لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

ومدينتهم بعلبك .. أنذر قومه فكذّبوه ، ووعظهم فما صدّقوه ، فأهلك قومه.

قوله جل ذكره : (وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣))

مضت قصته وكيف نجّى أهله إلا امرأته التي شاركتهم في عصيانهم ، فحقّ العذاب عليها مثلما عليهم (١).

قوله جل ذكره : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩))

فكان في أول أمره يطلب الاستعفاء من النبوة ، ولكن لم يعف ، ثم استقبله ما استقبله ، فلم يلبث حتى رأى نفسه في بطن الحوت في الظلمة : ـ

(فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ)

أي بما يلام عليه ، والحقّ ـ سبحانه ـ منزّه عن الحيف في حكمه ؛ إذ الخلق خلقه ، ثم الله راعى حقّ تعبّده ، وحفظ ذمام ما سلف له في أداء حقّه فقال : ـ

(فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)

فإن كرم العهد فينا من الإيمان ، وهو منّا من جملة الإحسان ، «فالمؤمن قد أخذ من الله خلقا حسنا» ـ بذلك ورد الخبر.

(فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ)

(سَقِيمٌ) : فى ضعف من الحال لما أثّر من كونه قضى وقتا في بطن الحوت.

(وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ)

لتظلّه ، فإنه كان في الصحراء وشماع الشمس كان يضرّه ، وقيّض له الله ظبية ذات ولد كانت تجيء فيرضع من لبنها ، فكأنّ الحقّ أعاده إلى حال الطفولية. ثم إنه رحمه ، ورجع إلى قومه ، فأكرموه وآمنوا به ، وكان الله قد كشف عنهم العذاب ، لأنهم حينما خرج يونس من بينهم ندموا وتضرّعوا إلى الله لمّا رأوا أوائل العذاب قد أظلّتهم ،

__________________

(١) تلاحظ أن القشيري يمر سريعا إزاء قصص الأنبياء هنا لأنه توقف طويلا عند كل منها في مواضع سبقت.

٢٤١

فكشف الله عنهم العذاب ، وآمنوا بالله ، وكانوا يقولون : لو رأينا يونس لو قرّناه ، وعظّمناه ، فرجع يونس إليهم بعد نجاته من بطن الحوت ، فاستقبله قومه ، وأدخلوه بلدهم مسكّرّما.

ويقال : الذّنب والجرم كانا من قومه ، فهم قد توعّدوا بالعذاب. وأمّا يونس فلم يكن قد أذنب ولا ألمّ بمحظور ، وخرج من بينهم ، وكشف الله العذاب عنهم ، وسلموا .. واستقبل يونس ما استقبله بل أنه قاسى اللتيا والتي بعد نجاته ؛ ويا عجبا من سرّ تقديره! فقد جاء في القصة أن الله سبحانه ـ أوحى إلى يونس بعد نجاته أن قل لفلان الفخّار حتى يكسر الجرار التي عملها في هذه السنة كلّها! فقال يونس : يا رب ، إنه قطع مدة في إنجاز ذلك ، فكيف آمره بأن يكسرها كلّها؟

فقال له : يا يونس ، يرقّ قلبك لخزّاف يتلف عمل سنة .. وتريدنى أن أهلك مائة ألف من عبادى؟! يا يونس ، إنك لم تخلقهم ، ولو خلقتهم لرحمتهم (١).

قوله جل ذكره : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩))

لمّا قالوا في صفة الملائكة إنهم بنات الله بيّن الله قبح قولهم ، فقال : سلهم من أين قالوا؟ وبأى حجّة حكموا بما زعموا؟ وأي شبهة داخلتهم. ثم إنهم كانوا يستنكفون من البنات ، ويؤثرون البنين عليهن .. ومع كفرهم وقبيح قولهم وصفوا القديم ـ سبحانه ـ بما استنكفوا منه لأنفسهم!

قوله جل ذكره : (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣))

__________________

(١) تتجلى براعة القشيري في التقاط نماذج من القصص تخدم فكرته العامة بخصوص تأميل العصاة ، وإفساح باب التوبة أمامهم ... على عكس بعض الباحثين الذين لا يهمهم إلا التخويف والتبشيع ، والتهويل والإقناط.

٢٤٢

[أي ما أنتم بفاتنين من الناس إلّا من أغويته بحكمي ، فبه ضلّوا لا بإضلالكم (١).

