لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

أو يرجو بيان حاله بأن يجرى على لسان مستنطق في الوقت .. كلّ هذا ترك للأدب ، والله لا يرضى بذلك من أوليائه ، بل الواجب السكون.

قوله جل ذكره : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧))

إذا اتسع رزق العبد فعلى قدر المكنة يطالب بالإعطاء والنفقة فمن قدر عليه رزقه ـ أي ضيّق ـ فلينفق مما آتاه الله أي من متاع البيت ، ومن رأس المال ـ إن لم يكن من الربح ، ومن ثمن الضيعة ـ إن لم يكن من الغلّة.

ومن ملك ما يكفيه الوقت ، ثم اهتمّ بالزيادة للغد فذلك اهتمام غير مرضيّ (١) عنه ، وصاحبه غير معان. فأمّا إذا حصل العجز بكلّ وجه ، فإن الله تعالى : لا يكلف نفسا إلّا ما آتاها ، وسيجعل الله بعد عسر يسرا. هذا من أصحاب المواعيد ـ وتصديقه على حسب الإيمان ، وذاك على قدر اليقين ـ ويقينه على حسب القسمة. وانتظار اليسر (٢) من الله صفة المتوسطين فى الأحوال ، الذين انحطّوا عن حدّ (٣) الرضا واستواء وجود السبب وفقده ، وارتقوا عن حدّ اليأس والقنوط ، وعاشوا في أفياء (٤) الرجال يعلّلون (٥) بحسن المواعيد .. وأبدا هذه حالتهم وهي كما قلنا (٦) :

إن نابك الدهر بمكروهه

قعش بتهوين تصانيفه

فعن قريب ينجلى غيمه

وتنقضى كلّ تصاريفه

__________________

(١) هكذا في ص وهي في م (مرحوم).

(٢) هكذا في م وهي في ص. (البرّ) وقد آثرنا الأولى نظرا لسياق الآية ذاتها.

(٣) هكذا في م وهي في ص (درجة) وقد آثرنا الأولى بدليل ورودها فيما بعد.

(٤) هكذا في ص ولكنها في م (إفناء) والصواب الأولى.

(٥) أي يملّلون النفس.

(٦) أي أن النص الشعرى القشيري نفسه. (انظر القشيري الشاعر في كتابنا : الإمام القشيري).

٦٠١

قوله جل ذكره : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩))

من زرع الشوك لم يجن الورد ، ومن أضاع حقّ الله لا يطاع في حظّ نفسه (١). ومن اجترأ (٢) بمخالفة أمر الله فليصبر على مقاساة عقوبة الله.

قوله جل ذكره : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ)

إنّ كتاب الله فيه تبيان لكلّ شىء .. فمن استضاء بنوره اهتدى ، ومن لجأ إلى سعة فنائه وصل من داء الجهل إلى شفائه (٣).

ومن يؤمن بالله ، ويعمل صالحا لله ، وفي الله ، فله دوام النّعمى من الله .. قال تعالى :

(قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً).

والرزق الحسن ما كان على حدّ الكفاية ؛ لا نقصان فيه تتعطّل الأمور بسببه ، ولا زيادة فيه تشغله عن الاستمتاع بما رزق لحرصه.

كذلك أرزاق القلوب. أحسنها أن يكون له من الأحوال ما يشتغل به في الوقت ؛ من غير

__________________

(١) هكذا في ص وهي أصوب مما في م (حق نفسه) فالحقوق لله والحظوظ للعبد.

(٢) هكذا في ص وهي أصوب مما في م (احترق) فسياق الآية يوحى بذلك.

(٣) أصل الجملة (وصل إلى شفائه من داء الجهل) .. ولكن حرص القشيري على التركيب الموسيقى دفعه إلى هذه الصياغة.

٦٠٢

نقصان يجعله يتعذّب بتعطّشه ، ولا تكون فيه زيادة فيكون على خطر من مغاليط لا يخرج منها إلّا بتأييد سماويّ من الله (١).

