لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

أن يقاتلها حتى تثخن بالجراحة بسيوف المجاهدة. فإن استجابت إلى الطاعة يعفى عنها لأنها هي المطيّة إلى باب الله.

قوله جل ذكره : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠))

إيقاع الصلح بين المتخاصمين من أوكد عزائم الدّين.

وإذا كان ذلك واجبا فإنه يدل على عظم وزر الواشي والنّمام ؛ والمصدر في إفساد ذات البين.

(ويقال إنما يتم ذلك بتسوية القلب مع الله فإن الله إذا علم صدق همة عبد في إصلاح ذات البين) (١) فإنه يرفع عنهم تلك العصبيّة (٢).

فأما شرط الأخوة : فمن حقّ الأخوة في الدّين ألا تحوج أخاك إلى الاستعانة بك أو التماس النصرة عنك ، وألا تقصّر في تفقّد أحواله بحيث يشكل عليك موضع حاجته فيحتاج إلى مساءلتك.

ومن حقّه ألا تلجئه إلى الاعتذار لك بل تبسط عذره ؛ فإن أشكل عليك وجهه عدت باللائمة على نفسك في خفاء عذره عليك ومن حقه أن تتوب عنه إذا أذنب ، وتعوده إذا مرض. وإذا أشار عليك بشىء فلا تطالبه بالدليل عليه وإبراز الحجّة ـ كما قالوا :

إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم

لأيّة حرب أم لأى مكان

ومن حقّه أن تحفظ عهده القديم ، وأن تراعى حقّه في أهله المتصلين به في المشهد والمغيب ، وفي حال الحياة وبعد الممات (٣) ـ كما قيل :

وخليل إن لم يكن

منصفا كنت منصفا

__________________

(١) ما بين القوسين موجود في م وساقط في ص.

(٢) هكذا في م وهي في ص المعصية ونحن نؤثر الأولى لملاءتها للسياق.

(٣) فى هذه الفقرة ما يدحض مزاعم الذين يقولون بأن الصوفية قوم انعزاليون ، لا يفهمون معنى العلاقات الاجتماعية ولا يقدرونها.

٤٤١

تتحسّى له الأمر

ين وكن ملاطفا

إن يقل لك استو احترف

ت رضى لا تكلّفا

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١))

نهى الله ـ سبحانه وتعالى ـ عن ازدراء الناس ، وعن الغيبة ، وعن الاستهانة بالحقوق ، وعن ترك الاحترام.

(وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) : أي لا يعيبنّ بعضكم بعضا ، كقوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (١).

ويقال : ما استصغر أحد أحدا إلا سلّط عليه. ولا ينبغى أن يعتبر بظاهر أحوال الناس فإنّ في الزوايا خبايا. والحقّ يستر أولياءه في حجاب الضّعة (٢) ؛ وقد جاء في الخبر :

«ربّ أشعث أغبر ذى طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبرّه» (٣).

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ

__________________

(١) آية ٢٩ سورة النساء.

(٢) الضعة هنا بمعنى خمول الذكر وانطفاء المنظر.

(٣) فى بعض الروايات بزيادة : «وإن البراء منهم» ، وعند مسلم بلفظ «ربّ أشعث أغبر مدفوع إلى الأبواب لو أقسم على الله لأبرّه».

٤٤٢

أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢))

النّفس لا تصدق ، والقلب لا يكذب. والتمييز بين النفس والقلب مشكل ومن بقيت عليه من حظوظه بقيّة ـ وإن قلّت ـ فليس له أن يدّعى بيان القلب بل هو بنفسه مادام عليه شىء من نفسه ، ويجب أن يتّهم نفسه في كل ما يقع له من نقصان غيره .. هذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال وهو يخطب. «كلّ الناس أفقه من عمر .. امرأة أفقه من عمر».

(وَلا تَجَسَّسُوا). والعارف لا يتفرغ من شهود الحقّ إلى شهود الخلق .. فكيف يتفرغ إلى تجسّس أحوالهم؟ وهو لا يتفرغ إلى نفسه فكيف إلى غيره؟ (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) : لا تحصل الغيبة للخلق إلّا من الغيبة عن الحقّ.

(أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ...) جاء في التفسير أن المقصود بذلك الغيبة ، وعلى ذلك يدل ظاهر الآية .. وأخسّ الكفّار وأقلّهم قدرا من يأكل الميتة .. وعزيز رؤية من لا يغتاب أحدا بين يديك.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣))

إنّا خلقناكم أجمعكم من آدم وحواء ، ثم جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا لا لتكاثروا ولا لتنافسوا. فإذا كانت الأصول تربة ونطفة وعلقة ... فالتفاخر بماذا؟ أبا لحمأ المسنون؟ أم بالنطفة في قرار مكين؟ أم بما ينطوى عليه ظاهرك مما تعرفه؟! (١) وقد قيل :

__________________

(١) ربما نفهم من هذه العبارة ما يقصده القشيري في موضع آخر ماثل من سخرية بالإنسان وتحطيم لتجبره ؛ كأن يقول له : من أنت أيها الإنسان؟ أنت كنيف في قميص! ألا ترى إلى ريح إبطك إذا عرقت ، وإلى ريح فمك إذا جعت!؟ ... ونحو ذلك.

٤٤٣

إنّ آثارنا تدل علينا

فانظروا بعدنا إلى الآثار

أم بأفعالك التي هي بالرياء مشوبة؟ أم بأحوالك التي هي بالإعجاب مصحوبة؟ أم بمعاملاتك التي هي ملأى بالخيانة؟

(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ؟) أتقاكم أي أبعدكم عن نفسه ، فالتقوى هي التحرّر من النفس وأطماعها وحظوظها. فأكرم العباد عند الله من كان أبعد عن نفسه وأقرب إلى الله تعالى.

قوله جل ذكره : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا)

الإيمان هو حياة القلب ، والقلب لا يحيا إلا بعد ذبح النّفس ، والنفوس لا تموت ولكنها تغيب ، ومع حضورها لا يتمّ خير ، والاستسلام في الظاهر إسلام. وليس كلّ من استسلم ظاهرا مخلص في سرّه.

(وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ)

فى هذا دليل على أن محلّ الإيمان القلب. كما أنه في وصف المنافقين قال تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ؛ ومرض القلب والإيمان ضدان.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥))

جعل الله الإيمان مشروطا بخصال ذكرها ، ونصّ عليها بلفظ (إِنَّمَا) وهي للتحقيق الذي يقتضى طرد العكس ؛ فمن خرج عن هذه الشرائط التي جعلها للإيمان فمردود عليه قوله.

والإيمان يوجب للعبد الأمان ، فما لم يكن الإيمان موجبا للأمان فصاحبه بغيره أولى.

٤٤٤

قوله جل ذكره : (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦))

تدل الآية على أنّ الوقوف (١) فى المسائل الدينية يعتبر واجبا ؛ فالأسامى منه تؤخذ ، والأحكام منه تطلب ، وأوامره متّيعة (٢).

قوله جل ذكره : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧))

من لاحظ شيئا من أعماله وأحواله فإن رآها من نفسه كان شركا ، وإن رآها لنفسه كان مكرا فكيف يمن العبد بما هو شرك أو بما هو مكر؟!

والذي يجب عليه قبول المنّة ... كيف يرى لنفسه على غيره منّة؟! هذا لعمرى فضيحة! بل المنّة لله ؛ فهو وليّ النعمة. ولا تكون المنة منة إلا إذا كان العبد صادقا في حاله ، فأمّا إذا كان معلو لا في صفة من صفاته فهى محنة لصاحبها لا منّة.

والمنّة تكدّر الصنيع إذا كانت من المخلوقين ، ولكن بالمنّة تطيب النعمة إذا كانت من قبل الله.

قوله جل ذكره : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))

__________________

(١) هكذا في م وهي بمعنى (التوقف) (والتوقيف) عند بعض الأمور ، ولهذا فما جاء في ص وهو (التوفيق) خطأ في النسخ.

(٢) فالاتباع واجب والابتداع مرفوض ـ كما نهنا القشيري من قبل.

