لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

ولا يبعد أن ينظر إليه الحقّ بأفضاله ، فيقبله بعد ذلك رعاية لما سلف في بدايته من أحواله ... فإنّ الله تعالى رءوف بعباده.

قوله جل ذكره : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤))

الذين يتقون الشّرك والكفر ، ثم المعاصي والفسق ، لهم عند الله الثواب والأجر.

قوله جل ذكره : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ؟ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟! أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ)

كيف تحكمون؟ هل لديكم حجة؟ أم لكم كتاب فيه تدرسون؟ أم لكم منا عهود فيها تحكمون؟ والمقصود من هذه الأسئلة نفى ذلك.

قوله جل ذكره : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢))

(عَنْ ساقٍ) : أي عن شدّة يوم القيامة.

ويقال في التفسير : عن ساق العرش.

يؤمرون بالسجود ؛ فأمّا المؤمنون فيسجدون ، وأمّا الكفار فتشدّ أصلابهم فلا تنحنى.

وقيل : يكشف المريض عن ساقه ـ وقت التوفّى ـ ليبصر ضعفه ، ويقول المؤذّن : حيّ على الصلاة ـ فلا يستطيع.

وعلى الجملة فقد خوّفهم بهذه القالة : إمّا عند انتهائهم في الدنيا أو ابتدائهم في الآخرة.

(... وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ)

يذكّرهم بذلك ليزدادوا حسرة ، ولتكون الحجة عليهم أبلغ.

٦٢١

قوله جل ذكره : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ)

سنقرّبهم من العقوبة بحيث لا يشعرون.

والاستدراج : أن يريد الشيء ويطوى عن صاحبه وجه القصد فيه ، ويدرجه إليه شيئا بعد شىء ، حتى يأخذه بغتة.

ويقال : الاستدراج : التمكين من النّعم مقرونا بنسيان الشكر (١).

ويقال : الاستدراج : أنهم كلما ازدادوا معصية زادهم نعمة.

ويقال : ألّا يعاقبه في حال الزّلّة ، وإنما يؤخّر العقوبة إلى ما بعدها.

ويقال : هو الاشتغال بالنعمة مع نسيان المنعم.

ويقال : الاغترار بطول الإمهال.

ويقال : ظاهر مغبوط وباطن مشوّش.

قوله جل ذكره : (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)

أمهلهم .. ثم إذا أخذتهم فأخذى أليم شديد.

قوله جل ذكره : (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ)

أي : ليس عليهم كلفة مقابل ما تدعوهم إليه ، وليست عليهم غرامة إن هم اتبعوك .. فأنت لا تسأل أجرا .. فما موجبات التأخّر وترك الاستجابة؟

(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ؟ أَمْ عِنْدَهُمُ)

شىء من الغيب انفردوا به وأوجب لهم أن لا يستجيبوا؟».

__________________

(١) فى النسختين (بلسان) وهي خطأ قطعا ، فقد اشتهت على كلا الناسخين. ويؤيد رأينا قول سفيان الثوري فى (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) نسبغ عليهم النعم وننسيهم الشكر (القرطبي ح ١٨ ص ٢٥١).

٦٢٢

قوله جل ذكره : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨))

صاحب الحوت : هو يونس عليه‌السلام ، نادى وهو مكظوم : مملوء بالغيظ على قومه.

فلا تستعجل ـ يا محمد ـ بعقوبة قومك كما استعجل يونس فلقى ما لقى ، وتثبّت عند جريان حكمنا ، ولا تعارض تقديرنا.

(لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ)

أي : لو لا أنّ الله رحمه بفضله لطرح بالفضاء وهو مذموم ولكن :

(فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ)

فاصطفاه واختاره ، وجعله من الصالحين بأن أرسله إلى مائة ألف أو يزيدون.

قوله جل ذكره : (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ)

كانوا إذا أرادوا أن يصيبوا شيئا بأعينهم جاعوا ثلاثة أيام ، ثم جاعوا ونظروا إلى ذلك الشيء قائلين : ما أحسنه من شىء! فكان يسقط المنظور في الوقت. وقد فعلوا ذلك بالنبي صلوات الله عليه ، فقالوا : ما أفصحه من رجل! ولكنّ الله سبحانه حفظه ، ومن بذكره عليه (١).

