لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

كتابى إليكم بعد موتى بليلة

ولم أدر أنى بعد موتى أكتب

قوله جل ذكره : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢))

الإشارة فيه إلى من أشار إلى أشياء لم يبلغها ، وادّعى وجود أشياء لم يذق شيئا منها ، قال تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) (١).

ويقال : لا بل هؤلاء هم الكفار ، وأمّا المدّعى الذي لم يبلغ ما يدّعيه فليس يكذب على ربّه إنما يكذب على نفسه ؛ حيث ادّعى لها أحوالا لم يذقها ولم يجدها ، فأمّا غير المتحقق الذي يكذب على الله فهو الجاحد والمبتدع الذي يقول في صفة الحقّ ـ سبحانه ـ ما يتقدّس ويتعالى عنه (٢).

قوله جل ذكره : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤))

الذي جاء بالصدق في أفعاله من حيث الإخلاص ، وفي أحواله من حيث الصدق ، وفي أسراره من حيث الحقيقة.

(ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) : الإحسان ـ كما جاء في الخبر ـ أن تعبد الله كأنك تراه. فمن كانت ـ اليوم ـ مشاهدته على الدوام كانت رؤيته غدا على الدوام ، ومن لا فلا (٣).

__________________

(١) آية ٦٠ من هذه السورة.

(٢) وإلى أمثال هؤلاء أشار القشيري في مستهل رسالته قائلا «.. ثم لم يرضوا بما تعاطوه من سوء الأفعال ، حتى أشاروا إلى أعلى الحقائق والأحوال ، وادّعوا أنهم تحرروا عن رق الاغلال ، وتحققوا بحقائق الوصال ، وأنهم قائمون بالحق تجرى عليهم أحكامه وهم محو ، وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية وزالت عنهم أحكام البشرية ، والقائل عنهم غيرهم إذا نطقوا ...» الرسالة ص ٣.

(٣) روى مسلم عن جابر ويبعث كل عبد على مامات عليه» ٦ / ٤٥٧ فيض القدير للمناوى «ومن كان مجالة لقى الله عليها».

٢٨١

قوله جل ذكره : (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥))

من لا يكون مؤمنا فليس من أهل هذه الجملة. ومن كان معه إيمان : فإذا كفّر عنه أسوأ ما عمله فأسوأ أعماله كبائره ؛ فإن غفرت يجزهم بأحسن أعمالهم. وأحسن أعمال المؤمن الإيمان والمعرفة ، فإن كان الإيمان مؤقتا كان ثوابه مؤقتا ، وإن كان الإيمان على الدوام فثوابه على الدوام. ثم أحسن الأعمال عليها أحسن الثواب ، وأحسن الثواب الرؤية فيجب أن تكون على الدوام (١) ـ وهذا استدلال قوى.

قوله جل ذكره : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ ...)

استفهام والمراد منه التقرير ؛ فالله كاف عبده اليوم في عرفانه بتصحيح إيمانه ومنع الشّرك عنه ، وغدا في غفرانه بتأخير العذاب عنه ، وما بينهما فكفايته تامة وسلامته عامة.

قوله جل ذكره : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨))

قرّر عليهم علوّ صفاته ، وما هو عليه من استحقاق جلاله فأقرّوا بذلك ، ثم طالبهم بذكر صفات الأصنام التي عبدوها من دونه ، فلم يمكنهم في وصفها إلا بالجمادية ، والبعد عن الحياة والعلم والقدرة والتمكّن من الخلق ، فيقول : كيف أشركتم به هذه الأشياء؟ وهلّا استحييتم من إطلاق أمثال ذلك في صفته؟.

__________________

(١) «فيجب أن تكون الرؤية على الدوام» نلاحظ إلحاح القشيري على هذا الرأى في خاتمة تفسيره للآية السابقة وفي هذه الآية ، ولهذا الرأى أهميته في مسألتين : خلود الجنة والرؤية .. مسألتان كان حولهما جدل كثير أشرنا إلى بعضه في تعليقات سابقة.

٢٨٢

قل ـ يا محمد ـ حسبى الله ، عليه يتوكل المتوكلون ؛ كافيّ الله المتفرّد بالجلال ، القادر على ما يشاء ، المتفضّل عليّ بما يشاء.

قوله جل ذكره : (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠))

سوف ينكشف ربحنا وخسرانكم ، وسوف تظهر زيادتنا ونقصانكم ، وسوف نطالبكم فلا جواب لكم ، ونعذّبكم فلا شفيع لكم ، وندمّر عليكم فلا صريخ لكم.

قوله جل ذكره : (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١))

من أحسن فإحسانه إلى نفسه اكتسبه (١) ، ومن أساء فبلاؤه على نفسه جلبه ـ والحقّ غنيّ عن التجمّل بطاعة من أقبل والتنقّص بزلّة من أعرض.

قوله جل ذكره : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢))

يقبض الأرواح (٢) حين موتها ، والتي لم تمت من النفوس في حال نومها ، فإذا نامت

__________________

(١) (اكتسبه) موجودة في م وسقطت في ص.