قوله جل ذكره : (وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤))

الملائكة لهم مقام معلوم لا يتخطّون مقامهم ، ولا يتعدّون حدّهم ، والأولياء لهم مقام] (٢) مستور بينهم وبين الله لا يطلع عليه أحدا ، والأنبياء لهم مقام مشهور مؤيّد بالمعجزات الظاهرة ؛ لأنهم للخلق قدوة فأمرهم على الشّهر ، وأمر الأولياء على السّتر.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١))

أي سبقت كلمتنا لهم بالسعادة ، وتقدّم حكمنا لهم بالولاية والرعاية ، فهم من قبلنا منصورون : ـ

(إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ)

من نصره لا يغلب ، ومن قهره لا يغلب.

وجنده الذين نصبهم لنشر دينه ، وأقامهم لنصر الحقّ وتبيينه ... من أراد إذلالهم فعلى أذقانه يخرّ ، وفي حبل هلاكه ينجرّ.

قوله جل ذكره : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥))

تولّ عنهم ـ يا محمد ـ إلى أن تنقضى آجالهم ، وتنتهى أحوالهم. وانتظر انقضاء أيامهم ، فإنه سينصرم حديثهم وشيكا : ـ

(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ).

__________________

(١) فى هذا الرأى رد على القدرية كما هو واضح.

(٢) ما بين القوسين الكبيرين جاء في م وسقط في ص.

٢٤٣

وإنما قال ذلك فيما كانوا يتمنون قيام الساعة ، وكانوا يستعجلون ذلك لفرط جهلهم ، ثم لقلة تصديقهم. فإذا نزل العذاب بساحتهم ، وأناخ البلاء بعقوتهم فساء صباحهم. فتولّ عنهم فعن قريب سيحصل ما منه يحذرون.

قوله جل ذكره : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢))

(سُبْحانَ رَبِّكَ) : تقديسا له ، وسلام على أنبيائنا ، (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ) : أي هو المحمود على ما ساء أم سرّ ، نفع أم ضرّ.

٢٤٤

سورة ص

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

اسم عزيز اعترفت المعارف بالقصور عن إدراكه ، اسم جليل تقنّعت العلوم خجلا من الطمع في إحاطته ، اسم كريم صغرت الحوائج عند ساحات جوده ، اسم رحيم تلاشت قطرات زلّات عباده في تلاطم أمواج رحمته.

قوله جل ذكره : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١))

الصّاد مفتاح اسمه الصادق والصبور والصمد والصانع .. أقسم بهذه الأشياء وبالقرآن. وجواب القسم : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ).

ويقال : أقسم بصفاء مودة أحبابه والقرآن ذى الذكر أي : ذى الشرف .. وشرفه أنه ليس بمخلوق (١).

قوله جل ذكره : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢))

فى صلابة ظاهرة ، وعداوة بيّنة ، وإعراض عن البحث للأدلة ، والسّرّ للشواهد.

قوله جل ذكره : (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣))

بادوا حين هجم البلاء مستغيثين ، وقد فات وقت الإشكاء والإجابة.

قوله جل ذكره : (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤))

عجبوا أن جاءهم منذر منهم ، ولم يعجبوا أن تكون المنحوتات آلهة ، وهذه مناقضة ظاهرة. فلمّا تحيّروا في شأن أنبيائهم رموهم بالسحر ، وقسّموا فيهم القول.

__________________

(١) وهذا رأى أهل السّنّة بخلاف ما براه المعتزلة.

٢٤٥

قوله جل ذكره : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥))

لم تباشر خلاصة التوحيد قلوبهم ، وبعدوا عن ذلك تجويزا ، فضلا عن أن يكون إثباتا وحكما ، فلا عرفوا الإله ولا معنى الإلهية ؛ فإنّ الإلهية هي القدرة على الاختراع. وتقدير قادرين على الاختراع غير صحيح لما يجب من وجود التمانع بينهما وجوازه ، ثم إنّ ذلك يمنع من كمالهما ، ولو لم يكونا كاملى الوصف لم يكونا إلهين ، وكلّ أمر جرى ثبوت سقوطه فهو مطروح باطل.

قوله جل ذكره : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦))

إذا تواصى الكفار فيما بينهم بالصبر على آلهتهم ، فالمؤمنون أولى بالصبر على عبادة معبودهم والاستقامة في دينهم.

قوله جلّ ذكره : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧))

ركنوا إلى السوء والعادة ، وما وجدوا عليه أسلافهم من الضلالة ، واستناموا إلى التقليد والهوادة.

قوله جل ذكره : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨))

أي لو استبصروا في دينهم لما أقدموا على ما أسرفوا فيه من جحودهم ، ولو لا أنّا أدمنا لهم العوافي لما تفرّغوا إلى طغيانهم (١).

__________________

(١) قال تعالى : الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون وقال تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) تلك هي الحكمة الإلهية في إمهالهم.

