لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

طبق كبير صاف مضىء ، ووضعه فوق بركة بها ماء كثير عميق ، يرى الماء من أسفل الزجاج ولا يميّز بين الزجاج والماء ، وأمرت أن تخوض تلك البركة ، فكشفت عن ساقيها ؛ لأنها وصفت لسليمان بأنها جنّية النّسب ، وأن رجليها كحوافر الدواب ، فتقوّلوا عليها. ولمّا توهّمت أنها تخوض الماء كشفت عن ساقيها ، فرأى سليمان رجليها صحيحين. وقيل لها : (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ) : فصار ذلك أيضا سببا وموجبا ليقينها. وآمنت وتزوج بها سليمان عليه‌السلام.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥))

ذكر قصة ثمود ، وقصة نبيّهم صالح عليه‌السلام ، وما جرى بينه وبينهم من التكذيب ، وطلبهم منه معجزة ، وحديث الناقة وعقرها ، وتبرمهم بالناقة بعد أن رأوا فيها من الفعل الذي كانت لهم فيه أعظم آية .. إلى قوله :

(وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠))

ومكرهم ما أظهروا في الظاهر من موافقة صالح ، وعقرهم الناقة خفية ، وتوريك الذّنب على غير جارمه (١) ، والتبرّى من اختيارهم ذلك.

وأمّا مكر الله فهو جزاؤهم على مكرهم بإخفاء ما أراد بهم من العقوبة عنهم ، ثم إحلالها بهم بغتة. فالمكر من الله تخليته إياهم مع مكرهم بحيث لا يعصمهم ، وتزيين ذلك في أعينهم ، وتحبيب ذلك إليهم .. ولو شاء لعصمهم. ومن أليم مكره انتشار الصيت بالصلاح ، والعمل في السّرّ بخلاف ما يتوهم بهم من الصلاح ، وفي الآخرة لا يجوز في سوقها هذا النّقد! (٢).

__________________

(١) أي إلقاء الجرم على غير من اقترف الجرم.

(٢) جميل من القشيري تعبيره عن أسلوب (التعامل) بين الخلق والمخلوق مكرا بمكر بلفظة (النقد) .. وفي لآخرة لا يسرى هذا النقد ، فلا يجدى مكرهم فتيلا لأن التعامل فى (سوق) الآخرة يكون على نحو آخر.

٤١

قوله جل ذكره : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١))

أهلكهم ولم يغادر منهم أحدا : ـ

(فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)

وفي الخبر : «لو كان الظلم بيتا في الجنة لسلّط الله عليه الخراب» ؛ فالنفوس إذا ظلمت بزلاتها خربت بلحوقها شؤم الذّلة حتى يتعود صاحبها الكسل ، ويستوطن مركب الفشل ، ويحرم التوفيق ، ويتوالى عليه الخذلان وقسوة القلب وجحود العين (١) وانتفاء تعظيم الشريعة من القلب. وأصحاب القلوب إذا ظلموها بالغفلة ولم يحاولوا طردها عن قلوبهم .. خربت قلوبهم حتى تقسو بعد الرأفة ، وتجف بعد الصفوة.

فخراب النفوس باستيلاء الشهوة والهفوة ، وخراب القلوب باستيلاء الغفلة والقسوة ، وخراب الأرواح باستيلاء الحجبة والوقفة ، وخراب الأسرار باستيلاء الغيبة والوحشة (٢).

قوله جل ذكره : (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥))

ذكر قصة لوط وأمته ، وما أصرّوا عليه من الفاحشة ، وما أحلّ الله بهم من العقوبة ، وإحلال العقوبة بامرأته التي كانت تطابق القوم ، وتخليص الحقّ لوطا من بينهم ، وما كان من أمر الملائكة الذين بعثوا لإهلاكهم.

قوله جل ذكره : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩))

__________________

(١) أي لا تكون مقرا للاعتبار.

(٢) هذه إشارة هامة توضح آفات الطريق في مراحله المختلفة.

٤٢

هم الذين سلّم عليهم في آزاله وهم في كتم العدم ، وفي متناول علمه ومتعلق قدرته ، ولم يكونوا أعيانا في العدم ولا أفادوا (١) ، فلمّا أظهرهم في الوجود سلّم عليهم بذلك السلام ، ويسمعهم في الآخرة ذلك السلام. والذين سلّم عليهم هم الذين سلموا اليوم من الشكوك والشّبه ، ومن فنون البدع ، ومن وجوه الألم ، ثم من فنون الزّلل وصنوف الخلل ، ثم من الغيبة والحجبة وما ينافى دوام القربة.

