لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

ـ والذي هو للرّوح روح ـ بقاؤهم بالله.

ويقال : روح هو روح إلهام ، وروح هو روح إعلام ، وروح هو روح إكرام.

ويقال : روح النبوة ، وروح الرسالة ، وروح الولاية ، وروح المعرفة.

ويقال : روح بها بقاء الخلق ، وروح بها ضياء الحق.

قوله جل ذكره : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦))

يعلم الحاصل الموجود ، ويعلم المعدوم المفقود ، والذي كان والذي يكون ، والذي لا يكون مما علم أنه لا يجوز أن يكون ، والذي جاز أن يكون أن لو كان كيف كان يكون.

(لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ)

لا يتقيد ملكه بيوم ، ولا يختصّ ملكه بوقت ، ولكنّ دعاوى الخلق ـ اليوم ـ لا أصل لها ؛ إذ غدا تنقطع تلك الدعاوى وترتفع تلك الأوهام.

قوله جل ذكره : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧))

يجازيهم على أعمالهم بالجنان ، وعلى أحوالهم بالرضوان ، وعلى أنفاسهم بالقربة ، وعلى محبتهم بالرؤية.

ويجازى المذنبين على توبتهم بالغفران ، وعلى بكائهم بالضياء والشفاء.

(لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) : أي أنه يستحيل تقدير الظلم منه ، وكل ما يفعل فله أن يفعله. (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) مع عباده ؛ لا يشغله شأن عن شأن ، وسريع الحساب مع أوليائه في الحال ؛ يطالبهم بالصغير والكبير ، والنقير والقطمير.

قوله جل ذكره : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى

٣٠١

الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨))

قيامه الكلّ مؤجلّة ، وقيامة المحبين معجّلة ؛ فلهم في كلّ نفس قيامة من العقاب والعذاب والثواب ، والبعاد والاقتراب ، وما لم يكن لهم في حساب (١) ، وتشهد عليهم الأعضاء ؛ فالدمع يشهد ، وخفقان القلب ينطق ، والنحول يخبر ، واللون يفصح ... والعبد يستر ولكن البلاء يظهر :

يا من تغيّر صورتى لمّا بدا

لجميع ما ظنّوا بنا تصديقا (٢)

وأنشدوا :

لى في محبته شهود أربع

وشهود كلّ قضية اثنان

ذوبان جسمى وارتعاد مفاصلى

وخفوق قلبى واعتقال لسانى

وقلوبهم ـ إذا أزف الرحيل بلغت الحناجر ، وعيونهم شرقت بدموعها إذا نودى بالرحيل وشدّت الرواحل.

قوله جل ذكره : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩))

فحائنة أعين المحبين استحسانهم شيئا ، ولهذا قالوا :

يا قرّة العين : سل عينى هل اكتحلت

بمنظر حسن مذ غبت عن بصرى؟

ولذلك قالوا :

فعينى إذا استحسنت غيركم

أمرت السّهاد بتعذيبها

__________________

(١) أي وما لم يخطر لهم ببال.

(٢) معنى الشاهد الشعرى فيما نظن : يا أيها الذي تتغير صورتى عند تجليه عليّ ، فينكشف أمرى رغم محاولتى ستر حالى ، وبذا تصدق ظنون العاذلين واللائمين.

٣٠٢

ومن خائنة أعينهم أن تأخذهم السّنة والسّبات في أوقات المناجاة ؛ وقد جاء في قصة داود عليه‌السلام : كذب من ادّعى محبتى ، فإذا جنّة الليل نام عنّى!

ومن خائنة أعين العارفين أن يكون لهم خبر بقلوبهم عمّا تقع عليه عيونهم.

ومن خائنة أعين الموحّدين أن تخرج منها قطرة دمع تأسّفا على مخلوق يفوت في الدنيا والآخرة ، ولا على أنفسهم.

ومن خائنة أعين المحبين النظر إلى غير المحبوب بأى وجه كان ، ففى الخبر : «حبّك الشىء يعمى ويضم».

(وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) : فالحقّ به خبير (١).

