لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١))

يقال الإجابة على ضربين : إجابة لله ، وإجابة للداعى ؛ فإجابة الداعي بشهود الواسطة ـ وهو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإجابة الله بالجهر إذا بلغته الرسالة على لسان السفير ، وبالسّرّ إذا حصلت التعريفات من الواردات على القلب ؛ فمستجيب بنفسه ومستجيب بقلبه ومستجيب بروحه ومستجيب بسرّه. ومن توقف عن دعاء الداعي إيّاه ، ولم يبادر بالاستجابة هجر فيما كان يخاطب به (١).

قوله جل ذكره : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣))

الرؤية هنا بمعنى العلم.

(وَلَمْ يَعْيَ) أي ولم يعجز ولم يضعف.

قوله جل ذكره : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ)

ثم يقال لهم على سبيل تأكيد إلزام الحجة :

(أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟ قالُوا : بَلى وَرَبِّنا. قالَ : فَذُوقُوا الْعَذابَ ...)

جزاء لكم على كفركم.

قوله جل ذكره : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)

__________________

(١) هكذا في م وهي في ص (يطالب به) وكلاهما مقبول في السياق فالدعاء خطاب ومطالبة للمدعو.

٤٠١

أو لو الجد والصبر والحزم. وجاء في التفسير أنهم : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد صلى الله عليهم وسلم. وقيل : هود وصالح وشعيب ومحمد عليهم‌السلام. وقيل : منهم يعقوب وأيوب ويونس.

والصبر هو الوقوف لحكم الله ، والثبات من غير بثّ ولا استكراه.

قوله جل ذكره : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ).

ويقال مدّة الخلق : من مبتدأ وقتهم إلى منتهى آجالهم بالإضافة إلى الأزليّة (١) كلحظة بل هي أقلّ ؛ إذ الأزل لا ابتداء له ولا انتهاء .. وأي خطر لما حصل في لحظة .. خيرا كان أو شرّا؟!

__________________

(١) بالإضافة إلى ـ بالنسبة إلى.

٤٠٢

سورة محمّد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (١)

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

من ذكر (بِسْمِ اللهِ) جلّت رتبته ، ومن عرف (بِسْمِ اللهِ) صفت حالته ، ومن أحبّ (بِسْمِ اللهِ) أشكلت قصته (٢) ، ومن صحب (بِسْمِ اللهِ) امتحقت إنّيته (٣) ، وتلاشت ـ بالكلية ـ جملته.

قوله جل ذكره : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢))

(الَّذِينَ كَفَرُوا) : امتنعوا ، وصدّوا فمنعوا ؛ فلأنهم امتنعوا عن سبيل الله استوجبوا الحجبة والغيبة.

(أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) : أي أحبطها.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا ...) بما نزّل على محمد ، (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ...)

__________________

(١) وتسمى عند بعض المفسرين «سورة القتال».

(٢) الكلام في هذه النقطة كتير لا يتسع له هامش ضيق ، ومن أراد أن يعرف كيف أن قصة المحبين الإلهيين مشكلة فيكفى أن يعلم أن قمة هذه القصة الوصول إلى التوحيد .. أن يختفى الموحّد في الموحّد فلا يكون هناك إلا واحد ، إن تحدث فبالله ، وإن تحرك فبالله. هو بين الناس كائن وعنهم بائن ، يقضى عمره بين وجد وفقد ... (أنظر قصة هذا الحب بتفاصيلها الدقيقة في كتابنا : نشأة التصوف الإسلامى» باب الحب والفناء والمعرفة.

(٣) تلاشت آثار بشريته لا بشريته.

٤٠٣

أصلح حالهم ، فالكفر للأعمال محبط ، والإيمان للتخليد (١) مسقط.

ويقال : الذين اشتغلوا بطاعة الله ، ولم يعملوا (٢) شيئا مما خالف الله ـ فلا محالة ـ نقوم بكفاية اشتغالهم بالله.

قوله جل ذكره : (ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣))

أي يضرب أمثال هؤلاء لحسناتهم ، وأمثال هؤلاء لسيئاتهم.

ويكون اتباع الحقّ بموافقة السّنّة ، ورعاية حقوق الله ، وإيثار رضاه ، والقيام بطاعته. ويكون اتباع الباطل بالابتداع ، والعمل بالهوى ، وإيثار الحظوظ ، وارتكاب المعصية.

قوله جل ذكره : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها)

إذا حصل الظّفر بالعدوّ فالعفو عنهم وترك المبالغة في التشديد عليهم ـ للندم موجب ، وللفرصة تضييع ؛ بل الواجب إزهاق نفوسهم ، واستئصال أصولهم ، واقتلاع شجرهم من أصله.