ويقال اصطفاهم ، ثم هداهم ، ثم آواهم ، وسلّم عليهم قبل أن خلقهم وأبداهم ، وبعد أن سلّم عليهم بودّه لقّاهم.

ويقال : اصطفاهم بنور اليقين وحلّة الوصل وكمال العيش.

قوله جل ذكره : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠))

فثمرات الظاهر غذاء النفوس ، وثمرات الباطن والأسرار ضياء القلوب ، وكما لا تبقى في وقت الربيع من وحشة الشتاء بقية فلا يبقى في قلوبهم وأوقاتهم من الغيبة والحجبة والنفرة والتهمة شظيّة.

قوله جل ذكره : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ)

نفوس العابدين قرار طاعتهم ، وقلوب العارفين قرار معرفتهم ، وأرواح الواجدين قرار

__________________

(١) ربما يقصد القشيري أنهم ـ وقد كانوا في كتم العدم ـ لم تصدر عنهم طاعة تفيدهم في استحقاق إثابة لهم واستيجاب تسليم عليهم .. والمقصود ـ إن صحّ هذا الرأى ـ أن عمل الإنسان لا قيمة له بجانب الفضل الإلهى والقسمة السابقة.

٤٣

محبتهم ، وأسرار الموحّدين قرار مشاهدتهم (١) ، فى أسرارهم أنوار الوصلة وعيون القربة ، وبها يسكن ظلما اشتياقهم وهيجان قلقهم واحتراقهم.

(وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) من الخوف والرجاء ، والرغبة والرهبة.

ويقال (جَعَلَ لَها رَواسِيَ) اليقين والتوكل.

ويقال الرواسي في الأرض الأبدال والأولياء والأوتاد (٢) ؛ بهم يديم إمساك الأرض ، وببركاتهم يدفع عن أهلها البلاء.

ويقال الرواسي هم الأئمة الذين يهدون المسترشدين إلى الله.

قوله جل ذكره : (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

(جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) بين القلب والنفس لئلا يغلب أحدهما صاحبه.

ويقال بين العبودية وأحكامها ، والحقيقة وأحكامها ، فلو غلبت العبودية كانت جحدا للحقيقة ، ولو غلبت الحقيقة العبودية كانت طيّا للشريعة.

ويقال : ألسنة المريدين مقرّ ذكره ، وأسماعهم محلّ الإدراك الموصّل إلى الفهم ، والعيون مقر الاعتبار.

قوله جل ذكره : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ...)

فصل بين الإجابة وبين كشف السوء ؛ فالإجابة بالقول والكشف بالطّول ، الإجابة بالكلام والكشف بالإنعام. ودعاء المضطر لا حجاب له ، وكذلك دعاء المظلوم» ولكن لكلّ أجل كتاب».

__________________

(١) هكذا في م وهي في ص (مساعدتهم) ويبدو أن الهاء التبست على الناسخ ، فالمعروف أن الاسرار محل المشاهدة.

(٢) جاء في حلية الأولياء (ح ٨ ص ٣٦٧) حديث عن النبي (ص) : «خيار أمتى في كل قرن خمسمائة والأبدال أربعون فلا الخمسمائة ينقصون ولا الأبدال ، كلما مات رجل أبدل الله عزوجل من الخمسمائة مكانه وأدخل من الأربعين مكانهم).

ويرى الجرجاني : أن الأبدال سبعة (التعريفات ص ٣٧ ط مصر سنة ١٩٣٨)

ويرى ابن عساكر : أنهم ٢٢ بالشام+ ١٨ بالعراق (تاريخ دمشق لابن عساكر ح ١ ص ٢٧٨).

ويرى الهجويرى : أن الأوتاد أربعة يطوفون العالم بجملته كل ليلة (كشف المحجوب ص ٢٦٩).

٤٤

ويقال للجناية : سراية ؛ فمن كان في الجناية مختارا فليس تسلم له دعوى الاضطرار عند سراية جرمه الذي سلف منه وهو مختار فيه ، فأكثر الناس يتوهمون أنهم مضطرون ، وذلك الاضطرار سراية ما بدر منهم في حال اختيارهم.