قوله جل ذكره : (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠))

يقضى للأجانب بالبعاد ، ولأهل الوصال بالوداد ، ويقضى يوم القدوم بعزل عمال الصدود ، وإذا ذبح الموت غدا بين الجنة والنار على صورة كبش أملح فلا غرابة أن يذبح الفراق على رأس سكّة (٢) الأحباب في صورة شخص منكر ويصلب على جذوع العبرة لينظر إليه أهل الحضرة.

قوله جل ذكره : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً

__________________

(١) كان عبد الله بن أبى سرح يكتب الوحى لرسول الله (ص) ثم ارتد ولحق بالمشركين فأمر رسول الله (ص) بقتله يوم فتح مكة.

ويروى أنه لما جىء به إلى الرسول (ص) بعد ما اطمأن أهل مكة ، وطلب عثمان رضى الله عنه له الأمان صمت الرسول طويلا ثم قال : «نعم» ، فلما انصرف قال الرسول (ص) لمن حوله : «ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه» فقال رجل من الأنصار : فهلا أو مأت إلى يا رسول الله؟ فقال : إن النبي لا تكون له خائنة أعين»

(٢) السكة الطريق المستوي.

٣٠٣

فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١))

أو لم يسيروا في أقطار الأرض بنفوسهم ، ويطوفوا مشارقها ومغاربها ليعتبروا بها فيزهدوا فيها؟ أو لم يسيروا بقلوبهم في الملكوت بجولان الفكر ليشهدوا أنوار التجلّى فيستبصروا بها؟ أو لم يسيروا بأسرارهم في ساحات الصمدية ليستهلكوا في سلطان الحقائق ، وليتخّلصوا من جميع المخلوقات قاصيها ودانيها؟.

قوله جل ذكره : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢))

إن بنى من أهل السلوك قاصد لم يصل إلى مقصوده فليعلم أنّ موجب حجبه اعتراض خامر قلبه على بعض شيوخه في بعض أوقاته ؛ فإنّ الشيوخ بمحلّ السفراء للمريدين. وفي الخبر : «الشيخ في قومه كالنبىّ في أمته» (١).

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤))

أكرم خلقه في وقته كان موسى عليه‌السلام ، وأخسّ خلقه وأذلّهم في حكمه وأشدّهم كفرا كان فرعون ؛ فما قال أحد غيره : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) (٢).

فبعث الله ـ أخصّ عباده إلى أخسّ عباده ، فقابله بالتكذيب ، ونسبه إلى السّحر ،

__________________

(١) يقول السهروردي في عوارفه : «وأخلاق المشايخ مهذبة بحسن الاقتداء برسول الله (ص) وهم أحق الناس بإحياء سنته في كل ما أمر وندب وأنكر وأوجب (ص ٢٩٣) عوارف المعارف ، وفي موضع آخر يقول : «فليعلم المريد أن الشيخ عنده تذكرة من الله ورسوله وأن الذي يعتمده مع الشيخ عوض ما لو كان في زمن رسول الله عليه الصلاة والسلام. ص ٢٨٥.

(٢) آية ٣٨ سورة القصص.

٣٠٤

وأنّبه بكل أنواع التأنيب. ثم لم يعجّل الله عقوبته ، وأمهله إلى أن أوصل إليه شقوته ـ إنه سبحانه حليم بعباده.

قوله جل ذكره : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥))

عزم على إهلاكه وإهلاك قومه ، واستعان على ذلك بجنده وخيله ورجله ، ولكن كان كما قال الله : (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) ، لأنه إذا حفر أحد لوليّ من أولياء الله تعالى حفرة ما وقع فيها غير حافرها ... بذلك أجرى الحقّ سنّته.

قوله جل ذكره : (وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦))

(وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) أي ليستعن بربه ، وإنى أخاف أن يبدّل دينكم ، وأخاف أن يفسد فى الأرض ، وكان المفسد هو فرعون ، وهو كما قيل في المثل : «رمتنى بدائها وانسلّت». ولكن كادله له الكيد ، والكائد لا يتخلص من كيده.

فاستعاذ موسى بربه ، وانتدب في الردّ عليهم مؤمن بالله وبموسى كان يكتم إيمانه عن فرعون وقومه :

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨)) آيات

٣٠٥

نصحهم واحتجّ عليهم فلم ينجع فيهم نصح ولا قول. وكم كرّر ذلك المؤمن من آل فرعون القول وأعاد لهم النّصح! فلم يستمعوا له ، وكان كما قيل :

وكم سقت في آثاركم من نصيحة

وقد يستفيد البغضة المتنصّح

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤))

بيّن أنّ تكذيبهم كتكذيب آبائهم وأسلافهم من قبل ، وكما أهلك أولئك قديما كذلك يفعل بهؤلاء.