وكذلك العبد إذا ظفر بنفسه فلا ينبغى أن يبقى بعد انتفاش شوكها بقية من الحياة ، فمن وضع عليها إصبعا بثّت سمّها فيه (٣).

(فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) ذلك إذا رجا المسلمون في ذلك غبطة أو فائدة ؛ مثل إفراج

__________________

(١) العذاب المؤيد.

(٢) هكذا في م وهي في ص (ولم يعلموا) وهي خطأ من الناسخ.

(٣) ذلك لأن نفسك التي بين حنبيك هي أعدى أعدائك ، وجهادها هو الجهاد الأكبر ... لأنها تقودك إلى دواعى الهوى ، وفي ذلك عند الصوفية شرك خفى.

٤٠٤

الكفّار عن قوم من المسلمين ، أو بسبب ما يؤخذ من الفداء .. وأمثال هذا ، فحينئذ ذلك مسلّم على ما يراه الإمام (١).

كذلك حال المجاهدة مع النّفس : حيث يكون في إغفاء ساعة أو في إفطار يوم ترويح للنفس من الكدّ ، وتقوية على الجهد فيما يستقبل من الأمر ـ فذلك مطلوب حسبما يحصل به الاستصواب من شيخ المريد ، أو فتوى لسان الوقت ، أو فراسة صاحب المجاهدة (٢).

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ)

إذا قتل أحد في سبيل الحقّ توّلى ورثة المقتول بأحسن من تولية المقتول.

وكذلك يرفع درجاته ؛ فيعظم ثوابه ، ويكرم مآبه.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧))

نصرة الله من العبد نصرة دينه بإيضاح الدليل وتبيينه.

ونصرة الله للعبد بإعلاء كلمته ، وقمع أعداء الدين ببركات سعيه وهمّته.

(وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) بإدامة التوفيق لئلا ينهزم من صولة أعداء الدين.

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨))

__________________

(١) للإمام الحق في أن يقبل أو يمن أو يفادى أو يسترق. والرسول نفسه. قتل عقبة بن معيط والنضر ابن الحارث يوم بدر ، وفادى سائر أسارى بدر ، ومنّ على ثمامة الحنفي وهو أسير ، ومن على سبى هوازن ، وأخذ من سلمة بن الأكوع جارية ففدى بها أناسا من المسلمين .. هذه كلها ثابتة في الصحيح ـ وهذه الأربعة إليها مذهب الشافعي.

(٢) تهمنا هذه الفقرة إذا تذكرنا أن القشيري متشدد في الرخص ، وقياس الرخصة هنا على آية القتال وعلى حرب المشركين وعل تصرف الإمام ... فيها دقة تحتاج إلى تدبر. ثم تهمنا في معرفة من الذي يمنح الرخصة للمريد؟

٤٠٥

تعسا لهم : لعنا وطردا ، وقمعا وبعدا!

(أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) : هتك أستارهم ، وأظهر للمؤمنين أسرارهم ، وأخمد نارهم.

قوله جل ذكره : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)

وكيف أهلكهم وأبادهم وأقماهم؟

قوله جل ذكره : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١))

المولى (١) هنا بمعنى الناصر (٢) ؛ فالله ناصر للذين آمنوا ، وأمّا الكافرون فلا ناصر لهم.

أو المولى من الموالاة وهي ضد المعاداة ، فيكون بمعنى المحب ؛ فهو مولى الذين آمنوا أي محبّهم ، وأما الكافرون فلا يحبهم الله.

ويقول تعالى في آية أخرى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) (٣).

ويصح أن يقال إنّ هذه أرجى (٤) آية في القرآن ؛ ذلك بأنه سبحانه يقول : (بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) ولم يقل : مولى الزهّاد والعبّاد وأصحاب الأوراد والاجتهاد ؛ فالمؤمن ـ وإن كان عاصيا ـ من جملة الذين آمنوا ، (لا سيما و (آمَنُوا) فعل ، والفعل لا عموم له) (٥).

قوله جل ذكره : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ)

__________________

(١) تضاف أقوال القشيري هنا فى (المولى) إلى حديثه عن ذلك الاسم في كتاب «التحبير في التذكير» وإلى حديثه في (الولاية والولي) في مواضع متفرقة من مصنفاته.

(٢) جاءت (الناظر) في ص وهي خطأنى النسخ.

(٣) آية ٢٥٧ سورة البقرة.

(٤) جاءت (أوحى) فى ص وهي خصأ في النسخ.

