لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

قوله جل ذكره : (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ)

الحياة الدنيا معرّضة للزوال ، غير لابثة ولا ماكثة ، وهي في الحال شاغلة عن الله ، مطمعة (١) وغير مشبعة ، وتجرى على غير سنن الاستقامة كجريان لعب (٢) الصبيان ، فهى تلهى عن الصواب واستبصار الحقّ ، وهي تفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد.

(كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً).

الكفار : الزّرّاع.

هو في غاية الحسن ثم يهيج فتراه يأخذ في الجفاف ، ثم ينتهى إلى أن يتحطّم ويتكسّر.

(وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ).

لأهله من الكفّار.

(وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ).

لأهله من المؤمنين.

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ).

الدنيا حقيرة ـ وأحقر منها قدرا طالبها وأقلّ منه خطرا المزاحم فيها ، فما هي إلا جيفة ؛ وطالب الجيفة ليس له خطر. وأخس أهل الدنيا من بخل بها.

وهذه الدنيا المذمومة هي التي تشغل العبد عن الآخرة!

__________________

(١) ربما كانت ـ (مطعمة) فى الأصل ؛ فقد نبدو الدنيا ذات قيمة ولكنها في الحقيقة عديمة القيمة.

(٢) فى النسختين (لعاب) الأطفال ، ومع ذلك فقد آثرنا أن نثبت هنا (لعب) بالرغم من تحسنا لاستعمال (اللعاب) فى موضع سبق ؛ ذلك لأننا نرى إضافة اللعاب إلى الصبيان لا يزيد المعنى تأكيدا ، فاللعاب ظاهرة فسيولوجية تجرى على غير نظام ـ وهذا هو المطلوب ـ عند الكبار والصفار على حدّ سواء ، بينما إضافة اللعب إلى الصبيان تعطى المعنى المطلوب.

٥٤١

قوله جل ذكره : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ)

أي سارعوا إلى عمل يوجب لكم مغفرة من ربّكم ، وذلك العمل هو التوبة.

(وَجَنَّةٍ عَرْضُها ...) ذكر عرضها ولم يذكر طولها ؛ فالطول على ما يوافيه العرض.

(أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) : وفي هذا دليل على أنّ الجنة مخلوقة (١).

(ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

وفي ذلك ردّ على من يقول : «إن الجنة مستحقّة على الطاعات ، ويجب على الله إيصال العبد إليها» (٢) .. لأن الفضل لا يكون واجبا.

ويقال : لمّا سمعت أسرار المؤمنين (٣) هذا الخطاب (٤) ابتدرت الأرواح مقتضية المسارعة من الجوارح ، وصارت الجوارح مستجيبة للمطالبة ، مستبشرة برعاية حقوق الله ؛ لأنها علمت أن هذا الاستدعاء من جانب الحقّ سبحانه.

قوله جل ذكره : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢))

المصيبة حصلة (٥) تقع وتحصل. فيقول تعالى : لا يحصل في الأرض ولا في أنفسكم شىء

__________________

(١) هكذا أيضا يرى ابن القيم فى (اجتماع الجيوش الإسلامية ص ٥٢).

والأشاعرة والسلف يرون ذلك ويرون أن الجنة والنار مخلوقتان الآن وأنهما باقيتان.

(٢) هذا رأى المعتزلة الذين اعتبروا ذلك من مقتضيات العدل الإلهي.

(٣) هكذا في م وهي في ص (الموحدين).

(٤) هكذا في ص وهي في م (الخطاة) وواضح فيها خطأ الناسخ لأن الأمر متعلق بالفعل (سابقوا ...)

(٥) بمعنى حادث يحصل ، وهي فى (خصلة) بالخاء والصواب حصلة. (انظر ما يقوله القشيري في سورة التغابن عند (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ) على معنى : (خصل الهم خصلا وخصلة) أي وقع بلزق الهدف أو أصابه.

٥٤٢

إلا وهو مثبت في اللوح المحفوظ على الوجه الذي سبق به العلم ، وحقّ فيه الحكم ؛ فقبل أن نخلق ذلك أثبتناه في اللوح المحفوظ.

فكلّ ما حصل في الأرض من خصب أو جدب ، من سعة أو ضيق ، من فتنة أو استقامة وما حصل في النفوس من حزن أو سرور ، من حياة أو موت كلّ ذلك مثبت في اللوح المحفوظ قبل وقوعه بزمان طويل.