قوله جل ذكره : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً)

السبب ما يتوصّل به إلى الشيء ؛ أي لعلّى أصل إلى السماء فأطّلع إلى إله موسى. ولو لم يكن من المضاهاة بين من قال إن المعبود في السماء وبين الكافر إلا هذا لكفى به خزيا لمذهبهم (١). وقد غلط فرعون حين توهّم أنّ المعبود في السماء ، ولو كان في السماء لكان فرعون مصيبا فى طلبه من السماء.

قوله جل ذكره : (وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ).

أخبر أنّ اعتقاده بأنّ المعبود في السماء خطأ ، وأنّه بذلك مصدود عن سبيل الله.

قوله جل ذكره : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ

__________________

(١) هنا يغمز القشيري بالمشبهة غمزة قاسية (انظر ص ٣٤٥ من هذا المجلد).

٣٠٦

أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩))

أصرّ على دعائه لهم وأصرّوا على جحودهم وعنودهم.

(مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠))

(فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) : فى المقدار لا في الصفة ؛ لأن الأولى سيئة ، والمكافأة من الله عليها حسنة وليست بسئة.

(وَهُوَ مُؤْمِنٌ) يعنى في الحال (١) ، لأنّ من لا يكون مؤمنا في الحال لا يكون منه العمل الصالح ، (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) : أي رزقا مؤبّدا مخّلدا ، لا يخرجون من الجنة ولا ممّا هم عليه من المآل.

(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١))

وهذا كلّه من قول مؤمن آل فرعون ، يقوله على جهة الاحتجاج لقومه ، ويلزمهم الحجة به.

(تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢))

تدعوننى لأكفر بالله وأشرك به من غير علم لى بصحة قولكم ، وأنا أدعوكم إلى الله وإلى ما أوضحه بالبرهان ، وأقيم عليه البيان.

__________________

(١) فى الحال هنا معناها في هذه الحياة الدنيا.

٣٠٧

(لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣))

لا جرم أنّ ما تدعوننى إليه باطل ؛ فليس لتلك الأصنام حياة ولا علم ولا قدرة ، وهي لا تنفع ولا تضرّ. ولقد علمنا ـ بقول الذين ظهر صدقهم بالمعجزات ـ كذبكم فيما تقولون.

(فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤))

أفوض أمرى إلى الله ، وأتوكل عليه ، ولا أخاف منكم ، ولا من كيدكم.

قوله جل ذكره : (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦))

والآية تدلّ على عذاب القبر (١).

ويقال إنّ أرواح الكفار في حواصل طير سود تعرض على النار غدوا وعشيا إلى يوم القيامة حيث تدخل النار (٢).

(أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) : أي يا آل فرعون أدخلوا أشدّ العذاب ، فنصبه على النداء المضاف. ويقرأ (أَدْخِلُوا) على الأمر (٣).

__________________

(١) بدليل قوله تعالى فيما بعد عن عذاب الآخرة : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) وممن استنتج هذه النتيجة مجاهد وعكرمه ومقاتل ومحمد بن كعب.

(٢) أي هذا دأبها في الدنيا تذهب في الغداة أفواجا بيضا صغارا ثم تعود في العشاء سودا قد احترقت رياشها (الأوزاعى ـ والنص عند القرطبي ح ١٥ ص ٣١٩)

(٣) فيكون الأمر عندئذ لملائكة العذاب.

٣٠٨

(أَشَدَّ الْعَذابِ) : أي أصعبه ، وأصعب عذاب للكفار في النار يأسهم من الخروج عنها. أمّا العصاة من المؤمنين فأشدّ عذابهم في النار إذا علموا أن هذا يوم لقاء المؤمنين ، فإذا عرفوا ذلك فذلك اليوم أشدّ أيام عذابهم.

