لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

فاكِهُونَ) وهم أهل الحضرة والدنو ، لا تشغلهم الجنة عن أنس القربة ، وراحات الوصلة ، والفراغ للرؤية (١) ويقال : لو علموا عمّن شغلوا لما تهنّأوا بما شغلوا.

ويقال بل إنما يقول لأهل الجنة : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ ..) كأنه يخاطبهم مخاطبة المعاينة إجلالا لهم كما يقال : الشيخ يفعل كذا ، ويراد به : أنت تفعل كذا.

ويقال : إنما يقول هذا لأقوام في العرصة أصحاب ذنوب لم يدخلوا النار ، ولم يدخلوا الجنة بعد لعصيانهم ؛ فيقول الحق : عبدى .. أهل النار لا يتفرغون إليك لأهوالهم ، وما هم فيه من صعوبة أحوالهم ، وأهل الجنة وأصحابها اليوم في شغل عنك لأنهم في لذّاتهم ، وما وجدوا من أفضالهم مع أهلهم وأشكالهم ؛ فليس لك اليوم إلا نحن! وقيل شغلهم تأهبهم لرؤية مولاهم ، وذلك من أتمّ الأشغال ، وهي أشغال مؤنسة مريحة لا متعبة موحشة.

ويقال : الحقّ لا يتعلّق به حقّ ولا باطل ؛ فلا تنافى بين اشتغالهم بأبدانهم مع أهلهم ، وشهودهم مولاهم ، كما أنهم اليوم مشغولون مستديمون لمعرفته بأى حالة هم ، ولا يقدح اشتغالهم ـ باستيفاء حظوظهم ـ فى معارفهم.

ويقال شغل نفوسهم بشهواتها (٢) حتى يخلص الشهود لأسرارهم على غيبة من إحساس النّفس الذي هو أصعب الرّقباء ، ولا شىء أعلى من رؤية الحبيب مع فقد الرقيب.

قوله جل ذكره : (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ).

__________________

(١) هكذا فى م وهي في ص (لله وبه) ، وقد آثرنا (الرؤية) متأثرين برواية القرطبي عن الثعلبي والقشيري ـ ـ ابن المصنف ـ حيث تقول هذه الرواية : «فينظر إليهم الحق وينظرون إليه ، فلا يلتفتون إلى شىء من النعيم ماداموا ينظرون إليه» القرطبي ح ١٥ ص ٤٥.

(٢) قال ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومجاهد : شغلهم افتضاض العذارى.

وفي الخبر عن أبى سعيد الخدري قال (ص) : «إن أهل الجنة كلما جامعوا نساءهم عدن أبكارا». ذكر ابن عباس : كلما أتى الرجل من أهل الجنة الحوراء وجدها بكرا ، وكلما رجع إليها عادت إليه شهوته ، ولا يكون بينهما منى ، منه أو منها. (القرطبي ح ١٥ ص ٤٥).

٢٢١

(أَزْواجُهُمْ) : قيل أشكالهم في الحال والمنزلة ، كقوله : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) (١) وقيل حظاياهم (٢) من زوجاتهم.

(لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ)

(لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ) أي نصيب أنفسهم. ويقال الإشارة فيها إلى راحات الوقت دون حظوظ النفس.

(لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) : ما يريدون ، ويقال تسلم لهم دواعيهم ، والدعوى ـ إذا كانت بغير حقّ ـ معلولة.

قوله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨))

يسمعون كلامه وسلامه بلا واسطة ، وأكّد ذلك بقوله : (قَوْلاً).

وبقوله : (مِنْ رَبٍّ) ليعلم أنه ليس سلاما على لسان سفير.

(مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ). والرحمة في تلك الحالة أن يرزقهم الرؤية في حال ما يسلّم عليهم لتكمل لهم النعمة. ويقال الرحمة في ذلك الوقت أن ينقّيهم في حال سماع السلام وحال اللقاء لئلا يصحبهم دهش ، ولا تلحقهم حيرة.

ويقال إنما قال : (مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) ليكون للعصاة من المؤمنين فيه نفس ، ولرجائهم مساغ ؛ فإن الذي يحتاج إلى الرحمة العاصي.

ويقال : قال ذلك ليعلم العبد أنه لم يصل إليه بفعله واستحقاقه ، وإنما وصل إليه برحمة ربه.

قوله جل ذكره : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩))

غيبة الرقيب أتمّ نعمة ، وإبعاد العدوّ (٣) من أجلّ العوارف (٤) ؛ فالأولياء في إيجاب القربة ، والأعداء في العذاب والحجبة.

