لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

قيل : إلى عمّه أبى طالب.

ويقال : بل آواه إلى كنف ظلّه ، وربّاه بلطف رعايته.

ويقال : فآواك إلى بساط القربة بحيث انفردت بمقامك ، فلم يشاركك فيه أحد

(وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧))

أي : ضللت في شعاب مكة ، فهدى إليك عمّك أبا طالب في حال صباك.

ويقال : (ضَالًّا) فينا متحيّزا ... فهديناك بنا إلينا.

ويقال : (ضَالًّا) عن تفصيل الشرائع ؛ فهديناك إليها بأن عرّفناك تفصيلها.

ويقال : فيما بين الأقوام ضلال فهداهم بك.

وقيل : (ضَالًّا) للاستنشاء (١) فهداك لذلك.

ويقال (ضَالًّا) فى محبتنا ، فهديناك بنور القربة إلينا.

ويقال : (ضَالًّا) عن محبتى لك فعرّفتك أنّى أحبّك.

ويقال : جاهلا بمحلّ شرفك ، فعرّفتك قدرك.

ويقال : مستترا في أهل مكة لا يعرفك أحد فهديناهم إليك حتى عرفوك (٢)

(وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى)

فى التفسير : فأغناك بمال خديجة.

ويقال : أغناك عن الإرادة والطلب بأن أرضاك بالفقد (٣)

ويقال : أغناك بالنبوّة والكتاب. ويقال : أغناك بالله.

__________________

(١) الكلمة غير واضحة الرسم في النسختين ، وقد رجحنا هذه الكلمة لأنها أقرب إلى ما في م ، ولأن من القصص السابقة ما يشير إلى أنه لم يقدم المشيئة فعوتب في ذلك (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ)

(٢) ربما تتفق هذه الإشارة مع ما جرت عليه العرب في وصف الشجرة المنفردة في الفلاة لا شجر معها بأنها ضالة يهتدى بها إلى الطريق لأنها علامة مميزة ، فهى معروفة لذاتها ، ولأنها علامة على الطريق هادية إليه.

(٣) هكذا في م ، وهي في ص (بالعقل) ، ولكننا نرجح ما جاء في م ، ولا نستبعد أنها في الأصل (الفقر) .. فالرضا في حال الفقر أو (الفقد) أتم في النعمة من الرضا في حال الغنى ... وهل أعظم من الغنى بالله؟!

٧٤١

ويقال : أغناك عن السؤال حينما أعطاك ابتداء ؛ بلا سؤال منك.

قوله جل ذكره : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ)

فلا تخفه ، وارفق به ، وقرّبه.

(وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ)

أي : إمّا أن تعطيه .. أو تردّه برفق ، أو وعد.

ويقال : السائل عنّا ، والسائل المتحيّر فينا ـ لا تنهرهم ، فإنّا نهديهم ، ونكشف مواضع سؤالهم عليهم .. فلاطفهم أنت في القول.

(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)

فاشكر ، وصرّح بإحسانه إليك ، وإنعامه عليك.

٧٤٢

سورة ألم نشرح

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(بِسْمِ اللهِ) اسم عزيز عزّ من التجأ إليه ، وجلّ من توكّل عليه ، وفاز في الدنيا والعقبى من توسّل به إليه ؛ فمن تقرّب منه قرّبه ومن شكا إليه حقّق له مطلبه ، ومن رفع قصّته إليه قضى مأربه.

قوله جل ذكره : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١))

ألم نوسّع قلبك للإسلام؟ ألم نليّنه للإيمان؟

ويقال : ألم نوسع صدرك بنور الرسالة؟ ألم نوسّع صدرك لقبول ما نورد عليك.

(وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ)

أي : إثمك قبل النبوّة.

ويقال : عصمناك عن ارتكاب الوزر ؛ فوضعه عنه بأنّه لم يستوجبه قطّ.

ويقال : خفضنا عنك أعباء النبوّة وجعلناك محمولا لا متحمّلا (١).

ويقال : قويناك على التحمّل من الخلق ، وقوّيناك لمشاهدتنا ، وحفظنا عليك ما استحفظت (٢) ، وحرسناك عن ملاحظة الخلق فيما شرّفناك به.

__________________

(١) وهذه أقصى درجات الحب ، وقد مر بنا كيف قارن القشيري بين مواقف موسى ، ومواقف المصطفى صلوات الله عليهما ، وكيف أوضح لنا أن موسى كان متحملا بينما كان نبيا محمولا.