ومادام العبد يتوهم من نفسه شيئا من الحول والحيلة ، ويرى لنفسه شيئا من الأسباب يعتمد عليه أو يستند إليه ـ فليس بمضطر ، فالمضطرّ يرى نفسه كالغريق في البحر ، أو الضّالّ فى المتاهة ، وهو يرى عنانه بيد سيّده ، وزمامه في قبضته ، فهو كالميت بين يدى غاسله ، وهو لا يرى لنفسه استحقاقا للنجاة ؛ لاعتقاده في نفسه أنه من أهل السخط ، ولا يقرأ اسمه إلا من ديوان الشقاوة (١).

ولا ينبغى للمضطر أن يستعين بأحد في أن يدعو له ؛ لأنّ الله وعد الإجابة له .. لا لمن يدعو له.

ثم كما وعد المضطرّ الإجابة وكشف السوء وعده بقوله : ـ

(... وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ).

فإنّ مع العسر يسرا ، ولم يقل : للعسر إزالة ، ولكن قال : مع العسر يسر ؛ فنهار اليسر حاصل بعد ظلام العسر.

ثم قال : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) لأنّ العبد إذا زال عسره ، وكشف عنه ضرّه نسى ما كان فيه ، وكما قال القائل :

كأنّ الفتى لم يعر يوما إذا اكتسى

ولم يك صعلوكا إذا ما تموّلا

__________________

(١) إذا اطمأن العبد لنفسه ، ولاحظ عمله فقد عنصرا هاما من عناصر السير فى هذا الطريق ، وهو الإخلاص .. وفي ذلك يقول أبو يعقوب السوسي : متى شهدوا في إخلاصهم الإخلاص احتاج إخلاصهم إلى إخلاص. ويرى أبو عثمان المغربي : أن إخلاص الخواص : هو ما يجرى عليهم لا بهم فتبدو منهم الطاعات وهم عنها بمعزل ، ولا يقع لهم عليها رؤية ، ولا بها اعتداد.

٤٥

قوله جل ذكره : (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)

إذا أظلم الوقت على صاحبه في متعارض الخواطر عند استبهام وجه الصواب ، وضاق الأمر بسبب وحشة التدبير وظلمات أحوال التجويز ، والتحيّر عند طلب ترجيح بعض الخواطر على بعض بشواهد العقل .. فمن الذي يرشدكم لوجه الصواب بترك التدبير ، وللاستسلام لحكم التقدير ، وللخروج من ظلمات مجوّزات العقول إلى قضايا شهود التقدير ، وتفويض الأمر إلى اختيار الحق ، والاستسلام لما جرت به الأقسام ، وسبقت به الأقدار؟

(.. وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

من الذي يرسل رياح فضله بين يدى أنوار اختياره فيمحو آثار اختيار نفسك ، ويعجّل بحسن الكفاية لك؟.

ويقال : يرسل رياح التوكل فيطهّر القلوب من آثار الاختيار وأوضار التدبير ، ثم يطلع شموس الرضا فيحصل برد الكفاية فوق المأمول في حال سكينة القلب .. أإله مع الله؟

(تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) : من إحالة المقادير على الأسباب.

قوله جل ذكره : (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤))

يظهر ما يظهر بقدرته على مقتضى سابق حكمه ، ويخصص ما تعلقت به مشيئته وحقّ فيه قوله ، وسبق به قضاؤه وقدره. فإذا زال وانتفى وانعدم بعض ما يظهر ويخصص .. فمن الذي يعيده مثلما بدأه؟ ومن الذي يضيّق الرزق ويوسّعه؟ ومن الذي يقبض في بعض الأوقات على

٤٦

بعض الأشخاص؟ وفي وقت آخر من الذي يبسط على قوم آخرين؟.

هل في قدرة أحد غير الله ذلك؟.

إن توهمتم شيئا من ذلك فأوضحوا عنه حجّتكم. وإذ قد عجزتم .. فهلّا صدّقتم؟ وبالتوحيد أقررتم؟.

قوله جل ذكره : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥))

(الْغَيْبَ) : ما لا يطّلع عليه أحد ، وليس عليه للخلق دليل ، وهو الذي يستأثر بعلمه الحقّ (١) ، وعلوم الخلق عنه متقاصرة ، ثم ما يريد الله أن يخصّ قوما بعلمه أفردهم به.

(وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) : فإنه أخفى علم الساعة عن كل أحد.

قوله جل ذكره(٢) : (بل أدراك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون)

فهم في الجملة يشكّون فيه ؛ فلا ينفونه ولا بالقطع يجحدونه .. وهكذا حكم كلّ مريض القلب ، فلا حياة له في الحقيقة ، ولا راحة له من يأسه ؛ إذ هو من البعث في شكّ ، ومن الحياة الثانية في استبعاد : ـ

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

__________________

(١) هكذا في م وهي في ص (الخلق) وهي خطأ في النسخ إذ الحق هو الذي يستأثر بعلم الغيب.

(٢) يرى القرطبي أن القراءة هكذا والقراءة على (بل أدرك) معناهما واحد لأن أصل (ادّارك) تدارك وأدغمت الدال في التاء وجىء بألف الوصل (الجامع لأحكام القرآن ج ١٣ ص ٢٢٦).

٤٧

وعد آباؤنا بذلك من قبل ، ثم لم يكن لهم تحقيق ، وما نحن إلا مثلهم ، وكانوا يسألون متى الساعة؟ :

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١))

فقال الحقّ : إنه عن قريب سيحل بهم ميقاته : ـ

(قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ(١) لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ).

ثم قال جل ذكره : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣))

لأنهم لا يميّزون بين محنهم ومنحهم. وعزيز من يعرف الفرق بين ما هو نعمة من الله له وبين ما هو محنة ؛ فإذا تقاصر علم العبد عمّا فيه صلاحه ، فعسى أن يحب شيئا ويظنّه خيرا وبلاؤه فيه ، وربّ شىء يظنّه العبد نعمة فيشكر عليها ويستديمها ، وهي محنة له يجب الصبر عليها والتضرع إلى الله في صرّفها! وبعكس هذا كم من شىء يظنه الإنسان بخلاف ما هو به!.

قوله جل ذكره : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤))

لا تلتبس على الله أحوالهم ؛ فصادق يستوى ظاهره وباطنه يعلمه ، ومنافق يخالف باطنه ظاهره يلبّس على الناس حاله .. وهو ـ سبحانه ـ يعلمه ، وكافر يستوى في الجحد سرّه وعلنه يعلمه ، وهو يجازى كلّا على ما علمه .. كيف لا .. وهو قدّره ، وعلى ما عليه قضاه وقسمه؟ :.

__________________

(١) من أردف أي تبع ، وقال الفراء : ردف لكم أي دنا.

٤٨

قوله جل ذكره : (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥))

ما من شىء إلّا مثبت في اللوح المحفوظ حكمه ، ماضية فيه مشيئته ، متعلّق به علمه

قوله جل ذكره : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧))

وهم يخفون بعضا ، وبعضا يظهرون ، ومع ما يهوون يدورون.

وفي هذه الآية تخصيص لهذه الأمة بأن حفظ الله كتابهم ، وعصم من التغيير والتبديل ما به يدينون. وهذه نعمة عظيمة قليل منهم من عليهم يشكرون ؛ فالقرآن هدى ورحمة للمؤمنين ، وليس ككتابهم الذي أخبر الصادق أنهم له محرّفون مبدّلون.

(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)

هو (الْعَزِيزُ) المعزّ للمؤمنين ، (الْعَلِيمُ) بما يستحقه كلّ أحد من الثواب العظيم والعذاب الأليم.

قوله جل ذكره : (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩))

أي اجتهد في أداء فرضه ، وثق بصدق وعده في نصره ورزقه ، وكفايته وعونه. ولا يهولنّك ما يجرى على ظواهرهم من أذى يتصل منهم بك ، فإنما ذلك كلّه بتسليطنا إن كان محذورا ، وبتقييضنا وتسهيلنا إن كان محبوبا. وإنك لعلى حقّ وضياء صدق ، وهم على شكّ وظلمة شرك.

قوله جل ذكره : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ).

٤٩

الذين أمات الله قلوبهم بالشرك ، وأصمّهم عن سماع الحق ـ فليس في قدرتك أن تهديهم للرّشد أو تنقذهم من أسر الشكّ.

(وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ)

أنت تهديهم من حيث الدعاء والدلالة ، ولكنك لا تهدى أحدا من حيث إزالة الباطل من القلب وإمالته إلى العرفان ، إذ ليست بقدرتك الإزالة أو الإمالة.

