لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ).

الإنذار هو الإعلام بموضع المخافة ، والخشية هي المخافة ؛ فمعنى الآية ، لا ينفع التخويف إلّا لمن صاحب الخوف ـ وطير السماء على أشكالها تقع.

قوله جل ذكره : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢))

كما لا يستوى الأعمى والبصير لا تستوى الظلمات والنور ، ولا يستوى الظلّ والحرور ، ولا الأحياء والأموات .. وكذلك لا يستوى الموصول بنا والمشغول عنّا ، والمجذوب إلينا ، والمحجوب عنّا ، ولا يستوى من اصطفيناه في الأزل ومن أشقيناه بحكم الأزل ، ولا يستوى من أشهدناه حقّنا ومن أغفلنا قلبه عن ذكرنا :

أحبابنا شتان : واف وناقض ولا يستوى قطّ محبّ وباغض

قوله جل ذكره : (إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤))

أي وما من أمة ممن كانوا من قبلك إلّا بعثنا فيهم نذيرا ، وفي وقتك أرسلناك إلى جميع الأمم كافة بالحقّ.

(بَشِيراً وَنَذِيراً) : تضمنت الآية بيان أنه لم يخل زمانا ولا قوما من شرع. وفي وقته صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفرده بأن أرسله إلى كافة الخلائق ، ثم قال على جهة التسلية والتعزية له :

٢٠١

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥))

أي لو قابلوك بالتكذيب فتلك سنّتهم مع كلّ نبىّ ، وإن أصرّوا على سنّتهم في الغيّ فلن تجد لسنّة الله تبديلا في الانتقام والخزي.

قوله جل ذكره : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧))

بيّن في هذه الآية وأمثالها أن تخصيص الفعل بهيئاته وألوانه من أدلة قصد الفاعل وبرهانه ، وفي إتقان الفعل وإحكامه شهادة على علم الصانع وإعلامه.

وكذلك أيضا (مِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ) : بل جميع المخلوقات متجانس الأعيان مختلف ، وهو دليل ثبوت منشها بنعت الجلال.

قوله جل ذكره : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ).

(إِنَّما) كلمة تحقيق تجرى من وجه مجرى التحديد أي التخصيص والقصر ، فمن فقد العلم بالله فلا خشية له من الله.

والفرق بين الخشية والرهبة أنّ الرهبة خوف يوجب هرب صاحبه فيجرى في هربه ، والخشية إذا حصلت كبحت جماح صاحبها فيبقى مع الله ، فقدمت الخشية على الرهبة في الجملة (١).

والخوف قضية الإيمان ، قال تعالى : (وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٢) فالخشية قضية العلم ، والهيبة توجب المعرفة.

__________________

(١) يفيد هذا الكلام في التفرقة بينهما عند بحث المصطلح الصوفي.

(٢) آية ١٧٥ سورة آل عمران.

٢٠٢

ويقال خشية العلماء من تقصيرهم في أداء حقّه. ويقال من استحيائهم من اطلاع الحق.

ويقال حذرا من أن يحصل لهم سوء أدب وترك احترام ، وانبساط في غير وقته بإطلاق لفظ ، أو ترخّص بترك الأولى.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩))

الذين يستغرق جميع أوقاتهم قيامهم بذكر الله وبحقّه ، وإتيانهم بأنواع العبادات وصنوف القرب فلهم القدر الأجلّ من التقريب ، والنصيب الأوفر من الترحيب. وأما الذين أحوالهم بالضدّ فمنالهم على العكس. أولئك هم الأولياء الأعزّة ، وهؤلاء هم الأعداء الأذلّة.

قوله جل ذكره : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١))

ما عرّفناك ـ من اختيارنا لك وتخصيصنا إياك ، وتقديمنا لك على الكافة ـ فعلى ما أخبرناك ، وأنشدوا :

لا أبتغى بدلا سواك خليلة

فثقى بقولي والكرام ثقات

قوله جل ذكره : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢))

(أَوْرَثْنَا) : أي أعطينا الكتاب ـ أي القرآن ـ الذين اصطفينا من عبادنا ، وذكر الإعطاء بلفظ الإرث توسّعا.

(اصْطَفَيْنا) : أي اخترنا. ثم ذكر أقسامهم ، وفي الخبر أنه لمّا نزلت هذه الآية قال عليه‌السلام : «أمتى وربّ الكعبة» ثلاث مرات.

٢٠٣

وفي الآية وجوه من الإشارة : فمنها أنه لمّا ذكر هذا بلفظ الميراث فالميراث يقتضى صحة النّسب على وجه مخصوص ، فمن لا سبب له فلا نسب له ، ولا ميراث له.