__________________

(١) ننبه إلى نقطة هامة .. ورود اسم القشيري عند القرطبي لا يعنى أنه إمامنا عبد الكريم القشيري صاحب هذا الكتاب ، بل ربما كان أحد أبنائه الستة .. فكلهم أئمة. وربما كان ابنه أبا نصر عبد الرحمن (انظر القرطبي الجزء العشرين ص ٥٤) وليس أدل على ذلك من المقارنة بين قول القشيري هنا وما جاء عند القرطبي في ح ١٨ ص ٢٥٥ (قال القشيري : وفي هذا نظر لأن الإصابة بالعين إنما تكون مع الاستحسان والإعجاب لا مع الكراهية والبغض ، ولهذا قال : ويقولون إنه لمجنون) أي ينسبونك إلى الجنون إذا رأوك تقرأ القرآن.

٦٢٣

سورة الحاقّة

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

(بِسْمِ اللهِ) كلمة عزيزة تحتاج في سماعها إلى سمع عزيز لم يستعمل في سماع الغيبة ، وتحتاج فى معرفتها إلى قلب عزيز لم يتبذّل في الغفلة والغيبة ، لم ينظر صاحبه بعينه إلى ما فيه رتبة ، ولم تتبع نفسه اللّبس (١) والطّبّة (٢).

قوله جل ذكره : (الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣))

(الْحَاقَّةُ) : اسم للقيامة لأنها تحقّ (٣) كلّ إنسان بعمله خيره وشرّه.

(وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ؟) : استفهام يفيد التعظيم لأمرها ، والتفخيم لشأنها.

قوله جل ذكره : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ)

ذكر في هذه السورة : الذين كذّبوا رسلهم من الأمم ، وأصرّوا على كفرهم ، ولم يقبلوا النصيحة من أنبيائهم ، فأهلكهم ، وانتقم لأنبيائه منهم.

والفائدة في ذكرهم : الاعتبار بهم ، والتحرّر عمّا فعلوا لئلا يصيبهم ما أصابهم.

وعقوبة هذه الأمة مؤجّلة مؤخّرة إلى القيامة ، ولكنّ خواصّهم عقوبتهم معجّلة ؛ فقوم

__________________

(١) هكذا في ص أما في م فهى (اللهو).

(٢) هكذا في ص وهي في م (الطيبة) وقد رجحنا ـ وهو ترجيح بعيد ـ أنها قد تكون (الطّيّبة) بمعنى الحذق والمهارة الناتجين عن الحيلة والتدبير ، وربما كانت (ولم يتبع مع نفسه اللين والطيبة فالنفس أعدى الأعداء).

(٣) لأنها تحق كل محاق في دين الله أي كل مخاصم (وهو قول الأزهرى). وحاقّه أي خاصمه وادعى كل واحد منهما الحق (الصحاح).

٦٢٤

من هذه الطائفة إذا أشاعوا سرّا ، أو أضاعوا أدبا يعاقبهم برياح الحجبة (١) ، فلا يبقى في قلوبهم أثر من الاحتشام للدّين ، ولا ممّا كان لهم من الأوقات ، ويصيرون على خطر في أحوالهم بأن يمتحنوا (بالاعتراض على التقدير) (٢) والقسمة.

وأمّا فرعون وقومه فكان عذابهم بالغرق .. كذلك من كان له وقت فارغ وهو بطاعة ربّه مشتغل ، والحقّ عليه مقبل ـ فإذا لم يشكر النعمة ، وأساء أدبه ، ولم يعرف قدر ما أنعم الله به عليه ردّه الحقّ إلى أسباب التفرقة ، ثم أغرقه في بحار الاشتغال فيتكدر مشربه ، ويصير على خطر بأن يدركه سخط الحقّ وغضبه.

قوله جل ذكره : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١))

وكذلك تكون منّته على خواصّ أوليائه حين يسلمهم في سفينة العافية ، والكون يتلاطم فى أمواج بحار الاشتغال على اختلاف أوصافها ، فيكونون بوصف السلامة ، لا منازعة ولا محاسبة لهم مع أحد ، ولا توقع شىء من أحد ؛ سالمون من الناس ، والناس منهم سالمون.

قوله جل ذكره : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ....)

بدأ في وصف القيامة والحساب ..

(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨))

وفي كلّ نفس مع هؤلاء القوم (٣) محاسبة ومطالبة ، منهم من يستحق المعاتبة ، ومنهم من يستحق المعاقبة.

__________________

(١) فى الإشارة قياس على الرياح التي أهلكت عادا.