وفي قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) دليل على أن أكساب العباد مخلوقة لله سبحانه. وللعبد فى العلم بأنّ ما يصيبه : من بسط وراحة وغير ذلك من واردات القلوب من الله ـ أشدّ السرور وأتمّ الأنس ؛ حيث علم أنه أفرد بذلك بظهر غيب منه ، بل وهو في كنز العدم ، ولهذا قالوا :

سقيا لمعهدك الذي لو لم يكن

ما كان قلبى للصبابة معهدا (١)

قوله جل ذكره : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ)

عدم الفرحة بما آتاهم هو من صفات المتحررين من رقّ النّفس ، فقيمة الرجال تتبين بتغيّرهم ـ فمن لم يتغير بما يرد عليه ـ مما لا يريده ـ من جفاء أو مكروه أو محنة فهو كامل ، ومن لم يتغيّر بالمسارّ كما لا يتغير بالمضارّ ، ولا يسرّه الوجود كما لا يحزنه العدم ـ فهو سيّد وقته (٢).

ويقال : إذا أردت أن تعرف الرجل فاطلبه عند الموارد ؛ فالتغيّر علامة بقاء النّفس بأيّ وجه كان :

(وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ).

__________________

(١) وهكذا نرى أن الجبرية عند الصوفية ترتبط بالمحبة القديمة ، فالله البارئ الخالق للعبد من العدم .. لن يريد به إلا الخير ... وحتى لو أصاب العبد تلف ... فمرحبا به فهو تلف في سبيل المحبوب.

(٢) التغير من علامات التلوين ، والثبات في المسار والمضار ـ عند تقلب الأحوال على العارف ـ من علامات التمكين. فسادات الوقت هم أهل التمكين.

٥٤٣

فالاختيال من علامات بقاء النفس ورؤيتها (١) ، والفخر (ناتج) (٢) عن رؤية ما به يفتخر.

قوله جل ذكره : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤))

بخلوا بكتمان صفة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمروا أتباعهم بذلك ، وذلك لمّا خافوا من كساد سوقهم وبطلان رياستهم.

«ومن يتولّ .. عن الإيمان ، أو إعطاء الصّدقة (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).

والبخل ـ على لسان العلم ـ منع الواجب (٣) ، فأمّا على بيان هذه الطائفة (٤) فقد قالوا :

البخل رؤية قدر للأشياء ، والبخيل الذي يعطى عند السؤال (٥) ، وقيل : من كتب على خاتمه اسمه فهو بخيل (٦).

قوله جل ذكره : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)

أي أرسلناهم مؤيّدين بالحجج اللائحة والبراهين الواضحة ، وأزحنا العلّة لمن أراد سلوك الحجّة المثلى ، ويسّرنا السبيل على من آثر اتّباع الهدى. وأنزلنا معهم الكتب المنزّلة ، و (الْمِيزانَ) : أي الحكم بالقرآن ، واعتبار العدل والتسوية بين الناس.

(لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) : فلا يظلم أحد أحدا.

__________________

(١) هكذا في ص وهي أصوب من (زينتها) التي في م ، فرؤية النفس آفة يحذر منها أرباب الطريق ـ خاصة أهل الملامة.

(٢) إضافة من عندنا حتى يتضح السياق.

(٣) يقصد منع الزكاة المفروضة حسب علوم الشريعة.

(٤) يقصد طائفة الصوفية.

(٥) أي لا ينظر حتى يسأله سائل ، وإنما هو يعطى دائما دون انتظار لدعوة داع أو سؤال سائل.

(٦) لأنه ينبغى أن يكون مستعدا لاعضائه لغيره عند أي ظرف من الظروف ، والمقصود أن يكون في العبد إيثار الفتيان (راجع فصل الفتوة في رسالة القشيري).

٥٤٤

قوله جل ذكره : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).

(أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) : أي خلقنا الحديد.

ونصرة الله هي نصرة دينه ، ونصرة الرسول باتّباع سنّته.

(إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) : أقوى من أن ينازعه شريك ، أو يضارعه في الملك مليك ، وأعزّ من أن يحتاج إلى ناصر.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦))

أي : أرسلنا نوحا ، ومن بعده إبراهيم ، وجعلنا من نسلهما النبوّة والكتاب.

(فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ).

أي : مستجيب.

(وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ).

خرجوا عن الطاعة.