٤٤٥

ومن وقف هاهنا تكدّر عليه عيشه ؛ إذ ليس يدرى ما غيبه فيه ، وفي معنى هذا قول القائل :

أبكى .. وهل تدرين ما يبكينى؟

أبكى حذارا أن تفارقينى

وتقطعى وصلي وتهجرينى (١)

__________________

(١) فى (اللمع) للسراج وتقطعى (حبلى) وتهجرينى (اللمع ص ٣٠٥) وكلاهما صحيح في المعنى ملائم للوزن.

٤٤٦

سورة ق

(بِسْمِ اللهِ) اسم جبر أحوال من رحمه ، متجبّر بكبريائه على من أقماه فقهره وحرمه.

(بِسْمِ اللهِ) لطيف يعلم خفايا تصنّع العابدين ، غافر لجلائل ذنوب العاصين.

قوله جل ذكره : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١))

ق مفتاح أسمائه : «قوى وقادر وقدير وقريب» .. أقسم بهذه الأسماء وبالقرآن المجيد.

وجواب القسم محذوف ومعناه لتبعثنّ في القيامة.

ويقال جوابه : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) أي لقد علمنا. وحذفت اللام لمّا تطاول الخطاب.

ويقال : جوابه قوله : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ).

قوله جل ذكره : (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢))

(مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) : هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

والتعجّب نوع من تعبير النّفس عن استبعادها لأمر خارج العادة لم يقع به علم من قبل. وقد مضى القول في إنكارهم للبعث واستبعادهم ذلك :

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣))

أي يبعد عندنا أن نبعث بعد ما متنا. فقال جل ذكره :

٤٤٧

(قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤))

فى هذا تسلية للعبد فإنه إذا وسّد التراب ، وانصرف عنه الأصحاب ، واضطرب لوفاته الأحباب. فمن يتفقّده ومن يتعهّده ... وهو في شفير قبره ، وليس لهم منه شىء سوى ذكره ، ولا أحد منهم يدرى ما الذي يقاسيه المسكين في حفرته؟ فيقول الحقّ ـ سبحانه : (قَدْ عَلِمْنا ...) ولعلّه يخبر الملائكة قائلا : عبدى الذي أخرجته من دنياه ـ ماذا بقي بينه من يهواه؟ هذه أجزاؤه قد تفرّقت ، وهذه عظامه بليت ، وهذه أعضاؤه قد تفتّتت!

(وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) : وهو اللّوح المحفوظ ؛ أثبتنا فيه تفصيل أحوال الخلق من غير نسيان ، وبيّنّا فيه كلّ ما يحتاج العبد إلى تذكّره.

قوله جل ذكره : (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥))

(مَرِيجٍ) أي مختلط وملتبس ؛ فهم يتردّدون في ظلمات تحيّرهم ، ويضطربون في شكّهم.

قوله جل ذكره : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦))

أولم يعتبروا؟ أولم يستدلّوا بما رفعنا فوقهم من السماء ، رفعنا سمكها فسوّيناها ، وأثبتنا فيها الكواكب وبها زيّناها ، وأدرنا فيها شمسها وقمرها؟ أولم يروا كيف جلّسنا عينها ونوّعنا أثرها؟

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧))

والأرض مددناها ؛ فجعلناها لهم مهادا ، وجعلنا لها الجبال أوتادا ، وأنبتنا فيها أشجارا وأزهارا وأنوارا .. كل ذلك :

٤٤٨

(تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨))

علامة ودلالة لكل من أناب إلينا ، ورجع من شهود أفعالنا إلى رؤية صفاتنا ، ومن شهود صفاتنا إلى شهود حقّنا وذاتنا (١).

قوله جل ذكره : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩))

أنزلنا من السماء ماء مباركا كثير النفع والزيادة ، فأنبتنا به (جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) : أي الذي يحصد ـ كما تقول : مسجد الجامع.

الأجزاء متجانسة. ولكنّ أوصافها في الطعوم والروائح والألوان والهيئات والمقادير مختلفة.