(٥) سقطت العبارة بين القوسين من ص وجاءت في م. والقشيري مستفيد من السياق القرآنى إذ عبّر عن الإيمان بالفعل وهو (آمَنُوا) وعبر عن الكفر بالاسم فقال : (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ).

٤٠٦

مضى الكلام في هذه الآية.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ)

الأنعام تأكل من أي موضع بلا تمييز ، وكذلك الكافر لا تمييز له بين الحلال والحرام. [كذلك الأنعام ليس لها وقت لأكلها ؛ بل في كل وقت تقتات وتأكل ، وكذلك الكافر ، وفي الخبر : «إنه يأكل في سبعة أمعاء». أمّا المؤمن فيكتفى بالقليل كما في الخبر : «إن كان ولا بد فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس» و «ما ملأ ابن آدم وعاء شرّا من بطنه»] (١).

قوله جل ذكره : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ)

«أَهْلَكْناهُمْ» : يعنى بها من أهلكهم من القرون الماضية في الأعصر الخالية.

قوله جل ذكره : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤))

«البينة» : الضياء والحجّة ، والاستبصار بواضح المحجة : فالعلماء في ضياء برهانهم ، والعارفون في ضياء بيانهم (٣) ؛ فهؤلاء بأحكام أدلة الأصول يبصرون ، وهؤلاء بحكم الإلهام والوصول يستبصرون.

__________________

(١) ما بين القوسين الكبيرين ساقط بتمامه من ص وثابت في م ، وهذه الأخبار موجودة في الجامع الصغير ح ٢ ص ١٥٣ وفي كتاب «الأطعمة» بالجزء الثالث من صحيح البخاري ، «والأذكار» للنووى. وتكملة الخبر الأول : عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله (ص) : يأكل المسلم في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء ، وروى كذلك عن ابن عمر.

(٢) عن ابن عباس قال : لما خرج النبي (ص) من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال : «اللهم أنت أحب البلاد إلى الله وأنت احب البلاد إليّ ولو لا المشركون أهلك أخرجونى لما خرجت منك» فنزلت الآية ـ ذكره الثعلبي ، وهو حديث صحيح.

(٣) هكذا في ص وهي في م (ثباتهم) ولكن ما في ص هو الأصوب ؛ لأننا نعرف من مذهب القشيري أن (البيان) للمعارفين والبرهان لأرباب العلم.

٤٠٧

قوله جل ذكره : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ)

كذلك اليوم شأن الأولياء ، فلهم شراب الوفاء ، ثم شراب الصفاء ، ثم شراب الولاء ، ثم شراب حال اللقاء.

ولكلّ من هذه الأشربة عمل ، ولصاحبه سكر وصحو ؛ فمن تحسّى شراب الوفاء لم ينظر إلى أحد في أيام غيبته عن أحبابه :

وما سرّ صدرى منذ شطّ بك النوى

أنيس ولا كأس ولا متصرف

ومن شرب كأس الصفاء خلص له عن كل شوب ، فلا كدورة في عهده ، وهو في كلّ وقت صاف عن نفسه ، خال من مطالباته (١) ، قائم بلا شغل ـ فى الدنيا والآخرة ـ ولا أرب.

ومن شرب كأس الولاء عدم فيه القرار ، ولم يغب بسرّه لحظة في ليل أو نهار.

ومن شرب في حال اللقاء أنس على الدوام ببقائه ؛ فلم يطلب ـ مع بقائه ـ شيئا آخر من عطائه ؛ لاستهلاكه في علائه عند سطوات كبريائه (٢).

قوله جل ذكره : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا

__________________

(١) أي مطالبات الحظوظ ؛ حظوظ النفس.

(٢) تنبه إلى أهمية هذه الفقرة التي أطال فيها القشيري حديثه عن الأشربة حيث لم يتاولها بفصيل في رسالته عند بحث مصطلح السّكر.

٤٠٨

الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧))

هم المنافقون الذين كرهوا ما أنزل الله ؛ لما فيه من افتضاحهم.

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ)

(اهْتَدَوْا) : بأنواع المجاهدات ، ف (زادَهُمْ هُدىً) : بأنوار المشاهدات.

(اهْتَدَوْا) : بتأمل البرهان ، ف (زادَهُمْ هُدىً) بروح البيان.

(اهْتَدَوْا) : بعلم اليقين ، ف (زادَهُمْ هُدىً) : بحقّ اليقين.

قوله جل ذكره : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ)

كان عالما بأنه : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) فأمره بالثبات عليها ؛ قال (ص) : «أنا أعلمكم بالله ، وأخشاكم له (٢)».