قوله جل ذكره : (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً)

أي : أرسلنا بعدهم عيسى ابن مريم.

(وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ).

بيّن أنّه لم يأمرهم بالرهبانيّة (١) بل هم الذين ابتدعوها

__________________

(١) الرهبانية هى : الفعلة المنسوبة إلى الرّهبان وهو الخائف ـ صيغة فعلان من رهب مثل خشيان من خشى ، وكانوا يفرون إلى الجبال والصحراوات ليخلصوا من الفتنة في دينهم ، ويقطعون أنفسهم عن الزواج والنسل.

٥٤٥

ثم قال :

(إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ).

هم الذين انفردوا بما عقدوه معنا (أن يقوموا بحقّنا) (١)

(فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ).

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨))

نزلت في قوم من أهل الكتاب أسلموا.

(كِفْلَيْنِ) : أي نصيبين ؛ نصيبا على الإيمان بالله ، وآخر على تصديقهم وإيمانهم بالرّسل.

قوله جل ذكره : (لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))

ومعناه : يعلم أهل الكتاب ، و «لا» صلة. أي : ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شىء من فضل الله (٢) ، فإن الفضل بيد الله. و «اليد» هنا بمعنى : القدرة ، فالفضل بقدرة الله.

__________________

(١) ما بين القوسين موجود في ص وغير موجود في م.

(٢) ونظيره قول ابن جنى فى (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) أي ليعلموا فهى مؤكدة قائمة مقام إعادة الجملة مرة أخرى. (الإتقان للسيوطى ح ١ ص ١٧١) ط الحلبي.

٥٤٦

والإشارة في هذا : اتّقوا الله بحفظ الأدب معه ، ولا تأمنوا مكره أن يسلبكم ما وهبكم من أوقاتكم. وكونوا على حذر من بغتات تقديره في تغيير ما أذاقكم من أنس محبته.

واتّبعوا السّفراء والرّسل ، وحافظوا عل اتّباعهم حتى يؤتيكم نصيبين من فضله : عصمة ونعمة ؛ فالعصمة من البقاء عنه ، والنعمة هي البقاء به.

ويقال : يؤتكم نصيبين : نصيبا من التوفيق في طلبه ، ونصيبا من التحقيق في وجوده (١)

__________________

(١) (الوجود) هنا ليس معناه (ضد العدم) بل هو أعلى درجات الشهود ، فالتواجد بداية ، والوجد واسطة والوجود نهاية (انظر الرسالة ص ٣٧).

٥٤٧

سورة المجادلة

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(بِسْمِ اللهِ) كلمة من عرفها بذل الرّوح في طلبها ـ وإن لم يحظ بوصولها ، كلمة من طلبها اكتفى بالطلب من (١) قبولها.

كلمة جبّارة لا تنظر إلى كلّ أحد ، كلمة قهّارة لا يوجد من دونها ملتحد.

كلمة منها بلاء الأحباب ـ لكن بها شفاء الأحباب.

قوله جل ذكره : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ)

لمّا صدقت (٢) فى شكواها إلى الله وأيست من استكشاف ضرّها من غير الله أنزل الله في شأنها : (قَدْ سَمِعَ اللهُ ..).

تضرّعت إلى الله ، ورفعت قصّتها إلى الله ، ونشرت غصّتها (٣) بين يدى الله ـ فنظر إليها الله ، وقال : (قَدْ سَمِعَ اللهُ).

ويقال : صارت فرجة (٤) ورخصة للمسلمين إلى القيامة في مسألة الظّهار (٥) ، وليعلم العالمون أنّ أحدا لا يخسر على الله.

وفي الخبر : أنها قالت : يا رسول الله ، إنّ أوسا تزوّجنى شابّة غنية ذات أهل ،

__________________

(١) وتقدير الكلام : اكتفى من القبول بالطلب ، أي اكتفى أن يشرف بطلبها وعلى الله إتمام الفضل بالقبول وهذا أساس هام في منهج الطالبين والسالكين.

(٢) هى خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أخى عبادة.

(٣) هكذا في ص وهي في م (قصتها) وقد آثرنا ما جاء في م لتلوين الكلام وخدمة السياق.

(٤) فى النسختين (فرحة) ولا بأس بها في المعنى ولكننا نشعر أن (فرجة) تدعم السياق على نحو آكد.

(٥) ظاهر امرأته ظهارا أي قال لها : أنت عليّ كظهر أمي ؛ أي أنت حرام.