ومحلّ النّسب هاهنا المعرفة ، ومحلّ السبب الطاعة. وإن قيل محلّ النّسب فضله ، ومحل السبب فعلك (١) .. فهو وجه. ويصحّ أن يقال محلّ النسب اختياره لك بدءا ومحلّ السبب إحسانه لك تاليا.

ويقال أهل النسب على أقسام : ـ الأقوى ، والأدنى كذلك في الاستحقاق.

ويقال جميع وجوه التملّك لا بدّ فيها من فعل للعبد كالبيع ، أمّا ما يملك بالهبة فلا يحصل إلا بالقبول والقسمة ، ولا يحصل الاستحقاق إلا بالحضور والمجاهدة وغير ذلك : والوصية لا تستحقّ إلا بالقبول ، وفي الزكاة لا بدّ من قبول أهل السّهمان ، والميراث لا يكون فيه شىء من جهة الوارث وفعله ، والنّسب ليس من جملة أفعاله.

ويقال الميراث يستحقّ بوجهين : بالفرض والتعصيب ، والتعصيب أقوى من الفرض ؛ لأنه قد يستحق به جميع المال ، ثم الميراث يبدأ بذوي الفروض ثم ما يتبقى فللعصبة (٢).

(فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) : تكلموا في الظالم ، فمنهم من قال هو الأفضل ، وأرادوا به من ظلم نفسه لكثرة ما حمّلها من الطاعة.

والأكثرون : إنّ السابق هو الأفضل ، وقالوا : التقديم في الذكر لا يقتضى التقديم في الرتبة ، ولهذا نظائر كثيرة (٣).

ويقال قرن باسم الظالم قرينة وهي قوله : (لِنَفْسِهِ) ، وقرن باسم السابق قرينة وهي قوله :

__________________

(١) فالنسب وهبى والفعل كسبى كما أن المعرفة وهبية والطاعة كسية وإن كان الصوفية يرون أن الكسب والاجتلاب والتصرف والتكلف كلها لا تتم إلا بفضل من الله (أنظر شرح المكي لأبيات رابعة المبدوءة ب «أحبك حبين ...» فى قوت القلوب». وهذا المعنى واضح هنا أيضا في تفسير القشيري.

(٢) العصبة واحدة العصب ، وعصبة الرجل (فى الفرائض) من ليست له فريضة مسماة في الميراث ، وإنما يأخذ ما أبقى ذو والفروض. أنظر رأى القشيري في تفضيل التعصيب على الفرض (المجلد الأول من هذا الكتاب ص ٣١٧)

(٣) على نحو ما يذكره البلاغيون في ذكر الخاص بعد العام.

٢٠٤

(بِإِذْنِ اللهِ) ؛ فالظالم كانت له زلّة ، والسابق كانت له صولة ، فالظالم رفع زلّته بقوله : لنفسه ، والسابق كسر صولته بقوله : بإذن الله.

كأنه قال : يا ظالم ارفع رأسك ، ظلمت ولكن على نفسك ، ويا سابق اخفض (١) رأسك ؛ سبقت ـ ولكن بإذن الله.

ويقال إنّ العزيز إذا رأى ظالما قصمه ، والكريم إذا رأى مظلوما أخذ بيده ، كأنه قال : يا ظالم ، إن كان كونك ظالما يوجب قهرك ، فكونك مظلوما يوجب الأخذ بيدك (٢).

ويقال الظالم من غلبت زلّاته ، والمقتصد من استوت حالاته ، والسابق من زادت حسناته.

ويقال الظالم من زهد في دنياه ، والمقتصد من رغب في عقباه ، والسابق من آثر على الدارين مولاه.

ويقال الظالم من نجم كوكب عقله ، والمقتصد من طلع بدر علمه ، والسابق من ذرّت (٣) شمس معرفته.

ويقال الظالم من طلبه ، والمقتصد من وجده ، والسابق من بقي معه.

ويقال الظالم من ترك المعصية ، والمقتصد من ترك الغفلة ، والسابق من ترك العلاقة (٤).

ويقال الظالم من جاد بماله ، والمقتصد من لم يبخل بنفسه ، والسابق من جاد بروحه.

ويقال الظالم من له علم اليقين ، والمقتصد من له عين اليقين ، والسابق من له حق اليقين.

ويقال الظالم صاحب المودة ، والمقتصد صاحب الخلّة ، والسابق صاحب المحبة.

ويقال الظالم يترك الحرام ، والمقتصد يترك الشّبهة ، والسابق يترك الفضل (٥) فى الجملة.