(٢) واضح هنا أن القشيري لا يكاد يميز بين (النفس) و (الروح) مع أنه في الرسالة ص ٤٨ يميز بينهما فيقول (يحتمل أن تكون النفس لطيفة مودعة في القالب) ـ البدن وهي محل الأخلاق المعلولة (موجودة في الرسالة خطأ المعلومة) كما أن الروح لطيفة في القالب هي محل الأخلاق المحمودة .. والجميع إنسان واحد ، وكونهما بصفة ـ

٢٨٣

فيقبض أرواحها (١). وقبض الأرواح في حال الموت بإخراج اللطيفة التي في البدن وهي الروح ، ويخلق بدل الاستشعار والعلم الغفلة والغيبة في محالّ الإحساس والإدراك. ثم إذا قبض الأرواح عند الموت خلق في الأجزاء الموت بدل الحياة ، والموت ينافى الإحساس والعلم. وإذا ردّ الأرواح بعد النوم إلى الأجساد خلق الإدراك في محل الاستشعار فيصير الإنسان متيقظا ، وقبض الله الأرواح في حال النوم وردت به الأخبار ، وذلك على مراتب ؛ فإنّ روحا تقبض على الطهارة ترفع إلى العرش وتسجد لله تعالى ، وتكون لها تعريفات ، ومعها مخاطبات «والله أعلم».

قوله جل ذكره : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣))

أي أنهم ـ وإن اتخذوا على زعمهم من دون الله شفعاء بحكمهم لا بتعريف من قبل الله أو إخبار ـ فإنّ الله تعالى لا يقبل الشفاعة من أحد إلّا إذا أذن بها ، وإنّ الذي يقولونه إنما هو افتراء على الله.

قوله جل ذكره : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ

__________________

اللطافة في الصورة ككون الملائكة والشياطين بصفة اللطافة» ثم يعود بعد قليل متحدثا عن الروح فيقول : الأرواح مختلف فيها عند أهل التحقيق من أهل السنة فمنهم من يقول إنها الحياة ، ومنهم من يقول إنها أعيان مودعة في القالب (اللطائف ح ٢ ص ٣٦٧)

وفي تقديرنا أن المسألة ذات جانبين : فإذا نظرنا إلى الموضوع خارج دائرة التصوف فالروح والنفس بمعنى واحد متصل بالحياة ، وقبضهما معناه موت البدن بدليل ما ورد عن الرسول (ص) ، فهو مرة يقول (كما في حديث أم سلمة) : دخل رسول الله (ص) على أبى سلمة وقد شق (ـ انفتح) بصره فأغمضه ثم قال : «إن الروح إذا قبض تبعه البصر» وفي مرة أخرى يقول (ص) فى حديث صحيح خرجه ابن ماجه : «تحضر الملائكة فإذا كان الرجل صالحا قالوا اخرجى أيتها النفس الطيبة ...» وفي صحيح مسلم : قال «ص» : «إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها».

أما الجانب الآخر للمسألة فهو كونهما مصطلحين صوفيين ؛ فالنفس محل المعلولات والروح محل المحمودات ..

وذلك ركن هام في مذهب القشيري لم يتخل عنه في كتاب من كتبه ، كما هو مذهب كثيرين من المتصوفة.

(١) قبض الروح عند النوم معناه ترقيها (الرسالة ص ٤٨).

٢٨٤

الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥))

اشمأزّت قلوب الذين جحدوا ولم تسكن نفوسهم إلى التوحيد ، وإذا ذكر الذين من دونه استأنسوا إلى سماعه :

(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦))

ـ علّمه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كيف يثنى عليه ـ سبحانه (١).

وتشتمل الآية على الإشارة إلى بيان ما ينبغى من التنصّل والتذلّل ، وابتغاء العفو والتفضّل ، وتحقيق الالتجاء بحسن التوكل. ثم أخبر عن أحوالهم في الآخرة فقال :

(وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧))

لا فتدوا به .. ولكن لا يقبل منهم ، واليوم لو تصدّقوا بمثقال ذرة لقبل منهم. كما أنهم لو بكوا في الآخرة بالدماء لا يرحم بكاؤهم ، ولكنهم بدمعة واحدة ـ اليوم ـ يمحى الكثير من دواوينهم.

قوله جل ذكره : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)

فى سماع هذه الآية حرات لأصحاب الانتباه.

__________________

(١) فى صحيح مسلم : أن عائشة سئلت بأى شىء كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستفتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت : كان إذا قام من الليل افتتح صلاته : «اللهم رب جبريل وميكائيل واسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ... يختلفون» ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم».

وقال سعيد بن جبير : إنى لأعرف آية ما قرأها أحد قط وسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه ؛ قوله تعالى : «قل اللهم فاطر ...... يختلفون».