ويقال : كيف قيل له : (فَاعْلَمْ ...) ولم يقل : علمت ، وإبراهيم قيل له : (أَسْلَمَ) (٣) (..) فقال : (أَسْلَمْتُ ...)؟ فيجاب بأنّ إبراهيم لمّا قال : (أَسْلَمْتُ) ابتلى ، ونبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقل : علمت فعوفى.

__________________

(١) ما بين القوسين الكبيرين ساقط في ص وموجود في م.

(٢) البخاري عن أنس : (والله إنى لأخشاكم لله وأتقاكم له) والشيخان عن عائشة : (والله إنى لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية).

(٣) آية ١٣١ سورة البقرة : (قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ).

٤٠٩

وإبراهيم عليه‌السلام أتى بعده شرع كشف سرّه ، ونبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يأت بعده شرع.

ويقال : نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر الحقّ عنه بقوله : (آمَنَ الرَّسُولُ) (١) (...) والإيمان هو العلم ـ وإخبار الحقّ سبحانه عنه أتمّ من إخباره بنفسه عن نفسه : (عَلِمْتَ).

ويقال : فرق بين موسى عليه‌السلام لمّا احتاج إلى زيادة العلم فأحيل على الخضر ، ونبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (٢) ... فكم بين من أحيل في استزادة العلم على عبد وبين من أمر باستزادة العلم من الحق!!.

ويقال لمّا قال له (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) (٣) كان يأمره بالانقطاع إليه عن الخلق ، ثم بالانقطاع منه ـ أي من الرسول ـ إليه .. أي إلى الحق سبحانه. والعبد إذا قال هذه الكلمة على سبيل العادة والغفلة عن الحقيقة ـ أي كان بصفة النسيان ـ فليس لقوله كثير قيمة ؛ كأن تقال عند التعجب من شىء .. فليس لهذا قدر. أمّا إذا قالها مخلصا فيها ، ذاكرا لمعناها ، متحققا بحقيقتها .. فإن كان بنفسه فهو في وطن التفرقة .. وعندهم (٤) هذا من الشّرك الخفيّ ، وإن قالها بحقّ فهو الإخلاص. فالعبد يعلم أولا ربّه بدليل وحجّة ؛ فعلمه بنفسه كسبيّ .. وهو أصل الأصول ، وعليه ينبنى كل علم استدلالى (٥)! ثم تزداد قوة علمه بزيادة البيان وزيادة الحجج ، ويتناقص علمه بنفسه لغلبات ذكر الله على القلب. فإذا انتهى إلى حال المشاهدة ، واستيلاء سلطان الحقيقة عليه صار علمه في تلك الحالة ضروريا. ويقلّ إحساسه بنفسه حتى يصير علمه بنفسه كالاستدلاليّ وكأنه غافل (٦) عن نفسه أو ناس لنفسه.

__________________

(١) آية ٢٨٥ سورة البقرة : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ).

(٢) آية ١١٤ سورة طه.

(٣) هنا يفرق القشيري بين التوحيد المنطوق باللسان ، والتوحيد عند أرباب الحقيقة.

(٤) أي عند أرباب الحقائق ، لأن أي شعور بالغيرية نتيجة عدم الإخلاص نقص في التوحيد.

(٥) من هذا يتضح أن الصوفية لا يهملون العقل تماما بل يحترمونه في مرحلة البداية من أجل تصحيح الإيمان ، ولكنهم لا يعولون عليه تماما في بقية معراجهم الروحي. وهذا رد حاسم على من ينكرون على الصوفية علاقتهم بالعقل والعلوم العقلية.

(٦) في ص (وكأنه قال) وهي خطأ من الناسخ كما هو واضح من السياق بعده.

٤١٠

ويقال : الذي على البحر يغلب عليه ما يأخذه من رؤية البحر ، فإذا ركب البحر قويت هذه الحالة ، حتى إذا غرق في البحر فلا إحساس له بشىء سوى ما هو مستغرق فيه ومستهلك (١).

(وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) : اى إذا علمت أنك علمت فاستغفر لذنبك من هذا ؛ فإن الحقّ ـ على جلال قدره ـ لا يعلمه غيره (٢).

قوله جل ذكره : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ...)

كان المسلمون تضيق قلوبهم بتباطؤ الوحى ، وكانوا يتمنون أن ينزل الوحى بسرعة فقال تعالى : (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ) (٣) (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) رأيت المنافقين يكرهون ذلك لما كان يشق عليهم من القتال ، فكانوا يفتضحون عندئذ ، وكانوا ينظرون إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بغاية الكراهة.