__________________

(١) وردت في ص (احفظ) والسياق يتطلب (اخفض) رأسك فما سبقت إليه ليس إلا بإذن الله.

(٢) فآية كرم المولى سبحانه أنه ينظر إلى الظالم على أنه مظلوم ؛ مظلوم من قبل نفسه التي دعته إلى أن يظلم غيره .... ولعمرى إنها غاية الكرم كما يتصورها هذا الصوفي الجليل.

(٣) ذرت الشمس ذروا أي ظهرت أول شروقها (الوسيط).

(٤) أي العلاقة بالدنيا والنفس وما يتصل بهما.

(٥) الفضل هنا معناه ما زاد عن الحاجة الضرورية اتقاء للحرام والشبهة ، يقول سهل التّسترى : «إذا كان الحلال في التدين هو ما لا يعصى الله فيه فإن الحلال عند الصوفي مالا ينسى الله فيه».

٢٠٥

ويقال الظالم صاحب سخاء ، والمقتصد صاحب جود ، والسابق صاحب إيثار (١).

ويقال الظالم صاحب رجاء ، والمقتصد صاحب بسط ، والسابق صاحب أنس.

ويقال الظالم صاحب خوف ، والمقتصد صاحب خشية ، والسابق صاحب هيبة.

ويقال الظالم له المغفرة ، والمقتصد له الرحمة والرضوان ، والسابق له القربة والمحبة.

ويقال الظالم صاحب الدنيا ، والمقتصد طالب العقبى ، والسابق طالب المولى.

ويقال الظالم طالب النجاة ، والمقتصد طالب الدرجات ، والسابق صاحب المناجاة.

ويقال الظالم أمن من العقوبة ، والمقتصد فاز بالمثوبة ، والسابق متحقق بالقربة.

ويقال الظالم مضروب بسوط الحرص ، مقتول بسيف الرغبة ، مضطجع على باب الحسرة. والمقتصد مضروب بسوط الندامة ، مقتول بسيف الأسف ، مضطجع على باب الجود.

والسابق مضروب بسوط التواجد ، مقتول بسيف المحبة ، مضطجع على باب الاشتياق.

ويقال الظالم صاحب التوكل ، والمقتصد صاحب التسليم ، والسابق صاحب التفويض.

ويقال الظالم صاحب تواجد ، والمقتصد صاحب وجد ، والسابق صاحب وجود.

ويقال الظالم صاحب المحاضرة ، والمقتصد صاحب المكاشفة ، والسابق صاحب المشاهدة.

ويقال الظالم يراه في الآخرة بمقدار أيام الدنيا في كل جمعة مرة ، والمقتصد يراه في كل يوم مرة ، والسابق غير محجوب عنه البتة.

ويقال الظالم مجذوب إلى فعله الذي هو فضله ، والمقتصد مكاشف بوصفه الذي هو عزّه ، والسابق المستهلك في حقّه الذي هو وجوده.

قوله : (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) لأنه ذكر الظالم مع السابق (٢).

قوله جل ذكره : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها

__________________

(١) يفيد هذا التقسيم في بحث لغوى عن ترتيب : السخاء والجود والإيثار.

(٢) أعجب القرطبي بمنهج الصوفية في تفسير «الظالم والمقتصد والسابق» على هذا النحو فأورد طائفة كبيرة من أقوالهم استغرقت نحو صفحة ونصف الصفحة (ح ١٤ ص ٣٤٨).

٢٠٦

مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣))

نبّه على أن دخولهم الجنة لا باستحقاق بل بفضله ، وليس في الفضل تمييز.

قوله جل ذكره : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤))

تحققوا بحقائق الرضا ، والحزن سمّى حزنا لخزونة (١) الوقت على صاحبه وليس في الجنة حزونة وإنما هو رضا واستبشار.

ويقال ذلك الحزن حزن خوف العاقبة. ويقال هو دوام المراعاة خشية أن يحصل سوء الأدب. ويقال هو سياسة النفس.

(إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ) للعصاة ، (شَكُورٌ) للمطيعين. قدّم ما للعاصين رفقا بهم لضعف أحوالهم (٢).

قوله جل ذكره : (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥))

(دارَ الْمُقامَةِ) : أي دار الإقامة ، لا يبغون عنها حولا ، ولا يتمنون منها خروجا.

(لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) : إذا أرادوا أن يروا (٣) مولاهم لا يحتاجون إلى قطع مسافة ، بل في غرفهم يلقون فيها تحية وسلاما ، فإذا رأوه لم يحتاجوا إلى تقليب حدقة أو تحديق مقلة في جهة (٤) ؛ يرونه كماهم بلا كيفية.