٥٤٨

ومال كثير ، فلما كبرت سنّى (١) ، وذهب مالى ، وتفرّق أهلى جعلنى عليه كظهر أمّه ، وقد ندم وندمت ، وإنّ لى منه صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إليّ جاعوا.

فقال لها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى رواية ـ : ما أمرت بشىء في شأنك.

وفي رواية أخرى أنه قال لها : بنت عنه (أي حرمت عليه).

فترددت إلى رسول الله (ص) فى ذلك ، وشكت .. إلى أن أنزل الله حكم الظّهار.

قوله جل ذكره : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢))

قول الذين يقولون لنسائهم ـ جريا على عادة أهل الشّرك ـ أنت عليّ كظهر أمي ... هذا شىء لم يحكم الله به ؛ ولا هذا الكلام في نفسه صدق ، ولم يثبت فيه شرع ، وإنما هو زور محض وكذب صرف.

فعلم الكافة أن الحقائق بالتلبيس لا تتعزّز (٢) ؛ والسّبب إذا لم يكن صحيحا فبالمعاودة لا يثبت ؛ فالمرأة لمّا سمعت من رسول الله (ص) قوله : بنت عنه ـ كان واجبا عليها السكون والصبر ؛ ولكنّ الضرورة أنطقتها وحملتها على المعاودة ، وحصلت من ذلك مسألة : وهي أن كثيرا من الأشياء يحكم فيها ظاهر العلم بشىء ؛ ثم تغيّر الضرورة ذلك الحكم لصاحبها (٣).

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ

__________________

(١) وفي رواية : خلا سنّى ونثرت بطني ـ أي كثر ولدي.

(٢) ربما كانت في الأصل (لا تتقرر) ومع ذلك فالمعنى هكذا مقبول.

(٣) هذه غمزة رقيقة بأولئك المتشبثين بالظواهر ، ودعوة إلى التريث.

٥٤٩

يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ... (٣))

الظّهار ـ وإن لم يكن له في الحقيقة أصل ، ولا بتصحيحه نطق أو دلالة شرع ، فإنه بعد ما رفع أمره إلى الرسول (ص) ولوّح بشىء ما ، وقال فيه حكمه ، لم يخل الله ذلك من بيان ساق به شرعه ؛ فقضى فيه بما انتظم جوانب الأمر كلّه.

فارتفاع الأمر حتى وصوله إلى مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتحاكم لديه حمّل المتعدّى عناء فعلته ، وأعاد للمرأة حقّها ، وكان سبيلا لتحديد المسألة برمّتها .. وهكذا فإنّ كلّ صعب إلى زوال .. وكلّ ليلة ـ وإن طالت ـ فإلى إسفار (١).

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥))

الذين يخالفون أمر الله ويتركون طاعة رسول الله أذلّوا وخذلوا ، كما أذلّ الذين من قبلهم من الكفّار والعصاة.

وقد أجرى الله سنّته بالانتقام من أهل الإجرام ؛ فمن ضيّع للرسول سنّة ، وأحدث فى دينه بدعة انخرط في هذا السلك ، ووقع في هذا الذّلّ.

قوله جل ذكره : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦))

يقال : إذا حوسب أحد في القيامة على عمله تصور له ما فعله وتذكّره ، حتى كأنه قائم فى تلك الحالة عن بساط الزّلّة ، فيقع عليه من الخجل والنّدم ما ينسى في جنبه كلّ عقوبة.

__________________

(١) حدث تدخل من جانبنا في ترميم هذه الفقرة التي جاءت في النسختين منبهمة الكتابة والمعنى.

٥٥٠

فسبيل المسلم ألا يحوم حول مخالفة أمر مولاه ، فإن جرى المقدور ووقع في هجنة التقصير فلتكن زلّته على بال ، وليتضرع إلى الله بحسن الابتهال.

قوله جل ذكره : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧))

معيّة الحقّ ـ سبحانه ـ وإن كانت على العموم بالعلم والرواية ، وعلى الخصوص بالفضل والنصرة ـ فلهذا الخطاب في قلوب أهل المعرفة أثر عظيم ، ولهم إلى أن ينتهى الأمر بهم إلى التولّه (١) فالوله فالهيمان في غمار سماع هذا عيش راغد.