(... فَأَوْلى لَهُمْ).

__________________

(١) القشيري هنا مستفيد من شيخه أبى على الدقاق حين أوضح مراحل التواجد فالوجد فالوجود قائلا : «التواجد يوجب استيعاب العبد ، والوجد يوجب استغراق العبد ، والوجود يوجب استهلاك العبد ، فهو كن شهد البحر ثم ركب البحر ثم غرق في البحر» الرسالة ص ٣٧.

(٢) يذكرنا هذا بقول رابعة بعد ليال قضتها في الصلاة والاستغفار : «إن صلاتنا في حاجة إلى صلاة ، واستغفارنا في حاجة إلى استغفار» كما يذكرنا بقول القشيري في موضع مماثل : «... جلت الصمدية عن أن يستشرف من إدراكها بشر» ، وفي ذلك يقول أبو عبد الله الجلاء (ت ٣٠٦ ه‍) :

كيفية المرء ليس المرء يدركها

فكيف كيفية الجبار في القدم؟

هو الذي أحدث الأشياء مبتدعا

فكيف يدركه مستحدث النسم؟

(٣) قال قتادة : كل سورة ذكر فيها الجهاد فهى محكمة. وقيل معناها مبينة غير متشابهة ، لا نحتمل وجها إلا وجوب القتال.

٤١١

تهديد (١).

قوله جل ذكره : (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ)

وهو قولهم : (لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ...).

ويقال : فأولى لهم طاعة منهم لله ولرسوله. «وقول معروف» بالإجابة لما أمروا به من الجهاد.

ويقال : طاعة وقول معروف أمثل بهم.

قوله جل ذكره (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ).

إذا عزم الأمر ـ أي جدّ وفرض القتال ـ فالصدق والإجابة خير لهم من كذبهم ونفاقهم وتقاعدهم عن الجهاد.

قوله جل ذكره : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢))

أي فلعلكم إن أعرضتم عن الإيمان ـ بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ورجعتم إلى ما كنتم عليه أن تفسدوا في الأرض ، وتسفكوا الدماء الحرام ، وتقطعوا أرحامكم ، وتعودوا إلى جاهليتكم.

قوله جل ذكره : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣))

أصمّهم عن سماع الحقّ وقبوله بقلوبهم ، وأعمى بصائرهم.

__________________

(١) يقول الشاعر :

فأولى ثم أولى ثم أولى

وهل الدّرّ يحلب من مردّ

وقال الأصمعى معناها : قاربه ما يهلكه وأقشد :

فعادى بين هاديتين منها

وأولى أن يزيد على الثلاث

وقال المبرد : يقال لمن همّ بالعطب : أولى لك! أي : قاربت العطب.

٤١٢

قوله جل ذكره : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤))

أي إن تدّبروا القرآن أفضى بهم إلى العرفان ، وأراحهم من ظلمة التحيّر.

(أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) : أقفل الحقّ عل قلوب الكفار فلا يداخلها زاجر التنبيه ، ولا ينبسط عليها شعاع العلم ، فلا يحصل لهم فهم الخطاب ؛ فالباب إذا كان مقفلا ... فكما لا ينخل فيه شىء لا يخرج منه شىء ؛ كذلك قلوب الكفار مقفلة ، فلا الكفر الذي فيها يخرج ، ولا الإيمان الذي هم يدعون إليه يدخل في قلوبهم.

وأهل الشّرك والكفر قد سدّت بصائرهم وغطّيت أسرارهم ، ولبّس عليهم وجه التحقيق.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥))

الذي يطلع فجر قلبه ، ويتلألأ نور التوحيد فيه ، ثم قبل متوع نهار إيمانه انكسفت شمس يومه ، وأظلم نهار عرفانه ، ودجا ليل شكّه ، وغابت هجوم عقله ... فحدّث عن ظلماته ...! ولاحرج! (١)

[ذلك جزاؤهم على مما لأئهم مع المنافقين ، وتظاهرهم ... فإذا توّفتهم الملائكة تتصل آلامهم ، ولا تنقطع بعد ذلك عقوباتهم.] (٢).

قوله جل ذكره : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩))

ليس الأمر كما توهّمموه ، بل الله يفضحهم ويكشف تلبيسهم ، ولقد أخبر الرسول عنهم ، وعرّفه أعيانهم.

__________________

(١) القشيري هنا يغمز بمن ينتمون إلى طريقة الصوفية ثم يفسخون عقدهم مع الله ، ويتخلون عن طريق الإرادة بعد قطعهم مسافة قصيرة.

