لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

سورة الجمعة

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

(بِسْمِ اللهِ) اسم عزيز إذا تجلّى لقلب عبد بوصف جماله تجمعت أفكاره على بساط جوده فلم يتفرّق بسواه (١).

ومن تجلّى لسرّه بنعت جلاله اندرجت جملته ، واستهلك في وجوده فلم يشعر بكرائم دنياه ولا بعظائم عقباه ..

وكم له من إنعام! وكم له من إحسان! وكما في أمثالهم : «جرى الوادي فطمّ على القريّ» (٢)

قوله جل ذكره : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)

تسبح في بحار توحيد الحقّ أسرار أهل التحقيق ، وبحرهم بلا شاطىء ؛ فبعد ما حصلوا فيها فلا خروج ولا براح ، فحازت أيديهم جواهر التفريد فرصّعوها في تاج العرفان كى يلبسوه يوم اللّقاء.

(الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).

(الْمَلِكِ) : الملك المتفرّد باستحقاق الجبروت.

(الْقُدُّوسِ) : المنزّه عن الدرك والوصول : فليس بيد الخلق إلّا عرفان الحقائق بنعت التعالي ، والتأمل في شهود أفعاله ، فأمّا الوقوف على حقيقة إنّيته ـ فقد جلّت الصمدية عن

__________________

(١) لاحظ هنا دقة استعمال الاصطلاحين (الجمع والفرق).

(٢) القرى ـ مجرى الماء في الروضة والجمع : أقرية وأقراء وقريان ، ويضرب المثل عند تجاوز الشيء حدّه.

٥٨١

إشراف عليه ، أو طمع إدراك في حال رؤيته ، أو جواز إحاطة في العلم به ... فليس إلا قالة بلسان مستنطق ، وحالة بشهود حقّ مستغرق (١) :

وقلن لنا : نحن الأهلّة إنما

نضىء لمن يسرى بليل ولا نقرى (٢)

قوله جل ذكره : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢))

جرّده عن كلّ تكلّف لتعلّم ، وعن الاتصاف بتطلّب (٣) .. ثم بعثه فيهم وأظهر عليه من الأوصاف ما فاق الجميع.

فكما أيتمه في الابتداء عن أبيه وأمّه ، ثم آواه بلطفه ـ وكان ذلك أبلغ وأتمّ ـ فإنه كذلك أفرده عن تكلّفه العلم ـ ولكن قال : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) (٤).

وقال : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً) (٥) ألبسه لباس العزّة ، وتوّجه بتاج الكرامة ، وخلع عليه حسن التولّى ... لتكون آثار البشرية عنه مندرجة (٦) ، وأنوار الحقائق عليه لائحة.

(وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣))

__________________

(١) هذه الفقرة التي كتبها القشيري عن (القدوس) على جانب كبير من الأهمية ؛ إذ هي توضح : أن الصوفي مهما ارتفع في معراجه الروحي لا يستشرف من (الذات) فقد جلّت الصمدية عن ذلك ، وإنما هو يتحقق من شهود (الفعل) .. ولا شكّ أن أهل السنة المتشددين سيجدون في هذا النصّ ما يعطفهم نحو التصوف وأهله.

(٢) أي ولا نستضيف ... والمقصود أن السالكين طريق الله دائما على الدرب سائرون وأن الحق سبحانه لا وقوف على كنهه.

(٣) حتى ينتفى عنه سوء الظن في تعلّمه شيئا من الكتب السابقة ، وأن ما يدعو إليه ثمرة قراءته.

(٤) آية ١١٣ سورة النساء.

(٥) آية ٥٢ سورة الشورى.

(٦) هى هكذا في ص وفي م مشتبهة ، والمقصود لتنطوى عنه آثار البشرية ـ لا البشرية نفسها ـ وتلوح عليه أنوار الحقائق.