(٢) موجود في ص أما في م فهى (الإعراض) فقط.

(٣) يقصد أهل المجاهدات والمذاقات.

٦٢٥

قوله جل ذكره : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ)

يسلم له السرور بنعمة الله ، ويأخذ في الحمد والمدح.

(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ)

القوم ـ غدا ـ فى عيشة راضية أي مرضيّة لهم ، وهؤلاء القوم ـ اليوم ـ فى عيشة راضية ، والفرق بينهما أنهم ـ غدا ـ فى عيشة راضية لأنه قد قضيت أوطارهم ، وارتفعت مآربهم ، وحصلت حاجاتهم ، وهم ـ اليوم ـ فى عيشة راضية إذ كفّوا مآربهم فدفع عن قلوبهم حوائجهم ؛ فليس لهم إرادة شىء ، ولا تمسّهم حاجة. وإنما هم في روح الرضا .. فعيش أولئك في العطاء ، وعيش هؤلاء في الرضاء ؛ لأنه إذا بدا علم من الحقيقة أو معنى من معانيها فلا يكون ثمة حاجة ولا سؤال. ويقال لأولئك غدا.

(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤))

ويقال لهؤلاء : اسمعوا واشهدوا ... اسمعوا منّا .. وانظروا إلينا ، واستأنسوا بقربنا ، وطالعوا جمالنا وجلالنا .. فأنتم بنا ولنا.

قوله جل ذكره : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ : يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ)

هناك ـ اليوم ـ أقوام مهجورون تتصاعد حسراتهم ، ويتضاعف أنينهم ـ ليلهم ونهارهم ـ فليلهم ويل ونهارهم بعاد ؛ تكدّرت مشاربهم ، وخربت أوطان أنسهم ، ولا بكاؤهم يرحم ، ولا أنينهم يسمع .. فعندهم أنهم مبعدون ... وهم في الحقيقة من الله مرحومون ، أسبل عليهم الستر فصغّرهم في أعينهم ـ وهم أكرم أهل القصة! كما قالوا :

٦٢٦

لا تنكرن جحدى هواك فإنما

ذاك الجحود عليك ستر مسبل

قوله جل ذكره : (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩))

«لا» : صلة والمعنى : أقسم ؛ كأنه قال : أقسم بجميع الأشياء ، لأنه لا ثالث لما يبصرون وما لا يبصرون. وجواب القسم :

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)

أي وجيه عند الله. وقول الرسول الكريم هو القرآن أو قراءة القرآن.

وما هو بقول شاعر ولا بقول كاهن أي أن محمدا ليس شاعرا ولا كاهنا بل هو :

(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ).

قوله جل ذكره : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ)

أي لو كان محمد يكذب علينا لمنعناه منه وعصمناه عنه ، ولو تعمّد لعذّبناه. والقول بعصمة الأنبياء واجب. ثم كان لا ناصر له منكم ولا من غيركم ، وهذا القرآن :

(وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١))

حقّ اليقين هو اليقين فالإضافة هكذا إلى نفس الشيء (١).

وعلوم الناس تختلف في الطرق إلى اليقين خفاء وجلاء ؛ فما يقال عن الفرق بين علم اليقين وعين اليقين وحقّ اليقين يرجع إلى كثرة البراهين ، وخفاء الطريق وجلائه ، ثم إلى كون بعضه ضروريا وإلى بعضه كسبيا ، ثم ما يكون مع الإدراكات (٢).

__________________

(١) لو كان اليقين نعتا لم يجز أن يضاف إليه كما لا تقول : هذا ورد الأحمر ، فالإضافة هنا ـ كما يرى القشيري ـ إلى الشيء نفسه. فإن القرآن حق يقين ويقين حقّ.

(٢) انظر محاولة القشيري التفرقة بين معانيها في رسالته ص ٤٧.

٦٢٧

سورة المعارج

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(بِسْمِ اللهِ) كلمة من قالها وجد جمالها ، ومن شهدها شهد جلالها.

وليس كلّ من قالها نالها ، ولا كلّ من احتالها (١) عرف جلالها.

كلمة رفيعة عن إدراك الألباب منيعة ، كلمة على الحقيقة الصمدية دالّة ، كلمة لا بدّ للعبد من ذكرها في كل حالة.