(٢) ما بين القوسين الكبيرين ساقط في م وثابت في ص.

٤١٣

قوله جل ذكره : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠))

أي في معنى الخطاب ، فالأسرّة تدلّ على السريرة ، وما يخامر القلوب فعلى الوجوه يلوح أثره :

لست ممن ليس يدرى

ما هوان من كرامة

إنّ للحبّ

وللبغض على الوجه علامة

والمؤمن ينظر بنور الفراسة (١) ، والعارف ينظر بنور التحقيق ، والموحّد ينظر بالله فلا يستتر عليه شىء (٢).

ويقال : بصائر الصديقين غير مغطّاة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سدوا كل خوخة غير خوخة أبى بكر» (٣).

قوله جل ذكره : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١))

بالابتلاء والامتحان تتبين جواهر الرجال ، فيظهر المخلص ، ويفتضح المماذق ، وينكشف المنافق ، فالذين آمنوا وأخلصوا نجوا وتخلصوا ، والذين كفروا ونافقوا وقعوا (٤) فى الهوان وأذلّوا ، ووسموا بالشقاوة وقطعوا.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣))

__________________

(١) هكذا في م وهي في ص (بعين الفراسة). روى الترمذي والطبراني من حديث أبى أمامة ، والترمذي من حديث أبى سعد ، والطبراني وأبو نعيم والبزاز بسند صحيح عن أنس «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله».

(٢) يفيد هذا الكلام في ترتيب القوم : مؤمن ثم عارف ثم موحد فالموحدون أعلى درجات السائرين.

(٣) يقول القشيري في كتابه «المعراج» ص ٧٢ : (كان الصديق مخصوصا من البصيرة بما لم يخص به غيره قال (ص) : «سدوا كل خوخة غير خوخه أبى بكر». وذلك لما فتحوا في المسجد من كل دار خوخة ، والإشارة فيه أن الصديق ليس بممنوع من الإبصار بحال).

(٤) سقطت (وقعوا) فى ص ، وموجودة في م.

٤١٤

(لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) : بالرياء والإعجاب والملاحظة.

(لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) : بالمساكنة إليها. (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) بطلب الأعواض عليها.

(لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) : بتوهمكم أنه يجب بها شىء دون فضل الله (١).

قوله جل ذكره : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥))

أي لا تميلوا إلى الصلح مع الكفار وأنتم الأعلون بالحجة (٢).

أنتم الأعلون بالنصرة. قوله (وَاللهُ مَعَكُمْ). أي بالنصرة ويقال : لا تضعفوا بقلوبكم ، وقوموا بالله ؛ لأنكم ـ والله معكم ـ لا يخفى عليه شىء منكم ، فهو على الدوام يراكم. ومن علم أنّ سيّده يراه يتحمل كلّ مشقة مشتغلا برؤيته :

(وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ)

أي لا ينقصكم أجر أعمالكم.

قوله جل ذكره : (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦))

تجنبوا الشّرك والمعاصي حتى يفيكم أجوركم.

والله لا يسألكم من أموالكم إلا اليسير منها وهو مقدار الزكاة (٣).

(إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧))

__________________

(١) هذه الإشارة موجهة إلى الذين يزعمون أن الطاعة توجب على الله الثواب. ويرى القشيري أنه لا وجوب على الله ؛ فكل شىء من فضله ؛ لأن طاعة العبد لا توجب لله زينا ، ومعصيته لا تلحق به سبحانه شينا. والله (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ).

(٢) عند هذا الحد انتهت النسخة م ، ولذا فإننا نعتمد على النسخة ص في بقية السورة ، وهي مساحة كبيرة.

(٣) وهي على حد تعبير سفيان بن عيينه : غيض من فيض.

٤١٥

«الإحفاء» الإلحاح في المسألة ... وهذا إنما يقوله لمن لم يوق شحّ نفسه ، فأمّا الإخوان ومن علت رتبتهم في باب حرية القلب فلا يسامحون في استيفاء ذرّة ، ويطالبون ببذل الرّوح ، والتزام الغرامات.

قوله جل ذكره : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ)

البخل منع الواجب ، وإذا بخل فإنما يبخل عن نفسه لأنه لو لم يفعل ذلك لحصل له الثراء ـ هكذا يظن.

قوله جل ذكره : (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ).

«غنى» بنفسه على قول ، وغنيّ بوصفه على القول الثاني (١). وغناه كونه لا تتقيد مراداته. أمّا العبد فهو فقير بنفسه ؛ لأنه لا يستغنى عن مولاه ؛ فى الابتداء منذ خلقه إلى الانتهاء ، وهو في دوام الأوقات مفتقر إلى مولاه.