(٢) إشارة إلى القرآن ، الذي حفظ من التغيير والتحريف .. إلى الأبد.

٧٤٣

(الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) : أي : أثقله ، ولو لا حملنا عنك لكسر.

(وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ)

بذكرنا ؛ فكما لا تصحّ كلمة الشهادة إلا بي ، فإنها لا تصحّ إلا بك. (١)

ويقال : رفعنا لك ذكرك بقول الناس : محمد رسول الله!

ويقال : أثبتنا لك شرف الرسالة.

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)

وفي الخبر : «لن يغلب عسر يسرين» (٢) ومعناه : أن العسر بالألف واللام في الموضعين للعهد ـ فهو واحد ، واليسر منكّر في الموضعين فهما شيئان. والعسر الواحد : ما كان في الدنيا ، واليسران : أحدهما في الدنيا من الخصب ، وزوال البلاء ، والثاني في الآخرة من الجزاء ؛ وإذا فعسر جميع المؤمنين واحد ـ وهو ما نابهم من شدائد الدنيا ، ويسرهم اثنان : اليوم بالكشف والصّرف (٣) ، وغدا بالجزاء.

قوله جل ذكره : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ)

فإذا فرغت من الصلاة المفروضة عليك فانصب في الدعاء.

ويقال : فإذا فرغت من العبادة فانصب في الشفاعة.

ويقال : فإذا فرغت من عبادة نفسك فانصب بقلبك.

(وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ)

فى جميع الأحوال.

ويقال : فإذا فرغت من تبليغ الرسالة فارغب في الشفاعة.

__________________

(١) فلا تصح الشهادة شرعا إلا إذا قلنا : ... وأن محمدا رسول الله.

(٢) البخاري ص ١٤٥ ح ٣.

(٣) (الكشف) هنا ليس كما قد نفهم من قبيل المصطلح الصوفي ، بل هو كشف الغمة وصرف المحنة ، فهى لفظة عامة في هذا السياق.

٧٤٤

سورة التّين

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

اسم (اللهِ) يدلّ على جلال من لم يزل ، ويخبر عن جمال من لم يزل ، ينبه على إقبال من لم يزل ، يشير إلى إفضال من لم يزل ؛ فالعارف شهد (١) جلاله فطاش ، والصفىّ شهد جماله فعاش ، والوليّ شهد إقباله فارتاش ، والمريد يشهد إفضاله فلا يطلب مع كفايته المعاش.

قوله جل ذكره : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١))

أقسم بالتين لما به من عظيم المنّة على الخلق حيث لم يجعل فيه النّوى ، وخلّصه من شائب التنغيص ، وجعله على مقدار اللّقمة لتكمل به اللذّة. وجعل فى (الزَّيْتُونِ) من المنافع مثل الاستصباح والتأدّم والاصطباغ به.

(وَطُورِ سِينِينَ)

الجبل الذي كلّم الله موسى عليه. ولموضع قدم الأحباب حرمة.

(وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ)

يعنى : مكة ، ولهذا البلد شرف كبير ، فهى بلد الحبيب ، وفيها البيت ؛ ولبيت الحبيب وبلد الحبيب قدر ومنزلة. (٢)

__________________

(١) من هنا يبدأ في النسخة بياض في النسخة ص يتلوه. سقوط حتى بداية سورة العاديات. ولهذا نعتمد فيما بين الموضعين على النسخة م وحدها.

(٢) بما ذهب المفسرون في تفسير : التين والزيتون وطور سنين ، والبلد الأمين قول بعضهم : إن التين إشارة إلى جبل دمشق وهو مأوى عيسى عليه‌السلام ، وبالزيتون جبل بيت المقدس فهو مقام الأنبياء جميعهم ، وطور سينين إشارة إلى موسى كليم الله ، والبلد الأمين إشارة إلى أن مكة بها بيت إبراهيم وبها دار محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم .. فكأن مطالع السورة تشير إلى النبوات البارزة.