٢٤٦

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩))

أي : هؤلاء الكفار الذين عارضوا أو نازعوا ، وكذّبوا واحتجّوا .. أعندهم شىء من هذه الأشياء؟ أم هل هم يقدرون على شىء من هذه الأشياء فيفعلوا ما أرادوا ، ويعطوا من شاءوا ، أو يرتقوا إلى السماء فيأتوا بالوحى على من أرادوا؟

(جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١))

بل هم جند من الأحزاب المتحزبين. كلّهم عجزة لا يقدرون على ذلك ، مهزومون. شبّههم في بقائهم عن مرادهم بالمهزومين ؛ فإن هؤلاء الكفار ليس معهم حجّة ، ولا لهم قوة ، ولا لأصنامهم أيضا من النفع والضر مكنة ، ولا في الردّ والدفع عن أنفسهم قدرة.

قوله جل ذكره : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) ...) الآيات.

ذكر هؤلاء الأقوام في هذا الموضع على الجمع ، وفي غير هذا الموضع على الإفراد (١) ، وفي كل موضع فائدة زائدة في الفصاحة والإفادة بكل وجه. ثم قال :

(إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤))

أي ما كان منهم أحد إلّا كذّب الرسل فحقّت العقوبة عليه ، واستوجب العذاب. ثم قال :

(وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥))

أي ليسوا ينتظرون إلا القيامة ، وما هي إلا صيحة واحدة ، وإذا قامت فإنها لا تسكن.

__________________

(١) المقصود بالجمع والإفراد هنا الجملة والتفصيل.

٢٤٧

قوله جل ذكره : (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦))

اصبر ـ يا محمد ـ على ما يقولون ، فإنه لن تطول مدّتهم ، ولن نمدّ ـ فى مقاساتك أذاهم ـ لبثك ومكثك ، وعن قريب سينزل الله نصره ، ويصدق لك بالتحقيق وعده.

قوله جل ذكره : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧))

(ذَا الْأَيْدِ) أي ذا القوة ، ولم تكن قوّته قوة نفس ، وإنما كانت قوته قوة فعل ؛ كان يصوم يوما ويفطر يوما ـ وهو أشدّ الصوم ، وكان قويا في دين الله بنفسه وقلبه وهمته.

(أَوَّابٌ) رجّاع (١).

قوله جل ذكره : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩))

(٢) كان داود يسبّح ، والجبال تسبّح ، وكان داود يفهم تسبيح الجبال على وجه تخصيص له بالكرامة والمعجزة.

وكذلك الطير كانت تجتمع له فتسبّح الله ، وداود كان يعرف تسبيح الطير ؛ وكلّ من تحّقق بحاله ساعده كلّ شىء كان بقربه ، ويصير غير جنسه بحكمه ، وفي معناه أنشدوا :

ربّ ورقاء هتوف بالضّحى

ذات شجو صرخت في فنن

ذكرت إلفا ودهرا صالحا

وبكت شوقا فهاجت حزنى

فبكائى ربّما أرّقها

وبكاها ربما أرّقنى

ولقد تشكو فما أفهمها

ولقد أشكو فما تفهمنى

غير أنى بالجوى أعرفها

وهي أيضا بالجوى تعرفنى

__________________

(١) من (آب) يثوب إذا رجع ، فكان داود رجّاعا إلى طاعة الله ورضاه في كل أمر فهو أهل لأن يقتدى به (القرطبي ج ١٥ ص ١٥٩).

(٢) يرى ابن عباس أن (الإشراق) معناه صلاة الضحى إذ هي بعد طلوع الشمس.

٢٤٨

قوله جل ذكره : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠))

أي قوّينا ملكه بأنصاره ، وفي التفسير : كان يحفظ ملكه كلّ ليلة ثلاثة وثلاثون ألف رجل.

قوله جل ذكره : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ).

أي شددنا ملكه بنصرنا له (١) ودفعنا البلاء عنه.

ويقال شددنا ملكه بالعدل في القضية ، وحسن السيرة في الرعية.

ويقال شددنا ملكه بقبض أيدى الظّلمة.

ويقال شددنا ملكه بدعاء المستضعفين.

ويقال شددنا ملكه بأن رأى النصرة منّا ، وتبرّأ من حوله وقوّته.

ويقال بوزراء ناصحين كانوا يدلّونه على ما فيه صلاح ملكه.

ويقال بتيقّظه وحسن سياسته. ويقال بقبوله الحق من كلّ أحد.

ويقال برجوعه إلينا في عموم الأوقات.

(وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) : أي أعطيناه الرّشد والصواب ، والفهم والإصابة.

ويقال العلم بنفسه وكيفية سياسة أمته.

ويقال الثبات في الأمور والحكمة ، وإحكام الرأى والتدبّر.

ويقال صحبة الأبرار ، ومجانبة الأشرار.