٥٨٢

أي بعثه في الأميين ، وفي آخرين منهم وهم العجم ، ومن يأتى .. إلى يوم القيامة ؛ فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوث إلى الناس كافّة.

قوله جل ذكره : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤))

يقصد به هنا النبوة ، ويؤتيها (مَنْ يَشاءُ) ؛ وفي ذلك ردّ على من قال : إنها تستحقّ لكثرة طاعة الرسول ـ وردّ على من قال : إنها لتخصيصهم بطينتهم ؛ فالفضل ما لا يكون مستحقّا ، والاستحقاق فرض (١) لا فضل.

ويقال : (فَضْلُ اللهِ) هنا هو التوفيق حتى يؤمنوا به.

ويقال : هو الأنس بالله ، والعبد ينسى كلّ شىء إذا وجد الأنس.

ويقال : قطع الأسباب ، ـ بالجملة ـ فى استحقاق الفضل ، إذ أحاله على المشيئة.

قوله جل ذكره : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥))

(ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) : ثم لم يعملوا بها.

ويلحق بهؤلاء (٢) فى الوعيد ـ من حيث الإشارة ـ الموسومون (٣) بالتقليد في أي

__________________

(١) هكذا في ص وهي في م (فرد) وهي خطأ في النسخ ؛ إذ المقصود أنه منحه الاستحقاق فضلا منه لا (فرضا) عليه ؛ فلا وجوب على الله ـ كما نعرف من مذهب القشيري.

(٢) أي باليهود الذين لا فائدة لهم فيما يحملون من الكتب ، فهى تبشر بمحمد ، وهم يجحدون به.

(٣) هكذا في ص وهي في م (المؤمنون).

٥٨٣

معنى شئت : فى علم الأصول ، وممّا طريقه أدلة العقول ، وفي هذه الطريقة (١) ممّا طريقه المنازلات.

قوله جل ذكره : (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧))

(٢) هذا من جملة معجزاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصرف قلوبهم عن تمنّى الموت إلى هذه المدة دلّ على صدقه صلوات الله عليه (٣).

ويقال : من علامات المحبة الاشتياق إلى المحبوب ؛ فإذا كان لا يصل إلى لقائه إلا بالموت فتمنّيه ـ لا محالة ـ شرط ، فأخبر أنهم لا يتنمونه أبدا .. وكان كما أخبر.

قوله جل ذكره : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨))

الموت حتم مقضيّ. وفي الخبر : «من كره لقاء الله كره الله لقاءه». والموت جسر والمقصد عند الله .. ومن لم يعش عفيفا فليمت ظريفا (٤).

__________________

(١) يقصد طريقة الصوفية.

(٢) أخطأ الناسخ في م وجعلها (آمنوا).

(٣) والآية تؤكّد هذا مرتين باستعمال أسلوب إنشائى (فتمنوا) وأسلوب خبرى (ولا يتمنونه أبدا).

(٤) سئل الجنيد عن الظرف فقال : «اجتناب كل خلق دنى واستعمال كل خلق سنى وأن تعمل لله ثم لا ترى أنك عملت» (اللمع للسراج ص ٩٦٢).

٥٨٤

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩))

أوجب السّعى يوم الجمعة إذا نودى لها ، وأمر بترك البيع (١).

ومنهم من يحمله على الظاهر ؛ أي ترك المعاملة مع الخلق (٢) ، ومنهم من يحمله عليه وعلى معنى آخر : هو ترك الاشتغال بملاحظة الأعراض (٣) ، والتناسى عن جميع الأغراض إلا معانقة الأمر ؛ فمنهم من يسعى إلى ذكر الله ، ومنهم من يسعى إلى الله ، بل يسعون إلى ذكر الله جهرا بجهر ، ويسعون إلى الله تعالى سرّا بسرّ.

قوله جل ذكره : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠))

إنما ينصرف من كان له جمع يرجع إليه ، أو شغل يقصده ويشتغل به ـ ولكن ...