٧٤٥

قوله جل ذكره : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)

فى اعتدال قامته ، وحسن تركيب أعضائه. وهذا يدل على أنّ الحقّ ـ سبحانه ـ ليس له صورة ولا هيئة ؛ لأنّ كلّ صفة اشترك فيها الخلق والحقّ فالمبالغة للحقّ ... كالعلم ، فالأعلم الله ، والقدرة : فالأقدر الله فلو اشترك الخلق والخالق في التركيب والصورة لكان الأحسن في الصورة الله ... فلمّا قال : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) علم أنّ الحقّ ـ سبحانه ـ منزّه عن التقويم وعن الصورة. (١)

قوله جل ذكره : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ)

أي : إلى أرذل العمر وهو حال الخرف (٢) والهرم.

ويقال : (أَسْفَلَ سافِلِينَ) : إلى النار والهاوية في أقبح صورة ؛ فيكون أوّل الآية عامّا وآخرها خاصّا بالكفّار ... كما أنّ التأويل الأول ـ الذي هو حال الهرم ـ خاصّ في البعض ؛ إذ ليس كلّ الناس يبلغون حال الهرم.

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)

أي : غير منقوص.

ويقال : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) أي : إلى حال الشقاوة والكفر إلّا المؤمنين.

قوله جل ذكره : (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ)

أيها الإنسان .. مع كل هذا البرهان والبيان؟

(أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ)

__________________

(١) فى هذا ردّ جميل مقنع على المشبهة ، وعلى كل ذى تصور وهمي للألوهية.

(٢) الخرف ـ فساد العقل بسبب كبر السنّ.

٧٤٦

سورة العلق

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(بِسْمِ اللهِ) كلمة سماعها يوجب أحد أمرين : «إمّا صحوا وإمّا محوا ؛ صحوا لمن سمعها بشاهد العلم فيستبصر بواضح برهانه ، أو محوا لمن سمعها بشاهد المعرفة لأنه يتحيّر في جلال سلطانه.

قوله جل ذكره : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١))

هذه السورة من أوّل ما نزل على المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما تعرّض له جبريل فى الهواء ، ونزل عليه فقال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ). فالناس كلّهم مريدون وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مرادا. فاستقبل الأمر بقوله : «ما أنا بقارئ ، فقال له : اقرأ ، فقال : ما أنا بقارئ ، فقال له : اقرأ كما أقول لك ؛ اقرأ باسم ربك الذي خلق. أي خلقهم على ما هم به.

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ)

العلق جمع علقة ؛ كشجر وشجرة ... (والعلقة الدم الجامد فاذا جرى فهو المسفوح).

(اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ)

الأكرم أي الكريم.

ويقال : الأكرم من كلّ كريم.

(الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ)

علّمهم ما لم يعلموا : الضروريّ ، والكسبيّ.

٧٤٧

(كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧))

(١) أي : يتجاوز جدّه إذا رأى في نفسه أنه استغنى ؛ لأنه يعمى عن مواضع افتقاره.

ولم يقل : إن استغنى بل قال : (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) فإذا لم يكن معجبا بنفسه ، وكان مشاهدا لمحلّ افتقاره ـ لم يكن طاغيا (٢).

قوله جل ذكره : (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى)

أي : الرجوع يوم القيامة.

قوله جل ذكره : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى)

أليس لو لم يفعل هذا كان خيرا له؟ ففى الآية هذا الإضمار.

(أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى)

لكان خيرا له؟

(أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى)

كذّب بالدّين ، وتولّى عن الهداية.

قوله جل ذكره : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى)

أي : ما الذي يستحقّه من هذه صفته؟

والتخويف برؤية الله تنبيه على المراقبة ـ ومن لم يبلغ حال المراقبة لم يرتق منه إلى حال المشاهدة.

قوله جل ذكره : (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ)

__________________

(١) قيل نزلت في أبى جهل حين نهى النبي «ص» عن الصلاة ، فأمر الله نبيه أن يصلى في المسجد ويقرأ باسم الرب ... والذين يرون ذلك يرون أن السورة ليست من أوائل ما نزل من القرآن. أو يجوزون أن تكون أوائل السورة كذلك وأن بقيّتها في شأن أبى جهل ـ أي متأخرة.

روى البخاري عن ابن عباس : قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا يصلى عند الكعبة لأطأن على عنقه ، فبلغ النبي ذلك فقال : لو فعل لأخذته الملائكة. (البخاري ح ٣ ص ١٤٦).

(٢) من أشد آفات الطريق خطرا ملاحظة النفس ، وناهيك بدعاواها.

٧٤٨

لنأخذنّ بناصيته (وهي شعر مقدّم الرأس) أخذ إذلال. ومعناه لنسوّدنّ وجهه.