قوله جل ذكره : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١))

الباء في (بِعَذابٍ) بمعنى عن ، أي سأل سائل (٢) عن هذا العذاب لمن هو؟ فقال تعالى :

(لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ)

هذا العذاب للكافرين ليس له دافع من الله ذى المعارج ؛ فهذا العذاب من الله.

ومعنى (ذِي الْمَعارِجِ) ذى الفضل ومعالى الدرجات التي يبلغ إليها أولياءه.

قوله جل ذكره : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ).

__________________

(١) هكذا في النسختين ، ولو صحّ أنها هكذا في الأصل فربما كان المعنى : ليس كلّ من ادّعى أنه بحيلته وتدبيره ومهارته وحذقه وصل إليها قد عرف أسرارها.

(٢) هو النضر بن الحارث قال : إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. وربما تكون سأل بمعنى دعا ، ويكون السائل هو النبي (ص).

٦٢٨

(الرُّوحُ) أي جبريل ، فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة من أيام الدنيا يعنى به يوم القيامة.

ويقال : معناه يحاسب الخلق في يوم قصير ووقت يسير ما لو كان الناس يشتغلون به لكان ذلك خمسين ألف سنة ، والله يجرى ذلك ويمضيه في يوم واحد.

ويقال : من أسفل المخلوقات إلى أعلاها مسيرة خمسين ألف سنة للناس ؛ فالملائكة تعرج فيه من أسفله إلى أعلاه في يوم واحد.

قوله جل ذكره : (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥))

فاصبر ـ يا محمد (١) ـ على مقاساة أذاهم صبرا جميلا. والصبر الجميل ما لا شكوى فيه.

ويقال : الصبر الجميل ألا تستثقل الصبر بل تستعذبه.

ويقال : الصبر الجميل ما لا ينتظر العبد الخروج منه ، ويكون ساكنا راضيا.

ويقال : الصبر الجميل أن يكون على شهود المبلى.

ويقال : الصبر الجميل ما تجرّد عن الشكوى والدّعوى.

قوله جل ذكره : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً)

إنّ ما هو آت فقريب ، وما استبعد من يستبعد إلّا لأنّه مرتاب ؛ فأمّا الواثق بالشيء فهو غير مستبعد له.

قوله جل ذكره : (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ)

الإشارة فيه أنه في ذلك اليوم من كان في سموّ نخوته ونبوّ صولته يلين ويستكين ويضعف من كان يشرف ، ويذلّ من كان يذلّ.

قوله جل ذكره : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً)

لا يتفرّغ قريب إلى قريب ؛ فلكلّ امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه.

__________________

(١) هكذا في ص وهي في م (بالحمد) وواضح فيها أنها اشتبهت على الناسخ.

٦٢٩

ولا يتعهّد المساكين ـ فى ذلك اليوم ـ إلا الله.

(يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤))

(يُبَصَّرُونَهُمْ) أي يعرفون أقاربهم ، ولكن لا ترقّ قلوب بعضهم على بعض.

ويتمنّى المجرم يومئذ أن يفتدى من عذاب جهنم بأعز من كان عليه في الدنيا من قريب ونسيب وحميم وولد ، وبكلّ من في الأرض حتى يخلص من العذاب.

(كَلَّا إِنَّها لَظى)

اسم من أسماء جهنم.

(نَزَّاعَةً لِلشَّوى) (١)

قلّاعة للأطراف. تكشط الجلد عن الوجه وعن العظم.

قوله جل ذكره : (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى)

تقول جهنم للكافر والمنافق : يا فلان ... إليّ إليّ.

والإشارة فيه : أنّ جهنم الدنيا تعلق بقلب المرء فتدعوه بكلاب الحرص إلى نفسه وتجرّه إلى جمعها حتى يؤثرها على نفسه وكلّ أحد له ؛ حتى لقد يبخل بدنياه على أولاده وأعزّته ... وقليل من نجا من مكر الدنيا وتسويلاتها.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً).

__________________

(١) والشّوى جمع شواة وهي جلدة الرأس ، قال الأعشى :

قالت قتيلة : ماله

قد جللت شيبا شواته

وجاء في الصحاح : الشوى جمع شواة وهي جلدة الرأس. وهي اليدان والرجلان والرأس من الآدميين ، وكل ما ليس مقتلا. يقال : رماه فأشواه أي لم يصب المقتل.

وقال الضحاك : تفرى الجلد واللحم عن العظم حتى لا تترك منه شيئا. ونرى أن المقصود ـ والله أعلم. أن العذاب لا يقضى عليهم ، حتى يستمر واقعا بهم إلى الأبد.