من لا شغل له ولا مأوى .. فإلى أين يرجع؟ وإنما يقال : (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) إذا كان له أرب .. فأمّا من سكن عن المطالبات ، وكفى داء الطّلب .. فما له وابتغاء ما ليس يريده ولا هو في رقّه؟!

قوله جل ذكره : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ

__________________

(١) هكذا في ص وهي الصواب حسب الآية ، ولكنها في م (الجميع).

(٢) هكذا في ص وهي في م (الحق) وهي خطأ في النسخ.

(٣) جمع (عرض) الحياة الدنيا.

٥٨٥

خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١))

من أسرته أخطار الأشياء استجاب لكلّ داع جرّه إليه لهو أو حمله عليه سهو ومن ملكه سلطان الحقيقة لم ينحرف عن الحضور ، ولم يلتفت في حال الشهود. (قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) وما عند الله للعبّاد والزّهّاد ـ غدا (١) ـ خير مما (٢) نالوه فى الدنيا نقدا. وما عند الله للعارفين ـ نقدا ـ من واردات القلوب وبواده (٣) الحقيقة خير مما يؤمّل المستأنف (٤) فى الدنيا والعقبى.

__________________

(١) ويجوز أنها في الأصل «وعدا» لتقابل «نقدا» فهذا نمط في تعبير القشيري مألوف ، ومع ذلك فالوعد (غدا).

(٢) هكذا في ص وهي في م (ممن) والصواب (مما).

(٣) البواده ما يفجأ قلبك من الغيب على سبيل الوهلة ، وهي إما موجبات فرح أو موجبات ترح ، وسادات الوقت لا تغيّرهم البواده ، لأنهم فوق ما يفجؤهم حالا وقوة (الرسالة ـ ص ٤٤).

(٤) موجودة في ص وغير موجودة في م وهي ضرورية للسياق ، والمستأنف : هو المريد المبتدئ الذي مازال يفكّر في الثواب الآجل والثواب العاجل.

٥٨٦

سورة المنافقون

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(بِسْمِ اللهِ) اسم من تحقّق به صدق في أقواله ، ثم صدق في أعماله ، ثم صدق في أخلاقه ثم صدق في أحواله ، ثم صدق في أنفاسه (١) .. فصدقه في القول ألّا يقول إلّا عن برهان ، وصدقه في العمل ألا يكون للبدعة عليه سلطان ، وصدقه في الأخلاق ألّا يلاحظ إحسانه مع الكافّة بعين النقصان ، وصدقه في الأحوال أن يكون على كشف وبيان ، وصدقه في الأنفاس ألا يتنفّس إلا على وجود كالعيان (٢).

قوله جل ذكره : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١))

كذّبهم فيما قالوا وأظهروا ، ولكنهم لم يشهدوا عن بصيرة ولم يعتقدوا تصديقك ، فهم لم يكذبوا في الشهادة (٣) ولكنّ كذبهم في قولهم : إنّهم مخلصون لك ، مصدّقون لك. فصدق القالة لا ينفع مع قبح الحالة.

__________________

(١) هكذا في ص وهي في م (انعامه) والصواب ما أثبتنا بدليل ما بعده.

(٢) لا حظ هنا كيف تتفق إشارة البسملة مع السياق العام للسورة.

(٣) أي تقريرهم بأن محمدا رسول الله حقيقة ليس فيها كذب ، فمن حيث الظاهر فقد نطقت ألسنتهم بالصدق ، ولكن الكذب كامن في القلب.

٥٨٧

ويقال : الإيمان ما يوجب الأمان ؛ فالإيمان يوجب للمؤمن إذا كان عاصيا خلاصه من العذاب أكثره وأقلّه ... إلّا ما ينقله من (أعلى) (١) جهنم إلى أسفلها.

قوله جل ذكره : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢))

تستّروا بإقرارهم ، وتكشّفوا بنفاقهم عن أستارهم فافتضحوا ، وذاقوا وبال أحوالهم.