ويقال : أصحاب الكهف ـ وإن جلّت رتبتهم واختصت من بين الناس مرتبتهم ـ فالحقّ سبحانه يقول : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) (٢) ولمّا انتهى إلى هذه الآية قال : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ ...) فشتّان بين من رابعه كلبه وبين من رابعه ربّه!!

ويقال : أهل التوحيد ، وأصحاب العقول من أهل الأصول يقولون : الله واحد لا من طريق العدد (٣) ، والحقّ يقول : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ ...) ويقال : حيثما كنت فأنا معك ؛ إن كنت في المسجد فأنا معك ، وإن كنت في المصطبة فأنا معك ، إن طلب العلماء

__________________

(١) وردت التأويل في ص والتأول في م والصحيح ـ فى نظرنا ـ أن تكون التولّه ؛ فهو المنزلة التي تسبق الوله والهيمان.

(٢) آية ٢٢ سورة الكهف.

(٣) الواحد على الحقيقة ليس عددا لأن العدد هو ما بلغ نصف مجموع حاشيتيه ، وليس قبل الواحد شىء.

٥٥١

التأويل (١) وشوّشوا قلوب أولى المواجيد فلا بأس ـ فأنا معهم.

إن حضرت المسجد فأنا معك بإسباغ النعمة ولكن وعدا ، وإن أتيت المصطبة فأنا معك بالرحمة وإسبال ستر المغفرة ولكن نقدا.

هبك تباعدت وخالفتنى

تقدر أن تخرج عن لطفى؟!

قوله جل ذكره : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ)

آذوا قلوب المسلمين بما كانوا يتناجون به فيما بينهم (٢) ، ولم تكن في تناجيهم فائدة إلا قصدهم بذلك شغل قلوب المؤمنين ، ولم ينتهوا عنه لمّا نهوا عنه ، وأصرّوا على ذلك ولم ينزجروا ، فتوعّدهم الله على ذلك ، وتكون عقوبتهم بأن تتغامز الملائكة في بابهم فيما بينهم ، وحين يشاهدون ذلك تترجّم ظنونهم ، ويتعذّبون بتقسّم قلوبهم ، ثم لا ينكشف الحال لهم إلّا بما يزيدهم حزنا على حزن ، وأسفا على أسف.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩))

إنما قبح ذلك منهم وعظم الخطر لأنه تضمّن إفساد ذات البين ، وخير الأمور ما عاد بإصلاح ذات البين ، وبعكسه إذا كان الأمر بضدّه.

__________________

(١) «فإن حجج أهل هذه الطائفة أظهر من حجج كل أحد ، وقواعد مذهبهم أقوى من قواعد كل مذهب. والناس : إما أصحاب النقل والأثر ، وإما أرباب العقل والفكر ... وشيوخ هذه الطائفة ارتقوا عن هذه الجملة ؛ فالذى للناس غيب فهو لهم ظهور ، والذي للخلق من المعارف مقصود فلهم من الحق سبحانه موجود ، فهم من أهل الوصال والناس أهل الاستدلال» الرسالة القشيرية ص ١٩٨ وانظر تذكرة الحفاظ للذهبى ح ٤ ص ١٥.

(٢) كان اليهود والمنافقون يتغامزون فيما بينهم وبأينهم إغاظة للمؤمنين ، وكانوا إذا أقبلوا على الرسول قالوا له : السام عليك يا محمد ... والسام هو الموت.

٥٥٢

قوله جل ذكره : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠))

النجوى من تزيين الشيطان ليحزن الذين آمنوا. وإذا كانت المشاهدة غالبة ، والقلوب حاضرة ، والتوكل صحيحا ؛ والنظر من موضعه صائبا فلا تأثير لمثل هذه الحالات ، وإنما هذا للضعفاء.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١))

(١) لكمال رحمته بهم وتمام رأفته عليهم ، علّمهم مراعاة حسن الأدب بينهم فيما كان من أمور العادة (دون أحكام العبادة) (٢) فى التفسّح في المجالس والنظام في حال الزّحمة والكثرة ... وأعزز بأقوام أمرهم بدقائق الأشياء بعد قيامهم بأصول الدين وتحقّقهم بأركانه!

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢))

(٣) لمّا كان الإذن في النجوى مقرونا ببذل المال امتنعوا وتركوا ، وبذلك ظهرت جواهر

__________________

(١) (انشزوا) أي : انهضوا للتوسعة على المقبلين ، أو انهضوا من مجلسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أمرتم بالنهوض عنه ، أو انهضوا إلى الصلاة ، أو إلى الجهاد ، أو إلى أعمال الخير.