__________________

(١) آية ٢٢ سورة الصافات.

(٢) جمع حظية وهي المرأة التي تفضل على غيرها في المحبة.

(٣) يقول قتادة فى «امتازوا» إنها بمعنى عزلوا عن كل خير.

(٤) العوارف جمع عارفة وهي الفضل والإحسان.

٢٢٢

قوله جل ذكره : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١))

لو كان هذا القول من مخلوق إلى مخلوق لكان شبه اعتذار ؛ أي لقد نصحتكم ووعظتكم ، ومن هذا حذّرتكم ، وكم أوصلت لكم القول ، وذكّرتكم فلم تقبلوا وعظي ، ولم تعملوا بأمرى ، فأنتم خالفتم ، وعلى أنفسكم ظلمتم ، وبذلك سبقت القضية منّا لكم.

قوله جل ذكره : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥))

اليوم سخّر الله أعضاء بدن الإنسان بعضها لبعض ، وغدا ينقض هذه العادة ، فتخرج بمض الأعضاء على بعض ، وتجرى بينها الخصومة والنزاع ؛ فأمّا الكفار فشهادة أعضائهم عليهم مبيدة ، وأمّا العصاة من المؤمنين فقد تشهد عليهم بعض أعضائهم بالعصيان ، ولكن تشهد لهم بعض أعضائهم أيضا بالإحسان ، وكما قيل :

بينى وبينك يا ظلوم الموقف

والحاكم العدل الجواد المنصف

وفي بعض الأخبار المروية المسندة أنّ عبدا تشهد عليه أعضاؤه بالزّلّة فيتطاير شعره من جفن عينيه ، فيستأذن بالشهادة له فيقول الحق : تكلمى يا شعرة جفن عبدى واحتجّى عن عبدى ، فتشهد له بالبكاء من خوفه ، فيغفر له ، وينادى مناد : هذا عتيق الله بشعرة.

قوله جل ذكره : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨))

يردّه إذا استوى شبابه وقوّته إلى العكس ، فكما كان يزداد في القوة يأخذ في النقصان إلى أن يبلغ أرذل العمر في السن فيصير إلى مثل حال الطفولية في الضعف ، ثم لا يبقى بعد النقصان شىء ، كما قيل :

طوى العصران ما نشراه منى

وأبلى جدنى نشر وطيّ

٢٢٣

أرانى كلّ يوم في انتقاص

ولا يبقى مع النقصان شيّ

هذا في الجثث والمبانى دون الأحوال والمعاني ؛ فإن الأحوال في الزيادة إلى أن يبلغ حدّ الخرف (١) فيختلّ رأيه وعقله. وأهل الحقائق تشيب ذوائبهم ولكنّ محابّهم ومعانيهم فى عنفوان شبابها ، وطراوة جدّتها.

قوله جل ذكره : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩))

كلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان خارجا عن أوزان الشّعر ، والذي أتاهم به من القرآن لم يكن من أنواع الشعر ، ولا من طرق الخطباء.

تحيّر القوم في بابه ؛ ولم تكتحل بصائرهم بكحل التوحيد فعموا عن شهود الحقائق.

قوله جل ذكره : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣))

ذكر عظيم منّته عليهم ، وجميل نعمته لديهم بما سخر لهم من الأنعام التي ينتفعون بها بوجوه الانتفاع.

ولفظ (أَيْدِينا) توسّع. أي مما عملنا وخلقنا ، وذلك أنهم ينتفعون بركوبها وبأكل لحومها وشحومها ، وبشرب ألبانها ، وبالحمل عليها ، وقطع المسافات بها ، ثم بأصوافها وأوبارها وشعرها ثم بعظم بعضها .. فطالبهم بالشكر عليها ، ووصفهم بالتقصير في شكرهم.

ثم أظهر ـ ما إذا كان في صفة المخلوقين لكان شكاية ـ أنهم مع كل هذه الوجوه من الإحسان : ـ

(واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون

__________________

(١) الخرف فساد العقل من الكبر.

٢٢٤

لا يستطيعون نصرهم لهم جند محضرون)

اكتفوا بأمثالهم (١) معبودات لهم ، ثم سلّى نبيّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن قال له : ـ

(فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ)

وإذا علم العبد أنّه بمرأى من الحقّ هان عليه ما يقاسيه ، ولا سيما إذا كان في الله.