قوله جل ذكره : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣))

استضاءوا بنور الإجابة فلم ينبسط عليهم شعاع السعادة ، فانطفأ نورهم بقهر الحرمان ، وبقوا في ظلمات القسمة السابقة بحكم الشقاوة.

قوله جل ذكره : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤))

أي هم أشباح وقوالب وليس وراءهم ألباب وحقائق ـ فالجوز (٢) الفارغ مزيّن ظاهره ولكنه للعب الصبيان (٣).

(يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ...) وذلك لجبنهم ؛ إذ ليس لهم انتعاش بربّهم ، ولا استقلال بغيرهم.

__________________

(١) سقطت (أعلى) من الناسخ في م وهي موجودة في ص.

(٢) هكذا في م وهي في ص «الحوض» وقد رجحنا الأولى.

(٣) فى هذه الإشارة تنبيه إلى قاعدة صوفية : أن العبرة بحقائق الأرواح لا بمظاهر الأشباح (أي الأجساد).

٥٨٨

(هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) هم عدوّ لك ـ يا محمد ـ فاحذرهم ، ولا يغرّنك تبسّطهم فى الكلام على وجه التودّد والتقرّب.

قوله جل ذكره : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥))

سمعوا إلى ما يقال لهم على وجه التكبّر ، وإظهار الاستغناء عن استغفارك لهم ... فخلّ سبيلهم ؛ فليس للنّصح فيهم مساغ ، ولن يصحيهم من سكرتهم إلّا حرّ ما سيلقونه من العقوبة ، فما دام الإصرار من جانبهم فإنهم :

(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦))

فقد سبق العلم بذلك :

قوله جل ذكره : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧))

(١) كأنهم مربوطون بالأسباب ، محجوبون عن شهود التقدير ، غير متحققّين بتصريف الأيام ، فأنطقهم بما خامر قلوبهم من تمنّى انطفاء نور رسول الله ، وانتكاث شملهم ، فتواصوا فيما بينهم بقولهم : (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) فقال تعالى (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ ...).

وليس استقلالك ـ يا محمد ـ ولا استقلال أصحابك بالمرزوقين .. بل بالرازق ؛ فهو الذي يمسككم.

__________________

(١) (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بهذا أجاب كثيرون من أرباب الطريق كحاتم الأصم والجنيد والشبل عند ما كانوا يسأل أحدهم : من أين تأكل؟

٥٨٩

قوله جل ذكره : (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨))

إنما وقع لهم الغلط في تعيين الأعزّ والأذلّ ؛ فتوهّموا أنّ الأعزّ هم المنافقون ، والأذلّ هم المسلمون ، ولكن الأمر بالعكس ، فلا جرم غلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون ، وأذلّ المنافقون بقوله : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) : لله عزّ الإلهية ، وللرسول عزّ النبوّة ، وللمؤمنين عزّ الولاية .. وجميع ذلك لله ؛ فعزّة القديم صفته ، وعزّ الرسول وعزّ المؤمنين له فعلا ومنّة وفضلا ، فإذا لله العزّة جميعا.

ويقال : كما أنّ عزّة الله ـ سبحانه ـ لا زوال لها فعزّة الأنبياء بأن لا عزل لهم ، وعزّة المؤمنين بألا يبقى منهم مخلّد في النار.

ويقال : من كان إيمانه حقيقيا فلا زوال له.

ويقال : من تعزّز بالله لم يلحقه تغيّر عن حاله بغير الله.

ويقال : لا عزّ إلّا في طاعة الله ، ولا ذلّ إلّا في معصية الله ... وما سوى هذا فلا أصل له.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩))

لا تضيّعوا أمور دينكم بسبب أموالكم وأولادكم بل آثروا حقّ الله ، واشتغلوا به يكفكم أمور دنياكم وأولادكم ؛ فإذا كنت لله كان الله لك (١).

