لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

سورة المزمّل

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

(بِسْمِ اللهِ) : الحادثات بالله حصلت ، فقلوب العارفين بالله عرفت ما عرفت وأرواح الصّديقين بالله ألفت من ألفت وفهوم الموحّدين بساحات جلاله وقفت ، ونفوس العابدين بالعجز عن استحقاق عبادته اتّصفت وعقول الأولين والآخرين بالعجز عن معرفة جلاله اعترفت.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢))

أي : المتزمل المتلفّف في ثيابه. وفي الخبر : أنه كان عند نزول هذه الآية عليه مرطّ من شعر ووبر ، وقالت عائشة رضى الله عنها : كان نصفه عليّ وأنا نائمة ، ونصفه على رسول الله وهو يصلّى ، وطول المرط أربعة عشر ذراعا (١).

(نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً)

قم الليل إلا قليلا ، نصفه بدل منه ؛ أي : قم نصف الليل ، وأنقص من النصف إلى الثلث أو زد على الثلث ، فكان عليه الصلاة والسلام في وجوب قيام الليل مخيّرا ما بين ثلث الليل إلى النصف وما بين النصف إلى الثلث. وكان ذلك قبل فرض الصلوات الخمس ، ثم نسخ بعد وجوبها على الأمة ـ وإن كانت بقيت واجبة على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ويقال : يا أيها المتزمّل بأعباء النبوّة ... قم الليل.

__________________

(١) معنى هذا : أن السورة مدنية وليست مكية ، لأن النبي لم يبن بعائشة إلا في المدينة.

٦٤١

ويقال : يا أيها الذي يخفى ما خصصناه به قم فأنذر ... فإنّا نصرناك (١).

ويقال : قم بنا ... يا من جعلنا الليل ليسكن فيه كلّ الناس ... قم أنت

فليسكن الكلّ ... ولتقم أنت.

ويقال : لمّا فرض عليه القيام بالليل أخبر عن نفسه لأجل أمّته وإكراما لشأنه وقدره.

وفي الخبر : «أنه ينزل كلّ ليلة إلى السماء الدنيا ...» ولا يدرى التأويل للخبر (٢) ، أو أنّ التأويل معلوم ... وإلى أن ينتهى إلى التأويل فللأحباب راحات كثيرة ، ووجوه من الإحسان موفورة.

قوله جل ذكره : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً)

ارتع بسرّك في فهمه ، وتأنّ بلسانك في قراءته.

(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)

قيل : هو القرآن. وقيل : كلمة لا إله إلا الله.

ويقال : الوحى ؛ وسمّاه ثقيلا أي خفيفا على اللسان ثقيلا في الميزان.

ويقال : ثقيل أي : له وزن وخطر. وفي الخبر : كان إذا نزل عليه القرآن ـ وهو على ناقته ـ وضعت جرانها (٣) ، ولا تكاد تتحرك حتى يسرّى عنه.

وروى ابن عباس : أنّ سورة الأنعام نزلت مرة واحدة فبركت ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ثقل القرآن وهيبته.

ويقال (ثَقِيلاً) سماعه على من جحده

__________________

(١) هذان تخريجان مجازيان للفظة (المزمل).

(٢) هذا الخبر فعلا كان موضع نظر ؛ فقد روى عن طريقين عن أبى هريرة على الشك ، ففى صحيح مسلم عن أبى هريرة قال : قال رسول الله (ص) : «إذا مضى شطر الليل ـ أو ثلثاه ينزل الله عزوجل إلى سماء الدنيا» وفي رواية أخرى : «ينزل الله عزوجل إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضى ثلث الليل الأول فيقول : أنا الملك ، أنا الملك من ذا الذي يدعونى فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألنى فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرنى فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يضىء الفجر». وخرجه ابن ماجه من حديث ابن شهاب عن أبى سلمة عن أبى هريرة أن الرسول (ص) قال : «ينزل ربنا تبارك وتعالى حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول ...» وهكذا انتظم الحديث والقرآن.

(٣) أي : صدرها.