أنت لا تسمع إلّا من يؤمن بآياتنا ، فلا يسمع منك إلّا من أسعدناه من حيث التوفيق والإرشاد إلى الطريق.

قوله جل ذكره : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢))

إذا حقّ الوعد بإقامة القيامة أوضحنا أشراطها في كلام الدّابة المخرجة من الأرض (١). وغير ذلك من الآيات.

قوله جل ذكره : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣))

وعند ذلك لا ينفع الإيمان ولا يقبل العذر : ـ

__________________

(١) فى صحيح مسلم عن أبى هريرة قال قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها (لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا زيادة من صحيح مسلم) طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض». ومن الأقوال في هذه الدابة : أنها فصيل ناقة صالح ، ومنها أن هذه الدابة تكون إنسانا متكلما يناظر أهل البدع والكفر ويجادلهم لينقطعوا ، ومنها أنها تخرج من جبل الصفا بمكة بعد أن يتصدع ... إلى غير ذلك من الأقوال المنسوبة للصحابة والتابعين والمفسرين.

٥٠

(وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥))

ثم كرّر ذكر الليل والنهار واختلافهما : ـ

(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)

أي ليكون الليل وقت سكونهم ، والنهار وقت طلب معاشهم.

قوله جل ذكره : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧))

أخبر أن اليوم الذي ينفخ فيه في الصور هو يوم إزهاق الأرواح ، وإخراجها عن الأجساد ؛ فمن روح ترقى إلى علّيين ، ومن روح تذهب إلى سجّين. أولئك في حواصل طير تسرح فى الجنة تأوى بالليل إلى قناديل معلقة من تحت العرش صفتها التسبيح والرّوح والراحة ، ولبعضها الشهود والرؤية ... على مقادير استحقاقهم لما كانوا عليه في دنياهم.

وأمّا أرواح الكفار ففى النار تعذّب على مقادير أجرامهم.

قوله جل ذكره : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨))

وكثير من الناس اليوم من أصحاب التمكين ، هم ساكنون بنفوسهم (١) سائحون في الملكوت بأسرارهم .. قيل : إن الإشارة اليوم إليهم. كما قالوا : العارف كائن بائن ؛ كائن مع الناس بظاهره ، بائن عن جميع الخلق بسرائره.

__________________

(١) عرف الجنيد بسكونه وقلة اضطرابه عند السماع ، فلما سئل في ذلك تلا : «وترى الجبال تحسبها جامده وهى ....» (اللمع للسراج ص ١٢٨).

٥١

قوله جل ذكره : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠))

يحتمل أن يكون (خَيْرٌ) هاهنا للمبالغة ؛ لأن الذي له في الآخرة من الثواب خير ممّا منه من القرب : ويحتمل فله نصيب خير أو عاقبة خير أو ثواب خير منها. وهم آمنون من فزع القيامة. ومن جاء بالسيئة : فكما أن حالهم اليوم من المطيعين بالعكس فحكمهم غدا فى الآخرة بالضدّ.

قوله جل ذكره : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ ...)

أخبر أنه أمره بالدين الحنيفىّ ، والتبرّى من الشّرك ؛ الجلىّ منه والخفىّ ، وبملازمة الطريق السّويّ. وأخبر أنّ من اتبعه وصدّقه أوجب الحقّ ذمامه وحقّه.

قوله جل ذكره : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ ... (٩٣))

سيريكم ـ عن قريب ـ آياته ، فطوبى لمن رجع قبل وفاته ، والويل على من رجع بعد ذهاب الوقت وفواته!.

٥٢

سورة القصص

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

بسم الله اسم عزيز من تعرض لجدواه يسّر له في دنياه وعقباه ، اسم عزيز من اشتاق إلى لقياه استعذب فيه ما يلقاه من بلواه. ومن طلب غيره مؤنسا في دنياه أو عقباه (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ).

قوله جل ذكره : (طسم (١))

«الطاء» تشير إلى طهارة نفوس العابدين عن عبادة غير الله ، وطهارة قلوب العارفين عن تعظيم غير الله ، وطهارة أرواح الواجدين عن محبة غير الله ، وطهارة أسرار الموحّدين عن شهود غير الله. «والسين» تشير إلى سرّ الله مع العاصين بالنجاة ، ومع المطيعين بالدرجات ، ومع المحبين بدوام المناجاة. «والميم» تشير إلى منّته على كافة المؤمنين بكفاية الأوقات والثبات فى سبيل الخيرات.