قوله جل ذكره : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧))

أي شددنا أسرهم ، وجمعنا نشرهم ، وسوّينا أعضاءهم ، وركّببنا أجزاءهم ، وأودعناهم العقل والتمييز .. ثم إنه (خَصِيمٌ مُبِينٌ) : ينازعنا في خطابه ، ويعترض علينا في أحكامنا بزعمه واستصوابه ، وكما قيل :

أعلّمه الرماية كلّ يوم

فلمّا اشتدّ ساعده رمانى

قوله جل ذكره : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢))

(إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) بخلقه وقدرته. وأخبرنا أنه تتعلّق بالمكوّن كلمته على ما يجب في صفته ، وسيّان عنده خلق الكثير في كثرته والقليل في قلّته.

قوله جل ذكره : (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣))

أي بقدرته ظهور كلّ شىء : فلا يحدث شىء ـ قلّ أو كثر ـ إلا بإبداعه وإنشائه ، ولا يبقى منها شىء إلا بإبقائه ، فمنه ظهور ما يحدث ، وإليه مصير ما يخلق

__________________

(١) وردت (والطين) والصواب أن تكون (والطير).

٢٢٥

كالقدرة عليه لاستوائهما بكلّ وجه ، وإنه يحيى النفوس بعد موتها في العرصة كما يحى الإنسان من النطفة ، والطير (١) من البيضة ، ويحيى القلوب بالعرفان لأهل الإيمان كما يميت نفوس أهل الكفر بالهوى والطغيان.

قوله جل ذكره : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)

«إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» بخلقه وقدرته. وأخبرنا أنه تتعلّق بالمكوّن كلمته على ما يجب في صفته ، وسيّان عنده خلق الكثير في كثرته والقليل في قلّته.

قوله جل ذكره : (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)

أي بقدرته ظهور كلّ شئ : فلا يحدث شئ ـ قلّ أو كثر ـ إلا بإبداعه وإنشائه ، ولا يبقى منها شئ إلا بإبقائه ، فمنه ظهور ما يحدث ، وإليه مصير ما يخلق

__________________

(١) وردت (والطين) والصواب أن تكون (والطير).

٢٢٦

سورة الصّافّات

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(بِسْمِ اللهِ) كلمة إذا استولت على قلب أزالت عنه أولا من الدارين أربه ، ثم ألزمت على وجه التبعية حربه ، ثم شرّفت من حيث الهمة طلبه.

قوله جل ذكره : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١))

افتتح الله هذه السورة بالقسم بالصافات ، وهم الملائكة المصطفّة في السماء وفي الهواء ، وفي أماكنهم على ما أمرهم الحق ـ سبحانه ـ من المكان يلازموته ، والأمر يعانقون ؛ يسبّحونه ويقدّسونه ، وبما يأمرهم به يطيعونه.

(فَالزَّاجِراتِ زَجْراً)

عطفهم على ما تقدّم بحرف الفاء وهم الملائكة الذين يزجرون السحاب. ويقال يزجرون الناس عن المعاصي. ويقال هي الخواطر الزاجرة عن المناهي.

(فَالتَّالِياتِ ذِكْراً)

يقال (الصَّافَّاتِ) الطيور المصطفّة في السماء ، (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) الملائكة يتلون كتاب الله ، ويتلون الوحى على الأنبياء عليهم‌السلام.

(إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ)

هذا هو المقسوم عليه.

أخبر أنه سبحانه واحد في ملكه ، وذلك لأنهم تعجّبوا أن يقوم الواحد بجميع أحوال العالم. ومعنى كونه واحدا تفرّده في حقّه عن القسمة ، وتقدّسه في وجوده عن الشبيه ، وتنزّهه فى

٢٢٧

ملكه عن الشريك ؛ واحد في جلاله ، واحد في استحقاق جماله ، واحد في أفعاله ، واحد في كبريائه بنعت علائه ، ووصف سنائه.

قوله جل ذكره : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥))

مالك السماوات والأرض وما بينهما ، وخالقهما ، وأكساب العباد داخلة في هذا (١). (وَرَبُّ الْمَشارِقِ) مشارق النجوم والشمس والقمر ، ومشارق القلوب بشموسها وأقمارها ونجومها.

قوله جل ذكره : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧))

زيّن السماء الدنيا بالنجوم ، وقلوب أوليائه بنجوم المعارف والأحوال ، وحفظ السماوات بأن جعل النجوم للشياطين رجوما ، وكذلك زيّن القلوب بأنوار التوحيد ، فإذا قرب منها الشيطان رجمها بنجوم معارفهم.