(٢) هذه موجودة في م وغير موجودة في ص.

(٣) رخّص بعدئذ في المناجاة من غير صدقة. وقيل : كان ذلك عشر ليال ثم نسخ. وقيل : ما كان إلا ساعة من نهار ثم نسخ .. ويحكى : أن عليا كرّم الله وجهه كان يتصدّق بدرهم كلّما ناجى الرسول ـ فى بداية الأمر ثم توقّف لمّا نسخت الآية ، وأزيلت المؤاخذة.

٥٥٣

الأخلاق ونقاوة الرجال ـ ولقد قال تعالى : (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) (١).

قوله جل ذكره : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ)

من وافق مغضوبا عليه أشرك نفسه في استحقاق غضب من هو الغضبان ؛ فمن تولّ مغضوبا عليه من قبل الله استوجب غضب الله وكفى بذلك هوانا وخسرانا.

(وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)

هذا وصف للمنافقين

(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) أي وقاية وسترا ؛ ومن استتر بجنّة طاعته لتسلم له دنياه فإنّ سهام التقدير من ورائه تكشفه من حيث لا يشعر .. فلا دينه يبقى ، ولا دنياه تسلم ، ولقد قال تعالى : (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) (٢).

قوله جل ذكره : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨))

عقوبتهم الكبرى ظنّهم أنّ ما عملوا مع الخلق يتمشّى أيضا في معاملة الحقّ ، ففرط الأجنبية وغاية الجهل أكبّتهم على مناخرهم في وهدة ندمهم.

__________________

(١) آية ٣٧ سورة محمد.

(٢) آية ١٠ سورة آل عمران.

٥٥٤

قوله جل ذكره : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩))

إذا استحوذ الشيطان على عبد أنساه ذكر الله.

والنّفس إذا استولت على إنسان أنسته الله.

ولقد خسر حزب الشيطان ، وأخسر منه من أعان نفسه ـ التي هي أعدى عدوّه ، إلّا بأن يسعى في قهرها لعله ينجو من شرّها.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠))

من أرمته شقوته لم تنعشه قوّته ، ومن قصمه التقدير لم يعصمه التدبير ، ومن استهان بالدّين انخرط في سلك الأذلّين.

قوله جل ذكره : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١))

الذي ليس له إلا التدبير ... كيف تكون له مقاومة مع التقدير؟ (١).

قوله جل ذكره : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ)

من جنح إلى منحرف عن دينه ، أو داهن مبتدعا في عهده نزع الله نور التوحيد من قلبه فهو في خيانته جائر على عقيدته ، وسيذوق قريبا وبال أمره.

(أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ).

خلق الله الإيمان في قلوب أوليائه وأثبته ، ويقال : جعل قلوبهم مطرّزة باسمه ... وأعزز بحلّة لأسرار قوم طرازها اسم «الله»!!

__________________

(١) التدبير للخلق والتقدير للحق.

٥٥٥

سورة الحشر (١)

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

(بِسْمِ اللهِ) اسم عزيز ـ الكون بجملته في طلبه .. وهو عزيز.

الشموس والأقمار والنجوم ، والليل والنهار ، وجميع ما خلق الله من الأعيان والآثار متنادية على أنفسها : نحن عبيده ... نحن عبيد من لم يزل .. نريد من لم يزل.

قوله جل ذكره : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١))

قدّس الله ونزّهه كلّ شىء خلقه ؛ فكلّ ما خلقه جعله على وحدانيته دليلا ، ولمن أراد أن يعرف إلهيته طريقا وسبيلا.

أتقن (٢) كلّ شىء وذلك دليل علمه وحكمته ، ورتّب كلّ شىء ، وذلك شاهد على مشيئته وإرادته.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ) فلا شبيه يساويه ، ولا شريك له في الملك ينازعه ويضاهيه.

(الْحَكِيمُ) الحاكم الذي لا يوجد في حكمه عيب ، ولا يتوجّه عليه عتب (٣).

قوله جل ذكره : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ)

هم أهل النضير ، وكانوا قد عاهدوا النبيّ (ص) ألّا يكونوا عليه ، ثم بعد أحد نقضوا

__________________

(١) ويسميها ابن عباس سورة النضير (البخاري ح ٣ ص ١٣٣).

(٢) هكذا في ص وهي في م (أيقن) وهي خطأ في النسخ.