قوله جل ذكره : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢))

خلق سبع سموات ، وخلق ما خلق وهو محقّ فيما خلق وأمر ، حتى نعلم استحقاق جلاله وكمال صفاته ، وأنه أمضى فيما قضى حكما ، وأنه أحاط بكل شىء علما.

__________________

(١) رأى القشيري فى «الرزق الحسن» مفيد في دراسة الجانب النفسي عند الصوفية ، والحدود التي يبدأ عندها الصراع الداخلى ، وآفات ذلك ، وعلاجه.

٦٠٣

سورة التّحريم

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

(بِسْمِ اللهِ). اسم عزيز يمهل من عصاه ، فإذا رجع وناداه .. أجابه ولبّاه (١) فإن لم يتوسّل بصدق قدمه في ابتداء أمره ثم تنصّل بصدق ندمه في آخر عمره أوسعه غفرا (٢) ، وقبل منه عذرا ، وأكمل له ذخرا ، وأجزل له برّا.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١))

جاء في القصة : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرّم على نفسه مارية القبطية ، وفي الحال حلف ألّا يطأها شهرا

مراعاة لقلب حفصة حيث رأت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معها في يومها (٣).

وقيل : حرّم على نفسه شرب العسل لمّا قالت له زوجاته ، إنّا نشم منك ريح المغافير! ـ والمغافير صمغ في البادية كريه الرائحة ، ويقال : بقلة كريهة الرائحة ... فعاتبه الله على ذلك.

وهي صغيرة منه على مذهب من جوّز الصغائر عليه ، وترك للأولى على مذهب من لم يجوّز.

__________________

(١) هكذا في م وهي في ص (أبكاه) وهي خطأ في النسخ.

(٢) هكذا في م وهي في ص (عفوا) وهي وإن كانت مقبولة إلا أن التركيب الموسيقى يجعلنا نؤثر (غفرا).

(٣) الدارقطني عن ابن عباس عن عمر قال : دخل الرسول (ص) بأم ولده مارية في بيت حفصة وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها فقالت : تدخلها بيتي! ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هوانى عليك فقال لها : لا تذكرى هذا لعائشة فهى حرام علىّ إن قربتها.

٦٠٤

وقيل : إنه طلّق حفصة طلقة واحدة ، فأمره الله بمراجعتها ، وقال له جبريل : إنها صوّامة قوّامة وقيل : لم يطلقها ولكن همّ بتطليقها فمنعه الله عن ذلك.

وقيل : لمّا رأته حفصة مع مارية في يومها قال لها : إنّى مسرّ إليك سرّا فلا تخبري أحدا : إنّ هذا الأمر يكون بعدي لأبى بكر ولأبيك.

ولكن حفصة ذكرت هذا لعائشة ، وأوحى الله له بذلك ، فسأل النبيّ حفصة : لم أخبرت عائشة بما قلت؟.

فقالت له : ومن أخبرك بذلك؟ قال أخبرنى الله ، وعرّف حفصة بعض ما قالت ، ولم يصرّح لها بجميع ما قالت ، قال تعالى : (عَرَّفَ) (١) (بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) ، فعاتبها على بعض وأعرض عن بعض ـ على عادة الكرام.

ويقال : إن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لمّا نزلت هذه الآية كان كثيرا ما يقول : «اللهم إنى أعوذ بك من كل قاطع يقطعنى عنك».

وظاهر هذا الخطاب (٢) عتاب على أنّه مراعاة لقلب امرأته حرّم على نفسه ما أحلّ الله له.

والإشارة فيه : وجوب تقديم حقّ الله ـ سبحانه ـ على كل شىء في كل وقت.

قوله جل ذكره : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢))

أنزل الله ذلك عناية بأمره عليه‌السلام ، وتجاوزا عنه. وقيل : إنه كفّر بعتق رقبة ، وعاود مارية.