قوله جل ذكره : (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ)

والنخل باسقات : طويلات ، لها طلع منضود بعضه فوق بعض لكثرة الطّلع أو لما فيها من الثمار. وكيف جعلنا بعض الثمار متفرقة كالتفاح والكمثرى وغيرهما ، وكيف جعلنا بعضها مجتمعة كالعنب والرطب وغيرهما .. كلّ ذلك جعلناه رزقا للعباد ولكى ينتفعوا به.

(... وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ).

وكما سقنا هذا الماء إلى بلدة جفّ نباتها ، وكما فعلنا كلّ هذه الأشياء ونحن قادرون على ذلك ـ كذلك نجمعكم في الحشر والنشر ، فليس بعثكم بأبعد من هذا.

قوله جل ذكره : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ

__________________

(١) هذا الترتيب في منازل الشهود له أهمية في فهم المعراج الروحي عند هذا الإمام ، وواضح منه أن أعلى درجات الشهود شهود الذات ... وذلك بشرائط سبقت الإشارة إليها في غير موضع من الكتاب ، ولكننا مع ذلك لا نفسى أن القشيري ـ كما نعرف من منهجه ـ يرى الاستشراف من (الذات) من المحال ، فقد جلت الصمدية عن الدرك واللحوق .. مهما سما العبد في معراجه الروحي.

٤٤٩

لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤))

إنّا لم نعجز عن هؤلاء ـ الذين ذكر أسماءهم ـ وفيه تهديد لهم وتسلية للرسول.

(أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥))

أي إنّا لم نعجز عن الخلق الأول .. فكيف نعجز عن الخلق الثاني ـ وهو الإعادة؟ لم يعتص علينا فعل شىء ، ولم نتعب من شىء .. فكيف يشق علينا أمر البعث؟ أي ليس كذلك (١).

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦))

نعلم ما توسوس به نفسه من شهوات تطلب استنفاذها ، مثل التصنّع مع الخلق ، وسوء الخلق ، والحقد .. وغير ذلك من آفات النّفس التي تشوّش على القلب والوقت.

(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) فحبل الوريد أقرب أجزاء نفسه إلى نفسه ، والمراد من ذلك العلم والقدرة ، وأنه يسمع قولهم ، ولا يشكل عليه شىء من أمرهم.

وفي هذه الآية هيبة وفزع وخوف لقوم ، وروح وسكون وأنس قلب لقوم.

قوله جل ذكره : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧))

خوّفهم بشهود الملائكة وحضور الحفظة ، وبكتابتهم عليهم أعمالهم ، فهما قعيدا (٢) كلّ

__________________

(١) فالاستفهام هنا للإنكار أو للنفى.

(٢) عبر عن المثنى بالمفرد للدلالة بواحد على الاثنين مثل قول الشاعر :

رمانى بأمر كنت منه ووالدي

بريئا ومن أجل العلوي رمانى

أي رمانى بأمر كنت منه بريثا وكان والدي منه بريثا.

٤٥٠

أحد : ويقال : إذا كان العبد قاعدا فواحد عن يمينه يكتب خيراته ، وواحد على يساره يكتب معاصيه ، وإذا قام فواحد عند رأسه وواحد عند قدمه ، وإذا كان ماشيا فواحد قائم بين يديه وآخر خلفه.

ويقال : هما اثنان بالليل لكلّ واحد ، واثنان بالنهار.

ويقال : بل الذي يكتب الخيرات اليوم يكون غيره غدا ، وأمّا الذي يكتب الشر والمعصية بالأمس فإنه يكون كاتبا للطاعة غدا حتى يشهد طاعتك.

ويقال : بل الذي يكتب المعصية اثنان ؛ كل يوم اثنان آخران وكل ليلة اثنان آخران لئلا يعلم من مساويك إلا القليل منها ، ويكون علم المعاصي متفرقا فيهم (١).