٦٣٠

وتفسيره ما يتلوه :

(إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١))

والهلع شدّة الحرص مع الجزع. ويقال هلوعا : متقلّبا في غمرات الشهوات.

ويقال : يرضيه القليل ويسخطه اليسير.

ويقال : عند المحنة يدعو ، وعند النعمة ينسى ويسهو.

(إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ)

استثنى منهم المصلين ـ وهم الذين يلازمون أبدا مواطن الافتقار ؛ من صلى بالمكان (١).

(وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)

وهو المتكفّف والمتعفّف.

وهم على أقسام : منهم من يؤثر بجميع ماله ؛ فأموالهم لكلّ من قصد ، لا يخصّون سائلا من عائل. ومنهم من يعطى ويمسك ـ وهؤلاء (٢) منهم ـ ومنهم من يرى يده يد الأمانة فلا يتكلّف باختياره ، وإنما ينتظر ما يشار عليه به من الأمر ؛ إمّا بالإمساك فيقف أو ببذل الكلّ أو البعض فيستجيب على ما يطالب به وما يقتضيه حكم الوقت ... وهؤلاء أتمّهم.

__________________

(١) صليت الناقة أو الحامل ونحوهما استرخى صلاها لقرب نتاجها (الوسيط).

(٢) أي الذين تتحدث عنهم الآية.

٦٣١

(وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦))

وأمارتهم الاستعداد للموت قبل نزوله ، وأن يكونوا كما قيل :

مستوفزون على رجل كأنهمو

فقد يريدون أن يمضوا فيرتحلوا

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ)

وإنما تكون صحبتهم مع أزواجهم للتّعفّف وصون النّفس ، ثم لابتغاء أن يكون له ولد من صلبه يذكر الله. وشرط هذه الصحبة : أن يعيش معها على ما يهون ، وألا يجرّها إلى هوى نفسه ويحملها على مراده وهواه.

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ)

يحفظون الأمانات التي عندهم للخلق ولا يخونون فيها. وأمانات الحق التي عندهم أعضاؤهم الظاهرة ـ فلا يدنّسونها بالخطايا ؛ فالمعرفة التي في قلوبهم أمانة عندهم من الحق ، والأسرار التي بينهم وبين الله أمانات عندهم. والفرائض واللوازم والتوحيد .. كل ذلك أمانات.

ويقال : من الأمانات إقرارهم وقت الذّرّ. ويقال : من الأمانات عند العبد تلك المحبة التي أودعها الله في قلبه.

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ)

شهادتهم لله بالوحدانية ، وفيما بينهم لبعضهم عند بعض ـ يقومون بحقوق ذلك كله.

قوله جل ذكره : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧))

والإهطاع أن يقبل ببصره إلى الشيء فلا يرفعه عنه ، وكذلك كانوا يفعلون عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم و (عِزِينَ) : أي خلقا خلقا ، وجماعة جماعة.

٦٣٢

(أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ؟)

كلا .. إنك لا تدعو عن هذا! وليس هذا بصواب ؛ فإنهم ـ اليوم ـ كفار ، وغدا يعاملون بما يستوجبون.

(فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ ..) لا ـ هنا صلة ، والمعنى أقسم. وقد مضى القول فى المشارق والمغارب ـ (إِنَّا لَقادِرُونَ) على ذلك.

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا) غاية التهديد والتوبيخ لهم.

(يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً) كأنهم يسرعون إلى أصنامهم ، شبّه إسراعهم حين قاموا من القبور بإسراعهم إلى النّصب ـ اليوم ـ كى يقوموا بعبادتهم إياها.

٦٣٣

سورة نوح

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(بِسْمِ اللهِ) اسم لمن قامت السماوات والأرض بقدرته ، واستقامت الأسرار والقلوب بنصرته .. دلّت الأفعال على جلال شانه ، وذلّت الرّقاب عند شهود سلطانه. أشرقت الأقطار بنوره في العقبى ، وأشرقت الأسرار بظهوره في الدنيا ، فهو المقدّس بالوصف الأعلى.

قوله جل ذكره : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١))

أرسلنا نوحا بالنبوّة والرسالة. (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) أي بأن أنذرهم وإرسال الرّسل من الله فضل (١) ، وله بحق ملكه أن يفعل ما أراد ، ولم يجب عليه إرسال الرّسل لأن حقيقته لا تقبل الوجوب.