__________________

(١) وفي قراءة «عرف» بدون التشديد : أي غضب فيه وجازى عليه ، وهو كقولك لمن أساء إليك : لأعرفن لك ما فعلت أي : لأجازينّك عليه ، وجازاها النبي بأن طلقها طلقة واحدة. وكان أبو عبد الرحمن السلمى يحصب بالحجارة من يقرأها مشددة.

(٢) أي (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ ..)

٦٠٥

والله ـ سبحانه ـ أجرى سنّته بأنه إذا ساكن عبد بقلبه إلى أحد شوّش على خواصّه محلّ مساكنته غيرة على قلبه إلى أن يعاود ربّه ، ثم يكفيه ذلك ـ ولكن بعد تطويل مدة ، وأنشدوا في معناه :

إذا علّقت روحى حبيبا تعلّقت

به غير الأيام كى تسلبنّيه

وقد ألقى الله في قلب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تناسيا بينه وبين زوجاته فاعتزلهن (١) ، وما كان من حديث طلاق حفصة ، وما عاد إلى قلب أبيها ، وحديث الكفاية ، وإمساكه عن وطء مارية تسعا وعشرين ليلة ... كل ذلك غيرة من الحق عليه ، وإرادته ـ سبحانه ـ تشويش قلوبهم حتى يكون رجوعهم كلّهم إلى الله تعالى بقلوبهم.

قوله جل ذكره : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤))

عاتبهما على السير من خطرات القلب ، ثم قال : (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ ...).

(صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) من لم يكن منهم في قلبه نفاق ، مثل أبى بكر وعمر رضى الله عنهما.

وجاء : أن عمر بن الخطاب لما سمع شيئا من ذلك قال لرسول الله :

لو أمرتنى لأضربنّ عنقها! (٢)

__________________

(١) دخل عليه عمر في المشربة فإذا هو مضطجع على حصير قد أثّر في جنبه ، وبجواره قبضة من شعير وتكاد خزانته تخلو من كل شىء فبكى عمر وقال : يا نبيّ الله .. أنت رسول الله .. وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار ، فقال النبي : يا بن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟ فقال عمر : إن كان يشق عليك من أمر النساء .. فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته ، وأنا وأبو بكر والمؤمنون! ولم يزل يحدثه حتى تبسّم صلوات الله عليه وخرجا إلى الناس.

(٢) لما سمع عمر الناس بالمسجد يقولون : لقد طلق الرسول نساءه! غضب وذهب إلى بيت النبي ليعلم الأمر فذهب أولا إلى عائشة وقال : يا بنة أبى بكر أقد بلغ من شأنك أن تؤذى رسول الله؟ فقالت : يا بن الخطاب عليك بعيبتك ، فاتجه إلى حفصة وقال : والله لقد علمت أن رسول الله لايحبك ولو لا أنا لطلقك .. فبكت بكاء شديدا. وذهب إلى رسول الله قائلا : والله لئن أمر في رسول الله بضرب عنق ابنتي لفعلت.

٦٠٦

والعتاب في الآية مع عائشة وحفصة رضى الله عنهما إذ تكلمتا في أمر مارية.

ثم قال تعالى زيادة في العتاب وبيان القصة :

(عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥))

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ)

أي : فقّهوهم ، وأدّبوهم ، وادعوهم إلى طاعة الله ، وامنعوهم عن استحقاق العقوبة بإرشادهم وتعليمهم.

ودلّت الآية : على وجوب الأمر بالمعروف في الدّين للأقرب فالأقرب.

وقيل : أظهروا من أنفسكم العبادات ليتعلّموا منكم ، ويعتادوا كعادتكم.

ويقال : دلّو هم على السّنّة والجماعة.

ويقال : علّموهم الأخلاق الحسان.

ويقال : مروهم بقبول النصيحة.

(وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) : الوقود : الحطب.

ويقال : أمر الناس يصلح بحجرة أو مدرة ، فإن أصل الإنسان مدرة ، ولو أنه أقام حجرة مقام مدرة فلا غرو من فضل الله.

اللهمّ فألق فيها بدلنا حجرا وخلّصنا منها.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧))

إذا فات الوقت استفحل الأمر ، وانغلق الباب ، وسقطت الحيل .. فالواجب البدار والفرار لتصل إلى روح القرار.