قوله جل ذكره : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩))

إذا أشرفت النّفس على الخروج من الدنيا فأحوالهم مختلفة ؛ فمنهم من يزداد في ذلك الوقت خوفه ولا يتبيّن إلا عند ذهاب الروح حاله. ومنهم من يكاشف قبل خروجه فيسكن روعه ، ويحفظ عليه عقله (٢) ، ويتم له حضوره وتمييزه ، فيسلم الرّوح على مهل من غير استكراه ولا عبوس .. ومنهم ، ومنهم .. وفي معناه يقول بعضهم :

أنا إن متّ ـ والهوى حشو قلبى ـ

فبداء الهوى يموت الكرام

ثم قال جل ذكره : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١))

سائق يسوقها إمّا إلى الجنة أو إلى النار ، وشهيد يشهد عليها بما فعلت من الخير والشرّ.

__________________

(١) واضح من ذلك مقدار ما يبعثه الصوفية في نفوس العصاة من تفاؤل ورجاء أملا في فتح باب التوبة

(٢) سقطت (عقله) من النسخة م ، وموجودة في ص.

٤٥١

ويقال له : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢))

المؤمنون ـ اليوم بصرهم حديد ؛ يبصرون رشدهم ويحذرون شرّهم.

والكافر يقال له غدا : (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) أي : ها أنت علمت ما كنت فيه من التكذيب ؛ فاليوم لا يسمع منك خطاب ، ولا يرفع عنك عذاب.

قوله جل ذكره : (وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣))

لا يخفى من أحوالهم شىء إلا ذكر ، إن كان خيرا يجازون عليه ، وإن كان غير خير يحاسبون عليه : إمّا برحمة منه فيغفر لهم وينجون ، وإمّا على مقدار جرمهم يعذّبون.

(ألقينا في جهنم كل كفار عنيد مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥))

منّاع للزكاة المفروضة.

ويقال : يمنع فضل مائه وفضل كلئه عن المسلمين.

ويقال : يمنع الناس من الخير والإحسان ، ويسىء القول فيهما حتى يزهّد الناس فيهما.

ويقال : المناع للخير هو المعوان على الشّرّ.

ويقال : هو الذي قيل فيه : (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) (١).

(مُرِيبٍ) : أي يشكّك الناس في أمره لأنه غير مخلص ، ويلبّس على الناس حاله لأنه منافق.

قوله جل ذكره : (قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧))

يقول الملك من الحفظة الموكّل به : ما أعجلته على الزّلّة.

__________________

(١) آية ٧ سورة الماعون.

٤٥٢

وإنما (١) كتبتها بعد ما فعلها ـ وذلك حين يقول الكافر : لم أفعل هذا ، وإنما أعجلنى بالكتابة علىّ ، فيقول الملك : ربّنا ما أعجلته ..

ويقال : هو الشيطان المقرون به ، وحين يلتقيان في جهنم يقول الشيطان : ما أكرهته على كفره ، ولكنه فعل ـ باختياره ـ ما وسوست به إليه.

فيقول جل ذكره : (قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩))

لا تختصموا لديّ اليوم وقد أمرتكم بالرّشد ونهيتكم عن الغيّ.

قوله جل ذكره : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) (٢)

(نَقُولُ لِجَهَنَّمَ) ، (وَتَقُولُ) : القول هنا على التوسّع ؛ لأنه لو كانت جهنم ممن يجيب لقالت ذلك بل يحييها حتى تقول ذلك.

(هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) : على جهة التغليظ ، والاستزادة من الكفار.

ويقال : بل تقول (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) : أي ليس فيّ زيادة كقوله عليه‌السلام لمّا قيل له :

يوم فتح مكة : هل ترجع إلى دارك؟ فقال : وهل ترك لنا عقيل دارا؟! (٣) أي لم يترك ، فإن الله ـ تعالى ـ يملأ جهنم من الكفار والعصاة ، فإذا ما أخرج العصاة من المؤمنين ازداد غيظ الكفار حتى تمتلئ بهم جهنم.

__________________

(١) هكذا في ص وهي في م (ما) والصواب ما أثبتنا.

(٢) عن قتادة عن أنس عن النبي (ص) قال : يلقى في النار وتقول هل من مزيد حتى يضع قدمه فتقول قط قط. وفي رواية أبى هريرة : يقال لجهنم هل امتلأت وتقول : هل من مزيد فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول : قط قط (البخاري ح ٣ ص ١٢٨).