وقوله : (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) بدل من قوله : (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) (١)

(فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨))

فليدع أهل ناديه وأهل مجلسه ، وسندعو الزبانية ونأمرهم بإهلاكه.

قوله جل ذكره : (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب)

أي : اقترب من شهود الربوبية بقلبك ، وقف على بساط العبودية بنفسك.

ويقال : فاسجد بنفسك ، واقترب بسرّك (٢).

__________________

(١) نسبة الكذب والخطيئة إلى الناصية يقصد بها صاحب الناصية كقولهم : نهاره صائم وليله قائم ، أي هو صائم في نهاره وقائم في ليله.

(٢) السجود عبادة الظواهر ، ولهذا ربطها القشيري بالنفس ، فكل ما يتصل بالظاهر يرتبط ـ عنده ـ بالنفس ، وأمّا الاقتراب «فهو عبادة الباطن المرتبطة بالسرّ.

٧٤٩

سورة القدر

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(بِسْمِ اللهِ) كلمة تحضر قلوب العلماء لتأمّل الشواهد ، وتسكر قلوب العارفين إذا وردوا المشاهد ... فهؤلاء أحضرهم فبصّرهم ، وعلى استدلالهم نصرهم.

وهؤلاء بشراب محابّه أسكرهم ، وفي شهود جلاله حيّرهم.

قوله جل ذكره : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١))

فى ليلة قدّر فيها الرحمة لأوليائه ، فى ليلة يجد فيها العابدون قدر نفوسهم ، ويشهد فيها العارفون قدر معبودهم .. وشتان بين وجود قدر وشهود قدر! فلهؤلاء وجود قدر ولكن قدر أنفسهم ، ولهؤلاء شهود قدر ولكن قدر معبودهم.

(وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ)

استفهام على جهة التفخيم لشأن تلك الليلة.

(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)

أي : هى خير من ألف شهر ليست فيها ليلة القدر. هى ليلة قصيرة على الأحباب لأنهم فيها فى مسامرة وخطاب .. كما قيل :

يا ليلة من ليالى الدهر

قابلت فيها بدرها ببدر

ولم تكن عن شفق وفجر

حتى تولّت وهي بكر الدهر

٧٥٠

قوله جل ذكره : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ الرُّوحُ فِيها)

(الروح فيها) قيل جبريل. وقيل : ملك عظيم

(بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) : أي بأمر ربهم.

(مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ) : أي مع كل مأمور منهم سلامى على أوليائى (١).

(هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) : أي هي باقية إلى أن يطلع الفجر.

__________________

(١) قد يتأيه رأى القشيري في اختيار هذا النسق الذي يتم به الكلام بما يرويه أنس ـ قال : قال رسول الله (ص) : إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة (جماعة) من الملائكة ، يصلون ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله تعالى.

٧٥١

سورة لم يكن

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(بِسْمِ اللهِ) : اسم عزيز تنصّل إليه المذنبون فغفر لهم وجبرهم (١) وتوسّل إليه المطيعون فوصلهم ونصرهم.

تعرّف إليه العالمون فبصّرهم ، وتقرّب منه العارفون فقرّبهم ... لكنه ـ سبحانه ـ فى جلاله حيّرهم (٢).

قوله جل ذكره : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١))

(مُنْفَكِّينَ) : منّتهين عن كفرهم حتى تأتيهم البيّنة : وهي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي لم يزالوا مجتمعين على تصديقه ؛ لما وجدوه في كسب إلى أن بعثه الله تعالى. فلمّا بعثه حسدوه وكفروا.

(رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ).

__________________

(١) فى النسخة م توجد بعد هذا الموضع العبارة التالية «وتوكّل إليه العارفون فجبرهم». ونستبعد وجودها فى الأصل ؛ لأن ترتيب العارفين لا يأتى بين المذنبين والمطيعين ، وإنما يأتى بعد «العالمين» ، كما هو ثابت فى النسخة على هذا النحو الذي أثبتناه هنا. كما أنّ «جبرهم» فعل يتصل بالزلّات والذنوب ... فيبدو أن العبارة متصلة بالمذنبين ، ويتأيد ما اخترناه بالسياق الذي نألفه في أسلوب البسملة عند الشيخ ، فضلا عن خدمته للموسيقى والمعنى ... وهما العنصران الأساسيان في نسيج البسملة عنده.