٢٨٥

وفي بعض الأخبار أن قوما من المسلمين من أصحاب الذنوب يؤمر بهم إلى النار [فإذا وافوها يقول لهم مالك : من أنتم؟ إن الذين جاءوا قبلكم من أهل النار وجوهم كانت مسودّة ، وعيونهم (١)] كانت مزرقّة .. وأنتم لستم بتلك الصفة ، فيقولون : ونحن لم نتوقع أن نلقاك ، وإنما انتظرنا شيئا آخر! قال تعالى «وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ» (٢).

(وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨))

حاق بهم وبال استهزائهم وجزاء مكرهم.

قوله جل ذكره : (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩))

فى حال الضّرّ يتبرّءون من الاستحقاق والحول والقوة ، فإذا كشف عنهم البلاء وقعوا فى مغاليطهم ، وقالوا : إنما أوتينا هذا باستحقاق منّا ، قال تعالى : (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) ولكنهم لم يعلموا ، ثم أخبر أن الذين من قبلهم مثل هذا قالوا وحسبوا ، ولم يحصلوا إلا على مغاليطهم ، فأصابهم شؤم ما قالوا ، وهؤلاء سيصيبهم أيضا مثل ما أصاب أولئك.

قوله جل ذكره : (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢))

__________________

(١) ما بين القوسين مستدرك في هامش الورقة ٤٩٦ من النسخة ص

(٢) عن مجاهد قال : إنهم عملوا أعمالا توهموا أنها حسنات فإذا هي سيئات.

وقيل عملوا أعمالا توهموا أنهم يتوبون منها قبل الموت فأدركهم الموت قبل أن يتوبوا.

أما القشيري فيصرفها إلى المؤمنين العصاة ، وواضح أنه يميز بين حالة ورودهم إلى النار ، وورود الكفار ، فهؤلاء على التأبيد وأولئك إلى حين.

٢٨٦

أو لم يروا كيف خالف بين أحوال الناس في الرزق : فمن موسّع عليه رزقه ، ومن مضيّق عليه ، وليس لواحد منهم شىء ممّا خصّ به من التقليل أو التكثير.

قوله جل ذكره : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣))

(١) التسمية ب (يا عِبادِيَ) مدح (٢) ، والوصف بأنهم (أَسْرَفُوا) ذم. فلمّا قال : (يا عِبادِيَ) طمع المطيعون في أن يكونوا هم المقصودين بالآية ، فرفعوا رءوسهم ، ونكّس العصاة رءوسهم وقالوا : من نحن .. حتى يقول لنا هذا؟!

فقال تعالى : (الَّذِينَ أَسْرَفُوا) فانقلب الحال ؛ فهؤلاء الذين نكّسوا رءوسهم انتعشوا وزالت ذلّتهم ، والذين رفعوا رءوسهم أطرقوا وزالت صولتهم (٣).

ثم أزال الأعجوبة عن القسمة بما قوّى رجاءهم بقوله : (عَلى أَنْفُسِهِمْ) يعنى إن أسرفت فعلى نفسك أسرفت.

(لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) : بعد ما قطعت اختلافك إلى بابنا فلا ترفع قلبك عنّا.

(إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) الألف واللام فى (الذُّنُوبَ) للاستغراق والعموم ، والذنوب جمع ذنب ، وجاءت (جَمِيعاً) للتأكيد ؛ فكأنه قال : أغفر ولا أترك ، وأعفو ولا أبقى.

__________________

(١) أورد الواحدي في أسباب النزول عدة اقوال بشأن من نزلت فيهم هذه الآية الكريمة ، ومن هذه الروايات : عن ابن عباس قال : نزلت في أهل مكة حين قالوا : يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له ، فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا مع الله إلها آخر وقتلنا النفس التي حرم الله.

وقال ابن عمر : نزلت في عياش بن ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فتركوا دينهم.

ويروى أنها نزلت في وحشي قاتل حمزة. (الواحدي ص ٢٤٨ ، ٢٤٩).

(٢) يقول الدقاق : ليس شىء أشرف من العبودية ، وقد سمى بها الحق نبيه (ص) فقال : سبحان الذي أسرى بعبده ، وقال : فأوحى إلى عبده ما أوحى ـ ولو كان اسم أجل من العبودية لسماه به. (الرسالة ص ١٠٠).

(٣) راجع ما قاله القشيري في قصة داود : (إنّ زلّة أسفك عليها يوصلك إلى ربك أجدى عليك من طاعة إعجابك بها يقصيك عن ربك). ويقول على بن أبى طالب : ما في القرآن أوسع من هذه الآية. ويقول عبد الله ابن عمر : هذه أرجى آية في القرآن.

٢٨٧

ويقال إن كانت لكم جناية كثيرة عميمة فلى بشأنكم عناية قديمة (١).

قوله جل ذكره : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤))

الإنابة الرجوع بالكلية. وقيل الفرق بين الإنابة وبين التوبة أن التائب يرجع من خوف العقوبة ، وصاحب الإنابة يرجع استحياء لكرمه (٢).