قوله جل ذكره : (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨))

يقول الضعفاء للذين استكبروا : أنتم أضللتمونا ، ويقول لهم المستكبرون : أنتم وافقتمونا باختياركم (١) ؛ فمحاجة بعضهم لبعض تزيد في غيظ قلوبهم ، فكما يعذّبون بنفوسهم يعذبون بضيق صدورهم وببغض بعضهم لبعض.

قوله جل ذكره : (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠))

وهذه أيضا من أمارات الأجنبية ، فهم يدخلون واسطة بينهم وبين ربّهم (٢). ثم إن الله ينزع الرحمة عن قلوب الملائكة كى لا يستشفعوا لهم.

__________________

(١) لإحظ هنا كيف يحرص القشيري على إبراز عنصر الاختيار لدى الإنسان ، مع معرفتنا السابقة بأنه ينادى بأن الله خالق كل شىء حتى أكساب العباد ، وقد حاول أن يوفق بين الاتجاهين فقال : يجرى هذا من العبد فعلا ومن الله حكما.

(٢) من ذلك نفهم أن القشيري لا يرى بالواسطة عند الدعاء ، بل ينبغى أن تدعو الله مباشرة.

٣٠٩

قوله جل ذكره : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١))

ننصرهم بالآيات وفنون التعريفات حتى يعرفوا ويشهدوا أن الظّفر وضدّه من الله ، والخير والشرّ من الله.

ويقال ننصرهم على أعدائهم بكيد خفّى ولطف غير مرئيّ ، من حيث يحتسبون ومن حيث لا يحتسبون ؛ ننصرهم في الدنيا بالمعرفة (١) وباليقين بأنّ الكائنات من الله ، وننصرهم فى الآخرة بأن يشهدوا ذلك ، ويعرفوا ـ بالاضطرار (٢) ـ أنّ التأثير من الله ، وغاية النصرة أن يقتل الناصر عدوّ من ينصره ، فإذا أراد حتفه (٣) تحقّق بأن لا عدوّ على الحقيقة ، وأنّ الخلق أشباح تجرى عليهم أحكام القدرة ؛ فالوليّ لا عدوّ له ، ولا صديق له إلا الله ، قال تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) (٤).

قوله جل ذكره : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢))

دليل الخطاب أن المؤمنين ينفعهم تنصّلهم ، ولهم من الله الرحمة ، ولهم حسن الدار ، وما بقي من هذه الدنيا إلا اليسير

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤))

مضى طرف من البيان في قصة موسى.

__________________

(١) فى ص (بالمغفرة) والملاثم للسياق (بالمعرفة واليقين) كما جاء في م.

(٢) أي تكون معرفة ضرورية ، ونحن نعلم من مذهب القشيري أن المعرفة في الابتداء كسبية (من العبد) وفي الانتهاء ضرورية (من الرب).

(٣) فى ص (حققه) والملائم للسياق أنه يريه (حتف) عدوه.

(٤) آية ٢٥٧ سورة البقرة.

٣١٠

قوله جل ذكره : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥))

الصبر في انتظار الموعود من الحقّ على حسب الإيمان والتصديق ؛ فمن كان تصديقه ويقينه أتمّ وأقوى كان صبره أتمّ وأوفى.

(إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) : وهو ـ سبحانه ـ يعطى وإن توهّم العبد أنه يبطى.

ويقال الصبر على قسمين : صبر على العافية ، وصبر على البلاء ، والصبر على العافية أشدّ من الصبر على البلاء ، فصبر الرجال على العافية وهو أتمّ الصبر (١).

(وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ). وفي هذا دليل على أنه كانت له ذنوب ، ولم يكن جميع استغفاره لأمته لأنه قال في موضع آخر (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) (٢) وهنا لم يذكر ذلك. ويمكن حمل الذّنب على ما كان قبل النبوة ؛ إذ يجوز أن يكون العبد قد تاب من الزّلّة ثم يجب عليه الاستغفار منها كلما ذكرها ، فإن تجديد التوبة يجب كما يجب أصل التوبة (٣).

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦))

(بِغَيْرِ سُلْطانٍ) : أي بغير حجة.

(إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) أي ليس في صدورهم إلا كبر يمنعهم عن الانقياد للحق ، ويبقون به عن الله ، ولا يصلون إلى مرادهم.

