلى لسان كلّ رسول بأنه يبعث محمدا رسولا ، ولكن القوم الذين في عصر نبيّنا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كتموه ، وحسدوه.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣))

مضى تفسير الاستقامة. وإنّ من خرج على الإيمان والاستقامة حظى بكلّ كرامة ، ووصل إلى جزيل السلامة.

وقيل : السين فى «الاستقامة» سين الطّلب ؛ وإن المستقيم هو الذي يبتهل إلى الله تعالى فى أن يقيمه على الحق ، ويثبّته على الصدق.

قوله جل ذكره : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً)

أمر الإنسان برعاية حقّ والديه على جهة الاحترام ، لما لهما عليه من حق التربية والإنعام ، وإذا لم يحسن الإنسان حرمة من هو من جنسه فهو عن حسن مراعاة سيّده أبعد. ولو لم يكن فى هذا الباب إلا قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رضا الرب من رضا الوالدين ، وسخطه في سخطهما» لكان ذلك كافيا. ورعاية حق الوالد من حيث الاحترام ، ورعاية حق الأم من حيث الشفقة والإكرام. ووعد الله على برّ الوالدين قبول الطاعة بقوله جلّ ذكره :

(أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦))

فقبول الطاعة وغفران الزّلّة مشروطان ببرّ الوالدين. وقد ذمّ الله ـ سبحانه ـ الذي

٣٩٨

يتصف في حقهما بالتأفّف ، وفي ذلك تنبيه على ما وراء ذلك من أي تعنّف ، وعلى أنّ الذي يسلك ذلك يكون من أهل الخسران ، وبالتالى يكون ناقص الإيمان.

وسبيل العبد في رعاية حق الوالدين أن يصلح ما بينه وبين الله ، فحينئذ يصلح ما بينه وبين غيره ـ على العموم ، وأهله ـ على الخصوص.

وشرّ خصال الولد في رعاية حق والديه أن يتبرّم بطول حياتهما ، ويتأذّى بما يحفظ من حقهما. وعن قريب يموت الأصل ويبقى النسل ، ولا بدّ من أن يتبع النسل الأصل (١) ، وقد قالوا في هذا المعنى.

رويدك إن الدهر فيه كفاية

لتفريق ذات البين .. فانتظر الدهرا (٢)

قوله جل ذكره : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠))

سبيل العبد ألا ينسى في كل حال معبوده ، وأن يتذكر أنه معه في همّه وسروره ، وفي مناجاته عند رخائه وبلائه. فإن اتفق أن حصل له أنس ، وغلب عليه رجاء وبسط ثم هجم على قلبه قبض أو مسّه خوف .. فليخاطب ربّه حتى لا يكون من جملة من قيل له : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا ...)

قوله جل ذكره : (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ (٣)

__________________

(١) أي أن أولاده سوف يعاملونه بالكيفية التي عامل بها أبويه.

(٢) إذا لا حظنا اهتمام القشيري هنا برعاية حقوق الأبوين ، وإذا نذكرنا أنه في موضع آخر يرى أن حقوق الشيوخ والمربين لا تقل عن ذلك ؛ «لأن الوالدين يربون الأشباح ، والشيوخ يربون الأرواح» علمنا أن هذه الإشارة موجهة إلى المريدين بنفس الدرجة الموجهة إلى العموم.

(٣) الأحقاف ـ ج حقف وهي رمال عظام معوجة لا تبلغ أن تكون جبالا. وقال الكلبي : أحقاف الجبل ما نضب عنه الماء زمن الغرق. وهناك اختلاف في مكان ديار عاد يرجع إليه في كتب التفسير.

٣٩٩

يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١))

أخبر بالشرح عن قصة هود وقومه عاد وما جرى بينهم من الخطاب ، وتوجّه عليهم من العتاب ، وأخذهم بأليم العذاب.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ...)

فلم يغن عنهم ما آتيناهم ... وانظروا كيف أهلكناهم.

قوله جل ذكره : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩))

كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوثا إلى الجنّ كما كان مبعوثا إلى الإنس. وإن قوما أتوه ليلة الجن (١) وآمنوا به ، ورجعوا إلى قومهم فأخبروهم ، وآمن قوم منهم ؛ فاليوم في الجن مؤمنون ، وفيهم كافرون.

(فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا ...) الصيحة على الباب وفوق البساط غيبة ؛ ولهذا لما حضر الجنّ بساط خدمته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تواصوا فيما بينهم بحفظ الأدب ، وقالوا لما حضروا بساطه : (أَنْصِتُوا) ، فأهل الحضور صفتهم الذبول والسكون ، والهيبة والوقار. والثوران أو الانزعاج يدل على غيبة أو قلّة تيقّظ أو نقصان اطلاع (٢). (فَلَمَّا قُضِيَ ..) يعنى الوحى (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) وأخبروهم بما رأوه وسمعوه.

قوله جل ذكره : (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا

__________________

(١) حدث ابن مسعود عن هذه الليلة ، وأبان كيف سمع ـ وقد كان وحده بصحبة النبي وهو يقرأ القرآن ـ لغطا وغمغمة ، وشاهد أمثال النسور تهوى وتمشى في رفرفها ... إلخ.

(٢) هنا نجد القشيري ينصح بالكتمان ولا يرى الإفصاح ، وقد سئل الجنيد في ذلك فأجاب : («وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) (أنظر بحث هذه القضية في كتابنا «نشأة التصوف الإسلامى» ط المعارف ص ٢٢٩).

٤٠٠