(وَأَسْلِمُوا لَهُ) : وأخلصوا في طاعتكم ، والإسلام ـ الذي هو بعد الإنابة ـ أن يعلم أنّ نجاته بفضله لا بإنابته ؛ فبفضله يصل إلى إنابته .. لا بإنابته يصل إلى فضله.

(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ) قبل الفراق. ويقال هو أن يفوته وقت الرجوع بشهود الناس ثم لا ينصرف عن ذلك.

قوله جل ذكره : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨))

يقال هذا في أقوام يرون أمثالهم تقدموا عليهم في أحوالهم ، فيتذكرون ما سلف من تقصيرهم ، ويرون ما وفّق إليه أولئك من المراتب فيعضون بنواجذ الحسرة على أنامل الخيبة.

__________________

(١) واضح أن القشيري يحاول بطرق شتى أن يفتح كل أبواب الأمل أمام اليائسين ، فمهما كانت الذنوب كثيرة فعفو الله أكبر وأشمل ، وبدا أن النص القرآنى يحتمل كل المحاولات التي يبذلها القشيري بسماحته الصوفية الأصيلة.

(٢) ينقل القشيري عن شيخه الدقاق قوله في هذا الخصوص : «أولها توبة وأوسطها إنابة وآخرها أوبة». ثم يعلق على ذلك قائلا : فكل من تاب لخوف العقوبة فهو صاحب توبة ، ومن تاب طمعا في الثواب فهو صاحب إنابة ، ومن تاب مراعاة للأمر ـ لا لرغبة في ثواب أو رهبة من عقاب ـ فهو صاحب أوبة. ويقال التوبة صفة المؤمنين (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون) ، والإنابة صفة الأولياء والمقربين (وجاء بقلب منيب) ، والأوبة صفة الأنبياء والمرسلين (نعم العبد إنه أواب) الرسالة ص ٥٠.

٢٨٨

أو يقول : لو أنّ الله هدانى لكنت كذا ، ويقول آخر : لو أنّ لى كرّة فأكون كذا ، فيقول الحقّ ـ سبحانه :

(بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩))

فذق من العذاب ما على جرمك استوجبت.

قوله جل ذكره : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠))

هؤلاء الذين ادّعوا أحوالا ولم يصدقوا فيها ، وأظهروا المحبة لله ولم يتحققوا بها ، وكفاهم افتضاحا بذلك! وأنشدوا :

ولمّا ادّعيت الحبّ قالت كذبتنى

فمالى أرى الأعضاء منك كواسيا؟!

فما الحبّ حتى تنزف العين بالبكا

وتخرس حتى لا تجيب المناديا (١)

قوله جل ذكره : (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١))

كما وقاهم ـ اليوم ـ عن المخالفات ، حماهم ـ غدا ـ من العقوبات ، فالمتقون فازوا بسعادة الدارين ؛ اليوم عصمة ، وغدا نعمة. اليوم عناية وغدا حماية وكفاية.

قوله جل ذكره : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢))

__________________

(١) ورد الشاهد الشعرى في الرسالة ص ١٦٠ هكذا : البيت الأول مطابق ، والثاني هكذا ومتبوعا بثالث : ـ

فما الحب حتى يلصق القلب بالحشا

وتذبل حتى لا تجيب المناديا

وتنحل حتى لا يبقى لك الهوى

سوى مقلة تبكى بها وتناجيا

وقد أورده صاحب اللمع على هذا النحو (اللمع ص ٣٢١).

٢٨٩

تدخل أكساب العباد في هذه الجملة ، ولا يدخل كلامه فيه ؛ لأن المخاطب لا يدخل تحت الخطاب ولا صفاته (١).

قوله جل ذكره : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣))

(مَقالِيدُ) أي مفاتيح ، والمراد منه أنه قادر على جميع المقدورات ، فما يريد أن يوجده أوجده.

قوله جل ذكره : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤))

أي متى يكون لكم طمع في أن أعبد غيره .. وبتوحيده ربّانى ، وبتفريده غذانى ، وبشراب حبّه سقانى؟! (٢).

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥))

لئن لا حظت غيرى ، وأثبت معى في الإبداع سواى أحبطت عملك ، وأبطلت سعيك ، بل الله ـ يا محمد ـ فاعبد ، وكن من جملة عبادى الشاكرين.

قوله جل ذكره : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧))

__________________

(١) هذه إشارة خطيرة في شأن الموضوعات الكلامية المصلة بالفعل الإنسانى ، وبمسألة خلق القرآن (أنظر كتابنا : الإمام القشيري : تصوفه وأدبه ط مؤسسة الحلبي للنشر).

(٢) هذه هي التربية التي عناها القشيري في موضع سابق حين قال : «ليس الاعتبار بالتربة بل بالتربية».