__________________

(١) لأن قوة الإنسان قد تنسيه ذكر المنعم فيصبر عنه ـ وهذا جفاء ، ولكن ضعف الإنسان في البلاء يدعوه إلى الصبر في الله ، قال قائلهم :

والصبر عنك فمذموم عواقبه

والصبر في سائر الأشياء محمود

(٢) آية ١٩ سورة محمد.

(٣) تفيد هذه الآراء عند بحث قضية كلامية هى : عصمة الأنبياء.

٣١١

قوله جل ذكره : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧))

أي خلق السماوات والأرض أكبر من بعثهم وخلقهم مرة أخرى بعد أن صاروا رميما ؛ فالقوم كانوا يقرّون بخلق السماوات والأرض ، وينكرون أمر البعث.

قوله جل ذكره : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨))

أراد به : ما يستوى المؤمن والكافر ، ولا المربوط بشهوته كالمبسوط بصفوته ، ولا المجذوب بقربته كالمحجوب بعقوبته ، ولا المرقى إلى مشاهدته كالمبقّى في شاهده ، ولا المجدود (١) بسعادته كالمردود لشقاوته.

قوله جل ذكره : (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩))

إنّ ميقات الحساب لكائن وإن وقعت المدة في أوانه (٢).

قوله جل ذكره : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠))

معناه : أدعونى أستجب لكم إن شئت ؛ لأنه قال في آية أخرى : (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) (٣).

__________________

(١) جدّ فهو مجدود أي كان له حظ.

(٢) أي إن وقت الحساب لكائن مهما طالت المدة بيننا وبين وقت حصوله.

(٣) آية ٤١ سورة الأنعام.

٣١٢

ويقال ادعوني بشرط الدعاء ، وشرط الدعاء الأكل من الحلال ؛ إذ يقال الدعاء مفتاحه الحاجة ، وأسبابه اللقمة الحلال.

ويقال كلّ من دعاه استجاب له إمّا بما يشاء له ، أو بشىء آخر هو خير له منه.

ويقال الكافر ليس يدعوه ؛ لأنه إنما يدعو من له شريك ، وهو لا شريك له.

ويقال : إذا ثبت أن هذا الخطاب للمؤمنين فما من مؤمن يدعو الله ويسأله شيئا. إلا أعطاه في الدنيا ، فأما في الآخرة فيقول له : هذا ما طلبته في الدنيا ، وقد ادخرته لك لهذا اليوم حتى ليتمنى العبد أنه ليته لم يعط شيئا في الدنيا قط.

ويقال أدعونى بالطاعات استجب لكم بالثواب والدرجات.

ويقال أدعونى بلا غفلة أستجب لكم بلا مهلة. ويقال ادعوني بالتنصل أستجب لكم بالتفضّل. ويقال ادعوني بحسب الطاقة أستحب لكم بكشف الفاقة

ويقال ادعوني بالسؤال أستجب لكم بالنّوال والأفضال.

(إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي ..) أي يستكبرون عن دعائى ، سيدخلون جهنم صاغرين.

قوله جل ذكره : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً ...) الآيات

سكون الناس في الليل على أقسام : أهل الغفلة يسكنون إلى غفلتهم ، وأهل المحة يسكنون بحكم وصلتهم ، وشتّان بين سكون غفلة وسكون وصلة!

قوم يسكنون إلى أمثالهم وأشكالهم ، وقوم يسكنون إلى حلاوة أعمالهم ؛ لبسطهم واستقلالهم ، وقوم يعدمون القرار في ليلهم ونهارهم وأولئك أصحاب الاشقاق ... أبدا في الاحتراق.

٣١٣

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) الذي جعل سكونكم معه ، وانزعاجكم له ، واشتياقكم إليه ، ومحبتكم فيه ، وانقطاعكم إليه.

قوله جل ذكره : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)

(صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) : خلق العرش والكرسيّ والسماوات والأرضين وجميع المخلوقات ولم يقل هذا الخطاب ، وإنما قال لنا : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) وليس الحسن ما يستحسنه الناس بل الحسن ما يستحسنه الحبيب :

ما حطك الواشون عن رتبة

عندى ولا ضرّك مغتاب

كأنهم أثنوا ـ ولم يعلموا ـ

عليك عندى بالذي عابوا

لم يقل للشموس في علائها ، ولا للأقمار في ضيائها : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ).