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى

__________________

(١) حزن المكان حزونة أي حزن أي خشن وغلظ ، وحزن الرجل اغتم.

(٢) يتجلى هنا ما يتمتع به هذا الصوفي من نزعة الأمل وفتح الباب أمام العصاة.

(٣) يضاف هذا الرأى إلى موضوع «رؤية الله في الآخرة» كما يتصوره القشيري.

(٤) هكذا في م وهي في ص (وجهة) وكلاهما صحيح إذ المقصود تنزيه من يرونه ـ سبحانه ـ عن التقيد بالمكانية .. جلت الصمدية عن التقيد بمحل.

٢٠٧

عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦))

لا حياة يتمتعّون بها ، ولا موت يستريحون به ، وهم مقيمون في العذاب والحجاب ، لا يفتر عنهم العذاب ، ولا ترفع عنهم العقوبة.

(وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)

يقولون : (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) ، فيقال لهم أو لم نعمركم ...؟

أما جاءكم النذير قبل أن تبلغوا زمان المشيب؟

ويقال : ألم تستوفوا مدة الإمهال في النظر؟

(وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) : الرسل ، ويقال ضعف الشيخوخة ، ويقال سقوط السّنّ ، ويقال تقوّس الظّهر.

قوله جل ذكره : (إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨))

أي عالم بإخلاص المخلصين ، وصدق الصادقين ، ونفاق المنافقين ، وجحد الكافرين.

عالم بمن يريد بالناس السوء وبمن يحسن بالله الظنّ.

قوله جل ذكره : (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩))

أهل كلّ عصر خليف عمن تقدمهم ؛ فمن قوم هم لسلفهم حمال (١) ، ومن قوم هم أراذل وأنذال ؛ فالأفاضل زمانهم لهم محنة ، والأراذل هم لزمانهم محنة. وقد قالوا :

__________________

(١) الحمال الدية أو الغرامة يحملها قوم عن قوم (الوسيط).

٢٠٨

يوم وحسب الدهر من أجله

حيّا غد والتفت الأمس

قوله جل ذكره : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠))

كرّر إشهادهم عجز أصنامهم ، ونقص من اتخذوهم آلهة من أوثانهم ؛ ليسفّه بذلك آراءهم ، ولينبّههم إلى ذميم أحوالهم وأفعالهم ، وخسّة هممم ، ونقصان عقولهم.

ثم أخبر أنهم لا يأتون بشىء مما به يطالبون ، وليس لهم صواب عمّا يسألون.

قوله جل ذكره : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١))

أمسكها بقدرته ، وأتقنهما بحكمته ، ورتّبهما بمشيئته ، وخلق أهلهما على موجب قضيته ، فلا شبيه في إبقائهما وإفنائهما يساهمه ، ولا شريك في وجودهما ونظامهما يقاسمه.

قوله جل ذكره : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ ...)

ليس لقولهم تحقيق ، ولا لعهدهم وضمانهم توثيق ، وما يعدون من أنفسهم فصريح زور ، وما يوهمون من وفائهم فصرف تغرير .. وكذلك المريد في أوان نشاطه تمنيه نفسه

٢٠٩

فتظاهر أمام من تقدّمه حالا بانه عاهد الله ، وأنه أكد عقده مع الله .. فإذا عضّته شهوته ، وأراد الشيطان أن يكذبه صرعه بكيده ، وأركسه في هوة غيّه ، ومنية نفسه ؛ فيسودّ وجهه ، وتذهب عند الله وجاهته (١).

قوله جل ذكره : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤))

فى الجملة ما خاب له وليّ ، وما ربح له عدوّ ، ولا ينال الحقيقة من انعكس قصده ، بل يرتدّ عليه كيده ؛ وهو سبحانه يدمّر على أعدائه تدميرا ، ويوسع لأوليائه فضلا كبيرا.

قوله جل ذكره : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥))

لو عجّل لهم ما يستوجبونه من الثواب والعقاب لم تف أعمارهم القليلة به ، وما اتسعت أيامهم القصيرة له ، فأخّر ذلك ليوم الحشر .. فإنّه طويل. والله على كل شىء قدير ، وبأمور عباده خبير بصير.

__________________

(١) هكذا في م وهي في ص (ماء وجهه) أي حياؤه ، وقد آثرنا ما جاء في م لملاءتها السياق.

٢١٠

سورة يس

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بِسْمِ اللهِ)

(بِسْمِ اللهِ) آية افتتح بها خطابه ؛ فمن علمها أجزل ثوابه ، ومن عرفها أكثر إيجابه ، ومن أكبر قدرها أكرم مآبه.