٦٠٧

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ)

التوبة النصوح : هى التي لا يعقبها نقض.

ويقال : هى التي لا تراها من نفسك ، ولا ترى نجاتك بها ، وإنما تراها بربّك.

ويقال : هى أن تجد المرارة في قلبك عند ذكر الزّلّة كما كنت تجد الراحة لنفسك عند فعلها.

قوله جل ذكره : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ : رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

لا يخزى الله النبيّ بترك شفاعته ، والذين آمنوا معه بافتضاحهم بعد ما قبل فيهم شفاعته.

(نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) عبّر بذلك عن أنّ الإيمان من جميع جهاتهم.

ويقال : بأيمانهم كتاب نجاتهم : أراد نور توحيدهم ونور معرفتهم ونور إيمانهم ، وما يخصّهم الله به من الأنوار في ذلك اليوم.

(يَقُولُونَ : رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) : يستديمون التضرّع والابتهال في السؤال (١).

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩))

أمره بالملاينة في وقت الدعوة ، وقال : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٢) ثم لمّا أصرّوا ـ بعد بيان الحجّة ـ قال : (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) : لأن هذا في حال إصرارهم ، وزوال أعذارهم.

__________________

(١) هذه الإشارة موجهة إلى الصوفية من بعيد كى لا يكفوا عن التضرع والابتهال قط فإن خير العمل أدومه ؛ فالاستدامة شرط أساسى لأن الطريق الصوفي طويل وشاق.

(٢) آية ١٢٥ سورة النحل.

٦٠٨

قوله جل ذكره : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠))

لمّا سبقت لهما الفرقة يوم القسمة لم تنفعهما القربة يوم العقوبة.

قوله جل ذكره : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١))

قالوا : صغرت همّتها حيث طلبت بيتا في الجنة ، وكان من حقّها أن تطلب الكثير .. ولا كما توهّموا : فإنها قالت : ربّ ابن لى عندك ، فطلبت جوار القربة ، ولبيت في الجوار أفضل من ألف قصر في غير الجوار. ومن المعلوم أنّ العنديّة هنا عنديّة القربة والكرامة .. ولكنه على كل حال بيت له مزية على غيره ، وله خصوصية. وفي معناه أنشدوا :

إنى لأحسد جاركم لجواركم

طوبى لمن أضحى لدارك جارا

يا ليت جارك باعني من داره

شبرا لأعطيه بشبر دارا

قوله جل ذكره : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢))

ختم السورة بذكرها بعد ما ذكر امرأة فرعون ، وهما من جملة النساء ، ولمّا كثر في هذه السورة ذكر النساء أراد الله سبحانه ألّا يخلى السورة من ذكرها تخصيصا لقدرها (١)

__________________

(١) هكذا في ص وهي في م (لذكرها) والصواب ما أثبتنا. وجميل من القشيري أن يلفت نظرنا إلى هذا الملحظ ـ الذي فظن ـ والله أعلم ـ أن فيه تنبيها لنساء النبي بعرض نموذجين لامرأتين صالحتين عزفتا عن الدنيا.

٦٠٩

سورة الملك (١)

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

(بِسْمِ اللهِ) اسم من لم تتعطّر القلوب إلّا بنسيم إقباله ، ولم تتقطّر الدموع إلّا للوعة فراقه أو روح وصاله ؛ فدموعهم في كلتا الحالتين منسكبة ، وقلوبهم في عموم أحوالهم ملتهبة وعقولهم في غالب أوقاتهم منتهبة.

قوله جل ذكره : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١))

تقدّس وتعالى ، من إحسانه تواتر وتوالى ، فهو المتكّبر في جلال كبريائه ، المتجرّد فى علاء بهائه ودوام سنائه.

(بِيَدِهِ الْمُلْكُ) : بقدرته إظهار ما يريد ، وهو على كل شىء قدير.