والفقير الصادق من يشهد افتقاره إلى الله. وصدق الفقير في شهود فقره إلى الله. ومن افتقر إلى الله استغنى بالله ، ومن افتقر إلى غير الله وقع في الذّلّ والهوان.

ويقال : الله غنيّ عن طاعتكم ، وأنتم الفقراء إلى رحمته.

ويقال : الله غنيّ لا يحتاج إليكم ، وأنتم الفقراء لأنكم لا بديل لكم عنه.

قوله جل ذكره : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ).

يستبدل قوما غيركم يكونون أشدّ منكم طاعة ، وأصدق منكم وفاء ؛ فهو قادر على خلق أمثالكم ثم لا يكونون أمثالكم في العصيان والإعراض وترك الشكر والوفاء ... بل سيكونون خيرا منكم.

__________________

(١) أي يمكن أن تكون من صفات الذات أو من صفات الفعل انظر «الغني» فى كتاب «التحبير في التذكير» للإمام القشيري تحقيق د. بسيونى.

٤١٦

سورة الفتح

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(بِسْمِ اللهِ) تشير إلى سموّه في أزله ، وعلوّه في أبده ؛ وسموّه في أزله نفى البداية عنه بحقّ القدم ، وعلوّه في أبده نفى الانتهاء عنه باستحالة العدم ؛ فمعرفة سموّه توجب للعبد سموّا ، ومعرفة علوّه توجب للعبد علوّا (١).

قوله جل ذكره : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١))

قضينا لك قضاء بيّنا ، وحكمنا لك بتقوية دين الإسلام ، والنصرة على عدوّك ، وأكرمناك بفتح ما انغلق على قلب من هو غيرك ـ من قبلك ـ بتفصيل شرائع الإسلام ، وغير ذلك من فتوحات قلبه صلوات الله عليه.

نزلت الآية في فتح مكة ، ويقال في فتح الحديبية (٢).

ويقال : هديناك إلى شرائع الإسلام ، ويسّرنا لك أمور الدين.

(لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ)

__________________

(١) واضح أن مذهب القشيري في معرفة أسماء الله سبحانه لا يقتصر على المعرفة الكلامية النظرية بل يتجاوز ذلك إلى التأدب بها ، والتخلق بأخلاق الله .. فالعمل مترتب على العلم (انظر مقدمتنا لكتاب التحبير في التذكير).

(٢) يقال نزلت هذه السورة بين مكة والمدينة (رواية محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن المسور ابن مخرمة ومروان بن الحكم) وأنها نزلت في شأن الحديبية. (كذلك في البخاري في سماع قتادة عن أنس). وقال الضحاك : «مبينا» أي بغير قتال. وقال مجاهد : كان فتح الحديبية آية عظيمة إذ نزح ماؤها فمج فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه. وقال الشعبي : هو فتح الحديبية ؛ فقد أصاب فيها ما لم يصب في غزوة : غفر الله له ذنبه ، وبويع بيعة الرضوان ، وأطعموا نخل خيبر ، وبلغ الهدى محله ، وظهرت الروم على الفرس.

٤١٧

كلا القسمين ـ المتقدّم والمتأخّر ـ كان قبل النبوة (١).

ويقال (ما تَقَدَّمَ) من ذنب آدم بحرمتك ، (وَما تَأَخَّرَ) : من ذنوب أمّتك (٢).

وإذا حمل على ترك الأولى (٣) فقد غفر له جميع ما فعل من قبيل ذلك ، قبل النبوة وبعدها (٤).

ولمّا نزلت هذه الآية قالوا : هنيئا لك! فأنزل الله تعالى :

(لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) .. ويقال : حسنات الأبرار سيئات المقربين.

(وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً)

يتم نعمته عليك بالنبوة ، وبوفاء العاقبة ، وببسط الشريعة ، وبشفاعته لأمته ، وبرؤية الله غدا ،

يتم نعمته عليك بالنبوة ، وبوفاء العاقبة ، وببسط الشريعة ، وبشفاعته لأمته ، وبرؤية اللّه غدا ، [وبإظهار دينه على الأديان ، وبأنه سيد ولد آدم ، وبأنه أقسم بحياته ، وخصّه بالعيان] (٥). وبسماع كلامه سبحانه ليلة المعراج ، وبأن بعثه إلى سائر الأمم .. وغير ذلك من مناقبه.

«وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً» يثبتك على الصراط المستقيم ، ويزيدك هداية على هداية ، ويهدى بك الخلق إلى الحقّ.