قوله جل ذكره : (إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠))

كذلك إذا اغتنم الشيطان من الأولياء أن يلقى إليهم شيئا من وساوسه تذكّروا ، فإذا هم مبصرون ، ورجعوا .. قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا) (٢).

قوله جل ذكره : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١))

__________________

(١) هذا الرأى على جانب كبير من الأهمية من الوجهة الكلامية ، وخلق أكساب العباد من الله حكما وعلما ، لأن الإرادة الإنسانية لا يمكن أن تخرج عن نطاق الحكم والعلم الإلهين ـ هكذا أو قفنا القشيري في مواضع مختلفة.

(٢) آية ٢٠١ سورة الأعراف.

٢٢٨

عرّفهم عجزهم عن الإثبات ، وضعفهم في كل حال ، ثم ذكرهم نسبتهم أنها إلى الطين اللازب (١).

قوله جل ذكره : (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢))

حقيقة التعجب تغير النفس مما لم تجر العادة بحدوث مثله. وتقرأ (٢) (عَجِبْتَ) بالفتح خطابا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وبالضم فكأن الحقّ يقول ذلك من قبل نفسه بل عجبت ، ويقال ذلك بمعنى إكبار ذلك الشيء ، إما في القدر ، أو الإكثار في الذمّ أو في المدح.

قوله جل ذكره : (وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣))

إذا ذكروا بآياته يعرضون عن الإيمان بها والتفكّر فيها ، ويقولون : ليس هذا الذي أتى به محمد إلا سحرا ظاهرا.

قوله جل ذكره : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ)

قالوا : أئذا متنا ، تفرّقت أجزاؤنا ، وصرنا رميما .. أإنا لمبعوثون؟ أو آباؤنا الأولون يبعثون كذلك؟ قالوه على جهة الاستبعاد ؛ فالمعرفة لهم مفقودة ، والبصائر لهم مسدودة ، وقلوبهم عن التوحيد مصدودة.

(قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ)

قل لهم يا محمد ؛ نعم ، وعلى وصف الصغر ما يبعثكم ، وبزجرة واحدة يحشركم ، بعد أن يقيم القيامة على جميعكم.

__________________

(١) لازب أي لاصق لصق بعضه ببعض ، أو لازق يلتزق بما أصابه ، وقال مجاهد والضحاك هو المنتن (القرطبي) ح ١٥ ص ٦٨ ، ٦٩.

(٢) بالفتح قراءة أهل المدينة وأبى عمرو وعاصم. وبالضم قرامة عبد الله بن مسعود ، والكوفين إلا عاصما. والذين ينكرون الضم يرون أن الله لا يعجب من شىء ، ولكن تخريج القشيري لذلك يكاد يكون سائغا ، وقد اختاره بعض الأئمة كالبيهقى.

٢٢٩

(وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١))

دعوا بالويل على أنفسهم! ويقال لهم : هذا يوم الفصل الذي كنتم تكذبون به ، وقد عاينتموه اليوم.

قوله جل ذكره : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤))

أراد بأزواجهم قرناءهم وأشكالهم ومن عمل مثل أعمالهم ، ومن أعانهم على ظلمهم بقليل أو كثير .. وكذلك في هذه الطريقة : من أعان صاحب فترة في فترته ، أو صاحب زلة على زلته ـ كان مشاركا له في عقوبته ، واستحقاق طرده وإهانته.

قوله : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) : مقام السؤال مقام صعب ؛ قوم يسألهم الملك وقوم يسألهم الملك ؛ فالذين تسألهم الملائكة أقوام لهم أعمال صالحة تصلح للعرض والكشف ، وأقوام لهم أعمال لا تصلح للكشف ، وهم قسمان : الخواصّ يسترهم الحقّ عن اطلاع الخلق عليهم في الدنيا والآخرة ، وأقوام هم أرباب الزلات يرحمهم‌الله فلا يفضحهم ، ثم إنهم يكونون في بعض أحوالهم بنعت الهيبة ، وفي بعض أحوالهم بنعت البسط والقربة ، وفي الخبر : «أن قوما يسترهم بيده ويقول تذكر غدا ربك» وهؤلاء أصحاب الخصوص في التحقيق : فأما الأغيار والأجانب والكفار فيقال لهم : (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (١) ، فإذا قرءوا كتابهم يقال لهم. من عمل هذا؟ وما جزاؤه؟ فيقولون : جزاؤه النار. فيقال لهم : أدخلوها بحكمكم.