__________________

(١) لنتذكر ما قلناه في مدخل هذا الكتاب بأن القشيري نفسه قد ضرب المثل على ذلك حين هاجر من بلده تاركا أهله في رعاية الله حينما تعرّضت عقيدته للمحنة.

٥٩٠

ويقال : حقّ الله مما ألزمك القيام به ، وحقّك ضمن لك القيام به ؛ فاشتغل بما كلّفت لا بما كفيت.

قوله جل ذكره : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠))

لا تغترّوا بسلامة أوقاتكم ، وترقّبوا بغتات آجالكم ، وتأهّبوا لما بين أيديكم من الرحيل ، ولا تعرّجوا في أوطان التسويف.

٥٩١

سورة التّغابن

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(بِسْمِ اللهِ ...) كلمة عزيزة من ذكرها يحتاج إلى لسان عزيز في الغيبة لا يبتذل ، وفي ذكر الأغيار لا يستعمل. ومن عرفها يحتاج إلى قلب عزيز ليس في كلّ ناحية منه خليط ، ولا في كلّ زاوية زبيط.

قوله جل ذكره : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١))

المخلوقات كلّها بجملتها لله سبحانه مسبّحة ... ولكن لا يسمع تسبيحها من به طرش النكرة.

ويقال : الذي طرأ صممه فقد يرجى زواله بنوع معالجة ، أمّا من يولد أصمّ فلا حيلة فى تحصيل سماعه. قال تعالى : (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) (١) وقال تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) (٢).

قوله جل ذكره : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢))

منكم كافر في سابق حكمه سمّاه كافرا ، وعلم أنه يكفرو أراد به الكفر ... وكذلك

__________________

(١) آية ٥٢ سورة الروم.

(٢) آية ٢٣ سورة الأنفال.

٥٩٢

كانوا. ومنكم مؤمن في سابق حكمه سمّاه مؤمنا ، وعلم في آزاله أنه يؤمن وخلقه مؤمنا ، وأراده مؤمنا ... والله بما تعملون بصير.

قوله جل ذكره : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣))

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) : أي وهو محقّ في خلقه.

(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) لم يقل لشىء من المخلوقات هذا الذي قال لنا ، صوّر الظاهر وصوّر الباطن ؛ فالظاهر شاهد على كمال قدرته ، والباطن شاهد على جلال قربته (١).

قوله جل ذكره : (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤))

قصّروا حيلكم عن مطلوبكم ، فهو تتقاصر عنه علومكم ، وأنا أعلم ذلك دونكم ... فاطلبوا منّى ، فأنا بذلك أعلم ، وعليه أقدر.

ويقال : (وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ). فاحذروا دقيق الرياء ، وخفيّ ذات الصدور (وَما تُعْلِنُونَ) :

فاحذروا أن يخالف ظاهركم باطنكم.

فى قوله (ما تُسِرُّونَ) أمر بالمراقبة بين العبد وربه.

وفي قوله (ما تُعْلِنُونَ) أمر بالصدق في المعاملة والمحاسبة مع الخلق (٢).

قوله جل ذكره : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ

__________________

(١) القربة هنا إشارة إلى تميز الإنسان من بين المخلوقات بقيام المحبة بمعناها الخاص بينه وبين الحق سبحانه ، وقد سبق بيان ذلك في مواضع مختلفة.

(٢) مرة أخرى ننبه إلى ضرورة فهم الفرق بين اصطلاحى : المراقبة والمحاسبة ـ حسب المنهج القشيري.

٥٩٣

أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦))

المراد من ذلك هو الاعتبار بمن سلف ، ومن لم يعتبر عثر في مهواة من الأمل ، ثم لا ينتعش إلّا بعد فوات الأمر من يده.

(ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ ...). شاهدوا الأمر من حيث الخلق فتطوّحوا فى متاهات الإشكال المختلفة الأحوال. ولو نظروا بعين الحقيقة لتخلّصوا من تفرقة الأباطيل ، واستراحوا بشهود (١) التقدير من اختلاف الأحوال ذات (٢) التغيير.