ولمّا انتهى إلينا قال ذلك ، وقال : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (١)

ويقال إن الواشين قبّحوا صورتكم عندنا (٢) ، بل الملائكة كتبوا في صحائفكم قبيح ما ارتكبتم .. ومولاكم أحسن صوركم ، بأن محا من ديوانكم الزّلّات ، وأثبت بدلا منها الحسنات ، قال تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) (٣) ، وقال : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) (٤).

قوله جل ذكره : (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ).

ليس الطيب ما تستطيبه النفس إنما الطيب ما يستطيبه القلب ، فالخبز

__________________

(١) آية ٤ سورة التين.

(٢) ربما يقصد القشيري بذلك إبليس الذي استعلى بكونه مخلوقا من نار على آدم المخلوق من الطين.

(٣) آية ٣٩ سورة الرعد.

(٤) آية ٧٠ سورة الفرقان.

٣١٤

القفار أطيب للفقير الشاكر من الحلواء للغنىّ المتسخّط.

ورزق النفوس الطعام والشراب ، ورزق القلوب لذاذات الطاعات.

قوله جل ذكره : (هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥))

(هُوَ الْحَيُّ) : الذي لا يموت ، ولا فضله يفوت ، فادعوه بلسان القوت ، وذلك عليه لا يفوت.

قوله جل ذكره : (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦))

قل ـ يا محمد ـ إنى نهيت عن عبادة ما تدعون من دون الله ؛ أي أمرت بالتبرّى عمّا عبدتم ، والإعراض عمّا به اشتغلتم ، والاستسلام للذى خلقنى ، وبالنبوة استخصّني.

قوله جل ذكره : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً ...)

فمن تربة إلى قطرة ؛ ومن قطرة إلى علقة .. ثم من بطون أمهاتكم إلى ظهوركم في دنياكم .. ثم من حال كونكم طفلا ثم شابا ثم شيخا ..

وهو الذي يحيى ويميت ، ثم يبعث في أخرى الدارين.

قوله جل ذكره : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ

٣١٥

فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩))

فى آيات الله يتبلّدون ؛ فلا حجة يوردون ، ولا عذاب عن أنفسهم يردّون ، سيعلمون حين لا ينفعهم علمهم ، ويعتذرون حين لا يسمع عذرهم ، وذلك عند ما :

(إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ...) الآيات.

يسحبون في النار والأغلال في أعناقهم ، ثم يذاقون ألوان العذاب .. فإذا أقرّوا بكفرهم وذنوبهم يقال لهم : أدخلوا أبواب جهم خالدين فيها ، فبئس مثواهم ومصيرهم ، وساء ذهابهم ومسيرهم.

قوله جل ذكره : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧))

كن بقلبك فارغا عنهم ، وانظر من بعد إلى ما يفعل بهم ، واستيقن بأنه لا بقاء لجولة باطلهم .. فإن لقيت بعض ما نتوعدهم به وإلّا فلا تك في ريب من مقاساتهم ذلك بعد. ثم أكّد تسليته إياه وتجديد تصبيره وتعريفه بقوله :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨))

٣١٦

قصصنا عليك قصص بعضهم ، ولم نخبرك عن قصص الآخرين.

ولم يكن في وسع أحد الإتيان بمعجزة إلا إذا أظهرنا نحن عليه ما أردنا إذا ما أردنا. فكذلك إن طالبوك بآية فقد أظهرنا عليك من الآيات ما أزحنا به العذر ، وأوضحنا صحّة الأمر .. وما اقترحوه ... فإن شئنا أظهرنا ، وإن شئنا تركنا.

قوله جل ذكره : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١))

ذكّرهم عظيم إنعامه بتسخير الأنعام ؛ فقال جعلها لكم لتنتفعوا بها بالركوب والحمل والعمل ، ولتستقوا ألبانها ، ولتأكلوا لحومها وشحومها ، ولتنتفعوا بأصوافها وأوبارها وأشعارها ، ولتقطعوا مسافة بعيدة عليها ... فعلى الأنعام وفي الفلك تنتقلون من صقع إلى صقع .. وأنا الذي يسّرت لكم هذا ، وأنا الذي ألهمتكم الانتفاع به ؛ فثقوا في ذلك واعرفوه.