ثم يقال لهم في بعض أحوال استيلاء الفزع عليهم :

__________________

(١) آية ١٤ سورة الإسراء.

٢٣٠

(ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ)

يورّك بعضهم الذنب على بعض ؛ فهذا يتبرأ من صاحبه ، وصاحبه يتبرأ منه ، إلى أن يحكم الله عليهم بالخزي والهوان ، ويجمعهم في اللعن والإبعاد.

قوله جل ذكره : (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤))

يشتركون في العذاب ولكن تتفاوت أنصباؤهم ، كما أنهم يشتركون في الزّلة ولكن تختلف مقادير زلاتهم.

قوله جل ذكره : (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥))

احتجابهم بقلوبهم أوقعهم في وهدة عذابهم ؛ ذلك لأنهم استكبروا عن الإقرار بربوبيته. ولو عرفوه لافتخروا بعبوديته ؛ قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) (١) ، وقال : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) (٢) فإنّ من عرف الله فلا لذة له إلا في طاعته ، قال قائلهم.

ويظهر في الهوى عزّ الموالي

فيلزمنى له ذلّ العبيد

قوله جل ذكره :

(وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨))

__________________

(١) آية ٢٠٦ سورة الأعراف.

(٢) آية ١٧٣ سورة النساء.

٢٣١

لمّا لم يحتشموا من وصفه ـ سبحانه ـ بما لا يليق بحلاله لم يبالوا بما أطلقوه من المثالب في وصف أنبيائه.

قوله جل ذكره : (وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠))

الاستثناء راجع إلى قوله : إنكم لذائقوا العذاب الأليم

ويقال الإخلاص إفراد الحقّ ـ سبحانه ـ بالعبودية ، والذي يشوب عمله رياء فليس بمخلص.

ويقال : الإخلاص تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين ، وفي الخبر : يا معاذ ، أخلص العمل يكفيك القليل منه.

ويقال : الإخلاص فقد رؤية الأشخاص (١).

ويقال : هو أن يلاحظ محل الاختصاص.

ويقال : هو أن تنظر إلى نفسك بعين الانتقاص.

قوله جل ذكره : (أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ)

لهم رزق معلوم لأوقات معينة ، وفي وقت الرسول عليه‌السلام من كان له رزق معلوم كان من جملة المياسير ، وهذه صفة أهل الجنة ؛ فلهم في الآخرة رزق معلوم لأبشارهم ولأسرارهم ، فالأغنياء لهم رزق معلوم لأنفسهم (٢) ، والفقراء (٣) لهم رزق معلوم لقلوبهم وأسرارهم.

فواكه وهم مكرمون : من ذلك ورود الرسول عليهم من قبل الله في كل وقت ، وكذلك اليوم الخطاب وارد من الله على قلوب الخواص في كل وقت بكلّ أمر.

__________________

(١) أي لا يكون هناك حساب للمخلوقين.

(٢) رزق النفوس لأغنياء الأموال.

(٣) وزرق القلوب لأرباب الأحوال.

٢٣٢

(فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤))

يستأنس بعضهم برؤية بعض ، ويستروح بعضهم إلى لقاء بعض.

(يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ)

شراب يوجب لهم الطّرب ولا وحشة هناك ، شرابا يحضرهم ولا يسكرهم ، لأنه قال :

(لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧))

فلا تغتال عقولهم ، ولا تزيل حشمتهم ، ولا ترفع عنهم هيبتهم ؛ فقوم يشربون وهم بوصف الستر ، وآخرون يسقون في الحضور ـ وهم على نعت القرب.

(وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ)

لا ينظرن إلى غير الوليّ (١) ، ثم الوليّ قد ينظر إليهن ، وفيهم من لا ينظر إليهن :

جننّا بليلى وهي جنّت بغيرنا

وأخرى بنا مجنونة لا نريدها

قوله جل ذكره : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ...)

يتذاكرون فيما بينهم ، ويذكرون من معارفهم من لا يؤمن بالله ، وما آمن به المؤمنون فيخلق الله لهم إطلاعا عليه وهم في النار يحترقون.

قوله جل ذكره : (قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦)

__________________

(١) المقصود به هنا الزوج ، أي نساء قد قعسرن طرفهن على أزواجهن.