وأمّا (فَصْلَ الْخِطابِ) فهو الحكم بالحق ، وقيل : البينة على من ادّعى واليمين على من أنكر. ويقال : القضاء بين الخصوم.

__________________

(١) يغمز القشيري هنا بأصحاب السلطان الذين لا يحسنون سياسة الرعية ولا اختيار الوزراء والأعوان ...

ونحن نعلم أنه ابتلى في عهد طغرل بمحنة كبرى.

٢٤٩

قوله جل ذكره : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) ...) الآيات

أرسل الله إلى داود عليه‌السلام ملكين من السماء على صورة رجلين فتحا كما إليه تنبيها له على ما كان منه من تزوّجه بامرأة أوريا ، وكان ترك ذلك أولى ـ هذا على طريق من رأى تنزيه الأنبياء عليهم‌السلام من جميع الذنوب.

وأمّا من جوّز عليهم الصغائر فقال : هذا من جملته. وكنّى الخصمان باسم النعجة عن النساء.

وكان داود عليه‌السلام قال لله سبحانه وتعالى : إنّى لأجد في التوراة أنّك أعطيت الأنبياء الرّتب فأعطنيها ، فقال : إنهم صبروا فيما ابتليتهم به ، فوعد داود من نفسه الصبر إذا ابتلاه طمعا في نيل الدرجات ، فأخبر الله تعالى أنه يبتليه يوم كذا ، فجعل داود ذلك اليوم يوم عبادة ، واختلى في بيته ، وأمر حرّاسه ألا يؤذيه أحد بالدخول عليه ، وأغلق على نفسه الباب ، وأخذ يصلّى زمانا ، ويقرأ التوراة زمانا يتعبّد. أغلق على نفسه الباب ولكن لم يمكنه غلق باب السماء. وأمر حرسه أن يدفعوا عنه الناس وكانوا ثلاثين ألف رجل ـ ويقال أربعة آلاف ـ ولكن لم يمكنهم أن يدفعوا عنه حكم القضاء ، ولقد قال الحكماء : الهارب مما هو كائن في كفّ الطالب يتقلب.

وكانت في البيت كوّة يدخل منها الضوء ، فدخل طير صغير من الذهب ، ووقع قريبا منه ، وكان لداود ابن صغير فهمّ أن يأخذه ليدفعه إلى ابنه (١) ، فتباعد عنه. وجاء في التفاسير : أنه كان إبليس ، قد تصوّر له في صورة طير ، فتبعه داود ، ولم يزل الطائر يتباعد قليلا قليلا ، وداود يتبعه حتى خرج من الكوة ، ونظر داود في إثره فوقع بصره على امرأة أوريا وهي تغتسل متجردة ، فعاد إلى قلبه منها شىء ، فكان هذا السبب.

ويقال لم يرع الاهتمام بسبب ولده حتى فعل به ما فعل ، وفي ذلك لأولى الأبصار عبرة (٢).

__________________

(١) نقل القرطبي هذه الرواية منسوبة إلى القشيري ج ١٥ ص ١٨٢.

(٢) يحاول القشيري في تلمسه لسبب محنة داود أن يوضح المريدين أنه حتى الأكابر قد تحل بهم البلوى نتيجة المساكنة إلى غيره ، فيغار الحق عليهم وينزل بهم من الأمر ما يردهم إلى الحق ... وذلك فضل الله سبحانه.

٢٥٠

ويقال لم يكن أوريا قد تزوّج بها بعد ، وقد كان خطبها ، وأجابته في التزوج به ، فخطب داود على خطبته. وقيل بل كانت امرأته وسأله أن ينزل عنها ، فنزل على أمره وتزوجها. وقيل بل أرسل أوريا إلى قتال الأعداء فقتل وتزوّج بها. فلمّا تسوّر الخصمان عليه ، وقيل دخلا من سور المحراب أي أعلاه ولذلك : ـ

(فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ)

نحن خصمان ظلم بعضنا بعضا ، فاحكم بيننا بالعدل :

(إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣))

(أَكْفِلْنِيها) أي انزل عنها حتى أكفلها أنا ، (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ). أي غلبنى ، فقال داود :

(قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ)

فضحك أحدهما في وجه صاحبه ، وصعد إلى السماء بين يديه ، فعلم داود عند ذلك أنه تنبيه له وعتاب فيما سلف منه ، وظنّ واستيقن أنه جاءته الفتنة الموعودة :

(فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب)

أخذ في التضرع ، وجاء في التفسير أنه سجد أربعين يوما لا يرفع رأسه من السجود إلا (للصلاة) (١) المكتوبة عليه ، وأخذ يبكى حتى نبت العشب من دموعه ، ولم يأكل ولم

__________________

(١) (الصلاة) غير واردة في النسختين وقد استعنا بالقرطبي في هذه التكملة (ج ١٥ ص ١٨٥) وقد وجدناها ـ