٦٤٢

ويقال : «ثقيلا بعبئه ـ إلّا على من أيّد بقوة سماوية ، وربّى في حجر التقريب»

قوله جل ذكره : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦))

أي : ساعات الليل ، فكلّ ساعة تحدث فهى ناشئة (١) ، وهي أشد وطئا أي : موطّأة أي : هى أشدّ موافقة للسان والقلب ، وأشدّ نشاطا.

ويحتمل : هى أشدّ وأغلظ على الإنسان من القيام بالنهار.

(وَأَقْوَمُ قِيلاً) أي : أبين قولا.

ويقال : هى أشدّ مواطأة للقلب وأقوم قيلا لأنها أبعد من الرياء ، ويكون فيها حضور القلب وسكون السّرّ أبلغ وأتمّ.

قوله جل ذكره : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً)

أي : سبحا في أعمالك ، والسبح : الذهاب والسرعة ، ومنه السباحة في الماء.

فالمعنى : مذاهبك في النهار فيما يشغلك كثيرة ـ والليل أخلى لك.

قوله جل ذكره : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً)

أي : انقطع إليه انقطاعا تاما.

(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً)

الوكيل من توكل إليه الأمور ؛ أي : توكّل عليه وكل أمورك إليه ، وثق به.

ويقال : إنك إذا اتخذت من المخلوقين وكيلا اختزلوا مالك وطالبوك بالأجرة ، وإذا اتخذتني وكيلا أوفّر عليك مالك وأعطيك الأجر.

__________________

(١) قال ابن مسعود : الحبشة يقولون : نشأ أي قام.

فكأن ناشئة الليل مصدر بمعنى قيام الليل ... مثل خاطئة وكاذبة ... فإذا افترضنا أنها كلمة شائعة الاستعمال عند الحبشة بهذا المعنى فإنها ذات أصل عربى أيضا.

٦٤٣

ويقال : وكيلك ينفق عليك من مالك ، وأنا أرزقك وأنفق عليك من مالى.

ويقال : وكيلك من هو في القدر دونك ، وأنت تترفّع أن تكلّمه كثيرا ... وأنا ربّك وسيّدك وأحبّ أن تكلمنى وأكلّمك.

قوله جل ذكره : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠))

الهجر الجميل : أن تعاشرهم بظاهرك وتباينهم بسرّك وقلبك.

ويقال : الهجر الجميل ما يكون لحقّ ربّك لا لحظّ نفسك.

ويقال : الهجر الجميل ألا تكلّمهم ، وتكلمنى لأجلهم بالدعاء لهم.

وهذه الآية منسوخة بآية القتال (١).

قوله جل ذكره : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً)

أي : أولى التّنعّم (٢) ، وأنظرهم قليلا ، ولا تهتم بشأنهم ، فإنى أكفيك أمرهم.

قوله جل ذكره : (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً)

ثم ذكر وصف القيامة فقال :

(يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً).

__________________

(١) قال قتادة : كان هذا قبل الأمر بالقتال ، ثم أمر بعد بقتالهم وقتلهم فنسخت آية القتال ما كان قبلها من الترك. (القرطبي) ح ١٩ ص ٤٥).

(٢) هم صناديد قريش ، ورؤساء مكة من المستهزئين.

وقال يحيى بنى سلام : إنهم بنو المغيرة.

وقالت عائشة : لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسيرا حتى وقعت وقعة بدر.

٦٤٤

ثم قال :

(إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهداً عليكم كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً)

يعنى : أرسلنا إليكم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاهدا عليكم (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً) ، (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) ثقيلا.

(فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً) من هوله يصير الولدان شيبا ـ وهذا على ضرب المثل.

(السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) أي بذلك : اليوم لهوله (١).

ويقال : منفطر بالله أي : بأمره.

(كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) : فما وعد الله سيصدقه.

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) : يعنى : هذه السورة ، أو هذه الآيات موعظة ؛ فمن اتعظ بها سعد.

(إِنَّ رَبَّكَ) يا محمد (يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) من المؤمنين.

(وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) فهو خالقهما (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) وتطيعوه.

(فَتابَ عَلَيْكُمْ) أي : خفّف عنكم (٢) ، (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) من خمس آيات إلى مازاد. ويقال : من عشر آيات إلى ما يزيد (٣).

__________________

(١) هكذا في م وهي في ص (لقوله) والصواب ؛ ما جاء في م كما هو واضح من السياق.

(٢) كان الرجل لا يدرى متى نصف الليل من ثلثه فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطىء فانتفخت أقدامهم ، وانتقعت ألوانهم ، فرحمهم‌الله وخفف عنهم (مقاتل).

(٣) قال الحسن : من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن ، وقال كعب : كتب من القانتين.

وفي حديث مسند عن عبد الله بن عمرو : أن النبي (ص) قال : «من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين (ـ أعطى من الأجر قنطارا)» خرّجه أبو داود الطيالسي في مسنده.

٦٤٥

(عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ) يسافرون ، ويعلم أصحاب الأعذار ، فنسخ عنهم قيام الليل.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) المفروضة.

(وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) مضى معناه.

(وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ) أي : ما تقدّموا من طاعة تجدوها عند الله ثوابا هو خير لكم من كلّ متاع الدنيا.

٦٤٦

سورة المدّثر

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

(بِسْمِ اللهِ) كلمة سماعها نزهة قلوب الفقراء ، كلمة سماعها بهجة أسرار الضعفاء ، راحة أرواح الأحبّاء ، قوة قلوب الأولياء ، سلوة صدور الأصفياء ، قرّة عيون أهل البلاء.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ، قُمْ فَأَنْذِرْ)

يا أيها المتدثر بثوبه.

وهذه السورة من أول ما أنزل من القرآن. قيل : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذهب إلى حراء قبل النّبوة ، فبدا له جبريل في الهواء ، فرجع الرسول إلى بيت خديجة وهو يقول «دثّرونى دثّرونى» فدثّر بثوب فنزل عليه جبريل وقال : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ، قُمْ فَأَنْذِرْ) (١).

وقيل : أيها الطالب صرف الأذى عنك بالدثار اطلبه بالإنذار.

ويقال : قم بنا ، وأسقط عنك ما سوانا ، وأنذر عبادنا ؛ فلقد أقمناك بأشرف المواقف ، ووقفناك بأعلى المقامات.

ويقال : لمّا سكن إلى قوله : (قُمْ) وقام قطع سرّه عن السّكون إلى قيامه ، ومن الطمأنينة في قيامه.

قوله جل ذكره : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ).

__________________

(١) حدّث جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله (ص) : جاورت بحراء شهرا ، فلما قضيت جوارى نزلت فاستبطنت بطن الوادي ، فنوديت ، فنظرت أمامى وخلفى وعن يمينى وعن شمالى فلم أر أحدا ، ثم نوديت فنظرت فلم أر أحدا ، ثم نوديت فرفعت رأسى فإذا جبريل على عرش في الهواء فأخذتنى رجفة شديدة فأتيت خديجة فقلت : دثرونى. فصبوا على ماء. رواه البخاري بهذه النهاية : دثرونى وصبوا على ماء باردا فدثرونى وصبوا عليّ ماء باردا فنزلت : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ).

٦٤٧

كبّره عن كلّ طلب ، ووصل وفصل ، وعلّة وخلق.

(وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ)

طهّر قلبك عن الخلائق أجمع ، وعن كلّ صفة مذمومة.

وطهّر نفسك عن الزّلّات ، وقلبك عن المخالفات ، وسرّك عن الالتفاتات.

ويقال : أهلك طهّرهم بالوعظ ؛ قال تعالى : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ) (١) ، فيعبر عنهن ـ أحيانا ـ بالثياب والّلباس.

قوله جل ذكره : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)

أي : المعاصي. ويقال : الشيطان. ويقال : طهّر قلبك من الخطايا وأشغال الدنيا.

ويقال : من لا يصحّ جسمه لا يجد شهوة الطعام كذلك من لا يصحّ قلبه لا يجد حلاوة الطاعة.

(وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ)

لا تعط عطاء تطلب به زيادة على ما تعطيه.

ويقال : لا تستكثر الطاعة من نفسك.

ويقال : لا تمنن بعملك فتستكثر عملك ، وتعجب به.

(وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ)

أي : أنت تؤذى في الله. فاصبر على مقاساة أذاهم.

قوله جل ذكره : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠))

يعنى : إذا قامت القيامة ، فذلك يوم عسير على الكافرين غير هيّن.

قوله جل ذكره : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً).

__________________

(١) آية ١٨٧ سورة البقرة.

٦٤٨

أي : لا تهتم بشأنهم ، ولا تحتفل ؛ فإنّى أكفيك أمرهم.

إنّى خلقته وحدي ؛ لم يشاركنى في خلقى إيّاه أحد.

ويحتمل : خلقته وحده لا ناصر له.

قوله جل ذكره : (وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً)

حضورا معه لا يحتاجون إلى السّفر.

(وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً)

أراد : تسهيل التصرّف ، أي : مكّنته من التصرّف في الأمور (١).

(ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ)

يطمع أن أزيده في النعمة :

(كَلَّا ، إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً)

جحودا.

(سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً)

سأحمله على مشقّة من العذاب.

(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩))

أي : لعن كيف فكّر ، وكيف قدّر ، ويعنى به : الوليد بن المغيرة (٢) الذي قال في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّه ليس بشاعر ولا بمجنون ولا بكذّاب ، وإنه ليس إلا ساحر ، وما يأتى به ليس إلا سحر يروى :

__________________

(١) واضح من هذا أن القشيري يؤمن بحرية الإنسان ، وأن الجبرية عنده ليست مطلقة.

(٢) كان الوليد يدعى ريحانة قريش فلما سمعت منه واصفا القرآن : «والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمن ، وإن أسفله لمغدق ...» قالت قريش : صبأ الوليد لتصبون قريش كلها ، فلما ذهب إليه أبو جهل ليتحرى. قال له بعد أن فنّد مزاعمهم : ما هو إلا ساحر! أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟

٦٤٩

(لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠))

(١) لا تبقى لحما ، ولا تذر عظما ، تحرق بشرة الوجه وتسوّدها ، من لاحته الشمس ولوّحته.

(عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ)

قال المشركون : نحن جمع كثير ... فما يفعل بنا تسعة عشر؟! فأنزل الله سبحانه :

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ)

فيزداد المؤمنون إيمانا ، ويقول هؤلاء : أي فائدة في هذا القدر؟ فقال تعالى :

(كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ).

ثم قال :

(وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ).

أي : تقاصرت علوم الخلق فلم تتعلّق إلا بمقدار دون مقدار ، والذي أحاط بكل شىء علما. هو الله ـ سبحانه.

__________________

(١) بسر أي كلح وجهه وتغير لونه.

٦٥٠

(كَلَّا وَالْقَمَرِ)

كلّا ـ حرف ردع وتنبيه ؛ أي : ارتدعوا عما أنتم عليه ، وانتبهوا لغيره

وأقسم بهذه الأشياء (كَلَّا وَالْقَمَرِ) : أي بالقمر ، أو بقدرته على القمر.

وبالليل إذا أدبر ... وقرىء «ودبر» أي : مضى ، (وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) أي : تجلّى

(إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ).

أي : النار لإحدى الدواهي الكبر.

ويقال في (كَلَّا وَالْقَمَرِ) إشارة إلى أقمار العلوم إذا أخذ هلالها في الزيادة بزيادة البراهين ، فإنها تزداد ، ثم إذا صارت إلى حدّ التمام في العلم وبلغت الغاية تبدو أعلام المعرفة ، فالعلم يأخذ فى النقصان ، وتطلع شمس المعرفة ، فكما أنه إذا قرب القمر من الشمس يزداد نقصانه حتى إذا قرب من الشمس تماما صار محاقا ـ كذلك إذا ظهر سلطان العرفان تأخذ أقمار العلوم فى النقصان لزيادة المعارف ؛ كالسراج في ضوء الشمس وضياء النهار. (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) أي إذا انكشفت ظلم البواطن ، (وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) وتجلّت أنوار الحقائق في السرائر ... إنها لإحدى العظائم! وذلك من باب التخويف من عودة الظّلم إلى القلوب (١).