٢٣٣

وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧))

نطق الوليّ بالحقّ ولكنه لم يصرّح يعين التوحيد ؛ إذ جعل الفضل واسطة ، والأولى أن يقول : ولو لا ربى لكنت من المحضرين (١).

قوله جل ذكره : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١))

يقال : بل الملائكة يقولون لهم هذا ، ويقال : الحقّ ـ سبحانه ـ إذا أراهم مقامهم في الجنة يقول لهم : (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ).

ويقال إن كان العابد يقول هذا ، أو يقال له هذا إذا ظهرت الجنة فإنه إذا بدت شظية من الحقائق وتباشير الوصلة ، أو ذرّة من نسيم القربة فبالحريّ أن يقول القائلون : لمثل هذه الحالة تبذل الأرواح.

على مثل سلمى يقتل المرء نفسه

وإن بات من سلمى على اليأس طاويا

وهاهنا تضيق العبارات ، وتتقاصر الإشارات.

قوله جل ذكره : (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢))

ذكر صفة هوان الأعداء ، وما هم به من صفة المذلة والعذاب في النار ؛ من أكل الضريع ، ومن شراب الزقوم التي هي في قبح صورة الشياطين ، ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم ... إلى آخر القصة.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦))

__________________

(١) أي نطق بعين الفرق ولو كان بعين الجمع لقال : «ولو لا ربى ...».

٢٣٤

لمّا أصابه من الأذى من قومه حين كذّبوه ، ولم يسمعوا منه ما كان يقول من حديثنا .. رجع إلينا ، فخاطبنا وخاطبناه ، وكلمنا وكلمناه ، ونادانا فناديناه ، وكان لنا فكّنا له ، وأجابنا فأجبناه .. فلنعم المجيب كان لنا ولنعم المجيبون كنّا له!

(مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) : شتان بين كرب نوح وبين كرب أهله!

وما يبكون مثل أخى ولكن

أعزّى النّفس عنه بالتأسى

قوله جل ذكره : (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧))

لأنّ الناس كلهم من أولاد نوح ، فإنّ من كان معه في السفينة لم يتناسلوا (١)

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨))

يريد به قول الناس عنه إلى يوم القيامة.

قوله جل ذكره : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤))

يعنى أنّ إبراهيم من شيعة نوح عليه‌السلام في التوحيد ـ وإن اختلفا في فروع شرعيهما.

(بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) : لا آفة فيه. ويقال لديغ من المحبة. ويقال : سليم من محبة الأغيار. ويقال سليم من حظوظ نفسه وإرادته. ويقال : مستسلم لله في قضائه واختياره.

قوله جل ذكره : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥))

سألهم على جهة الإنكار عليهم ، والتنبيه لهم على موضع غلطتهم.

(فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ)

__________________

(١) قال ابن عباس : لما خرج نوح من السفينة مات من معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساءه.

٢٣٥

إذا لقيتموه ـ وقد عبدتم غيره .. فما الذي تقولون له؟ وكيف بكم في مقام الخجلة مما بين أيديكم وإن كنتم اليوم ـ غافلين عنه؟

قوله جلّ ذكره : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩))

قيل أراد «إلى» النجوم فأقام (فِي) مقام «إلى» (١).

(إِنِّي سَقِيمٌ) : كانت تأتيه الحمىّ في وقت معلوم ، فقال : قرب الوقت الذي أسقم فيه من أخذ الحمىّ إياى ، فكأنه تعلل بذلك ليتأخر عنهم عند ذهابهم إلى عيدهم لتمشية ما كان في نفسه من كسر الأصنام.

ويقال كان ذلك من جملة المعاريض. وقيل أرى من نفسه موافقة قولهم في القول بالنجوم لأنهم كانوا يقولون بالنجوم ، فتأخر بهذا السبب عنهم (٢).

وكان إبراهيم في زمان النبوة فلا يبعد أنّ الله ـ عزوجل ـ قد عرّفه بطريق الوحى أنه يخلق ـ سبحانه ـ باختياره أفعالا عند حركات الكواكب.

ثم لمّا ذهبوا إلى عيدهم كسّر أصنامهم ، فلمّا رجعوا قالوا ما قالوا ، وأجابهم بما أجابهم به إلى قوله :

(قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨))

ردّ الله كيدهم إلى نحورهم. وقد تعرّض له جبريل ـ عليه‌السلام ـ وهو في

__________________

(١) ربما نعترض على هذا ... فمع تسليمنا بجواز نيابة حروف الجر بعضها عن بعض إلا أننا نرى أن استعمال «فى» أدق ... فالمقصود من أن ابراهيم «نظر فى» النجوم أنه تأمل وتفكر. بينما لا تؤدى «نظر إلى» أكثر من التطلع بالعين وفرق بين التأمل بالفكر والبصيرة وبين التطلع بالبصر ـ والله أعلم.