قوله جل ذكره : (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣))

سماع قصة الحبيب من الحبيب يوجب سلوة القلب ، وذهاب الكرب ، وبهجة السّرّ ، وثلج الفؤاد. وقد كرّر الحقّ ذكر قصة موسى تفخيما لشأنه وتعظيما لقدره ، ثم زيادة في البيان لبلاغة القرآن ، ثم إفادة لزوائد في المذكور قوله في كل موضع يتكرر فيه.

قوله جل ذكره : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤))

٥٣

تكبّر فرعون بغير حقّ فأقماه بحقّ ، وتجبّر بغير استحقاق فأذلّه الله باستحقاق واستيجاب ، وجعل أهلها شيعا يذبّح أبناءهم (١) بعد ما استضعفهم ، ويستحى نساءهم ، وأفنى منهم من كان (...) (٢) ، وبالفساد حكم فيهم ، والله لم يرض بترك إتلافهم.

قوله جل ذكره : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦))

نريد أن نمنّ على المستضعفين بالخلاص من أيديهم ، وأن نجعلهم أئمة ، بهم يهتدى الخلق ، ومنهم يتعلم الناس سلوك طريق الصدق ، ونبارك في أعمارهم ، فيصيرون وارثين لأعمار من يناويهم ، وتصير إليهم مساكنهم ومنازلهم ؛ فهم هداة وأعلام ، وسادة وقادة ؛ بهم يقتدى وبنورهم يهتدى.

(وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) : نزيل عنهم الخوف ، ونرزقهم البسطة والاقتدار ، ونمد لهم فى الأجل. ونرى فرعون وهامان وقومهما ما كانوا يحذرون من زوال ملكهم على أيديهم ؛ وأنّ الحقّ يعطى ـ وإن كان عند الخلق أنّه يبطى.

قوله جل ذكره : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧))

__________________

(١) كان سبب سلوكه هذا السبيل مع بنى إسرائيل أن الكهنة قالوا له ان مولودا يولد في بنى إسرائيل يذهب ملكك على يديه ، أو قال له المنجمون ذلك ، أو رأى رؤيا فعبرت كذلك. قال الزجاج : العجب من حمقه لم يدر أن الكاهن إن صدق فالقتل لا ينفع ، وإن كذب فلا معنى للقتل.

(٢) مشتبهة.

٥٤

أي ألقينا في قلبها ، وأوحينا إليها وحي إلهام ، فاتّخذت خاطرها في ذلك ، وجرى منها ذلك وهي مختارة باختيار أدخل عليها.

لمّا وضعت أم موسى موسى كانت تخاف قتله ، فإن فرعون قتل في ذلك اليوم كثيرا من الولدان المولودة لبنى إسرائيل ، رجاء أن يقتل من رأى في النوم ما عبّر له أن ذهاب ملكه على يدى إسرائيلى .. فألقى الله في قلبها أن تفعل ذلك.

ثم إنه ربّاه في حجره ذلك اليوم ـ ليعلم أنّ الأقدار لا تغالب.

جعلت أم موسى موسى في تابوت ، وألقته في نيل مصر ، فجاء الماء به إلى بركة كان فرعون جالسا على حافتها ، فأخذوه وحملوه إليه ، وفتحوا رأس التابوت. فلمّا رآه فرعون أخذت رؤيته بمجامع قلبه ، وكذلك تمكّن حبّه من قلب امرأة فرعون ؛ قال تعالى : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) : (١) حيث خلق الله ملاحة في عينى موسى ؛ فكان من يقع عليه بصره لا يتمالك من حبّه.

قوله جل ذكره : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨))

أخبر الله تعالى أنه كان عدوا لهم ، وقالت امرأة فرعون :

(قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).

فلم يكن لهما ولد ، وهم لا يشعرون إلى ماذا يئول أمره.

(وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

__________________

(١) آية ٣٩ سورة طه.

٥٥

لمّا ألقته في الماء سكّن الله قلبها ، وربط عليه ، وألهمها الصبر ، وأصبح فؤادها فارغا إن كادت لتبدى به من حيث ضعف (١) البشرية ، ولكن الله ربط على قلبها.