(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)

خلق الموت والحياة ، ابتلاء للخلق ، يختبرهم ليظهر له شكرانهم وكفرانهم ، كيف يكونان عند المحنة في الصبر وعند النعمة في الشكر ـ وهو العزيز الغفور.

(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ)

__________________

(١) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشأن هذه السورة : «هى المانعة هي المنجية تنجيكم من عذاب القبر».

٦١٠

عرّفهم كمال قدرته بدلالات خلقه ، فسمك السماء وأمسكها بلا عمد ، وركّب أجزاءها غير مستعين بأحد في خلقها ، وبالنجوم زيّنها ، ومن استراق سمع الشياطين حصّنها ، وبغير تعليم معلّم أحكمها وأتقنها.

(ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ، فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) : لا ترى فيما خلق تفاوتا ينافى آثار الحكمة ولا يدل على كمال القدرة.

ويقال : ما ترى فيها تفاوتا ، فى استغنائه عن الجميع .. ما ترى فيها تفاوتا في الخلق ؛ فخلق الكثير واليسير عنده سيّان ، فلا يسهل عنده القليل ولا يشقّ عليه الكثير ؛ لأنه متنزّه عن السهولة عليه ولحوق المشقة به.

فأنعم النظر ، وكرّر السّبر والفكر .. فلن تجد فيها عيبا (١) ولا في عزّه قصورا.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥))

زيّن السماء بالكواكب والنجوم ، وزيّن قلوب أوليائه بأنواع من الأنوار والنجوم ؛ فالمؤمنون قلوبهم مزيّنة بالتصديق والإيمان ثم بالتحقيق بتأمّل البرهان ، ثم بالتوفيق لطلب البيان. والعارفون قلوبهم مزيّنة بشمس التوحيد ، وأرواحهم مزيّنة بأنوار التفريد ، وأسرارهم مزينة بآثار التجريد (٢) .. وعلى القياس : لكلّ طائفة أنوار.

(وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) : فمن النجوم ما هو للشياطين رجوم ، ومنها ما هو للاهتداء به معلوم .. فأخبر أن هذا القدر من العقوبة بواسطة الرجوم لا يكفى ، وإنما يعذّبهم مؤبّدين في السعير.

__________________

(١) هكذا في م وهي في ص (عبثا).

(٢) يميز الكلاباذى بين التفريد والتجريد فيقول (ملخصا) :

التجريد : أن يتجرد بظاهره عن الأعراض وبباطنه عن الأعواض ، يفعل ذلك لوجوب حقّ الله تعالى لا لعلة غيره ولا لسبب سواه ، ويتجرد بسره عن المقامات والأحوال التي ينازلها.

والتفريد : أن ينفرد عن الأشكال ، وينفرد في الأحوال ، ويتوحد في الأفعال ويغيب عن رؤية أحواله برؤية محوّلها ولا بأنس بأشكاله ولا يستوحش (التعرف ص ١٣٣).

٦١١

قوله جل ذكره : (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨))

أخبر : أنهم يحتجّ عليهم بإرسال الرسل ، فتقول لهم الملائكة : ألم يأتكم نذير؟

(قالُوا : بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ)

(وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ...) فأخبر أنهم لم يكن لهم سمع قبول ، فاستوجبوا العقوبة لأجله (١) ، لم يسمعوا نصيحة الناصحين ولا وعظ الواعظين ، ولا ما فيه لقلوبهم حياة.

وفي الآية للمؤمنين بشارة ؛ لأنهم يسمعون ويعقلون ما يسمعون ؛ فإنّ من سمع بالحقّ سمع كل ما يقال عن الحق من كل من يقول عن الحق ، فيحصل له الفهم لما يسمع ، لأنه إذا كان من أهل الحقائق يكون سمعه من الله وبالله وفي الله.

قوله جل ذكره : (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ)

اعترفوا بذنبهم ولكن في غير وقت الاعتراف .. فلا جرم يقال لهم : (فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ).

__________________

(١) من الآية ومن إشارتها يتضح : أن العقوبة لا تكون إلا بعد إرسال الرسل الذين يبسطون الحجة ويسقطون العذر.