(٢) أرسل إليه ملكهم إن غدا عيدنا فاخرج معنا ، فنظر إلى نجم طالع وقال : إن هذا يطلع مع سقمى ـ وكان علم النجوم مستعملا عندهم ـ فأراهم من معتقدهم عذرا لنفسه. وذلك أنهم كانوا أهل وعاية وفلاحة ، وهاتان المعيشتان يحتاج فيهما إلى نظر في النجوم (القرطبي ص ٩٢ ج ١٥).

٢٣٦

الهواء وقد رمى من المنجنيق فعرض عليه نفسه قائلا : هل من حاجة؟

فأجاب : أمّا إليك .. فلا!

قوله جل ذكره : (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩))

يقال إنه طلب هداية مخصوصة ؛ لأنه كان صاحب هداية ، إذ لو لم تكن له هداية لما ذهب إلى ربّه. ويحتمل أنه كان صاحب هداية في الحال وطلب الهداية في الاستقبال أي زيادة في الهداية ، ويقال طلب الهداية على كيفية مراعاة الأدب في الحضور ، ويقال طلب الهداية إلى نفسه لأنه فقد فيه قلبه ونفسه ؛ فقال سيهدينى إلىّ لأقوم بحقّ عبوديته ؛ فإن المستهلك في حقائق الجمع لا يصحّ منه أداء العبادة إلّا بأن يردّ إلى حالة التفرقة والتمييز.

ومعنى (إِلى رَبِّي) أي إلى المكان الذي يعبد فيه ربى.

ويقال أخبر عن إبراهيم أنه قال : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) : فأخبر عن قوله.

وأخبر عن موسى فقال : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) ، فأخبر عن صفته لا عن قوله ..

وقال في صفة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ ...) [فأخبر عن ذاته سبحانه (١)]

وفصل بين هذه المقامات ؛ فإبراهيم كان بعين الفرق ، وموسى بعين الجمع ؛ ونبينا كان بعين جمع الجمع.

قوله جلّ ذكره : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١))

لمّا قال (حَلِيمٍ) نبّه على أنه سيلقى من البلاء ما يحتاج إلى الحلم في تحمله ..

__________________

(١) ما بين القوسين من عندنا أضفناه للتوضيح.

٢٣٧

قوله جل ذكره : (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢))

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) إشارة إلى وقت توطين القلب على الولد ، رأى إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أنه يؤمر بذبح ابنه إسماعيل (١) ليلة التروية ، وسميت كذلك لأنه كان يروّى فى ذلك طول يومه. هل هو حقّ أم لا (٢)؟. ثم إنه رأى في الليلة التالية مثل ذلك فعرف أن رؤياه حق ، فسمى يوم عرفة.

وكان إسماعيل ابن ثلاث عشرة سنة ، ويقال إنه رأى ذلك في النوم ثلاث مرات (٣) :

أن اذبح ابنك ، فقال لإسماعيل : (يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى؟) فقال إسماعيل : (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) : أي لا تحكم فيه بحكم الرؤيا ، فإنها قد تصيب وقد يكون لها تأويل ، فإن كان هذا أمرا فافعل بمقتضاه ، وإن كان لها تأويل فتثبت (٤) ، فقد يمكنك ذبح ابنك كلّ وقت ولكن لا يمكنك تلافيه.

ويقال بل قال : أترك حديث الرؤيا واحمله على الأمر ، واحمل الأمر على الوجوب ، ثم احمله على الفور ولا تقصّر.

ويقال قال له : إن كان يطيب قلبك بأن تذبح ابنك لأجل الله فأنا يطيب قلبى أن يذبحنى أبى لأجل الله.

__________________

(١) اختلف الناس في الذبيح فقال قوم إنه إسحاق وآخرون إنه إسماعيل. وفريق ثالث يقول : الله أعلم به. «وعن الأصمعى أنه قال : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح ، فقال : يا أصمعى. أين عزب عنك عقلك! ومنى كان إسحاق بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة وهو الذي بنى البيت مع أبيه والمنحر بمكة». اه أما إسحق فكان ببيت المقدس.