قوله جل ذكره : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧))

الموت نوعان : موت نفس ، وموت قلب ؛ ففى القيامة يبعثون من موت النّفس ، وأمّا موت القلب فلا بعث منه ـ عند كثير من مخلصى هذه الطائفة ، قال تعالى مخبرا عنهم : (قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟) (٣) فلو عرفوه لما قالوا ذلك ؛ فموت قلوبهم مسرمد إلى أن تصير معارفهم ضرورية ، فهذا الوقت وقت موت قلوبهم.

قوله جل ذكره : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨))

(النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) : القرآن. ويجوز أن يكون ما أنزل في قلوب أوليائه من السكينة وفنون الألطاف.

__________________

(١) هكذا في ص وهي في م (من شهود) وهي خطأ من الناسخ.

(٢) فى النسختين (ذوى) وقد رأينا أن تكون (ذات) أو (ذوات).

(٣) آية ٥٢ سورة يس ، والفرق واضح بين هذه القالة وبين ما قاله أصحاب الكهف المؤمنون.

٥٩٤

قوله جل ذكره : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩))

المطيع ـ يومئذ ـ فى غبن لأنه لم يستكثر من الطاعة ، والعاصي في غبن لأنه استكثر من الزلّة (١).

وليس كلّ الغبن في تفاوت الدرجات قلّة وكثرة ، فالغبن في الأحوال أكثر.

قوله جل ذكره : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١))

أيّ حصلة حصلت فمن قبله خلقا ، وبعلمه وإرادته حكما.

ومن يؤمن بالله يهد قلبه حتى يهتدى إلى الله في السّرّاء والضّراء ـ اليوم ـ وفي الآخرة يهديه إلى الجنة.

ويقال : (يَهْدِ قَلْبَهُ) للأخلاق السنيّة ، والتنقّى من شحّ النّفس.

ويقال : (يَهْدِ قَلْبَهُ) لاتّباع السّنّة واجتناب البدعة.

قوله جل ذكره : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢))

__________________

(١) قال بعض الصوفية : إن الله كتب الغبن على الخلق أجمعين ، فلا يلقى أحد ربّه إلا مغبونا ؛ لأنه لا يمكنه الاستيفاء للعمل حتى يحصل له استيفاء الثواب ، وفي الأثر قال النبي (ص) : «لا يلقى الله أحد إلا نادما إن كان مسيئا إن لم يحسن ، وإن كان محسنا إن لم يزدد» القرطبي ح ١٨ ص ١٣٨.

٥٩٥

طاعة الله واجبة ، وطاعة الرّسل ـ الذين هم سفراء بينه وبين الخلق ـ واجبة كذلك. والأنوار التي تظهر عليك (١) وتطالب بمقتضياتها كلّها حقّ ، ومن الحقّ .. فتجب طاعتها أيضا.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤))

إذا دعوك لتجمع لهم الدنيا فهم عدوّ لك ، أمّا إذا أخذتم منها على وجه العفاف (٢) فليسوا لكم أعداء.

قوله جل ذكره : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥))

(فِتْنَةٌ) : لأنهم يشغلونكم عن أداء حقّ الله ؛ فما تبق عن الله مشغولا بجمعه فهو غير ميمون عليك.

ويقال : إذا جمعتم الدنيا لغير وجهه فإنكم تشغلون بذلك عن أداء حقّ مولاكم ، وتشغلكم أولادكم ، فتبقون بهم عن طاعة الله ـ وتلك فتنة لكم ... ترومون إصلاحهم.

فتفسدون أنتم وهم لا يصلحون!.

قوله جل ذكره : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦))

__________________

(١) الخطاب هنا موجعّه إلى صاحب الأحوال والكشوفات.