(٣) عن الزهري عن على بن حسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد أنه قال زمن الفتح : يا رسول الله ، أين تنزل غدا؟ قال النبي (ص) : وهل ترك لنا عقيل من منزل؟ ثم قال : لا يرث المؤمن الكافر ولا يرث الكافر المؤمن (البخاري ح ٣ ص ٤٢).

٤٥٣

قوله جل ذكره : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١))

يقال : إنّ الجنّة تقرّب من المتقين ، كما أنّ النار تجرّ بالسلاسل إلى المحشر نحو المجرمين.

ويقال : بل تقرب الجنة بأن يسهل على المتقين حشرهم إليها .. وهم خواص الخواص.

ويقال : هم ثلاثة أصناف : قوم يحشرون إلى الجنة مشاة وهم الذين قال فيهم : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ) (زُمَراً) (١) () ـ وهم عوام المؤمنين (٢) وقوم يحشرون إلى الجنة ركبانا على طاعاتهم المصوّرة لهم بصورة حيوان ، وهم الذين قال فيهم جلّ وعلا : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) (٣) ـ وهؤلاء هم الخواص وأمّا خاص الخاص فهم الذين قال عنهم : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي تقرّب الجنة منهم

وقوله : (غَيْرَ بَعِيدٍ) تأكيد لقوله : (وَأُزْلِفَتِ).

ويقال : «غير بعيد» : من العاصين تطييبا لقلوبهم.

قوله جل ذكره : (هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢))

الأوّاب : الراجع إلى الله في جميع أحواله.

(حَفِيظٍ) : أي محافظ على أوقاته ، (ويقال محافظ على حواسه في الله حافظ لأنفاسه مع الله) (٤).

قوله جل ذكره : (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣))

الخشية من الرحمن هي الخشية من الفراق. (والخشية من الرحمن تكون مقرونة بالأنس ؛ ولذلك لم يقل : من خشى الجبّار ولا من خشى القهّار) (٥).

__________________

(١) آية ٧٣ سورة الزمر.

(٢) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص.

(٣) آية ٨٥ سورة مريم.

(٤) ما بين القوسين موجود في ص وساقط في م.

(٥) ما بين القوسين موجود في ص وساقط في م.

٤٥٤

ويقال : الخشية من الله تقتضى العلم بأنه يفعل ما يشاء وأنه لا يسأل عمّا يفعل.

ويقال : الخشية ألطف من الخوف ، وكأنها قريبة من الهيبة (١).

(وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) : لم يقل بنفس مطيعة بل قال : بقلب منيب ليكون للعصاة في هذا أمل ؛ لأنهم ـ وإن قصّروا بنفوسهم وليس لهم صدق القدم ـ فلهم الأسف بقلوبهم وصدق النّدم.

قوله جل ذكره : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤))

أي يقال لهم : ادخلوها بسلامة من كل آفة ، ووجود رضوان ولا يسخط عليكم الحقّ أبدا.

ومنهم من يقول له الملك : ادخلوها بسلام ، ومنهم من يقول له : لكم ما تشاءون فيها قال تعالى :

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥))

لم يقل : «لهم ما يسئلون» بل قال : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ) : فكلّ ما يخطر ببالهم فإنّ سؤلهم يتحقق لهم في الوهلة ، وإذا كانوا اليوم يقولون : ما يشاء الله فإنّ لهم غدا منه الإحسان .. وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟

(وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) : اتفق أهل التفسير على أنه الرؤية ، والنظر إلى الله سبحانه (٢). وقوم يقولون : المزيد على الثواب في الجنة ـ ولا منافاة بينهما.

__________________

(١) يقول الدقاق شيخ القشيري : هي مراتب : الخوف والخشية والهيبة : فالخوف من شرط الإيمان (وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) والخشية من شرط العلم : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ). والهيبة من شرط المعرفة : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ). وقال أبو القاسم الحكيم : الخوف على ضربين : رهبة وخشية ؛ فصاحب الرهبة يلتجىء إلى الهرب إذا خاف وصاحب الخشية يلتجىء إلى الرب (الرسالة ص ٦٥).