٢٩٠

ما عرفوه حقّ معرفته (١) ، وما وصفوه حقّ وصفه ، وما عظّموه حقّ تعظيمه ؛ فمن اتصف بتمثيل ، أو جنح إلى تعطيل (٢) حاد عن السّنّة المثلى وانحرف عن الطريقة الحسنى. وصفوا الحقّ بالأعضاء ، وتوهّموا في نعته الأجزاء ، فما قدروه حقّ قدره ؛ فالخلق في قبضة قدرته ، والسماوات مطويات بيمينه ، ويمينه قدرته (٣). ولأنه أقسم أن يفنى السماوات ويطويها فهو قادر على ذلك.

(سُبْحانَهُ وَتَعالى) تنزيها له عما أشركوا في وصفه.

قوله جل ذكره : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨))

فى النفخة الأولى تموتون ، ثم في النفخة الثانية تحشرون ، والنفختان متجانستان ؛ ولكنه يخلق عند إحداهما إزهاق الأرواح ، وفي الأخرى حياة النفوس ؛ ليعلم أن النفخة لا تعمل شيئا لعينها (٤) ، وإنما الجبّار بقدرته يخلق ما يشاء.

قوله جل ذكره : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ

__________________

(١) أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل من أهل الكتاب فقال : يا أبا القاسم بلغك أن الله يحمل الخلائق على أصبع والأرضين على أصبع والشجرة على أصبع والثرى على أصبع! فضحك رسول الله (ص) حتى بدت نواجذه ، فأنزل الله تعالى : «وما قدروا الله حق قدره» (الواحدي ص ٢٥٠).

(٢) (التعطيل على ثلاثة أقسام : تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه ، وتعطيل الصانع ـ سبحانه ـ عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه وصفاته وأفعاله ، وتعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد .. ومن هذا شرك طائفة أهل وحده الوجود الذين يقولون ما ثم خالق ولا مخلوق (الجواب الكافي ص ٩٠ لابن القيم ط التقدم).

(٣) نحسب أن من دواعى التأويل أن الله سبحانه وتعالى قد يخاطبنا عن ذاته وصفاته بما نتخاطب به فيما بيننا حتى نفهم ، والآية تشير إلى ذلك في وضوح فقد عبر عن قدرته مرة بالقبضة ومرة باليمين ، ومعنى هذا أن الله يقدر على قبض الأرض وجميع ما فيها قدرة أحدنا على ما يحمل بأصبعه.

(٤) كلام القشيري عن تجانس النفختين واختلاف تأثيريهما ، ثم كلامه بعد قليل عن تجانس السوقين واختلاف وجهتيهما .. مقصود منه ـ كما نظن ـ أن القياس الإنسانى ليس دائما على صواب ، مثال ذلك قوله تعالى : «مطويات بيمينه» ، ونسبة الوجه واليد والعين .. ونحو ذلك لله سبحانه ليس بالضرورة أن يكون على نحو ما يفهم الإنسان من هذه الماديات ، فالكلمة هي الكلمة .. ولكن شتان بين الدلالة هنا والدلالة هناك .. والله أعلم بمقصود القشيري .. ولكن هكذا نظن.

٢٩١

الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩))

نور يخلقه في القيامة فتشرق القيامة به ، وذلك عند تكوير الشمس وانكدار النجوم ، ويستضىء بذلك النور والإشراق قوم دون قوم. الكفّار يبقون في الظلمات ، والمؤمنون نورهم يسعى بين أيديهم.

ويقال اليوم إشراق ، وغدا إشراق ، اليوم إشراق القلب بحضوره ، وغدا إشراق الأرض بنور ربها. ويقال غدا أنوار التولّى للمؤمنين ، واليوم أنوار التجلّى للعارفين.

قوله جل ذكره : (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠))

إن كان خيرا فخير ، وإن كان غير خير فغير خير.

قوله جل ذكره : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١))

الكفار يساقون إلى النار عنفا ، والمؤمنون يساقون إلى الجنة لطفا ؛ فالسّوق يجمع الجنسين .. ولكن شتان بين سوق وسوق!.

فإذا جاء الكفار قابلهم خزنة النار بالتوبيخ والعتاب والتأنيب ؛ فلا تكريم ولا تعظيم ، ولا سؤال ولا استقبال .. بل خزى وهوان ، ومن كل جنس من العذاب ألوان.

قوله جل ذكره : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣))

٢٩٢

سوّق ولكن بغير تعب ولا نصب ، سوق ولكن بروح وطرب.

(زُمَراً) جماعات ، وهؤلاء هم عوامّ أهل الجنة ، وفوق هؤلاء : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) (١) وفوقهم من قال فيهم : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) (٢) وفرق بين من يساق إلى الجنة ، وبين من تقرّب منه الجنة .. هؤلاء الظالمون ، والآخرون المقتصدون ، والآخرون السابقون (٣).

(حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها ...) وإذا وافوا الجنة تكون الأبواب مفتّحة لئلا يصيبهم نصب الانتظار.