٦١٢

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢))

الخشية توجب عدم القرار (١) فيكون العبد أبدا ـ لانزعاجه ـ كالحبّ على المقلى ؛ لا يقرّ ليله أو نهاره ، يتوقّع العقوبات مع مجارى الأنفاس ، وكلّما ازداد في الله طاعة ازداد لله خشية.

قوله جل ذكره : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)

خوّفهم بعلمه ، وندبهم إلى مراقبته ، لأنه يعلم السّرّ وأخفى ، ويسمع الجهر والنجوى ... ثم قال مبيّنا :

(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)

وفي كل جزء من خلقه ـ من الأعيان والآثار ـ أدلة على علمه وحكمه.

قوله جل ذكره : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)

أي إذا أردتم أن تضربوا في الأرض سهّل عليكم ذلك.

كذلك جعل النّفس ذلولا ؛ فلو طالبتها بالوفاق وجدتها مساعدة موافقة ، متابعة مسابقة ... وقد قيل في صفتها :

هى النّفس ما عوّدتها تتعود

وللدهر أيام تذمّ وتحمد

قوله جل ذكره : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ

__________________

(١) هكذا في ص وهي في م (الفراق) والصواب ما أثبتنا ـ بدليل ما بعدها.

٦١٣

فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧))

(مَنْ فِي السَّماءِ) أراد بهم الملائكة الذين يسكنون السماء ، فهم موكّلون بالعذاب.

وخوّفهم بالملائكة أن ينزلوا عليهم العقوبة من السماء ، أو يخسفوا بهم الأرض ، وكذلك خوّفهم أن يرسلوا عليهم حجارة كما أرسلوا على قوم لوط. وبيّن أنّ من كذّب قبل هؤلاء رسلهم كيف كانت عقوبتهم ، ثم زاد في البيان وقال :

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ)

أولم يروا كيف خلق الطيور على اختلاف أجناسها ، واختصاصها بالطيران لأن لها أجنحة ـ بخلاف الأجسام (١) الأخر ... من الذي يمسكهن ويحفظهن وهن يقبضن ويبسطن أجنحتهن فى الفضاء؟ وما الذي يوجبه العقل حفظ هذه الطيور أم بقية الأجسام الأخر؟.

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ)

إن أراد الرحمن بك سوءا .. فمن الذي يوسّع عليكم ما قبضه ، أو يمحو ما أثبته ، أو يقدّم ما أخّره ، أو يؤخّر ما قدّمه؟.

قوله جل ذكره : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ)

__________________

(١) هكذا في م وهي في ص (الأصنام) والصواب ما أثبتناه ، لأن المقصود المقارنة بين الطيور وغيرها من (الأجسام) بصفة عامة.

٦١٤

وخصّكم بالسمع والبصر والأفئدة ، وأنتم لا تشكرون عظيم نعمه.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

وأجاب عنه حيث قال : لا تستعجلوا العذاب ، وبيّن أنهم إذا رأوه كيف يخافون وكيف يندمون.

قوله جل ذكره : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا ...)

وإليه أمورنا ـ جملة ـ فوّضنا.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ)

من الذي يأتيكم بالماء إذا صار غائرا في الأرض لا تناله الأيدى.

وهذه الآيات جميعها على وجه الاحتجاج عليهم .. ولم يكن لواحد عن ذلك جواب.

٦١٥

سورة القلم (١)

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(بِسْمِ اللهِ) اسم كريم من شهد لطفه لم يتذلّل بعده لمخلوق ، ولم يستعن فيما نابه من ضرّ أصابه أو خير أراده بمحدث مرزوق.

إن أعطاه قابله بالشّكر ، وإن منعه استجابه بجميل الحمد (٢).

قوله جل ذكره : (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١))

(ن) قيل : الحوت الذي على ظهره الكون ، ويقال : هى الدواة.

ويقال : مفتاح اسمه ناصر واسمه نور.

ويقال : إنه أقسم بنصرة الله تعالى لعباده المؤمنين.