وإرسال الرسل إلى من علم أنه لا يقبل جائز (٢) ، وتكليفهم من ناحية العقل جائز (٣) فنوح ـ علم منهم أنهم لا يقبلون .. ومع ذلك بلّغ الرسالة وقال لهم : إنى لكم نذير مبين :

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦)

__________________

(١) فى النسختين (فعل) وهي صواب بدليل قوله فيما بعد : (أن يفعل) ما أراد ولكننا رجحنا (فضل) لأن القشيري يستحسن استعمال (الفضل) عند ما يتحدث عن نفى (الوجوب) على الله.

(٢) كى يكون ذلك عليهم حجة ، قال تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).

(٣) ولكن لا عقاب إلا بعد إرسال الرسل ؛ لأن العقل وحده غير كاف في قطع المعذرة (قارن ذلك بآراء المعتزلة).

٦٣٤

يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤))

يغفر لكم (مِنْ) ذنوبكم : من هنا للجنس لا للتبعيض كقوله تعالى :

(فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ).

ويقال : ما عملوه دون ما هو معلوم أنهم سيفعلونه ؛ لأنه لو أخبرهم بأنه غفر لهم ذلك كان إغراء لهم .. وذلك لا يجوز. فأبوا أن يقبلوا منه ، فقال :

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً)

بيّن أنّ الهداية ليست إليه ، وقال : إن أردت إيمانهم فقلوبهم بقدرتك ـ سبحانك.

قوله جل ذكره : (وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً)

وإنّى ما ازددت لهم دعاء إلا ازدادوا إصرارا واستكبارا.

ويقال : لمّا دام بينهم إصرارهم تولّد من الإصرار استكبارهم ، قال تعالى :

(فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) (١)

قوله جل ذكره : (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) ويعدد كم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً)

__________________

(١) آية ١٦ سورة الحديد.

٦٣٥

ليعلم العالمون : أنّ الاستغفار قرع أبواب النعمة ، فمن وقعت له إلى الله حاجة فلن يصل إلى مراده إلّا بتقديم الاستغفار.

ويقال : من أراد التّفضّل فعليه بالعذر والتنصّل.

قوله : (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ ...) : كان نوح عليه‌السلام كلّما ازداد في بيان وجوه الخير والإحسان زادوا هم في الكفر والنسيان.

قوله جل ذكره : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣))

ما لكم لا تخافون لله عظمة؟ وما لكم لا ترجون ولا تؤمّلون على توقيركم للأمر من الله لطفا ونعمة؟.

(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦))

ثم نبّههم إلى خلق السماوات والأرض وما فيهما من الدلالات على أنها مخلوقة ، وعلى أنّ خالقها يستحقّ صفات العلوّ والعزّة.

ثم شكا نوح إلى الله وقال :

(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢))

يعنى كبراءهم وأغنياءهم الذين ضلّوا في الدنيا وهلكوا في الآخرة.

(وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦))

وذلك بتعريف الله تعالى إيّاه أنّه لن يؤمن من قومك إلّا من قد آمن. فاستجاب الله فيهم دعاءه وأهلكهم.

٦٣٦

سورة الجنّ (١)

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(بِسْمِ اللهِ) اسم عزيز به أقرّ من أقرّ بربوبيته ، وبه أصرّ من أصرّ على معرفته ، وبه استقرّ من استقرّ من خليقته ، وبه ظهر ما ظهر من مقدوراته ، وبه بطن ما بطن من مخلوقاته (٢) فمن جحد فبخذلانه (٣) وحرمانه ، ومن وحد (٤) فبإحسانه وامتنانه.

قوله جل ذكره : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١))

قيل : إن الجنّ كانوا يأتون السماء فيستمعون إلى قول الملائكة ، فيحفظونه ، ثم يلقونه إلى الكهنة ، فيزيدون فيه وينقصون .. وكذلك كانوا في الفترة التي بين نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين عيسى عليه‌السلام. فلمّا بعث نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجموا بالشّهب علم إبليس أنه وقع شىء (٥) ففرّ جنوده ، فأتى تسعة منهم إلى بطن نخلة واستمعوا قراءته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فآمنوا ، ثم آتوا قومهم وقالوا : إنّا سمعنا قرآنا عجبا يهدى إلى الرشد فآمنا به ... إلى آخر الآيات.