(٢) أجمعوا على أن الله تعالى يرى بالأبصار في الآخرة ، وأنه يراه المؤمنون دون الكافرين ؛ لأن ذلك كرامة من الله تعالى لقوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ). وجوزّوا الرؤية بالعقل وأوجبوها بالسمع ؛ وإنما جاز في العقل لأنه موجود ، وكل موجود تجوز رؤيته إذا وضع الله سبحانه فينا الرؤية له ، ولو لم تكن الرؤية جائزة عليه لكان سؤال موسى عليه‌السلام : «أرنى أنظر إليك» جهلا وكفرا. وجاء السمع بوجوبه في مثل :

٤٥٥

قوله جل ذكره : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦))

أي اعتبروا بالذين تقدّموكم ؛ انهمكوا في ضلالتهم ، وأصرّوا ، ولم يقلعوا .. فأهلكناهم وما أبقينا منهم أحدا.

قوله جل ذكره : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧))

قيل : (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) : أي من كان له عقل. وقيل : قلب حاضر. ويقال قلب على الإحسان مقبل. ويقال : قلب غير قلّب.

(أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) : استمع إلى ما ينادى به ظاهره من الخلق وإلى ما يعود إلى سرّه من الحق (١). ويقال : لمن كان له قلب صاح لم يسكر (٢) من الغفلة. ويقال : قلب يعد أنفاسه مع الله. ويقال : قلب حيّ بنور الموافقة. ويقال : قلب غير معرض عن الاعتبار والاستبصار.

ويقال : «القلب ـ كما في الخبر ـ بين إصبعين من أصابع الرحمن» : أي بين نعمتين ؛ وهما ما يدفعه عنه من البلاء ، وما ينفعه به من النّعماء ، فكلّ قلب منع الحقّ عنه الأوصاف الذميمة وألزمه النعوت الحميدة فهو الذي قال فيه : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ). وفي الخبر : «إن لله أوانى ألا وهي القلوب ، وأقربها من الله ما رقّ وصفا» شبّه القلوب بالأوانى ؛ فقلب الكافر منكوس لا يدخل فيه شىء ، وقلب المنافق إناء مكسور ، ما يلقى فيه من أوّله يخرج من أسفله ، وقلب المؤمن إناء صحيح غير منكوس يدخل فيه الإيمان ويبقى.

__________________

ـ (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ). و (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) .. وقوله «ص» .. «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته يوم القيامة». وأجمعوا على أنه لا يرى في الدنيا بالأبصار ، ولكن بالقلوب ؛ لأن الدنيا دار فناء ولا يرى الباقي في الدار الفانية .. وهي على العموم رؤية بلا كيفية ولا إحاطة.

(١) هكذا في م وهي في ص (الخلق) وهي خطأ في النسخ.

(٢) هكذا في م وهي في ص (يسكن) وهي خطأ في النسخ.

٤٥٦

ولكنّ هذه القلوب مختلفة ؛ فقلب ملطّخ بالانفعالات وفنون الآفات ؛ فالشراب الذي يلقى فيه يصحبه أثر ، ويتلطخ به.

وقلب صفا من الكدورات وهو أعلاها قدرا.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨))

وأنى يمسّه اللّغوب. وهو صمد لا يحدث في ذاته حادث؟!

قوله جل ذكره : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩))

إن تأذّ سمعك بما يقولون فيّ من الأشياء التي يتقدّس عنها نعتى فاصبر على ما يقولون ، واستروح عن ذلك بتسبيحك لنا.

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠))

فالليل وقت الخلوة ـ والصفاء في الخلوة أتمّ وأصفى.

قوله جل ذكره : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢))

النداء من الحقّ ـ سبحانه ـ وارد عليهم ، كما أنّ النجوى تحصل دائما بينهم. والنداء الذي يرد عليهم يكون بغتة ولا يكون للعبد في فعله اختيار.

قوله جل ذكره : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣))

إلينا مرجع الكلّ ومصيرهم.