قوله جل ذكره : (يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ)

يقال معناه : يا سيد. ويقال : الياء تشير إلى يوم الميثاق ، والسين تشير إلى سرّه مع الأحباب ؛ فيقال بحقّ يوم الميثاق وسرّى مع الأحباب ، وبالقرآن الحكيم : ـ

(إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)

أي إنّك ـ يا محمد لمن المرسلين ، وإنّك لعلى صراط مستقيم.

(تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ)

أي هذا الكتاب تنزيل (العزيز) : المتكبر الغنى عن طاعة المطيعين ، (الرحيم) : المتفضّل على عباده المؤمنين.

قوله جل ذكره : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦))

أي خصصناك بهذا القرآن ، وأنزلنا عليك هذا الفرقان لتنذر به قوما حصلوا في أيام الفترة ، وانقرض أسلافهم على هذه الصّفة.

قوله جل ذكره : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧))

٢١١

أي حقّ القول بالعقوبة على أكثرهم لأنهم أصرّوا على جحدهم ، وانهمكوا في جهلهم ، فالمعلوم منهم والمحكوم عليهم أنّهم لا يؤمنون (١).

قوله جل ذكره : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨))

سنجرّهم إلى هوانهم وصغرهم ، وسنذيقهم وبال أمرهم.

(وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)

أغرقناهم اليوم في بحار الضلالة ، وأحطنا بهم سرادقات الجهالة. وفي الآخرة سنغرقهم فى النار والأنكال ، ونضيّق عليهم الحال ، بالسلاسل والأغلال.

(فَأَغْشَيْناهُمْ) : أعميناهم اليوم عن شهود الحجّة ، ونلبّس عليهم في الآخرة سبيل المحجّة ، فيتعثّرون في وهدات جهنم داخرين ، ويبقون في حرقاتها مهجورين ، مطرودين ملعونين ، لا نقطع عنهم ما به يعذّبون (٢) ، ولا نرحمهم مما منه يشكون ؛ تمادى بهم حرمان الكفر ، وأحاطت بهم سرادقات الشقاء ، ووقعت عليهم السّمة بالفراق.

قوله جل ذكره : (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠))

مهجور الحقّ لا يصله أحد ، ومردود الحقّ لا يقبله أحد. والذي قصمته المشيئة وأقمته القضية لا تنجع فيه النصيحة.

__________________

(١) أريد أن أنبه دائما إلى أن الجبرية عند الشيخ لا تتعارض مع الحرية الإنسانية ، فالإنسان حسرّ فيما يفعل ولكن في دائرة ما حددته له القضية السابقة التي ترتبط بالعلم الإلهى السابق للإبداء والإنشاء .. نحن نعلم ما حسدث ولكن العلم الإلهى يسجل بدءا كل ما سيحدث.

(٢) من هذا نفهم أن القشيري لا يؤمن بأبدية الجنة وحسب ، بل يؤمن بأبدية النار أيضا .. على خلاف جهم الذي يرى أن حركاتهم تتناهى ، فهما ليستا أبديتين ـ كما قلنا من قبل. وعلى خلاف ابن القيم الذي يرى أبدية الجنة فقط حيث بستوقفه الاستثناء في قوله تعالى «لهم فيها زفير وشهيق. خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك» فيقول : إذا فعذابها ينقطع (حادى الأرواح ص ٢٦٣ وشفاه الغليل ص ٢٦٢) ولكن يردّ على ابن القيم أن المقصود في الآية هم عصاة المؤمنين وليس الكفار الذين هم ـ طبقا لنصوص كثيرة ـ خالدون فيها أبدا «لا يجدون وليا ولا نصيرا».

٢١٢

(إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١))

أي إنما ينتفع بإنذارك من اتّبع الذّكر ؛ فإنّ إنذارك ـ وإن كان عاما في الكلّ وللكلّ ـ فإنّ الذين كفروا على غيّهم يصرّون .. ألا ساء ما يحكمون ، وإن كانوا لا يعلمون قبح ما يفعلون. أمّا الذين اتبعوا الذكر ، واستبصروا ، وانتفعوا بالذي سمعوه منك ، وبه عملوا ـ فقد استوجبوا أن تبشّرهم ؛ فبشّرهم ، وأخبرهم على وجه يظهر السرور بمضمون خبرك عليهم.

(وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) : كبير وافر على أعمالهم ـ وإن كان فيها خلل.

قوله جل ذكره : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ)

نحيى قلوبا ماتت بالقسوة بما نمطر عليها من صوب الإقبال والزلفة ، ونكتب ما قدّموا.

(وَآثارَهُمْ) : خطاهم إلى المساجد (١) ، ووقوفهم على بساط المناجاة معنا ، وترقرق دموعهم على عرصات خدودهم ، وتصاعد أنفاسهم.