٢٥١

يشرب في تلك المدة ، حتى أوحى الله إليه بالمغفرة ، فقال : يا رب ، فكيف بحديث الخصم؟ فقال : إنى استوهبتك (١) منه ، وقال تعالى :

(فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥))

إن له عندنا لقربة وحسن رجوع ، وقيل : كان لا يشرب الماء إلا ممزوجا بدموعه. ويقال لمّا التجأ داود عليه‌السلام في أوائل البلاء إلى التوبة والبكاء والتضرع والاستخذاء وجد المغفرة والتجاوز .. وهكذا من رجع في أوائل الشدائد إلى الله فالله يكفيه مما ينوبه ، وكذلك من صبر إلى حين طالت عليه المحنة. ويقال إنّ زلّة أسفك عليها يوصلك إلى ربّك أجدى عليك من طاعة إعجابك بها يقصيك عن ربّك (٢).

قوله جل ذكره : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦))

(جَعَلْناكَ خَلِيفَةً) أي بعد من تقدّمك من الأنبياء عليهم‌السلام. وقيل حاكما من قبلى لتحكم بين عبادى بالحقّ ، وأوصاه بألا يتبع في الحكم هواه تنبيها على أنّ أعظم جنايات العبد وأقبح خطاياه متابعة الهوى.

ولما ذكر الله هذه القصة أعقبها بقوله :

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما

__________________

ـ ضرورية لنوضح كيف أن التعبد الفائق الذي يمارسه الخاصة لا يمنع من رجوعهم في حال الفرق الثاني إلى أن يقوموا بالتعبد الذي تفرضه الشريعة. وربما كان ذلك مقصد القشيري من اختيار هذه الرواية ... والواقع أن القشيري يجيد اختيار الشواهد من القصص والأخبار ، واضعا في الاعتبار خدمة التصوف وأهله.

(١) أي استوهبتك منه بثواب الجنة (القرطبي ج ١٥ ص ١٨٥).

(٢) هكذا يفتح القشيري أبواب الأمل أمام العصاة ، ويدفع عنهم القنوط من رحمة الله.

٢٥٢

باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧))

(باطِلاً) أي وأنا مبطل في خلقهما ، بل كان لى ما فعلت وأنا فيه محقّ.

ويقال ما خلقتهما للبطلان بل لأمرهما بالحقّ.

ثم أخبر أنه لا يجعل المفسدين كالمحسنين قط ، ثم قال :

(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩))

(١) (مُبارَكٌ) وهو القرآن ، ومبارك أي كبير النّفع ، ويقال مبارك أي دائم باق لا ينسخه كتاب ؛ من قولهم برك الطير على الماء. ويقال مبارك لمن آمن به وصدّق. ثم إنه بيّن أنّ البركة في تدبّره والتفكّر في معانيه.

قوله جل ذكره : (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠))

(نِعْمَ الْعَبْدُ) لأنه كان أوّابا إلى الله ، راجعا إليه في جميع الأحوال ؛ فى النعمة بالشكر ، وفي المحنة بالصبر.

قوله جل ذكره : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١))

(الصَّافِناتُ) جمع صافنة وهي القائمة ، وفي التفاسير هي التي تقوم على ثلاث قوائم ؛ إذ ترفع إحدى اليدين على سنبكها (٢). وجاء في التفاسير أن سليمان كان قد غزا أهل

__________________

(١) فى الآلوسى أن عليا قرأ «ليتدبروا» بتاء بعد الياء ، وكذا فى «البحر» لأبى حيان.

(٢) السنبك طرف الحافر ، والصفون في اللغة إدامة القيام ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سره أن يقوم له الرجال صفونا فليتبوا مقعده من النار» ؛ وقال الشاعر :

ألف الصفون فما يزال كأنه

مما يقوم على الثلاث كسيرا

٢٥٣

دمشق ، وأصابها منهم (١) ، وقيل ورثها عن أبيه داود وكان قد أصابها من العمالقة (٢) ، وقيل كانت خيلا لها أجنحة خرجت من البحر (٣).

وفي بعض التفاسير عرض عليه عشرون ألف فرص فشغلته عن بعض أذكاره لله.

(بِالْعَشِيِّ) : فى آخر النهار ، وقيل كان ذلك صلاة العصر (٤).

قوله جل ذكره : (رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣))

قيل أقبل يمسح سوقها وأعناقها بيده إكراما منه لها بعد أن فرغ من صلاته.

وقيل عرقبها (ليذبحها فحبسها بالعرقبة عن النفار) (٥) ، وقيل وضع عليها الكىّ فسبّلها (٦). وإيش ما كان فكلّ ذلك كان جائزا في شرعه.