ويقال إذا كان حديث الجنة فالواجب أن يبادر إليها ولا يحتاج أن يساق ، ولعلّ هؤلاء لا رغبة لهم في الجنة بكثير ؛ فلهم معه في الطريق قول (طِبْتُمْ) ؛ أي أنهم يساقون إلى الجنة بلطف دون عنف.

قوله جل ذكره : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤))

صدقنا وعده بإدخالنا الجنة ، وإكمال المنّة.

(وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) أي أرض الجنة ؛ (نَتَبَوَّأُ) منها (حَيْثُ نَشاءُ). وهؤلاء قوم مخصوصون ، والذين هم قوم «الغرف» أقوام آخرون.

قوله جل ذكره : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥))

يسبّحون بحمد ربهم في عموم الأوقات .. هذا هو عمل الملائكة الذين من حول العرش.

وقضى بين أهل الجنة وأهل النار بالحقّ ، لهؤلاء دركات ولأولئك درجات .. إلى غير ذلك من فنون الحالات. وقضى بين الملائكة أيضا في مقاماتهم على ما أراده الحقّ في عباداتهم.

__________________

(١) آية ٨٥ سورة مريم.

(٢) آية ٣١ سورة ق.

(٣) إشارة إلى الآية : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) (آية ٣٣ سورة فاطر).

٢٩٣

سورة المؤمن (١)

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(بِسْمِ اللهِ) كلمة من تحقّق بها شرف من الحقّ مناله ، وصفت عنده أحواله ، وخلع على نفسه رداء الأفضال ، وألبس قلبه جلال الإقبال ، وأفرد روحه بروح لطف الجمال ، واستخلص سرّه بكشف وصف الجلال.

قوله جل ذكره : (حم (١))

أي حمّ أمر كائن (٢).

ويقال «الحاء» إشارة إلى حلمه ، «والميم» إشارة إلى مجده أي : بحلمي ومجدى لا أخلّد في النار من آمن بي.

ويقال هذه الحروف (مفاتح أسمائه) (٣).

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢))

__________________

(١) تسمى سورة غافر ، وسورة الطّمول ، وسورة المؤمن لقوله تعالى فيها : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ) (السيوطي : الإتقان ح ١ ص ٥٤).

(٢) أي قضى ووقع ، قال كعب بن مالك :

فلمّا تلاقيناهم ودارت بنا الرّحى

وليس لأمر حمّه الله مدفع

أو تكون بمعنى قرب كما قال الشاعر

قد حمّ يوى فسرّ قوم

قوم بهم غفلة ونوم

(٣) ما بين القوسين سقط من ص ، وهي موجودة في م.

عن أنس أن أعرابيا سأل النبي (ص) ما حم؟ فإنا لا نعرفها في لساننا ، فقال النبي (ص) : «بده أسماء وفواتح سور».

٢٩٤

(الْعَزِيزِ) : المعزّ لأوليائه ، (الْعَلِيمِ) بما كان ويكون منهم ، فلا يمنعه علمه بما سلف منهم عن قضائه.

قوله جل ذكره : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣))

كتاب معنون بقبول توبته لعباده ؛ علم أنّ العاصي منكسر القلب فأزال عنه الانكسار بأن قدّم نصيبه ، فقدّم اسمه على قبول التوبة. فسكّن نفوسهم وقلوبهم باسمين يوجبان الرجاء ؛ وهما قوله : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ).

ثم عقبهما بقوله : (شَدِيدِ الْعِقابِ) ثم لم يرض حتى قال بعدئذ (ذِي الطَّوْلِ).

فيقابل قوله : (شَدِيدِ الْعِقابِ) قوله : (ذِي الطَّوْلِ).

(ويقال : غافر الذنب لمن أصرّ واجترم ، وقابل التوب لمن أقرّ وندم ، شديد العقاب لمن جحد وعند ، ذى الطول لمن عرف ووحد) (١).

ويقال غافر الذنب للظالمين ، وقابل التوب للمقتصدين ، شديد العقاب للمشركين ، ذى الطول للسابقين.

ويقال : سنّة الله أنه إذا خوّف العباد باسم أو لفظ تدارك قلوبهم بأن يبشّرهم باسمين أو بوصفين (٢).

(إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) : وإذا كان إليه المصير فقد طاب إليه المسير.

قوله جل ذكره : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤))

__________________

(١) ما بين القوسين بأجمعه ساقط من ص وموجود في م.

(٢) وهذه آية كرمه سبحانه.

٢٩٥

إذا ظهر البرهان واتّضح البيان استسلمت الألباب الصاحية للاستجابة والإيمان.

فأمّا أهل الكفر فلهم على الجمود إصرار ، وشؤم شركهم يحول بينهم وبين الإنصاف ... وكذلك من لا يحترمون أولياء الله ، ويصرّون على إنكارهم ، ويعترضون عليهم بقلوبهم ، ويجادلون في جحد الكرامات ، وما يخصّ الله به عباده من الآيات ... فهؤلاء لا يميزون بين رجحانهم ونقصانهم ، وسيفتضحون كثيرا.