(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ)

أثبتنا تفصيله في اللوح المحفوظ .. لا لتناسينا لها ـ وكيف وقد أحصينا كل شىء عددا؟ ـ ولكننا أحببنا إثبات آثار أحبائنا في المكنون من كتابنا.

قوله جل ذكره : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣))

انقرض زمانهم ، ونسى أوانهم وشأنهم! ولكننا نتذكر أحوالهم بعد فوات أوقاتهم ، ولا نرضى بألا يجرى بين أحبائنا وعلى ألسنة أوليائنا ذكر الغائبين والماضين ، وهذا مخلوق يقول في صفة مخلوق :

__________________

(١) قال أبو سعيد الخدري : كان بنو سلمة في ناحية من المدينة ، فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد ، فأنزل الله الآية ، وقال لهم النبيّ (ص) : «إن آثاركم تكتب فسلم تنتقلون» أسباب النزول للواحدى ص ٢٤٥.

٢١٣

إذا نسى الناس إخوانهم

وخان المودّة خلّانها

فعندى لإخوانى الغائبين

صحائف ذكرك عنوانها

قوله جل ذكره : (قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨))

قال الرسل : (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) وليس علمنا إلّا بما أمرنا به من التبليغ والإنذار.

(قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ)

لنرجمنّكم ، ولنصنعنّ ، ولنفعلنّ ... فأجابهم الرسل : إنكم لجهلكم ولجحدكم سوف تلقون ما توعدون.

قوله جل ذكره : (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١))

فى القصة أنه جاء من قرية فسّماها مدينة ، وقال من أقصى المدينة ، ولم يكن أقصاها وأدناها ليتفاوتا بكثير ، ولكنه ـ سبحانه ـ أجرى سنّته في استكثار القليل من فعل عبده إذا كان يرضاه ، ويستنزر الكثير من فضله إذا بذله وأعطاه.

(اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً ..) فأبلغ الوعظ وصدق النّصح .. ولكن كما قالوا :

وكم سقت في آثاركم من نصيحة

وقد يستفيد البغضة المتنصّح

فلمّا صدق في حاله ، وصبر على ما لقى من قومه ، ورجع إلى التوبة ، لقّاه حسن أفضاله ، وآواه إلى كنف إقباله ، ووجد ما وعده ربّه من لطف أفضاله.

٢١٤

(قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧))

تمنّى أن يعلم قومه حاله ، فحقّق الله مناه ، وأخبر عن حاله ، وأنزل به خطابه ، وعرف قومه ذلك. وإنما تمنّى وأراد ذلك إشفاقا عليهم ، ليعملوا مثلما عمل ليجدوا مثلما وجد.

قوله جل ذكره : (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩))

ما كانت إلا قضية منّا بعقوبتهم ، وتغييرا لما كانوا به من السلامة إلى وصف البلاء.

قوله جل ذكره : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠))

إن لم يتحسّروا هم اليوم فلهم موضع التحسّر ؛ وذلك لانخراطهم في سلك واحد من التكذيب ومخالفة الرسل ، ومناوءة أوليائه ـ سبحانه.

قوله جل ذكره : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢))

ألم يروا ما فعلنا بمن قبلهم من القرون الماضية ، وما عاملنا به الأمم الخالية ، فلم يرجع إليهم أحد ، فكلّهم في قبضة القدرة ، ولم يفتنا أحد ، ولم يكن لواحد منهم علينا عون ولا مدد ، ولا عن حكمنا ملتحد

قوله جل ذكره : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣))

لمّا كان أمر البعث أعظم شبههم ، وكثر فيه إنكارهم كان تكرار الله سبحانه لحديث

٢١٥

البعث ، وقد ضرب ـ سبحانه ـ المثل له بإحياء الأرض بالنبات في الكثير من الآيات. والعجب ممّن ينكر علوم الأصول ويقول ليس في الكتاب عليها دليل! وكيف يشكل ذلك وأكثر ما في القرآن من الآيات يحت على سبيل الاستدلال ، وتحكيم أدلة العقول (١)؟ ولكن يهدى الله لنوره من يشاء. ولو أنهم أنصفوا من أنفسهم ، واشتغلوا بأهم شىء عندهم لما ضيّعوا أصول الدّين ، ولكنهم رضوا فيها بالتقليد ، وادّعوا في الفروع رتبة الإمامة والتصدّر .. ويقال في معناه :

يا من تصدّر في دست الإمامة فى

مسائل الفقه إملاء وتدريسا

غفلت عن حجج التوحيد تحكمها

شيّدت فرعا وما مهّدت تأسيسا!