قوله جل ذكره : (فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) (٧).

أي لصقت بالأرض لحبّ المال. ويقال لمّا سبّل هذه الأفراس عوّضه (٨) الله ـ سبحانه ـ بأن سخّر له الريح ، وهذا أبلغ ، وكلّ من ترك شيئا لله لم يخسر على الله.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤))

__________________

(١) هذه رواية الكلبي.

(٢) هذه رواية مقاتل.

(٣) هذه رواية الحسن والضحاك.

(٤) ينقل القرطبي عن أبى نصر القشيري بن عبد الكريم القشيري قوله : ما كان في ذلك الوقت صلاة ظهر ولا صلاة عصر وإنما كانت تلك الصلاة نافلة ، وشغل عنها ثم تذكرها.

(٥) ما بين القوسين زيادة أضفناها ، اقتبسناها من القرطبي من الموضع نفسه حتى يتضح المعنى الذي يتجه إليه القشيري (ج ١٥ ص ١٩٦).

(٦) سبل الشيء أي أباحه وجعله في سبيل الله.

(٧) اختلف في التي «توارت بالحجاب» فقيل هي الشمس ، وقيل هي الخيل وقد استعرضها حتى توارت الجهاد.

(٨) هكذا في م وهي في ص (عرضه) بالراء والصحيح ما أثبتناه عن م.

٢٥٤

اختلف الناس في هذه الفتنة ؛ ومنها أنه كانت له مائة امرأة فقال : لأطوفنّ على هؤلاء فيولد من كل واحدة منهن غلام يقاتل في سبيل الله» (١) ولم يقل إن شاء الله ، ولم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق مولود ، فألقته على كرسيّه ، فاستغفر ربه من ترك الاستنشاء ، وكان ذلك ترك ما هو الأولى.

وقيل كان له ابن ، وخافت الشياطين أن يبقى بعد موت أبيه فيرثه ، فهمّوا بقتله ، فاستودعه الريح في الهواء لئلا تصل إليه الشياطين ، فمات الولد ، وألقته الريح على كرسيه ميتا. فالفتنة كانت في خوفه من الشياطين وتسليمه إلى الهواء ، وكان الأولى به التوكل وترك الاستعانة بالريح.

وقيل في التفاسير : إنه تزوج بامرأة (٢) كانت زوجة ملك قهره سليمان ، وسباها ، فقالت له : إن أذنت لى أن اتّخذ تمثالا على صورة لأبى لأتسلّى بنظري إليه؟ فأذن لها ، فكانت (تعظمه وتسجد له مع جواريها أربعين يوما) ، وكانت تعبده سرّا ، فعوقب عليه (٣).

وقيل كان سبب بلائه أن امرأة كانت من أحبّ نسائه إليه ، وكان إذا أراد دخول الخلاء نزع خاتمه ودفعه إليها ، وهي على باب الخلاء ، فإذا خرج استردّه. وجاء يوما شيطان يقال له «صخر» على صورة سليمان وقال لامرأته : ادفعي إليّ الخاتم فدفعته ، ولبسه ، وقعد على كرسيه ، يمشّى أموره ـ إلا التصرف في نسائه ـ فقد منعه الله عن ذلك. فلمّا خرج سليمان طالب المرأة بالخاتم ، فقالت : الساعة دفعته إليك. فظنّ أنه فتن ، وكان إذا أخبر الناس أنه سليمان لا يصدّقونه ، فخرج (هاربا إلى ساحل البحر) ، وأصابته شدائد ، وحمل سمك الصيادين بأجرة حتى يجد قوتا.

ولما اتهم (بنو إسرائيل) الشيطان (واستنكروا حكمه) نشروا التوراة بين يديه ،

__________________

(١) فى صحيح البخاري ومسلم عن أبى هريرة أن رسول الله (ص) قال : «قال سليمان لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتى بفارس يجاهد في سبيل الله ، فقال له صاحبه : قل إن شاء الله ، فلم يقل إن شاء الله ، فطاف عليهن جميعا فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل ، وأيم الذي نفسى محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون».

(٢) هذه المرأة ـ كما يقول الزمخشري ـ هى «جرادة ابنة ملك جزيرة في البحر يقال لها صيدون.

(٣) وكانت عقوبته حرمانه من ملكه أربعين يوما ـ هى مدة عبادة الصنم في بيته.

٢٥٥

ففرّ ورمى بالخاتم في البحر ، وطار في الهواء. ولمّا أذن الله ردّ ملك سليمان إليه ، ابتلعت سمكة خاتمه ، ووقعت في حبال الصيادين ، ودفعوها إلى سليمان في أجرته ، فلمّا شقّ بطنها ورأى خاتمه لبسه ، وسجد له الملاحون ، وعاد إلى سرير ملكه (١).