قوله جل ذكره : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥))

كذلك من انقرض من الكفار كان تكذيب الرّسل دأبهم ، ولكنّ الله ـ سبحانه ـ انتقم منهم ، وعلى كفرهم اخترمهم.

والمنكر لهذا الطريق (١) يدين بإنكاره ، ويتقرّب إلى الله به ، ويعد وقيعته في أولياء الله من جملة إحسانه وخيراته ، ولكن الله ـ سبحانه ـ يعذبهم في العاجل بتخليتهم فيما هم فيه ، وصدّ قلوبهم عن هذه المعاني ، وحرمانهم منها.

قوله جل ذكره : (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦))

إذا انختم على عبد حكم الله بشقاوته فلا تنفعه كثرة ما يورد عليه من النّصح .. والله على أمره غالب .. ومن أسرته يد الشقاوة فلا يخلّصه من مخالها جهد ولا سعاية.

قوله جل ذكره : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ

__________________

(١) يقصد الطريق الصوفي.

٢٩٦

حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧))

حملة العرش من حول العرش من خواص الملائكة (١) ، مأمورون بالتسبيح لله ، ثم بالاستغفار للعاصين ـ لأنّ الاستغفار للذنب والتوبة إنما تحصل من الذنب ـ ويجتهدون في الدعاء لهم على نحو ما في هذه الآية وما بعدها ؛ فيدعون لهم بالنجاة ، ثم برفع الدرجات ، ويحيلون الأمر في كل ذلك على رحمة الله.

قوله جل ذكره : (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩))

(وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) : فلئن سلّط عليك أراذل من خلقه ـ وهم الشياطين ـ فلقد قيّض بالشفاعة أفاضل من خلقه ومن الملائكة المقرّبين

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠))

أشدّ العقوبات التي يوصلها الحقّ إليهم آثار سخطه وغضبه ، وأجلّ النّعم

__________________

(١) عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال قال رسول الله (ص) : «أذن لى أن أحدّث عن مسلك من ملائكة الله من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام» ذكره البيهقي ، وقال : هو أعظم المخلوقات.

٢٩٧

التي يغروهم بها آثار رضاه عنهم. فإذا عرف الكافر في الآخرة أنّ ربّه عليه غضبان فلا شىء أصعب على قلبه من ذلك ؛ لأنه علم أنه لا بكاء ينفعه ، ولا عناء يزيل عنه ما هو فيه ويدفعه ، ولا يسمع له تضرّع ، ولا ترجى له حيلة.

قوله جل ذكره : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١))

الإماتة الأولى إماتتهم في الدنيا ثم في القبر يحييهم ، ثم يميتهم فهى الإماتة الثانية. والإحياء الأول في القبر والثاني عند النشر (١).

(فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) : أقروا بذنوبهم ـ ولكن في وقت لا ينفعهم الإقرار.

(فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) مما نحن فيه من العقوبة ، وإنما يقولون ذلك حين لا ينفعهم الندم والإقرار. فيقال لهم :

(ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢))

ـ أي تصدّقوا المشركين لكفرهم. [وهؤلاء إماتتهم محصورة ، فأمّا أهل المحبة فلهم في كلّ وقت حياة وموت ، قال قائلهم :

أموت إذا فقدتك ثم أحيا

فكم أحيا عليك وكم أموت!

فإنّ الحقّ ـ سبحانه ـ يردّد أبدا الخواصّ من عباده بين الفناء والبقاء ،

__________________

(١) هذا الرأي يذهب إليه السّدّى أيضا ، وإنما إحياؤهم في القبور للمسألة ، ومن هذا استدل العلماء على سؤال القبر.

واستدل من الآية كذلك على إحياء الأجساد ، لأن الروح ـ عند من يقصر أحكام الآخرة على الأرواح ـ لا تموت ولا تتغير ولا تفسد ، فلو كان الثواب والعقاب للروح ـ دون الجسد ـ فما معنى الإحياء والإماتة؟

ويذهب ابن عباس وابن مسعود وقتادة والضحاك إلى أنهم كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم ، ثم أحياهم. ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها في الدنيا ، ثم أحياهم البعث والقيامة ، فهاتان حياتان وموتتان.

٢٩٨

والحياة والموت ، والمحو والإثبات (١).

قوله جل ذكره : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣))

يريهم آيات فضله فيما يلاطفهم ، ويريهم آيات قهره فيما يكاشفهم ، ويريهم آيات عفوه إذا تنصّلوا (٢) ، وآيات جوده إذا توسّلوا ، وآيات جلاله إذا هابوا فغابوا ، وآيات جماله إذا آبوا واستجابوا. (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) لأبدانكم وهو توفيق المجاهدات ، ولقلوبكم وهو تحقيق المشاهدات ، (ولأسراركم وهو فنون المواصلات والزيادات) (٣).

(وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) : يرجع من العادة إلى العبادة ، ومن الشّكّ إلى اليقين ، ومن الخلق إلى الحقّ ، ومن الجهل إلى العلم ، ومن النّكرة إلى العرفان.

قوله جل ذكره : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤))

شرط الدعاء تقديم المعرفة لتعرف من الذي تدعوه ، ثم تدعو بما تحتاج إليه ممّا لا بدّ لك منه ، ثم تنظر هل أعطاك ما تطلب وأنت لا تدرى؟ والواجب ألا تطلب شيئا تكون فيه مخالفة لأمره ، وأن تتباعد عن سؤالك الأشياء الدّنيّة والدنيوية ، وأن ترضى بما يختاره لك مولاك. ومن الإخلاص في الدعاء ألا ترى الإجابة إلّا منه ، وألا ترى لنفسك استحقاقا إلا بفضله ، وأن تعلم أنه إن بقيت في سؤالك عن مطلوبك ـ الذي هو حظّك ـ لا تبق عن عبادة ربّك ـ التي هي حقّه ؛ فإنّ الدعاء مخّ العبادة ، ومن الإخلاص في الدعاء أن

__________________

(١) فالموت بالقبض والفناء والمحو ، والحياة بالبسط والبقاء والإثبات. ونحسب أن الكلام الموجود بين القوسين الكبيرين يتصل بالآية السابقة نظرا لتلاؤم تقليب الأحوال مع الإماتة والإحياء وكنا نريد أن نضعه في مكانه حسبما رأينا لو لا أنه موضوع هنا في م وص. ويبدو أن القشيري اعتبر الآيتين كيانا عضويا واحدا ، فجاءت الإشارة منها جميعا.

(٢) أي تنصلوا من ذنوبهم.

(٣) ما بين القوسين موجود في م وساقط في ص.

٢٩٩

تكون في حال الاضطرار لما لا يكون ابتداؤه جرما لك ، وتكون ضرورتك لسراية جنايتك.

قوله جل ذكره : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥))

رافع الدرجات للعصاة بالنجاة (١) ، وللمطيعين بالمثوبات ، وللأصفياء والأولياء بالكرامات ، ولذوى الحاجات بالكفايات ، وللعارفين بتنقيبهم عن جميع أنواع الإرادات.

ويقال درجات المطيعين بظواهرهم في الجنة ، ودرجات العارفين بقلوبهم في الدنيا ؛ فيرفع درجاتهم عن النظر إلى الكونين دون المساكنة إلهما. وأمّا المحبون فيرفع درجاتهم عن أن يطلبوا في الدنيا والعقبى شيئا غير رضاء محبوبهم (٢).

(ذُو الْعَرْشِ) : ذو الملك الرفيع. ويقال العرش الذي هو قبلة الدعاء ، خلقه أرفع المخلوقات وأعظمها جثة (٣).

(يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) روح بها ضياء أبدانهم ـ وهو سلطان عقولهم ، وروح بهاء ضياء قلوبهم ـ وهو شفاء علومهم ، وروح بها ضياء أرواحهم

__________________

(١) واضح أن القشيري لا يكاد يترك فرصة دون أن يفتح أبواب الأمل أمام العصاة حتى لا يقنطوا من رحمة الله .. وهذا نابع من سياحته الصوفية الأصيلة.

(٢) هنا نلاحظ أن القشيري جعل المحب أعلى درجة من العارف ـ مع أن العرفان الذي غايته التوحيد ـ هو أعلى مراتب الطريق الصوفي. ولكن نظرا لأن الحب والفناء والمعرفة كلها من الحب وإلى الحب فكثيرا ما نجد كتاب التصوف كالقشيرى والغزالي وغيرهما لا يتقيدون تقيدا حرفيا بهذا الترتيب الذي يفيد في الدراسة فقط ، وقد تناولنا هذه النقطة بالتفصيل في كتابنا «نشأة التصوف الإسلامى ط دار المعارف» فى مقدمة باب «المذاقات».

(٣) نلاحظ أن القشيري هنا يصف (العرش) مرة بأنه الملك أو قبلة الدعاء ثم يعود فيقول (.... وأعظمها جثة) بمعنى أن يجرد العرش مرة من المادية ثم يعود ليخلع عليه النسبة المادية ، فإذا كان ذلك بقصد مخاطبة الناس على قدر فهومهم ـ كما قلنا من قبل فهذا جائز .. ولكن الواقع أن القشيري يعبر عن شىء من الاضطراب الذي أصاب الأشاعرة إزاء المتشابهات ، وهو أمر تحدثنا عنه بالتفصيل في كتابنا (لإمام القشيري ـ تصوفه وأدبه) ... ولعل خير ما انتهى إليه الرازي قوله «حاصل مذهب السلف أن هذه المتشابهات يجب القطع فيها بأن مراد الله منها شىء غير ظواهرها ، ثم يجب تفويض معناها إلى الله ، ولا يجوز الخوض في تفسيرها» (أساس التقديس للرازى ط الكردي ص ٢٢٣) :

٣٠٠