قوله جل ذكره : (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١))

أمرت أمّ موسى أخته أن تتبع أثره ، وتنظر إلى ماذا يئول أمره ، فلمّا وجدوه واستمكن حبّه من قلوبهم طلبوا من يرضعه :

(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣))

أبى موسى قبول ثدى واحدة ممن عرض عليهن .. فمن بالغداة كانوا في اهتمام كيف يقتلونه أمسوا ـ وهم في جهدهم ـ كيف يغذّونه (٢)!

فلمّا أعياهم أمره ، قالت لهم أخته : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ؟) فقبلوا نصيحتها شفقة منهم عليه ، وقالوا : نعم ، فردّوه إلى أمّه (٣) ، فلمّا وضعت ثديها في فمه ارتضعها موسى فسرّوا بذلك ، وكانوا يدعون أمّه حاضنة ومرضعة .. ولم يضرها ، وكانوا يقولون عن فوعون : إنه أبوه .. ولم ينفعه ذلك (٤)!

__________________

(١) هكذا في م ، وقد أخطأ الناسخ في ص حين أضاف لفظة (الله) بعد (ضعف).

(٢) هكذا في م ، وفي ص (يعذبونه) وهي خطأ في النسخ كما هو واضح.

(٣) هكذا في م ، وفي ص (آمره) وهي خطأ في النسخ كما هو واضح.

(٤) يقصد القشيري إلى شىء بعيد هو أن أحكام الناس ليست بالضرورة صائبة ، وأن للأمور حقائق وجواهر وبواطن خافية ، وأن أسماء الأشياء وظواهرها لا عبرة بها.

٥٦

ولمّا أخذته أمّه علمت بتصديق الله ظنها ، وسكن عن الانزعاج قلبها ، وجرى من قصة فرعون ما جرى.

قوله جل ذكره : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤))

لمّا كملت سنّة وتمّ عقله ، واستوى كمال خصاله (آتَيْناهُ حُكْماً) : أي أتممنا له التحصيل ، ووفّرنا له العلم ، وبذلك جرت سنّتنا مع الأكابر والأنبياء.

قوله جل ذكره : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ ...) الآية.

قيل : دخل المدينة في وقت الهاجرة ، وتفرّق الناس ، فوجد فيها رجلين يتخاصمان : أحدهما إسرائيليّ من شيعة موسى وعلى دينه ، والآخر قبطيّ مخالف لهما ، فاستغاث الإسرائيليّ بموسى على القبطي ، فوكزه موسى ليدفعه عن الإسرائيلى ، فمات الرجل بذلك الوكز ، ولم يكن موسى يقصد قتله ، فقال موسى : ـ

(هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ).

فقد تمنّى موسى أن لو دفعه عنه بأيسر مما دفعه ، ولم ينسب القتل إلى الشيطان (١) ، ولكنّ دفعه عنه بالغلظة نسبه إلى الشيطان بأن حمله على تلك الحدّة.

وهكذا .. إذا أراد الله أمرا أجرى أسبابا ليحصل بها مراده ، ولو لا أنه أراد فتنة موسى لما قبض روح الرجل بمثل تلك الوكزة ، فقد يضرب الرجل الكثير من الضّرب والسياط ثم لا يموت ؛ فموت القبطي بوكزة اجراء لما قضاه وأراده.

__________________

(١) يتصل ذلك برأى القشيري : أن الشيطان ليس بيده شىء ؛ لأنه لو كان بيده شىء لأمسك على الهداية نفسه ، وكل عمل الشيطان أنه يوسوس في صدور الناس.

٥٧

قوله جل ذكره : (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦))

تاب موسى عمّا جرى على يده ، واستغفر ربّه ، وأخبر الله أنه غفر له ، ولا عتاب (١) بعد المغفرة.

قوله جل ذكره : (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧))

قال موسى ربّ بما أنعمت عليّ من توفيقك لى بالتوبة (٢) فلن أعود بعد ذلك إلى مثل ما سلف منى.

قوله جل ذكره : (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩))

أصبح في المدينة خائفا على نفسه من فرعون لأنه كان يدّعى أنه يحكم بالعدل ، وخاف موسى أن ينسبه في قتل القبطيّ إلى العمد والقصد. فهو (يَتَرَقَّبُ) علم فرعون وأن يخبر بذلك في وقته.