(٢) التحيّر في الجلال صفة مدح ، ولذا يقول يحيى بن معاذ : يا دليل المتحيرين زدنى تحيرا .. لأنه غرق فى بحر الوجود عند الشهود.

٧٥٢

أي حتى يأتيهم رسول من الله يقرأ كتبا مطهّرة عن تبديل الكفار.

(فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) (١) : مستوية ليس فيها اعوجاج.

قوله جل ذكره : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)

يعنى : القرآن.

قوله جل ذكره : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)

(مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي موحّدين لا يشركون بالله شيئا ؛ فالإخلاص ألّا يكون شىء من حركاتك وسكناتك إلّا لله.

ويقال : الإخلاص تصفية العمل من الخلل.

(حُنَفاءَ) : مائلين إلى الحقّ ، عادلين عن الباطل (٢).

(وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ .. وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) : أي دين الملّة القيمة ، والأمة القيّمة ، والشريعة القيّمة.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦))

(خالِدِينَ فِيها) : مقيمين. (الْبَرِيَّةِ) : الخليقة.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ).

__________________

(١) يرى القرطبي : أن «كتبا» هنا بمعنى الأحكام ؛ لأن كتب بمعنى حكم ، قال تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ) سورة المجادلة.

(٢) كلمة «حنيف» من الأضداد ، فهى تحمل معنى (الميل) عن الباطل و (الاستقامة) فى طريق الحق.

٧٥٣

أي : خير الخلق ، وهذا يدل على أنهم أفضل من الملائكة.

قوله جل ذكره : (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً)

(جَزاؤُهُمْ) أي ثوابهم في الآخرة على طاعاتهم.

(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي : من تحت أشجارها الأنهار.

(رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ).

فلم تبق لهم مطالبة إلّا حقّقها لهم.

(ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ).

أي : خافه في الدنيا.

والرضا سرور القلب بمرّ القضا.

ويقال : هو سكون القلب تحت جريان الحكم.

٧٥٤

سورة الزّلزلة

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

(بِسْمِ اللهِ) كلمة من تأمّلها بمعانيها ووقف على ما أودع فيها رتعت أسراره في رياض من الأنس مونقة ، وأينعت أفكاره بلوائح من اليقين مشرقة ، فهى على جلال الحقّ شاهدة ، وهي على ما يحيط به الذّكر ويأتى عليه الحصر زائدة.

قوله جل ذكره : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢))

أي : أمواتها ، وما فيها من الكنوز والدفائن.

(وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها)؟

يعنى الكافر الذي لا يؤمن بها أي بالبعث (١).

(يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها)

يومئذ تخبّر الأرض :

(بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها)

أي : إنما تفعل ذلك بأمر الله.

__________________

(١) روى الضحاك عن ابن عباس أنه قال : «هو الأسود بن عبد الأسد» ويرى بعض المفسرين : أن الإنسان هنا هو كل إنسان من مؤمن وكافر لأن الجميع لا يعلمون أشراط الساعة في ابتداء أمرها إلى أن يتحققوا عمومها ، ولذا يسأل بعضهم بعضا.

أمّا القشيري فقد نظر إليها من ناحية الاعتراف وجعل من يسأل عنها كافرا بها جاحدا لها. أمّا المؤمن فلا حاجة له في السؤال.

٧٥٥

(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا) (١)

(أَشْتاتاً) : متفرّقين. (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) ليحاسبوا.

قوله جل ذكره : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)

فيقاسى عناءه.

__________________

(١) هذه قراءة العامة. وقرأ الحسن والزهري وقتادة والأعرج وابن عاصم وطلحة بفتحها : (لِيُرَوْا).

٧٥٦

سورة العاديات

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

(بِسْمِ اللهِ) كلمة غيور لا يصلح لذكرها إلّا لسان مصون (١) ، عن اللّغو والغيبة ، ولا يصلح لمعرفتها إلّا قلب محروس عن الغفلة والغيبة (٢) ، ولا يصلح لمحبتها إلّا روح محفوظة عن العلاقة والحجبة.

قوله جل ذكره : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١))

(الْعادِياتِ) : الخيل التي تعدو (٣).

(ضَبْحاً) أي إذا ضبحن ضبحا ، والضبح : هو صوت أجوافها إذا عدون. ويقال : ضبحها هو شدة نفسها عند العدو.