(٣) هكذا في ص وهي في م (عيب) وهي خطأ في النسخ.

٥٥٦

العهد ، وبايعوا أبا سفيان وأهل مكة ، فأخبر الله تعالى رسوله بذلك ، فبعث صلوات الله عليه إليهم محمد بن مسلمة ، فأوهم أنه يشكو من الرسول في أخذ الصّدقة. وكان رئيسهم كعب ابن الأشرف فقتله محمد بن مسلمة (غيلة) ، وغزاهم (١) رسول الله (ص) وأجلاهم عن حصونهم المنيعة وأخرجهم إلى الشام ، وما كان المسلمون يتوقّعون الظّفر عليهم لكثرتهم ، ولمنعة حصونهم.

وظلّوا يهدمون دورهم بأيديهم ينقبون ليخرجوا ، ويقطعون أشجارهم ليسدوا النقب ، فسمّوا أول الحشر ، لأنهم أول من أخرج من جزيرة العرب وحشر إلى الشام.

قال جل ذكره : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ).

كيف نصر المسلمين ـ مع قلّتهم ـ عليهم ـ مع كثرتهم. وكيف لم تمنعهم حصونهم إذا كانت الدائرة عليهم. وإذا أراد الله قهر عدوّ استنوق (٢) أسده.

ومن مواضع العبرة في ذلك ما قاله : (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) بحيث داخلتكم الرّيبة فى ذلك لفرط قوّتهم ـ فصانهم بذلك عن الإعجاب.

ومن مواضع العبرة في ذلك أيضا ما قاله (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) فلم يكن كما ظنّوه ـ ومن تقوّ بمخلوق أسلمه ذلك إلى صغاره (٣) ومذلّته.

ومن الدلائل الناطقة ما ألقى في قلوبهم من الخوف والرّعب ، ثم تخريبهم بيوتهم بأيديهم علامة ضعف أحوالهم ، وبأيدى المؤمنين لقوة أحوالهم ، فتمت لهم الغلبة عليهم والاستيلاء على ديارهم وإجلاؤهم.

هذا كلّه لا بدّ أن يحصل به الاعتبار ـ والاعتبار أحد قوانين الشّرع.

ومن لم يعتبر بغيره اعتبر به غيره.

__________________

(١) حاصرهم إحدى وعشرين ليلة وأمر بقطع نخيلهم وأبى عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير واحد ما شاءوا من متاعهم فجلوا إلى أريحا وأذرعات بأرض الشام.

(٢) الألف والسين والتاء فيها للصيرورة أي صار ناقة والمقصود : تخاذل المتجبر وصغر شأنه.

(٣) الصّغار ـ الرضى بالمذلة والهوان.

٥٥٧

ويقال : يخرّبون بيوتهم بأيديهم ، وقلوبهم باتّباع شهوات نفوسهم ، ودينهم بما يمزجونه به من البدع.

قوله جل ذكره : (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣))

لو لا أن قضى الله عليهم أن يخرجوا لعذّبهم الله بالقتل والاستئصال (١) ، ثم في الآخرة لهم عذاب النار.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤))

ذلك بأنهم خالفوا أمر الله. والمشاقّة أن يتحول المرء إلى شقّ آخر.

فالعاصى إذا انتقل من المطيعين إلى العاصين فقد شاقّ الله ، ولمن شاقّ الله عذاب النار.

قوله جل ذكره : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥))

اللّينة : كلّ نوع من النخيل ما عدا العجوة والبرنيّ (٢).

لمّا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقطع بعض نخيل بنى النضير قالت اليهود : ما فائدة هذا؟!.

فبقى المسلمون عن الجواب ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ليوضّح أن ذلك بإذن الله. فانقطع الكلام.

وفي هذا دليل على أن الشريعة غير معلّلة ، وأنّ الأمر الشرعيّ إذا جاء بطل التعليل ،

__________________

(١) هكذا في ص وهي في م (الاستبصار) وهي خطأ في النسخ.

(٢) واحدته البرنيّة ، وهو نوع جيد من التمر مدوّر أحمر مشرب بصفرة. (الوسيط).

٥٥٨

وسكتت الألسنة عن المطالبة ب «لم؟» وخطور الاعتراض أو الاستقباح خروج عن حدّ العرفان. والشيوخ.