(نَذِيراً لِلْبَشَرِ) فى هذا تحذير من الشواغل التي هي قواطع عن الحقيقة ، فيحذروا المساكنة والملاحظة إلى الطاعات والموافقات ... فإنّها ـ فى الحقيقة ـ لا خطر لها (٢).

(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) عن الطاعات ... وهذا على جهة التهديد.

قوله جل ذكره : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)

أي : مرتهنة بما عملت ، ثم استثنى :

(إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ).

__________________

(١) من خصائص أسلوب القشيري ـ كما أوضحنا ذلك في كتابنا عنه ـ أنه كثيرا ما يستعين بمظاهر الطبيعة : الليل والنهار ـ والقمر والشمس والجبال والمطر والبحار وغير ذلك كى يوضح عن طريق ذلك دقائق العلم الصوفي.

(٢) يقصد أن نظرة الإنسان إلى عمله ، وإعطاء هذا العمل قيمة ... من قبيل دعوى النفس ... المهم في الطريق فضل الله واجتباه الله.

٦٥١

فقال : إنهم غير مرتهنين بأعمالهم ، ويقال : هم الذين قال الله تعالى في شأنهم : «هؤلاء فى الجنة ولا أبالى»!.

وقيل : أطفال للمؤمنين (١).

(فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦))

هؤلاء يتساءلون عن المجرمين ، ويقولون لأهل النار إذا حصل لهم إشراف عليهم : ما سلككم في سقر؟ قالوا : ألم نك من المصلين؟ ألم نك نطعم المسكين؟.

وهذا يدل على أنّ الكفار مخاطبون بتفصيل الشرائع.

(وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) : نشرع في الباطل ، ونكذّب بيوم الدين.

(حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ)

وهو معاينة القيامة.

(فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ)

أي : لا تنالهم شفاعة من يشفع.

(فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (٢)

والتذكرة : القرآن :

(كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ).

__________________

(١) قال ابن عباس : هم الملائكة. وقال على بن أبى طالب : هم أولاد المؤمنين لم يكتسبوا فيرتهنوا بكسبهم. وقال الضحاك : الذين سبقت لهم من الله الحسنى. وقال مقاتل : هم الذين كانوا على يمين آدم يوم الذر. والله أعلم.

(٢) معرضين منصوب على الحال من الهاء والميم في (لهم) ، وفي اللام معنى الفعل فانتصاب الحال على معنى الفعل.

٦٥٢

كأنهم حمر نافرة فرّت من أسد (١)

(بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً)

بل يريد كلّ منهم أن يعطى كتابا منشورا.

(كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ)

أي : كلّا لا يعطون ما يتمنّون لأنهم لا يخافون الآخرة.

(كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ)

إلّا أن يشاء الله ـ لا أن تشاءوا

(هُوَ أَهْلُ التَّقْوى).

أهل لأن يتّقى.

(وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ).

وأهل لأن يغفر لمن يتّقى ـ إن شاء.

__________________

(١) القسورة بلسان العرب : الأسد ، أو أول الليل ، أو الشديد. وبلسان الحبشة : الرماة.

٦٥٣

سورة القيامة

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(بِسْمِ اللهِ) كلمة عزيزة من سمعها بشاهد العلم استبصر ، ومن سمعها بشاهد المعرفة تحيّر .. فالعلماء في سكون برهانه ، والعارفون في دهش سلطانه .. أولئك في نجوم علومهم ، فأحوالهم صحو في صحو ، وهؤلاء في شموس معارفهم : فأوقاتهم محو في محو .. فشتان ما هما!!

قوله جل ذكره : (لا أقسم بيوم القيامة)

أي : أقسم بيوم القيامة

(وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)

أي : أقسم بالنفس اللّوّامة ، وهي النّفس التي تلوم صاحبها ، وتعرف نقصان حالها.