ويقال : يهديك صراطا مستقيما بترك حظّك.

(وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣))

__________________

(١) نصّ القشيري على «قبل النبوة» لأن الأنبياء معصومون من الذنب.

(٢) هذا أيضا قول عطاء الخراسانى.

(٣) ترك الأولى تعبير أدبى مهذب عن «الذنب». ويقال : كان الذنب المتقدم على يوم بدر قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض». والذنب المتأخر كان يوم حنين حيث رمى جمرات فى وجوه المشركين قائلا : «شاهت الوجوه .. حم. لا ينصرون». فانهزم القوم عن آخرهم ، ولم يبق أحد إلا امتلأت عيناه رملا وحصباء. وعند عودة النبي مع أصحابه قال لهم : لو لم أرمهم لم ينهزموا! فأنزل الله عزوجل : وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى.

(٤) روى الترمذي عن أنس أن النبي فرح بهذه الآية فرحا شديدا وقال : لقد أنزلت على آية أحب إلى ما على وجه الأرض».

(٥) ما بين القوسين الكبيرين موجود في ص وغير موجود في م.

٤١٨

لا ذلّ فيه ، وتكون غالبا لا يغلبك أحد.

ويقال : ينصرك على هواك ونفسك ، وينصرك بحسن خلقك ومقاساة الأذى من قومك.

ويقال نصرا عزيزا : معزا لك ولمن آمن بك.

وهكذا اشتملت هذه الآية على وجوه من الأفضال أكرم بها نبيّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وخصّه بها من الفتح والظّفر على النّفس والعدو ، وتيسير ما انغلق على غيره ، والمغفرة ، وإتمام النعمة والهداية والنصرة .. ولكلّ من هذه الأشياء خصائص عظيمة.

قوله جل ذكره : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ...)

.. السكينة ما يسكن إليه القلب من البصائر والحجج ، فيرتقى القلب بوجودها عن حدّ الفكرة إلى روح اليقين وثلج الفؤاد ، فتصير العلوم ضرورية (١) .. وهذا للخواصّ.

فأمّا عوامّ المسلمين فالمراد منها : السكون والطمأنينة واليقين.

ويقال : من أوصاف القلب في اليقين المعارف والبصائر والسكينة.

وفي التفاسير : السكينة ريح هفّافة. وقالوا : لها وجه كوجه الإنسان. وقيل لها جناحان.

(لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ)

أي يقينا مع يقينهم وسكونا مع سكونهم. تطلع أقمار عين اليقين على نجوم علم اليقين. ثم تطلع شمس حقّ اليقين على بدر عين اليقين.

(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً).

(جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : قيل : هى جميع القلوب الدالّة على وحدانية الله.

ويقال : ملك السماوات والأرض وما به من قوّى تقهر أعداء الله.

__________________

(١) أي لا نعوذ كسبيه حيث لم يعد للإنسان من نفسه لنفسه شىء.

٤١٩

ويقال : هم أنصار دينه.

ويقال : ما سلّطه الحقّ علي شىء فهو من جنوده ، سواء سلّطه على وليّه في الشدة والرخاء ، أو سلّطه على عدوّه في الراحة والبلاء.

قوله جل ذكره : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥))

يستر ذنوبهم ويحطها عنهم .. وذلك فوز عظيم ، وهو الظّفر بالبغية (١).

وسؤل كلّ أحد ومأموله ، ومبتغاه ومقصوده مختلف .. وقد وعد الجميع ظفرا به.

قوله جل ذكره : (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ)

يعذبهم في الآجل بعذابهم وسوء عقابهم.

و (ظَنَّ السَّوْءِ) : هو ما كان بغير الإذن ؛ ظنوا أنّ الله لا ينصر دينه ونبيّه عليه‌السلام.

(عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) : عاقبته تدور عليهم وتحيق بهم.

(وَلَعَنَهُمْ) : أبعدهم عن فضله ، وحقت فيهم كلمته ، وما سبقت لهم ـ من الله سبحانه ـ قسمته.

قوله جل ذكره : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨))

(أَرْسَلْناكَ شاهِداً) : على أمّتك يوم القيامة. ويقال : شاهدا على الرّسل والكتب.

ويقال : شاهدا بوحدانيتنا وربوبيتنا. ويقال : شاهدا لأمتك بتوحيدنا. (وَمُبَشِّراً) : لهم منّا بالثواب ،. (وَنَذِيراً) للخلق ؛ زاجرا ومحذّرا من المعاصي والمخالفات.

__________________

(١) هكذا في م وهي في ص بالنعمة.

٤٢٠