وأقسم بالقلم ـ وجواب القسم قوله :

(ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ)

ما أوجب لصدره من الوحشة من قول الأعداء عنه :

إنه مجنون ، أزاله عنه بنفيه ، ومحقّقا ذلك بالقسم عليه ... وهذه سنّة الله تعالى مع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فما يقوله الأعداء فيه يردّه ـ سبحانه ـ عليهم بخطابه وعنه ينفيه.

__________________

(١) هكذا في ص ، وفي م سورة ن والقلم.

(٢) يمكن أن يفيد ذلك في التمييز بين الشكر والحمد ـ كما يرى القشيري.

٦١٦

(وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) : أي غير منقوص .. لمّا سمت همّته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طلب الأعواض أثبت الله له الأجر ، فقال له : إن لك لأجرا غير منقوص ـ وإن كنت لا تريده.

ومن ذلك الأجر العظيم هذا الخلق ، فأنت لست تريد الأجر ـ وبنا لست تريد ؛ فلو لا أن خصصناك بهذا التحرّر لكنت كأمثالك في أنهم في أسر الأعواض.

قوله جل ذكره : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)

كما عرّفه الله سبحانه أخبار من قبله من الأنبياء عرّفه أنه اجتمعت فيه متفرقات أخلاقهم فقال له : إنك لعلى خلق عظيم.

ويقال : إنه عرض عليه مفاتيح الأرض فلم يقبلها ، ورقّاه ليلة المعراج ، وأراه جميع الملكة والجنة فلم يلتفت إليها ، قال تعالى : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) فما التفت يمينا ولا شمالا ، ولهذا قال تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) .. ويقال : (لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) : لا بالبلاء تنحرف ، ولا بالعطاء تنصرف ؛ احتمل صلوات الله عليه في الأذى شجّ رأسه وثغره ، وكان يقول :

«اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون». وغدا كلّ يقول : نفسى نفسى وهو صلوات الله عليه يقول : أمتى أمتى.

ويقال : علّمه محاسن الأخلاق بقوله : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (١).

سأل صلوات الله عليه جبريل : بماذا يأمرنى ربى؟ قال : يأمرك بمحاسن الأخلاق ؛ يقول لك : صل من قطعك وأعط من حرمك واعف عمّن ظلمك ، فتأدّب بهذا ؛ فأثنى عليه وقال : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).

قوله جل ذكره : (فستبصر ويبصرون بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦))

__________________

(١) آية ١٩٩ سورة الأعراف.

٦١٧

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧))

المفتون : المجنون لأنه فتن أي محن بالجنون.

(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ)

معبودك واحد فليكن مقصودك واحدا ... وإذا شهدت مقصودك واحدا فليكن مشهودك واحدا ..

(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)

من أصبح عليلا تمنّى أن يكون الناس كلّهم مرضى .. وكذا من وسم بكيّ الهجران ودّ أن يشاركه فيه من عاداه.

(وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ)

وهو الذي سقط من عيننا ، وأقميناه بالبعد عنا.

(هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ)

محجوب عنّا معذّب بخذلان الوقيعة في أوليائنا.

(مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) (١)

مهان بالشّحّ ، مسلوب التوفيق.

(مُعْتَدٍ أَثِيمٍ)

ممنوع الحياء ، مشتّت في أودية الحرمان.

(عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ)

لئيم الأصل ، عديم الفضل ، شديد الخصومة بباطله ، غير راجع في شىء من الخير إلى حاصله.

(أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)

__________________

(١) عند الجمهور ـ هو الوليد بن المغيرة ، وكان يقول لبنيه العشرة : من أسلم منكم منعته رفدى.

٦١٨

(أي : لا تطعه لأن كان ذا مال وبنين ... ثم استأنف الكلام فقال) (١) : إذا تتلى ... قابلها بالتكذيب ، وحكم أنّ القرآن من الأساطير.

(سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ)

أي سنجعل له في القيامة على أنفه نشويها لصورته كى يعرف بها.