(٢) عف عفعّة وعفافا أي كفّ عما لا يحل ولا يجمل. ويقال : هم أعفّة الفقر ، أي : إذا افتقروا لا يسألون.

(الوسيط).

٥٩٦

أي ما دمتم في الجملة مستطيعين ويتوجه عليكم التكليف فاتقوا الله. والتقوى عن شهود التقوى بعد ألا يكون تقصير في التقوى غاية التقوى.

(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) حتى ترتفع الأخطار (١) عن قلبه ، ويتحرّر من رقّ المكونات ، فأولئك هم المفلحون.

قوله جل ذكره : (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))

يتوجّه بهذا الخطاب إلى الأغنياء لبذل أموالهم ، وللفقراء في إخلاء أيامهم وأوقاتهم من مراداتهم وإيثار مراد الحقّ على مراد أنفسهم.

فالغنىّ يقال له : آثر حكمى على مرادك في مالك ، والفقير يقال له : آثر حكمى فى نفسك وقلبك ووقتك وزمانك.

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)

جلّ شأنه.

__________________

(١) المقصود بالأخطار هنا : حسبان أن للشىء أهمية وشأنا.

٥٩٧

سورة الطّلاق

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(بِسْمِ اللهِ) اسم من لا سبيل إلى وصاله ، ولا غنية ـ فى غيره ـ عن فعاله ، اسم من علمه وقع في كل سكون وراحة ، اسم من عرفه وقع في كل اضطراب وإطاحة (١) ، العلماء بسراب علمهم استقلوا فاستراحوا ، والعارفون بسلطان حكمه اصطلموا عن شواهدهم .. فبادوا وطاحوا.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ ...)

الطلاق ـ وإن كان فراقا ـ فلم يجعله الحقّ محظورا ... وإن كان من وجه مكروها.

وللطلاق وقتية (٢) : سنّية وبدعية ، ومباحة ، لا سنية ولا بدعية ؛ فالسنية : أن تطلّق في طهر لم تباشر فيه طلقة واحدة ، والبدعية : فى حال الحيض وطهر جومعت فيه ، والمباحة : فى طهر بعد حيض ثم يطلقها من قبل أن يجامعها (٣) ـ والطلاق أكثر من واحدة.

__________________

(١) أطاحه إطاحة أي أفناه وأذهبه.

(٢) أي وجوه مرتبطة بأوقات خاصة. روى الدارقطني عن ابن عباس قال : الطلاق على أربعة وجوه : وجهان حلالان ووجهان حرامان : فأما الحلال فأن يطلقها طاهرا من غير جماع ، وأن يطلقها حاملا مستبينا حملها. وأما الحرام فأن يطلقها وهي حائض ، أو يطلقها حين يجامعها لا تدرى اشتمل الرّحم على ولد أم لا.

(٣) قال السّدىّ : نزلت في عبد الله بن عمر طلّق امرأته حائضا تطليقة واحدة ، فأمره رسول الله (ص) بأن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر وتحيض ثم تطهر ، فإذا أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر ـ من قبل أن يجامعها.

ويقال : إنها نزلت في أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية .. فلم يكن قبلها للمطلقة عدّة ، وحين طلقت على عهد النبي (ص) طلقت بالعدة (هكذا في كتاب أبى داود).

٥٩٨

والعدّة ـ وإن كانت في الشريعة لتحصين ماء الزوج (محاماة على الأنساب) (١) لئلا يدخل على ماء الزوج ماء آخر ـ فالغالب والأقوى في معناها أنها للوفاء للصحبة الماضية في وصلة النكاح (٢).

والإشارة في الآيات التالية إلى أنه بعد أن انتهت الوصلة فلا أقلّ من الوفاء مدة لهذه الصغيرة التي لم تحض ، وهذه الآيسة من الحيض ، وتلك التي انقطع حيضها ، والحبلى حتى تلد ... كل ذلك مراعاة للحرمة : وعدّة الوفاة تشهد على هذه الجملة في كونها أطول ؛ لأن حرمة الميت أعظم (٣) وكذلك الإمداد في أيام العدّة ... المعنى فيه ما ذكرنا من مراعاة الوفاء والحرمة.