ويقال : غدا .. كلّ نفس تلوم نفسها : إمّا على كفرها ، وإمّا على تقصيرها ـ وعلى هذا فالقسم يكون بإضمار «الرّب» أي : أقسم بربّ النفس اللوامة. وليس للوم النّفس في القيامة خطر ـ وإن حمل على الكلّ (١) ولكنّ الفائدة فيه بيان أنّ كلّ النفوس غدا ـ ستكون على هذه الجملة. وجواب القسم قوله : بلى ...

قوله جل ذكره : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ؟)

أيظن أنّا لن نبعثه بعد موته؟

(بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ)

(قادِرِينَ) نصب على الحال ؛ أي بلى ، نسوى بنانه في الوقت قادرين ، ونقدر أي نجعل

__________________

(١) هكذا في م وهي الصواب أما في ص فهى (الاكل) وهي خطأ قطعا.

٦٥٤

أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخفّ البعير وظلف الشاة ... فكيف لا نقدر على إعادته؟!

(بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥))

يقدّم الزّلّة ويؤخر التوبة. ويقول : سوف أتوب ، ثم يموت ولا يتوب. ويقال : يعزم (١) على ألا يستكثر من معاصيه في مستأنف (٢) وقته ، وبهذا لا تنحلّ ـ فى الوقت ـ عقدة الإصرار من قلبه ، وبذلك لا تصحّ توبته ؛ لأن التوبة من شرطها العزم على ألا يعود إلى مثل ما عمل. فإذا كان استحلاء الزلّة في قلبه ، ويفكر في الرجوع إلى مثلها ـ فلا تصح ندامته.

قوله جل ذكره : (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ)

على جهة الاستبعاد ، فقال تعالى :

(فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ)

«برق» بكسر الراء معناها تحيّر ، «وبرق» بفتح الراء شخص (فلا يطرف) من البريق ، وذلك حين يقاد إلى جهنم بسبعين ألف سلسلة ، كل سلسلة بيد سبعين ألف ملك ، لها زفير وشهيق ، فلا يبقى ملك ولا رسول إلّا وهو يقول : نفسى نفسى! (وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) كأنهما ثوران عقيران (٣).

ويقال : يجمع بينهما في ألّا نور لهما.

__________________

(١) هكذا في م وهي الصواب أما في ص فهى (يزعم) وهي خطأ قطعا بدليل ما بعدها .. من شرطها (العزم)

(٢) أي : فى المستقبل.

(٣) قال ابن عباس وابن مسعود : جمع بينهما أي قرن بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مكورين مظلمين مقرنين كأنهما ثوران عقيران.

وفي مسند أبى داود الطيالسي عن يزيد الرقاشي عن أنس يرفعه إلى النبي (ص) قال : قال رسول الله ص «إن الشمس والقمر ثوران عقيران في النار».

٦٥٥

يقول الإنسان يومئذ أين المفر؟ والمفرّ موضع الفرار إليه ، فيقال لهم :

(كَلَّا لا وَزَرَ)

اليوم ، ولا مهرب من قضاء الله (١).

(إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ)

أي : لا محيد عن حكمه.

(يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ)

أي : يعرف ما أسلفه (٢) من ذنوب أحصاها الله ـ وإن كان العبد نسيها.

(بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ)

للإنسان على نفسه دليل علامة وشاهد ؛ فأعضاؤه تشهد عليه بما عمله.

ويقال : هو بصيرة وحجّة على نفسه في إنكار البعث.

ويقال : إنه يعلم أنه كان جاحدا كافرا ، ولو أتى بكلّ حجة فلن تسمع منه ولن تنفعه.

قوله جل ذكره : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨))

لا تستعجل في تلقّف القرآن على جبريل ، فإنّ علينا جمعه في قلبك وحفظه ، وكذلك علينا تيسير قراءته على لسانك ، فإذا قرأناه أي : جمعناه في قلبك وحفظك فاتبع بإقرائك جمعه.

(ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ)

نبيّن لك ما فيه من أحكام الحلال والحرام وغيرها. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستعجل في التلقف مخافة النسيان ، فنهى عن ذلك ، وضمن الله له التيسير والتسهيل.

__________________

(١) الوزر في اللغة ما يلجأ إليه من حصن أو جبل أو نحوهما : قال الشاعر :

لعمرى ما للفتى من وزر

من الموت يدركه والكبر

(٢) هكذا في م وهي في ص (أسفله) وهي خطأ من الناسخ.

٦٥٦

قوله جل ذكره : (كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١))

أي : إنما يحملهم على التكذيب للقيامة والنشر أنهم يحبون العاجلة في الدنيا ، أي : يحبون البقاء في الدنيا.

(وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) : أي : تتركون العمل للآخرة. ويقال : تكفرون بها.

قوله جل ذكره : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ناضِرَةٌ) :

أي مشرقة حسنة ، وهي مشرقة لأنها (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) أي رائية لله. والنظر المقرون ب (إِلى) مضافا إلى الوجه (١) لا يكون إلّا الرؤية ، فالله تعالى يخلق الرؤية فى وجوههم في الجنة على قلب العادة ، فالوجوه ناظرة إلى الله تعالى.

ويقال : العين من جملة الوجه (فاسم الوجه) (٢) يتناوله.

ويقال : الوجه لا ينظر ولكنّ العين في الوجه هي التي تنظر ؛ كما أنّ النهر لا يجرى ولكنّ الماء في النهر هو الذي يجرى ، قال تعالى : (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ).

ويقال : فى قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) دليل على أنهم بصفة الصحو ، ولا تتداخلهم حيرة ولا دهش ؛ فالنضرة من أمارات البسط لأن البقاء في حال اللقاء أتمّ من اللقاء.

والرؤية عند أهل التحقيق تقتضى بقاء الرائي ، وعندهم استهلاك العبد في وجود الحقّ أتمّ ؛ فالذين أشاروا إلى الوجود رأوا الوجود أعلى من الرؤية.

قوله جل ذكره : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥))

__________________

(١) (مضافا إلى) معناها (منسوبا إلى).

(٢) ما بين القوسين وارد في ص ولم يرد في م وهو هام في توضيح السياق.

٦٥٧

(باسِرَةٌ) : أي كالحة عابسة. (فاقِرَةٌ) أي : داهية (١) وهي بقاؤهم في النار على التأييد. (تظن أن يخلق في وجوههم النظر) (٢).

ويحتمل أن يكون معنى (تَظُنُّ) : أي يخلق ظنّا في قلوبهم يظهر أثره على وجوههم.

(كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ وَقِيلَ مَنْ راقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ)

أي ليس الأمر على ما يظنون ؛ بل إذا بلغت نفوسهم التراقيّ (٣) ، وقيل : من راق؟

أي يقول من حوله : هل أحد يرقيه؟ هل طبيب يداويه؟ هل دواء يشفيه؟ (٤).

ويقال : من حوله من الملائكة يقولون : من الذي يرقى بروحه ؛ أملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب؟.

(وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ) : وعلم الميت أنه الموت!.

(وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) : ساقا الميت. فتقترن شدّة آخر الدنيا بشدّة أوّل الآخرة.

(إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) أي الملائكة يسوقون روحه إلى الله حيث يأمرهم بأن يحملوها إليه : إمّا إلى عليين ثم لها تفاوت درجات ، وإمّا إلى سجّين ـ ولها تفاوت دركات.

ويقال : الناس يكفّنون بدن الميت ويغسلونه ويصلّون عليه .. والحقّ سبحانه يلبس روحه ما تستحق من الحلل ، ويغسله بماء الرحمة ، ويصلى عليه وملائكته.

قوله جل ذكره : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢))

__________________

(١) الفاقرة لها معان كثيرة منها : الداهية ، والأمر العظيم ، والشر ، والهلاك ، ودخول النار. وهي فى الأصل : الوسم على أنف البعير بحديدة أو نار حتى يخلص إلى العظم.