قوله جل ذكره : (إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧))

أي امتحنّاهم (٢) .. حين دعا عليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فابتلاهم الله بالجوع ، حتى أكلوا الجيف ـ كما بلونا أصحاب الجنة ، قيل : إن رجلا من أهل اليمن كانت له جنة مثمرة وكان له ثلاثة بنين ، وكان للمساكين كل ما تعدّاه المنجل فلم يجذه من الكرم ، فإذا طرح على البساط فكل شىء سقط عن البساط فهو أيضا للمساكين ، فما أخطأه القطاف من نخله وكرمه يدعه للمساكين. وكان يجتمع منه مال ، فلما مات هو قال ورثته : إنّ هذا المال تفرّق فينا ، وليس يمكننا أن نفعل ما كان يفعله أبونا ، وأقسموا ألا يعطوا للفقراء شيئا ، فأهلك الله جنّتهم ؛ فندمو وتابوا.

وقيل : أبدلهم الله جنة حسنة ، فأقسموا ليصرمنّ جنّتهم وقت الصبح قبل أن تفطن المساكين ، ولم يقولوا : إن شاء الله :

(فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ)

أرسل عليها من السماء آفة فأحرقت ثمارهم. وأصبحت (كَالصَّرِيمِ) أي كالليل المسودّ ، فنادى بعضهم بعضا وقت الصبح : أن اغدوا على حرثكم إن أردتم الصرام ، فانطلقوا

__________________

(١) ما بين القوسين موجود في ص وغير موجود في م .. والمعنى : لا تطعه ـ مع هذه النقائص والمنالب ـ ليساره وحظه من الدنيا وكثرة أولاده.

(٢) يقصد أهل مكة حين دعا عليهم الرسول : اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف.

٦١٩

لا يرفعون أصواتهم فيما بينهم لئلا يسمعهم أحد. وقصدوا إلى الصرام (عَلى حَرْدٍ) أي : قادرين عند أنفسهم ، ويقال : على غضب منهم على المساكين.

فلمّا رأوا الجنة وقد استؤصلت قالوا : ليست هذه جنتنا!!

ثم قالوا : بل هذه جنّتنا ... ولكنّا حرمنا خيرها.

قال أوسطهم : أي أعدلهم طريقة وأحسنهم قولا :

(أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ)

أي : تستثنون وتقولون : إن شاء الله (١).

(قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ)

ثم أقبل بعضهم على بعض يتلاومون ، ويقولون :

(كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣))

قال تعالى : (كَذلِكَ الْعَذابُ) لأهل مكة (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) :

وهكذا (٢) تكون حال من له بداية حسنة ويجد التوفيق على التوالي ، ويجتنب المعاصي ، فيعوضه الله في الوقت نشاطا ، وتلوح في باطنه الأحوال. فإذا بدر منه سوء دعوى أو ترك أدب من آداب الخدمة تنسدّ عليه تلك الأحوال ويقع في قره (٣) من الأعمال. فإذا حصل منه بالعبادات إخلال ، ولبعض الفرائض إهمال ـ انقلب حاله ، وردّ من الوصال إلى البعاد ، ومن الاقتراب إلى الاغتراب عن الباب ، فصارت صفوته قسوة. وإن كان له بعد ذلك توبة ، وعلى ما سلف منه ندامة ـ فقد فات الأمر من يده ، وقلمّا يصل إلى حاله.

__________________

(١) هذا أيضا رأى مجاهد ، فجعل قول : إن شاء الله من التسبيح ، وهذه هي حقيقة تقديم المشيئة ، فهى تنزيه لله بأن لا شىء إلا بمشيئته.

(٢) هذه الإشارة موجهة إلى أرباب السلوك يقصد بها إلى التوضيح أن العبرة بالخواتيم ، وينبغى الاهتمام بهذه الفقرة كلها عند بحثنا عن «وصايا القشيرى للمريدين».

(٣) جمع أقره وهو ما اسودّ من الجلد وتقشّر.

٦٢٠