قالوا : من قال لأستاذه وشيخه (١) : «لم؟» لا يفلح. وكلّ مريد يكون لأمثال هذه الخواطر في قلبه جولان لا يجىء منه شىء. ومن لم يتجرّد قلبه من طلب التعليل ، ولم يباشر حسن الرضا بكلّ ما يجرى واستحسان ما يبدو من الغيب لسرّه وقلبه ـ فليس من الله فى شىء.

قوله جل ذكره : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦))

يريد بذلك أموال بنى النضير (٢) ، فقد كانت من جملة الفيء لا من الغنيمة ؛ فالفىء ما صار إلى المسلمين من أموال الكفّار من غير قتال ولا إيجاف خيل وركاب ، وتدخل في جملته أموالهم إذا ماتوا وصارت إلى بيت المال. والغنيمة ما كانت بقتال وإيجاف خيل وركاب. وقد خصّ رسول الله (ص) بأموال هؤلاء فقراء المهاجرين ، واستأثر لنفسه بما شاء ، فطابت نفوس الأنصار بذلك ، وشكر الله لهم. ذلك لأن تحرّر القلب من الأعواض والأملاك صفة السادة (٣) والأكابر. ومن أسرته الأخطار وبقي في شحّ نفسه فهو في تضييقه وتدنيقه ، وهو فى مصادقته ومعاملته ومطالبته مع الناس دائما يبحث في استيفاء حظوظه ـ وهذا ليس له من مذاقات هذه الطريقة (٤) شىء.

__________________

(١) لاحظ كيف يوجّه القشيري إشارته إلى المريدين ، وما ينبغى أن تكون عليه علاقتهم بشيوخهم.

(٢) عن الزهري عن مالك بن أوس عن عمر رضى الله عنه قال : كانت أموال بنى النضير مما أفاء الله على رسوله (ص) مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، فكانت لرسول الله (ص) خاصة ينفق على أهله منها نفقة سنته ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله (البخاري ح ٣ ص ١٣٣).

(٣) هكذا في ص وهي في م (السعادة) وهي خطأ من الناسخ.

(٤) يقصد طريقة الصوفية.

٥٥٩

وأهل الصفاء لم تبق عليهم من هذه الأشياء بقية ، وأمّا من بقي عليه منها شىء فمترسّم (١) سوقيّ .. لا متحقّق صوفيّ.

قوله جل ذكره : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ، وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)

هذا أصل من أصول وجوب متابعته ، ولزوم طريقته وسيرته ـ وفي العلم تفصيله.

والواجب على العبد عرض ما وقع له من الخواطر وما يكاشف به من الأحوال على العلم ـ فما لا يقبله الكتاب والسّنّة فهو في ضلال (٢).

قوله جل ذكره : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨))

يريد أن هذا الفيء لهؤلاء الفقراء الذين كانوا مقدار مائة رجل.

(يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ) وهو الرزق (وَرِضْواناً) بالثواب في الآخرة.

وينصرون دين الله ، (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) : والفقير الصادق هو الذي يترك كلّ سبب وعلاقة ، ويفرغ أوقاته لعبادة الله ، ولا يعطف (٣) بقلبه على شىء سوى الله ، ويقف مع الحقّ راضيا بجريان حكمه فيه.

__________________

(١) هكذا في م وهي في ص (متوسّم). وعلى الأول يكون المعنى أنه شخص تهمه الرسوم والأشكال ، أما باطنه وحقيقته فغير رسمه ، وعلى الثاني يكون المعنى أنه يكتفى من التصوف بالسّمة أي العلامة ؛ كالثوب مثلا .. وباطنه غير سليم. والربط بين الصفاء والتصوف ـ كما يتضح من العبارة ـ عنصر أساسى في مذهب القشيري. (انظر الرسالة باب التصوف).

(٢) نحسب أنه ليس بعد هذا مجال للتخرص بأن الصوفية يجانبون الشريعة أو يقلّلون من قدرها. فمحصول خواطرهم ، ومكاشفاتهم من خلال أحوالهم ... كل ذلك ينبغى ألا يكون مرفوضا من الشرع. ومحاولة عقد لقاء بين الحقيقة والشريعة عنصر أساسى آخر في مذهب القشيري ـ رحمه‌الله.

(٣) عطف يعطف هنا بمعنى مال وانحنى تجاه ناحية تاركا ناحية أخرى ـ وهذا هو أصل معنى اللفظة قبل أن تأخذ معانيها التوسعة.

٥٦٠