قوله جل ذكره : (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥))

أي ملكا لا يسلبه أحد منى بعد هذا كما سلب منى في هذه المرة.

وقيل أراد انفراده به ليكون معجزة له على قومه.

وقيل أراد أنه لا ينبغى لأحد من بعدي أن يسأل الملك ، بل يجب أن يكل أمره إلى الله فى اختياره له.

ويقال لم يقصد الأنبياء ، ولكن قال لا ينبغى من بعدي لأحد من الملوك.

وإنما سأل الملك لسياسة الناس ، وإنصاف بعضهم من بعض ، والقيام بحقّ الله ، ولم يسأله لأجل ميله إلى الدنيا .. وهو كقول يوسف : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (٢).

ويقال لم يطلب الملك الظاهر ، وإنما أراد به أن يملك نفسه ، فإن الملك ـ على الحقيقة ـ من يملك نفسه ، ومن ملك نفسه لم يتّبع هواه.

ويقال أراد به كل حاله في شهود ربّه حتى لا يرى معه غيره.

ويقال سأل القناعة التي لا يبقى معها اختيار.

ويقال علم أن سرّ نبيّنا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ألا يلاحظ الدنيا ولا ملكها

__________________

(١) تلاحظ أن القشيري ـ وإن تجنب الوقوع في كثير من الروايات السخيفة مثل اجتماع سليمان بالنساء فى حيضهن ، ومثل قضائه في الناس بغير الحق ونحو ذلك ـ إلا أنه لم يستطع التخلص من الروايات المتأثرة بالإسرائيليات لأننا لا نستطيع أن نتصور وقوع نبى كسليمان أو كداود في مثل هذه المزالق التي لا ينحدر إليها نبى.

(٢) آية ٥٥ سورة يوسف.

٢٥٦

فقال : (لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) لا لأنه بخل به على نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن لعلمه أنه لا ينظر إلى ذلك.

قوله جل ذكره : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦))

شكر الله سعيه ، وسخّر له الريح بدلا من الأفراس ؛ فلا يحتاج في إمساكها إلى العلف والمؤن.

(وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩))

كما سخّرنا له الشياطين.

ثم قال : (هذا عَطاؤُنا ..) أي فأعط أو أمسك ، واحفظ وليس عليك حساب.

والمشي في الهواء للأولياء ، وقطع المسافات البعيدة في مدة يسيرة مما يعلم وجوده قطعا في هذه الأمة ـ وإن لم يعلمه الأفراد والآحاد على التعيين. وإظهاره على خدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لشرفه يدلّ على أن مقامه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أشرف (١).

قوله جل ذكره : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١))

أي بما كان يوسوس إليه بتذكيره إياه ما كان به من البليّة ، وقيل لما كان قال (أي الشيطان) لامرأته : اسجدي لى حتى أردّ عليكم ما سلبتكم.

ويقال إن سبب ابتلائه أنه استعان به مظلوم فلم ينصره .. فابتلى.

ويقال استضاف الناس يوما فلمّا جاءه ابن فقير منعه من الدخول.

__________________

(١) من مبادئ نظرية القشيري في الكرامة : أن كرامة الولي فرع لمعجزة النبي الذي ينتمى الولي إلى أمته ، فكل شرف للولى هو في الأصل شرف للنبى وآية حظوته ورتبته.

٢٥٧

ويقال كان يغزو ملكا كافرا ، وكان لأيوب غنم في ولايته ، فداهنه لأجل غنمه فى القتال.

ويقال حسده إبليس ، فقال : لئن سلّطتنى عليه لم يشكر لك.

ويقال كان له سبع بنات وثلاثة بنين في مكتب واحد ، فجرّ الشيطان الاسطوانة فانهدم البيت عليهم.

ويقال لبث أيوب في البلاء ثمانى عشرة سنة ، وقيل أربعين سنة ، وقيل (١) سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات.

قوله جل ذكره : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢))

(٢) لمّا أراد الله كشف البلاء عنه قال له : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) ، فركض ، فظهرت عين ماء بارد فاغتسل به ، فعاد إليه جماله وكماله. وقيل الأولى كانت عينا حارة والثانية باردة ، واغتسل ، وردّ الله لحمه وشعره وبشره ، وأحيا أولاده وأهله ، وقيل بل يردّهم إليه في الجنة فى الآخرة.

قوله جل ذكره : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤))

الضّغث الحزمة من القضبان ، وقيل كانت مائة ، وأمر بأن يضرب بها دفعة على امرأته لئلا يحنث في يمينه ، فإنه كان قد حلف أن يضربها مائة خشبة إن صحّ (أنها أخطأت). فشكر

__________________

(١) الرواية الأخيرة منسوبة إلى ابن عباس.