(٢) العبارة هكذا في م أما في ص فهي (... الظن) بدلا من (النظر) ، ويمكن قبول عبارة م على أساس ن (النظر) أمر عظيم ـ وهو أحد معاني (الفاقرة) كما قلنا .. ولكننا نرجح ـ واللّه أعلم ـ أن العبارة ربما كانت في الأصل على هذا النحو : [تظن : (أي) يخلق في وجوههم (الظن)] فحتى هذا الظن مخلوق في وجوههم من قبل اللّه .. وربما يتأيد ما ذهبنا إليه بما جاء بعدها مباشرة.

(٣) جمع (ترقوة) : العظام التي تكتنف مقدم الحلق من أعلى الصدر ، وهي موضع الحشرجة.

(٤) معروف ألا رقية ولا دواء للموت ... ولكنهم يتساءلون هكذا على وجه التحير عند الإشفاء على الموت

٦٥٨

يعنى : الكافر ما صدّق اللّه ولا صلّى له ، ولكن كذّب وتولّى عن الإيمان. وتدل الآية على أنّ الكفار مخاطبون بتفصيل الشرائع.

(ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى)

أي : يتبختر ويختال.

(أَوْلى لَكَ فَأَوْلى)

العرب إذا دعت على أحد بالمكروه قالوا : أولى لك! وهنا أتبع اللفظ اللفظ على سبيل المبالغة.

ويقال : معناه الويل لك يوم تحيا ، والويل لك يوم تموت ، والويل لك يوم تبعث ، والويل لك يوم تدخل النار (١).

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً)

مهملا لا يكلّف!؟. ليس كذلك.

(أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩))

(مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) أي تلقى في الرّحم ، ثم كان علقة أي : دما عبيطا (٢) ، فسوّى أعضاءه فى بطن أمه ، وركّب أجزاءه على ما هو عليه في الخلقة ، وجعل منه الزوجين : إن شاء خلق الذّكر ، وإن شاء خلق الأنثى ، وإن شاء كليهما.

(أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى)

أليس الذي قدر على هذا كلّه بقادر على إحياء الموتى؟ فهو استفهام في معنى التقرير (٣).

__________________

(١) فى معنى «الويل لك» تقول الخنساء :

هممت بنفسي كل الهموم

فأولى لنفسى أولى لها

سأحمل نفسى على آلة

فإما عليها وإما لها

ويقال : إن الرسول هدد أبا جهل بهاتين الآيتين .. حتى إذا كان يوم بدر ، ضرب الله عنقه وقتل شر قتله.

(٢) اللحم العبيط : الطريّ الذي لم ينضج (الوسيط).

(٣) هكذا في م وهي الصواب أما في ص فهى (التقدير) بالدال وهي خطأ.

٦٥٩

سورة الإنسان

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

(بِسْمِ اللهِ) اسم جبّار توحّد في آزاله بوصف جبروته ، وتفرّد في آباده بنعت ملكوته ؛ فأزله أبده ، وأبده أزله ، وجبروته ملكوته ، وملكوته جبروته.

أحديّ الوصف ، صمديّ الذات ، مقدّس النّعت ، واحد الجلال ، فرد التعالي ، دائم العزّ ، قديم البقاء.

قوله جل ذكره : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١))

فى التفسير : قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا له خطر ومقدار. قيل : كان آدم عليه‌السلام أربعين سنة مطروحا جسده بين مكة والطائف. ثم من صلصال أربعين سنة ، ثم من حمإ مسنون أربعين سنة ، فتمّ خلقه بعد مائة وعشرين سنة (١).

ويقال : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ...) : أي لم يأت عليه وقت إلا كان مذكورا إليّ.

ويقال : هل غفلت ساعة عن حفظك؟ هل ألقيت ـ لحظة ـ حبلك على غاربك؟ هل أخليتك ـ ساعة ـ من رعاية جديدة وحماية مزيدة.

قوله جل ذكره : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً).

__________________

(١) وزاد ابن مسعود أربعين سنة فقال : وأقام وهو من تراب أربعين سنة فتم خلقه بعد مائة وستين سنة ثم نفخ فيه الروح (حكاه الماوردي).

٦٦٠