__________________

(١) هكذا في النسختين ولا نستبعد أن تكون (عقاب) بالقاف فالسياق يحتملها أيضا وإن كانت (عتاب) أليق بمقام النبوة.

(٢) حقيقة التوبة أن يتوب الله عليك أولا ، ويهيىء لك أسباب التوفيق لذلك ، فإذا شكرت فاشكر له ، فعملك لا يكفى ولا يغنى عن فضل الله.

٥٨

وقيل (خائِفاً) من الله مما جرى منه. ويقال (خائِفاً) على قومه حلول العذاب بهم. وقيل (يَتَرَقَّبُ) نصرة الله إياه. ويقال (يَتَرَقَّبُ) مؤنسا يأنس به.

فإذا الذي استنصره بالأمس يخاصم إنسانا آخر ، ويستعين به ليعينه ، فهمّ موسى بأن يعين صاحبه ، فقال الذي يخاصمه : (يا مُوسى ، أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ؟) : قيل لم يعلم ذلك الرجل أن موسى هو الذي قتل الرجل بالأمس ، ولكن لمّا قصد منعه عن صاحبه استدلّ على أن موسى هو الذي قتل الرجل بالأمس ، فلما ذكر ذلك شاع في أفواه الناس أنّ موسى هو الذي قتل القبطيّ بالأمس ، فأمسك موسى عن هذا الرجل.

قوله جل ذكره : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠))

جاء اسرائيليّ من معارف موسى يسعى ، وقال إن القوم يريدون قتلك ، وأنا واقف على تدبيرهم ؛ وقد أرادوا إعلام فرعون .. فاخرج من هذا البلد ، إنى لك من الناصحين.

(فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)

خرج (١) من مصر (خائِفاً) أن يقتفوا أثره ، (يَتَرَقَّبُ) أن يدركه الطلب ، وقيل (يَتَرَقَّبُ) الكفاية والنصرة من الله ، ودعا الله فقال : (نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

قوله جل ذكره : (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢))

__________________

(١) ربما يذكرنا موقف موسى بقضية هامة في الطريق الصوفي هى «السفر» : وضرورته أو عدمها ، وقد اختلف المشايخ في أمره (الرسالة ص ١٤٣) ، ويرى القشيري ضرورة السفر. إن نبا المكان واشتد البلاء. (الرسالة ص ٢٠٢) وهو نفسه غادر بلاده عند إطباق المحنة عليه.

٥٩

توجّه بنفسه تلقاء مدين من غير قصد إلى مدين أو غيره ، بل خرج على الفتوح (١) ، وتوجّه بقلبه إلى ربّه ينتظر أن يهديه ربّه إلى النحو الذي هو خير له ، فقال : عسى ربى أن يهدينى إلى أرشد سبيل لى.

قوله جل ذكره : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣))

لمّا وافى مدين شعيب كان وقت الهاجرة ، وكانت لهم بئر يستقون منها ، فيصبون الماء فى الحياض ، ويسقون أغنامهم ، وكانوا أهل ماشية.

وكان شعيب النبيّ عليه‌السلام قد كفّ بصره لكثرة بكائه ؛ ففى القصة أنه بكى فذهب بصره ، ثم ردّ الله عليه بصره فبكى ، فردّ الله بصره فبكى حتى ذهب بصره ، فأوحى الله إليه : لم تبكى يا شعيب ..؟ إن كان بكاؤك لخوف النار فقد أمنتك ، وإن كان لأجل الجنة فقد أتحتها لك.

فقال : ربّ .. إنما أبكى شوقا إليك. فأوحى الله إليه لأجل ذلك أخدمتك نبيّى وكليمى عشر حجج.

وكانت لشعيب أغنام ، ولم يكن لديه أجير ، فكانت بنتاه تسوقان الغنم مكان الرعاة ، ولم يكن لهما قدرة (٢) على استقاء الماء من البئر ، وكان الرعاة يستقون ، فإذا انقضوا (٣) فإن بقيت في الحوض بقية من الماء استقت بنات شعيب.

__________________

(١) وهكذا سفر الأكابر.

(٢) هكذا في ص وهي في م (قوة).

(٣) من الجائز أن تكون في الأصل (انفضوا) بالفاء فالسياق يحتملها بدليل قوله فيما بعد (فلما انصرف الرعاة)

٦٠