وقيل : (الْعادِياتِ) ؛ الإبل (٤).

وقيل : أقسم الله بأفراس الغزاة (٥).

(فَالْمُورِياتِ قَدْحاً)

تورى بحوافرها النار إذا عدت وأصابت سنابكها الحجارة بالليل.

__________________

(١) من هذا الموضع تبدأ النسخة ص بعد البياض والسقوط اللذين أشرنا إليهما من قبل.

(٢) الغيبة المتصلة باللسان هي الكلام في حقّ الغائب ، والغيبة المتصلة بالقلب هي ورود وارد من أي نوع يعطّل الاتجاه الكامل نحو المحبوب ، كالتفكير في الثواب أو الخوف من العقاب ، أو الطمع في الأعواض ، أو استعجال شىء .. ونحو ذلك مما يشوب كأس المحبة من غيرية ...

(٣) العدو : هو تباعد الأرجل في سرعة المشي.

(٤) هكذا في ص وهي في م (الليل) وهي خطأ في النسخ والفعل المستعمل مع الإبل هو (ضبع) فتكون (ضبحا) هنا بحاء مبدلة عن عين (القرطبي ح ٢٠ ص ١٥٦)

(٥) فى الخبر : «من لم يعرف حرمة فرس الغازى ففيه شعبة من النفاق».

٧٥٧

ويقال : الذين يورون النار بعد انصرافهم من الحرب.

ويقال : هى الأسنّة.

(فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً)

تغير على العدوّ صباحا.

(فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً)

أي : هيّجن به غبارا.

(فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً)

أي : توسّطن المكان ، أي : تتوسط الخيل بفوارسها جمع العدوّ.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ)

هذا هو جواب القسم.

(لَكَنُودٌ) : أي لكفور بالنعمة (١).

(وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ)

أي : وإنه على كنوده لشهيد

(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)

أي : وإنه لبخيل لأجل حبّ المال (٢).

قوله جل ذكره : (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ)

أي : بعث الموتى.

(وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ)

بيّن ما في القلوب من الخير والشرّ.

(إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ).

__________________

(١) روى عن ابن عباس : أن الكنود بلسان كندة وحضرموت : العاصي ، وبلسان ربيعة ومضر : الكفور ، بلسان كنانة : البخيل السيّء الملكة.

(٢) قال تعالى : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) آية ١٨٠ سورة البقرة.

٧٥٨

أفلا يعلم أن الله يجازيهم ـ ذلك اليوم ـ على ما أسلفوا ، ثم قال على الاستئناف : (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ).

ويقال في معنى الكنود (١) : هو الذي يرى ما إليه من البلوى ، ولا يرى ما هو به من النّعمى.

ويقال : هو الذي رأسه على وسادة النعمة ، وقلبه في ميدان الغفلة.

ويقال : الكنود : الذي ينسى النّعم ويعدّ المصائب.

وقوله : (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) ، يحتمل : وإنّ الله على حاله لشهيد.

__________________

(١) لعل القشيري هنا مستفيد من قول ذى النون المصري : الكنود : هو الذي إذا مسته الشر جزوع ، وإذا مسسّه الخير منوع. يجزع من البلوى ، ويمنع الشكر على النعمى.

٧٥٩

سورة القارعة

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(بِسْمِ اللهِ) كلمة إذا سمعها العاصون نسوا زلّتهم في جنب رحمته ، وإذا سمعها العابدون نسوا صولتهم في جنب إلهيته.

كلمة من سمعها ما غادرت له شغلا إلّا كفته ، ولا أمرا إلّا أصلحته ، ولا ذنبا إلّا غفرته ، ولا أربا إلّا قضته.

قوله جل ذكره : (الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢))

القارعة : اسم من أسماء القيامة ، وهي صيغة «فاعلة» من القرع ، وهو الضرب بشدّة. سمّيت قارعة لأنها تقرعهم.

(وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ)

تهويلا لها.

(يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ)

أي : المتفرّق ... وعند إعادتهم يركب بعضهم بعضا.

(وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ)

أي : كالصوف المصبوغ.

والمعنى فيه : أن أصحاب الدعاوى (١) وأرباب القوة في الدنيا يكونون ـ فى القيامة إذا

__________________

(١) هكذا في ص وهي في م (الدواعي) وهي خطأ من الناسخ ، وقد وردت صحيحة فيما بعد ؛ فالمقصود دعوى النفس.

٧٦٠