قوله جل ذكره : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) .. الآيات

أمرهم بالاعتبار بمن كانوا قبلهم ؛ كانوا أشدّ قوة وأكثر أموالا وأطول أعمارا ، فانجرّوا في حبال آمالهم ، فوقعوا في وهدة غرورهم ، وما بقي الحقّ

٣١٧

عن مراده فيهم ، واغتروا بسلامتهم في مدّة ما أرخينا لهم عنان إمهالهم ، ثم فاجأناهم بالعقوبة ، فلم يعجزوا لله في مراده منهم.

فلمّا رأوا شدّة البأس ، ووقعوا في مذلّة الخيبة واليأس تمنّوا أن لو أعيدوا إلى الدنيا من الرأس .. فقابلهم الله بالخيبة (١) ؛ وخرطهم في سلك من أبادهم من أهل الشّرك والسّخط.

__________________

(١) لأن التوبة لا تكون بعد حصول العلم الضروري ورؤية العذاب ، فإن أوانها يكون قد انقضى.

٣١٨

سورة فصلت

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

أفلج من عرف (بِسْمِ اللهِ) ، وما ربح من بقي عن (بِسْمِ اللهِ).

من صحب لسانه (بِسْمِ اللهِ) وصحب جنانه (بِسْمِ اللهِ) كفى له شفيعا (بِسْمِ اللهِ) إلى من يعيذنا بذكر (بِسْمِ اللهِ).

قوله جل ذكره : (حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢))

بحقي وحياتى ، ومجدى في صفاتى وذاتى .. هذا تنزيل من الرحمن الرحيم.

قوله جل ذكره : (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣))

بينّت آياته ودلالاته.

(قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) : الدليل منصوب للكافة ولكنّ الاستبصار به للعالمين ـ دون المعرضين الجاحدين.

(بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤))

(بَشِيراً) : لمن اخترناهم واصطفيناهم.

(وَنَذِيراً) : لمن أقميناهم ، وعن شهود آياتنا أعميناهم.

(فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ ..) عند دعائنا إياهم ، فهم مثبتون فيما أردناهم ، وعلى ذلك

٣١٩

(الوصف) (١) علمناهم (٢)

قوله جل ذكره : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥))

قالوا ذلك على الاستهانة والاستهزاء ، ولو قالوه عن بصيرة لكان ذلك منهم توحيدا (٣) ، فمنوا بالمقت لما فقدوا من تحقيق القلب.

قوله جل ذكره : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧))

إنما أنا بشر مثلكم في الصورة والبنية ، والذات والخلقة. والفرقان بينى وبينكم أنّه يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد ؛ فالخصوصية من قبله لا من قبلى ، ولقد بقيت فيكم عمرا ، ولقيتمونى دهرا .. فما عثرتم منى على غير صواب ، ولا وجدتم في قولى شوب كذاب. وأمرى إليكم أن استقيموا في طاعته ، واستسلموا لأمره .. وطوبى لمن أجاب ، والويل لمن أصرّ وعاب!.

__________________

(١) سقطت (الوصف) من ص وهي موجودة في م.

(٢) روى أن قريشا اختارت عتبة بن ربيعة كى يعرض على النبي (ص) أن يكف عن سب آلهتها وتسفيه أحلامها مقابل رياسة أو مال .. إلخ ؛ وظل يتحدث ، فى ذلك حتى انتهى ، وعندئذ سأله النبي (ص) : أفرغت يا أبا الوليد؟ قال : نعم .. فقال : اسمع .. بسم الله الرّحمن الرّحيم. حم تنزيل من الرحمن الرحيم. كتاب فصلت ....» إلى قوله تعالى : فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود» فوثب عتبة ، ووضع يده على فم النبي وناشده ليسكتن ... ثم مضى إلى قريش فأنبأها بما سمع ، وأقسم ألا يكلم محمدا أبدا ، لأن ما سمعه ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر .. ثم أردف : ولقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لا يكذب ..

(٣) لأنه يكون حينئذ اعترافا منهم بوجود غطاء من ظلمة البشرية يحجبهم عن حقيقة الأحدية ، ويكون اعترافهم بقصورهم بداية لاستمدادهم لفضل من الله.

٣٢٠