(٢) رفض أبو الفرج الجوزي احتجاج بعض المتصوفة بهذه الآية على إباحة الرقص. والواقع أن ذلك يمنح القشيري تقديرا خاصا ؛ لأنه لو كان يؤيد ذلك الاحتجاج لقال به ، بل لم يشر إليه ، كما لم يشر عند الآية التي سبقت في هذه السورة : «ردوها على فطفق ...» إلى ما يحتج به بعض المتصوفة من تمزيق الخرقة وتقطيع الثياب ، فهذه في رأيه استدلالات فاسدة يلجأ إليها الطغام.

٢٥٨

الله لها لبراءة ساحتها ، وصبرها على خدمته. وسبب يمينه أنه لما قال لها إبليس : اسجدي لى ؛ أخبرت أيوب بذلك ، فغاظه حيث سمعت من إبليس ذلك وظنّت أنه صادق. وقيل باعث ذوائبها برغيفين حملتهما إليه فتوهّم في ذلك ريبة ، وكان أيوب يتعلّق بذوائبها (إذا أراد القيام). وقيل رابه شىء منها فحلف (أن يضربها بعد شفائه).

(إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً ..) : والصبر ألا تعترض على التقدير.

ويقال الصبر الوقوف تحت الحكم. ويقال التلذّذ بالبلاء ، واستعذابه دون استصعابه. ويقال الصبر الوقوف مع الله بحسن الأدب.

ولم ينف قوله (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) اسم الصبر عنه ؛ لأنّ ذلك لم يكن على وجه الشكوى ، ولأنه كان مرة واحدة ، وقد وقف الكثير من الوقت ولم يقل مسّنى الضّرّ ؛ فكان الحكم للغالب.

(نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) لم يشغله البلاء عن المبلى. ونعم العبد لأنه خرج من البلاء على الوجه الذي دخل فيه.

قوله جل ذكره : (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦))

(أُولِي الْأَيْدِي) : أي القوة (١). (وَالْأَبْصارِ) أي البصائر.

(إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ) : أي بفضيلة خالصة وهي ذكر الجنة والنار ، أو بدعاء الناس إلى الجنة والهرب من النار. ويقال بسلامة القلب من ذكر الدارين ؛ فلا يكون العمل على ملاحظة جزاء. ويقال تجردوا لنا بقلوبهم عن ذكرى الدار ، (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ).

قوله جل ذكره : (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨))

__________________

(١) يرى الطبري أن (الأيدى هنا معناها : النعم والإحسان لأنهم قد أحسنوا وقدموا الخير).

٢٥٩

(وَذَا الْكِفْلِ) : قيل كان تكفّل لله بعمل رجل صالح مات في وقته ، وقيل كفل مائة من بنى إسرائيل هربوا من أمير لهم ظالم ، فكان ينفق عليهم.

ويقال كان اليسع وذو الكفل أخوين.

قوله جل ذكره : (هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩))

أي هذا القرآن فيه ذكر ما كان ، وذكر الأنبياء والقصص.

ويقال إنّه شرف لك ؛ لأنه معجزة تدل على صدقك ، وإن للذين يتّقون المعاصي لحسن المنقلب.

(جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠))

أي إذا جاءوها لا يلحقهم ذلّ الحجاب ، ولا كلفة الاستئذان ، تستقبلهم الملائكة بالترحاب (١) والتبجيل. متكئين فيها على أرائكهم ، يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب على ما يشتهون ، وعندهم حور عين قاصرات الطّرف عن غير أزواجهن ، (أَتْرابٌ) : لدات مستويات في الحسن والجمال والشكل.

قوله جل ذكره : (هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣))

لشرّ مرجع ومنقلب ؛ وهي جهنم يدخلونها فيبقون معذّبين فيها ، وبئس المكان ذلك!

(هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧))

(حَمِيمٌ) : هو الماء الحار ، و (غَسَّاقٌ) هو عصارة أهل النار (٢) ، ويقال هو زمهرير جهنم (٣).

__________________

(١) هكذا في م وهي في ص (بالإيجاب) ونحن نؤثر (بالترحاب) لتقابل ما يقال لأهل النار فيما بعد (لا مرحبا بهم)

(٢) هذا قول محمد بن كعب.

(٣) هذا قول ابن عباس. وقال عبد الله بن عمرو : هو قيح غليظ نتن. وقال قتاده : هو ما يسيل من فروج الزناة ، ومن نتن لحوم الكفرة وجلودهم من الصديد والقيح. وقال آخرون إنه يحرق ببرده كما يحرق الحميم بحره (القرطبي ح ١٥ ص ٢٢٢).

٢٦٠