قوله جل ذكره : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦))

تنبّه هذه الاية على التفكّر في بديع صنعه ؛ فقال : تنزيها لمن خلق الأشياء المتشاكلة فى الأجزاء والأعضاء ، من النبات ، ومن أنفسهم ، ومن الأشياء الأخرى التي لا يعلمون تفصيلها ، كيف جعل أوصافها في الطعوم والروائح ، فى الشكل والهيئة ، فى اختلاف الأشجار فى أوراقها وفنون أغصانها وجذوعها وأصناف أنوارها وأزهارها ، واختلاف أشكال تمارها فى تفرّقها واجتماعها ، ثم ما نيط بها من الانتفاع على مجرى العادة مما يسميه قوم : الطبائع ؛ فى الحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، واختلاف الأحداث التي يخلقها الله عقيب شراب هذه الأدوية وتناول هذه الأطعمة على مجرى العادة من التأثيرات التي تحصل في الأبدان. ثم اختلاف صور هذه الأعضاء الظاهرة والأجزاء الباطنة ، فالأوقات متجانسة ، والأزمان متماثلة ، والجواهر متشاكلة .. وهذه الأحكام مختلفة ، ولو لا تخصيص حكم لكل شىء بما اختصّ به لم يكن تخصيص بغير ذلك أولى منه. وإنّ من كحّل الله عيون بصيرته بيمن التعريف ، وقرن أوقاته بالتوفيق ، وأتم نظره ، ولم يصده مانع .. فما أقوى في المسائل حجّته! وما أوضح فى السلوك نهجه!.

__________________

(١) فى هذا ردّ على من يتهم الصوفية بمجافاتهم للعقل والعلم.

٢١٦

إنّها لأقسام سبقت على من شاءه الحقّ بما شاء.

قوله جل ذكره : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧))

نبطل ضوء النهار بهجوم الليل عليه ، وتزيل ظلام الليل بهجوم النهار عليه ، كذلك نهار الوجود يدخل على ليالى التوقف ، ويقود بيد كرمه عصا من عمى عن سلوك رشده فيهديه إلى سواء الطريق.

قوله جل ذكره : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها)

على ترتيب معلوم لا يتفاوت في فصول السنة ، وكل يوم لها مشرق جديد ولها مغرب جديد .. وكل هذا بتقدير العزيز العليم.

(وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)

الإشارة منه أن العبد في أوان الطلب رقيق الحال ، ضعيف ، مختصر الفهم .. ثم يفكّر حتى تزداد بصيرته ... إنه كالقمر يصير كاملا ، ثم يتناقص ، ويدنو من الشمس قليلا قليلا ، وكلّما ازداد من الشمس دنوّا ازداد في نفسه نقصانا حتى يتلاشى ويختفى ولا يرى ... ثم يبعد عن الشمس فلا يزال يتباعد ويتباعد حتى يعود بدرا ـ من الذي يصرّفه في ذلك إلّا أنه تقدير العزيز العليم؟ وشبيه الشمس عارف أبدا في ضياء معرفته ، صاحب تمكين غير متلوّن (١) ، يشرق من برج سعادته دائما ، لا يأخذه كسوف ، ولا يستره سحاب.

وشبيه القمر عبد تتلون أحواله في تنقله ؛ فهو في حال من البسط يترقّى إلى حدّ الوصال ، ثم يردّ إلى الفترة ، ويقع في القبض مما كان به من صفاء الحال ، فيتناقص ، ويرجع إلى نقصان أمره إلى أن يرفع قلبه عن وقته ، ثم يجود الحقّ ـ سبحانه ـ فيوفّقه لرجوعه عن فترته ،

__________________

(١) سبق أن أوضحنا الفرق بين حالى التلوين والتمكين.

٢١٧

وإفاقته عن سكرته ، فلا يزال يصفو حاله إلى أن يقرب من الوصال ، ويرزق صفة الكمال ، ثم بعد ذلك يأخذ في النقص والزوال .. كذلك حاله إلى أن يحقّ له بالمقسوم ارتحاله ، كما قالوا :

ما كنت أشكو ما على بدني

من كثرة التلوين من بدّته (١)

وأنشدوا : كلّ يوم تتلون

غير هذا بك أجمل

قوله جل ذكره : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢))

الإشارة فيه إلى حمل الخلق في سفينة السلامة في بحار التقدير عند تلاطم أمواجها بفنون من التغيير والتأثير. فكم من عبد غرق في اشتغاله في ليله ونهاره ، لا يستريح لحظة من كدّ أفعاله ومقاساة التعب في أعماله ، وجمع ماله.