٤٥٧

قوله جل ذكره : (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤))

هذا يسير علينا : سواء خلقناهم جملة أو فرادى (١) ؛ قال تعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) (٢).

قوله جل ذكره : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥))

ما أنت عليهم بمتسلّط تكرههم.

وإنما يؤثّر التخويف والإنذار والتذكير في الخائفين ، فأمّا من لا يخاف فلا ينجح فيه التخويف ـ وطير السماء على ألّافها تقع.

__________________

(١) هكذا في ص وهي في م (فردا)

(٢) آية ٢٨ سورة لقمان.

٤٥٨

سورة الذّاريات

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

بسم الله كلمة عزيزة من ذكرها عزّ لسانه ، ومن عرفها اهتزّ بصحبتها جنانه (بِسْمِ اللهِ) كلمة للألباب غلّابة ، كلمة لأرواح المحبّين سلّابة.

قوله جل ذكره : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦))

(وَالذَّارِياتِ) : أي الرياح الحاملات (وِقْراً) أي السحاب (فَالْجارِياتِ) أي السفن. (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) أي الملائكة .. أقسم بربّ هذه الأشياء وبقدرته عليها. وجواب القسم : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ ..) والإشارة في هذه الأشياء أن من جملة الرياح. الرياح الصيحية (١) تحمل أنين المشتاقين إلى ساحات العزّة فيأتى نسيم القربة إلى مشامّ أسرار أهل المحبة .. فعندئذ يجدون راحة من غلبات اللوعة ، وفي معناه أنشدوا :

وإنى لأستهدى الرياح نسيمكم

إذا أقبلت من أرضكم بهبوب

وأسألها حمل السلام إليكمو

فإن هي يوما بلّغت .. فأجيبى

ومن السحاب ما يمطر بعتاب الغيبة ، ويؤذن بهواجم النّوى والفرقة. فإذا عنّ لهم من ذلك شىء أبصروا ذلك بنور بصائرهم ، فيأخذون في الابتهال ، والتضرّع في السؤال استعاذة منها .. كما قالوا :

__________________

(١) إشارة إلى صيحاتهم عند اشتداد الوجد.

٤٥٩

أقول ـ وقد رأيت لها سحابا

من الهجران مقبلة إلينا

وقد سحّت عزاليها (١) ببين

حوالينا الصدود ولا علينا

وكما قد يحمل الملّاح بعض الفقراء بلا أجرة طمعا في سلامة السفينة ـ فهؤلاء (٢) يرجون أن يحملوا في فلك العناية (٣) فى بحار (٤) القدرة عند تلاطم الأمواج حول السفينة.

ومن الملائكة من يتنزّل لتفقد أهل الوصلة ، أو لتعزية أهل المصيبة ، أو لأنواع من الأمور تتصل بأهل هذه القصة ، فهؤلاء القوم يسألونهم عن أحوالهم : هل عندهم خير عن فراقهم ووصالهم ـ كما قالوا :

بربّكما يا صاحبيّ قفا بيا

أسائلكم عن حالهم واسألانيا

(إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ. وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) : الحقّ ـ سبحانه ـ وعد المطيعين بالجنة ، والتائبين بالرحمة ، والأولياء بالقربة ، والعارفين بالوصلة ، ووعد أرباب المصائب بقوله : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) (٥) وهم يتصدون لاستبطاء حسن الميعاد ـ والله رءوف بالعباد.

قوله جل ذكره : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يؤفك عنه من أفك)

(ذاتِ الْحُبُكِ) أي ذات الطرائق الحسنة ـ وهذا قسم ثان ، وجوابه : (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) يعنى في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأحدهم يقول : إنه ساحر ، وآخر يقول : مجنون ، وثالث يقول : شاعر .. وغير ذلك.

__________________

(١) الأعزل من السحاب مالا مطر فيه (الوسيط ج ٢ ص ٦٠٥).

(٢) يقصد الصوفية.

(٣) هكذا في ص وهي في م (الكفاية).

(٤) هكذا في ص وهي في م (محال).

(٥) إشارة إلى الآيتين ١٥٦ ، ١٥٧ من سورة البقرة.

(الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).

٤٦٠