(وجاءه سبعون منهم وأسلموا وذلك قوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ ..)) (٦)

__________________

(١) أخطأ الناسخ في ص وجعلها (سورة المزمل) بينما التفسير جار لسورة الجن.

(٢) إشارة إلى الجن .. وهنا نوع من الترابط بين إيحاءات البسملة والسورة.

(٣) الباء هنا معناها (بسبب) أي أن الجاحد جحد بسبب خذلان الله له في القسمة.

(٤) هكذا في ص وهي الصواب بينما هي في م (قصد) ونحن نعلم أن القشيري يستعمل (جحد) و (وحد) متقابلين.

(٥) «حدث شىء في الأرض» (الترمذي).

(٦) ما بين القوسين ورد في م ولم يرد في ص ، والآية هي رقم ٢٩ سورة الأحقاف.

٦٣٧

قوله جل ذكره : (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً)

الجدّ العظمة ، والعظمة استحقاق نعوت الجلال.

(وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً)

أراد بالسفيه الجاهل بالله يعنى إبليس. والشطط السّرف.

(وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً)

فى كفرهم وكلمتهم بالشّرك.

(وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً)

أي ذلة وصغار ؛ فالجنّ زادوا للانس ذلّة ورهقا (١) (فكانوا إذا نزلوا يقولون : نعوذ بربّ هذا الوادي فيتوهم الجنّ أنهم على شىء فزادوهم رهقا) (٢) حيث استعاذوا بهم.

قوله جل ذكره : (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً)

أي ظنّوا كما ظنّ الكفار من الجن ألّا بعث ولا نشور ـ كما ظننتم أيها الإنس.

(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً)

يعنى حين منعوا عن الاستماع.

(وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً).

__________________

(١) أي أن الجن زادوا الإنس رهقا وهو الخطيئة والإثم حين استعاذوا بغير الله.

وقال مجاهد : زاد الإنس الجنّ رهقا أي طغيانا بهذا التعوذ حتّى قالت الجن : سدنا الإنس والجن.

(٢) ما بين القوسين موجود في ص وغير موجود في م.

٦٣٨

فالآن قد منعنا.

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً)

الاستقامة على الطريقة تقتضى إكمال النعمة وإكثار الراحة. والإعراض عن الله يوجب تنغص العيش ودوام العقوبة.

قوله جل ذكره : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨))

للمسجد فضيلة ، ولهذا خصّه الله سبحانه وأفرده بالذكر من بين البقاع ؛ فهو محلّ العبادة .. وكيف يحلّ العابد عنده إذا حلّ محلّ قدمه (١)؟!.

ويقال : أراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها ، أخبر أنها لله ، فلا تعبدوا بما لله غير الله.

قوله جل ذكره : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً)

لما قام عبد الله يعنى محمدا عليه‌السلام يدعو الخلق إلى الله كاد الجنّ والإنس يكونون مجتمعين عليه ، يمنعونه عن التبليغ ، قل يا محمد :

(قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢))

لا أقدر أن أدفع عنكم ضرّا ، أو أسوق لكم خيرا .. فكلّ شىء من الله. ولن أجد من دونه ملتجأ إلا :

__________________

(١) العبارة غامضة وتحتاج إلى توضيح .. وربما قصد القشيري إلى أنه إذا كان المسجد وهو محل قدم العابد مكرما ... فما بالك بالعابد نفسه ، ومحله عند الله؟.

٦٣٩

(إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ)

فلن ينجّينى من الله إلا تبليغى رسالاته بأمره.

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً).

قوله جل ذكره : (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥))

أي : لا أدرى ما توعدون من العقوبة ، ومن قيام الساعة أقريب أم بعيد؟ فكونوا على حذر. ويجب أن يتوقّع العبد العقوبات أبدا مع مجارى الأنفاس ليسلم من العقوبة.

قوله جل ذكره : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ)

فيطلعه بقدر ما يريده.

(لِيَعْلَمَ) (١) (أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً)

أرسل مع الوحى ملائكة قدّامه وخلفه .. هم ملائكة حفظة ، يحفظون الوحى من الكهنة والشياطين ، حتى لا يزيدوا أو ينقصوا الرسالات التي يحملها ... والله يعلم ذلك ، وأحاط علمه به.

__________________

(١) قرأ ابن عباس (ليعلم) أي ليعلم الناس أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم.

٦٤٠