فجرّه ذلك إلى نسيان عاقبته ومآله ، واستيلاء شغله بولده وعياله على فكره وباله ـ وما سعيه إلّا في وباله!

وكم من عبد غرق في لجّة هواه ، فجرّته مناه إلى تحمّل بلواه ، وخسيس من أمر مطلوبه ومبتغاه .. ثم لا يصل قط إلى منتهاه ، خسر دنياه وعقباه ، وبقي عن مولاه!

ومن أمثال هذا وذاك ما لا يحصى ، وعلى عقل من فكّر واعتبر لا يخفى.

أمّا إذا حفظ عبدا في سفينة العناية أفرده ـ سبحانة ـ بالتحرّر من رقّ خسائس الأمور ، وشغله بظاهره بالقيام بحقّه ، وأكرمه في سرائره بفراغ القلب مع ربّه ، ورقّاه إلى ما قال : «أنا جليس من ذكرنى» .. وقل في علوّ شأن من هذه صفته .. ولا حرج!

قوله جل ذكره : (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤))

__________________

(١) البدة النصيب والقسمة (اللسان).

٢١٨

لو لا جوده وفضله لحلّ بهم من البلاء ما حلّ بأمثالهم ، لكنه بحسن الأفضال ، يحفظهم فى جميع الأحوال.

قوله جل ذكره : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥)) الآيات

هذه صفات من سيّبهم (١) فى أودية الخذلان ، ووسمهم بسمة الحرمان ، وأصمّهم عن سماع الرّشد ، وصدّهم بالخذلان عن سلوك القصد ، فلا تأتيهم آية في الزّجر إلا قابلوها بإعراضهم ، وتجافوا عن الاعتبار بها على دوام انقباضهم ، وإذا أمروا بالإنفاق والإطعام عارضوا بأنّ الله رازق الأنام ، وإن يشأ نظر إليهم بالإنعام : ـ

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ)

ثم قال جل ذكره : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠))

يستعجلون هجوم الساعة ، ويستبطئون قيام القيامة ـ لا عن تصديق يريحهم من شكّهم ، أو عن خوف يمنعهم عن غيّهم ، ولكن تكذيبا لدعوة الرسل ، وإنكارا لصحة النبوة ، واستبعادا للنشر والحشر.

ويوم القيامة هم في العذاب محضرون ، ولا يكشف عنهم ، ولا ينصرون.

قوله جل ذكره : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا

__________________

(١) سيبه تركه وخلّاه يسيب حيث شاء (الوسيط).

٢١٩

يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢))

يموتون قهرا ، ويحشرون جبرا ، ويلقون أمرا ، ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا.

(قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا) (١) (مِنْ مَرْقَدِنا؟) يموتون على جهل ، لا يعرفون ربّهم ، ويبعثون على مثل حالهم ، لا يعرفون من بعثهم ، ويعدون ما كانوا فيه في قبورهم من العقوبة الشديدة ـ بالإضافة إلى ما سيلقون من الآلام الجديدة ـ نوما ورقادا ، وسيطئون من الفراق المبرح والاحتراق العظيم الضخم مهادا ، لا يذوقون بردا ولا شرابا إلا حميما وغسّاقا ، ولقد عوملوا بذلك استحقاقا : فقد قال جل ذكره : ـ

(فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

قوله جل ذكره : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥))

إنما يضاف العبد إلى ما كان الغالب عليه ذكره والآخذ بمجامع قلبه ، فصاحب الدنيا من فى أسرها ، وأصحاب الجنة من هم طلّابها والساعون لها والعاملون لنيلها ؛ قال تعالى مخبرا عن أقوالهم وأخوالهم : (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) (٢). وهذه الأحوال ـ وإن جلّت منهم ولهم ـ فهى بالإضافة إلى أحوال السادة والأكابر تتقاصر ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أكثر أهل الجنة البله» (٣) ومن كان في الدنيا عن الدنيا حرّا فلا يبعد أن يكون في الجنة عن الجنة حرا ، والله يختص برحمته من يشاء.

وقيل إنما يقول هذا الخطاب لأقوام فارغين ، فيقول لهم : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ

__________________

(١) سقطت (بعثنا) من الناسخ في ص.

(٢) آية ٦١ سورة الصافات.

(٣) جاء في اللسان أن الأبله من تغلب عليه سلامة الصدر ، وحسن الظنّ بالناس ؛ لأنه يغفل أمر دنياه ، ويقبل على آخرته ويشغل نفسه بها ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أكثر أهل الجنة البله» فهم أكياس في أمر الآخرة (اللسان ح ١٩ ص ٤٧٧) ط بيروت.

٢٢٠