قوله جل ذكره : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ).

العبودية : الوقوف عند الحدّ ، لا بالنقصان عنه ولا بالزيادة عليه ، ومن راعى مع الله حدّه أخلص الله له عهده ...

(لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً).

قالوا : أراد ندما ، وقيل : ولدا ، وقيل : ميلا إليها ، أولها إليه ؛ فإن القلوب تتقلب :

والإشارة في إباحة الطلاق إلى أنه إذا كان الصبر مع الأشكال حقّا للحرمة المتقدمة فالخلاص من مساكنة الأمثال ، والتجرّد لعبادة الله تعالى أولى وأحقّ.

قوله جل ذكره : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)

__________________

(١) موجودة في ص وغير موجودة في م.

(٢) القشيري يركز جهده في استخراج إشارات في الصحبة والصاحب وغير ذلك من المعاني من آيات الطلاق غير مهم بتفاصيل هذا الموضوع الواسع الذي تعنى به كتب الفقه المتخصصة.

(٣) يقول القشيري في الصفحة ١٨٨ من المجلد الأول من هذا الكتاب : كانت عدّة الوفاة في ابتداء الإسلام سنة مستديمة كقول العرب ؛ وفعلهم ، ثم نسخ ذلك إلى أربعة أشهر وعشرة أيام ؛ إذ لا بدّ من انتهاء مدة الحداد. (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) والإشارة فيه ألا تجمعوا عليهن الفراق والحرمان فيتضاعف عليهن البلاء.

٥٩٩

إذا صدق العبد في تقواه أخرجه من بين أشغاله كالشعرة تخرج من بين العجين لا يعلق بها شىء. ويضرب الله تعالى على المتّقى سرادقات عنايته ، ويدخله في كنف الإيواء ، ويصرف الأشغال عن قلبه ، ويخرجه من ظلمات تدبيره ، ويجرّده من كل أمر ، وينقله إلى شهود فضاء تقديره.

قوله جل ذكره : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ).

لم يقل : ومن يتوكل على الله فتوكّله حسبه ، بل قال : فهو حسبه ؛ أي فالله حسبه أي كافيه.

(إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً).

إذا سبق له شىء من التقدير فلا محالة يكون ، وبتوكّله لا يتغير المقدور ولا يستأخر ، ولكنّ التوكّل بنيانه على أن يكون العبد مروّح القلب غير كاره .. وهذا من أجلّ النّعم.

قوله : (وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ ..... يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤))

التوكل : شهود نفسك خارجا عن المنّة (١) تجرى عليك أحكام التقدير من غير تدبير منك ولا اطّلاع لك على حكمه ، وسبيل العبد الخمود والرضا دون استعلام الأمر ، وفي الخبر :

«أعوذ بك من علم لا ينفع» : ومن العلم الذي لا ينفع ـ ويجب أن تستعيذ منه ـ أن يكون لك شغل أو يستقبلك مهمّ من الأمر ويشتبه عليك وجه التدبير فيه ، وتكون مطالبا بالتفويض ـ فطلبك العلم وتمنّيك أن تعرف متى يصلح هذا الأمر؟ ولأى سبب؟ ومن أيّ وجه؟ وعلى يد من؟ ... كل هذا تخليط ، وغير مسلّم شىء منه للأكابر.

فيجب عليك السكون ، وحسن الرضا. حتى إذا جاء وقت الكشف فسترى صورة الحال وتعرفه ، وربما ينتظر العبد في هذه الحالة تعريفا في المنام أو ينظر فى (...) (٢) من الجامع ،

__________________

(١) المنة بضم الميم هي ما في إمكان الإنسان وحيلته واستطاعته.

(٢) مشتبهة في النسختين.

٦٠٠