(٢) مع أن ابراهيم أخذ يتساءل بينه وبين نفسه عن ذلك إلا أنه من الثابت أن الرسل يأتيهم الوحى أيقاظا ورقودا ، فقلوبهم لا تنام ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا».

(٣) لأجل ذلك سميت الأيام الثلاثة على التوالي يو التروية ويوم عرفة ويوم النحر.

(٤) هكذا في م وهي في ص (قبلت) ونحن نرجح (فتثبت) بدليل ما بعدها لأنه بعد الذبح يكون قد قضى الأمر. ويأسى ابراهيم إن كان ذلك غير المراد.

٢٣٨

ويقال قال إسماعيل لأبيه : أنت خليل الله وتنام .. ألم تعلم أن الخليل إذا نام عن خليله يؤمر بذبح ابنه؟ مالك يا أبت والنوم؟

ويقال في القصة : إنه رآه ذات يوم راكبا على فرس أشهب فاستحسنه ، ونظر إليه قلبه ، فأمر بذبحه ، فلمّا أخرجه عن قلبه ، واستسلم لذبحه ظهر الفداء ، وقيل له كان المقصود من هذا فراغ قلبك عنه.

ويقال في القصة : أمر إسماعيل أباه أن يشدّ يديه ورجليه لئلا يضطرب إذا مسّه ألم الذّبح فيعاتب ، ثم لمّا همّ بذبحه قال : افتح القيد عنى حتى لا يقال لى : أمشدود اليد جئتنى؟ وإنى لن أتحرك :

ولو بيد الحبيب سقيت سمّا

لكان السّمّ من يده يطيب

ويقال أيهما كان أشدّ بلاء؟ قيل : إسماعيل ؛ لأنه وجد الذّبح من يد أبيه ، ولم يتعوّد من يده إلا التربية بالجميل ، وكان البلاء عليه أشدّ لأنه لم يتوقع منه ذلك.

ويقال بل كان إبراهيم أشدّ بلاء لأنه كان يحتاج أن يذبح ابنه بيده ويعيش بعده.

(سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) فلم يأت إسماعيل بالدعوى (١) بل تأدّب بلفظ الاستنشاء.

ويقال لو قال إسماعيل إمّا لا تقل : (يا بُنَيَّ) بهذه اللطافة ، وإمّا لا تقل : (أَنِّي أَذْبَحُكَ) فإنّ الجمع بينهما عجيب!

قوله جل ذكره : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥))

قيل في التفاسير إنه كان يمرّ بالسكين على حلقه والسكين لا يقطع ، فتعجّب ابراهيم ، فنودى : يا إبراهيم كان المقصود من هذا استسلامكما.

ويقال إن الله ستر عليهما علم ما أريد منهما في حال البلاء ، وإنما كشف عنهما بعد مضىّ وقت المحنة لئلا يبطل معنى الابتلاء ... وهكذا يكون الأمر عند البلاء ؛ تنسدّ الوجوه

__________________

(١) أي دعوى النفس بالمكنة دون تقديم المشيئة الإلهية.

٢٣٩

فى الحال ؛ وكذلك كانت حالة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حال حديث الإفك ، وكذلك حالة أيوب عليه‌السلام ؛ وإنما يتبيّن الأمر بعد ظهور آخر المحنة وزوالها ، وإلّا لم تكن حينئذ محنة (١) (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢)) وكلّ هذا بعد البلاء ؛ قال تعالى :

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)

قيل كان فداء الذبيح يربّى في الجنة قبله بأربعين خريفا.

والناس في «الْبَلاءُ» على أقسام : فبلاء مستعصب وذلك صفة العوام ، وبلاء مستعذب وذلك صفة من يستعذبون بلاياهم ، كأنهم لا ييأسون حتى إذا قتلوا.

قوله جل ذكره : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وباركنا عليه وعلى إسحاق ..)

وكلّ هذا بعد البلاء ؛ قال تعالى : «إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً».

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤))

منّ عليهما بالنبوة ، وبالنجاة من فرعون وقومه ، وبنصرته عليهم.

(وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ)

يعنى التوراة.

(وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)

بالتبري عن الحوّل والقوة ، وشهود عين التوحيد.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ)

ثم قال جل ذكره : (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣))

«إِلْياسَ» : قيل هو إدريس ، وقيل غيره ، وكان بالشام ، واسم صنمهم «بعل» ،

__________________

(١) ما بين القوسين موجود في ص وساقط في م.

٢٤٠