لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

الحق. ولكنهم غفلوا عن شهود حقائق الربّ فخاطبهم على مقدار فهمهم ، وعلّق بالأغيار قلوبهم ، وكلّ يخاطب بما يحتمل على قدر قوّته وضعفه.

قوله جل ذكره : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢))

ملكتهم الدهشة وغلبتهم الخجلة ، فاعتذروا حين لا عذر ، واعترفوا ولا حين اعتراف.

قوله جل ذكره : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣))

لو (١) شئنا لسهّلنا سبيل الاستدلال ، وأدمنا التوفيق لكلّ أحد ، ولكن تعلّقت المشيئة بإغواء قوم ، كما تعلّقت بإدناء قوم ، وأردنا أن يكون للنار قطّان ، كما أردنا أن يكون للجنّة سكان ، ولأنّا علمنا يوم خلقنا الجنّة أنه يسكنها قوم ، ويوم خلقنا النار أنه ينزلها قوم ، فمن المحال أن نريد ألا يقع معلومنا ، ولو لم يحصل لم يكن علما ، ولو لم يكن ذلك علما لم نكن إلها ... ومن المحال أن نريد ألا نكون إلها.

ويقال : من لم يتسلّط عليه من يحبه لم يجر في ملكه ما يكرهه.

ويقال : يا مسكين أفنيت عمرك في الكدّ والعناء ، وأمضيت أيامك في الجهد والرجاء ، غيّرت صفتك ، وأكثرت مجاهدتك .. فما تفعل في قضائى كيف تبدّله؟ وما تصنع في مشيئتى بأيّ وسع تردّها؟ وفي معناه أنشدوا :

شكا إليك ما وجد

من خانه فيك الجلد

حيران لو شئت اهتدى

ظمان لو شئت ورد

__________________

(١) هذه الإشارة المستوحاة من الآية تمثل أقصى درجات الجبرية في مذهب هذا الباحث الصوفي ، ولكن القارئ لا يعزب عنه أن يجدها جبرية ممتزجة بالحب .. ويكفى أنها مرتبطة بمشيئة الخالق.

١٤١

قوله جل ذكره : (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤))

قاس من الهوان ما استوجبته بعصيانك ، واخلد في دار الخزي لما أسلفته من كفرانك.

قوله جل ذكره : (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥))

التصديق والتكذيب ضدان ـ والضدان لا يجتمعان ؛ التكذيب هو جحود واستكبار ، والتصديق هو سجود وتحقيق ، فمن اتّصف بأحد القسمين امّحى عنه الثاني.

(خَرُّوا سُجَّداً) : سجدوا بظواهرهم في المحراب ، وفي سرائرهم على تراب الخضوع وبساط الخشوع بنعت الذبول وحكم الخمود.

ويقال : كيف يستكبر من لا يجد كمال راحته ولا حقيقة أنسه إلا في تذلله بين يدى معبوده ، ولا يؤثر آجل جحيمه على نعيمه ، ولا شقاءه على شفائه؟!

قوله جل ذكره : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦))

فى الظاهر : عن الفراش قياما بحقّ العبادة والجهد والتهجد ، وفي الباطن : تتباعد قلوبهم عن مضاجعات الأحوال ، ورؤية قدّر النفس ، وتوّهم المقام ـ فإن ذلك بجملته حجاب عن الحقيقة ، وهو للعبد سمّ قاتل ـ فلا يساكنون أعمالهم ولا يلاحظون أحوالهم. ويفارقون مالفهم ، ويهجرون في الله معارفهم.

والليل زمان الأحباب ، قال تعالى : (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) : يعنى عن كلّ شغل وحديث سوى حديث محبوبكم. والنهار زمان أهل الدنيا ، قال تعالى : (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) ، أولئك قال لهم : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) :

١٤٢

إذا ناجيتمونا في ركعتين في الجمعة فعودوا إلى متجركم ، واشتغلوا بحرفتكم.

وأما الأحباب فالليل لهم إمّا في طرب التلاقي وإما في حرب الفراق ، فإن كانوا في أنس القربة فليلهم أقصر من لحظة ، كما قالوا :

زارنى من هويت بعد بعاد

بوصال مجدّد ووداد

ليلة كاد يلتقى طرفاها

قصرا وهى ليلة الميعاد

وكما قالوا :

وليلة زين ليالى الدهر

قابلت فيها بدرها ببدر

لم تستبن عن شقق وفجر

حتى تولّت وهي بكر الدهر

وأمّا إن كان الوقت وقت مقاساة فرقة وانفراد بكربة فليلهم طويل ، كما قالوا :

كم ليلة فيك لا صباح لها

أفنيتها قابضا على كبدى

قد غصّت العين بالدموع وقد

وضعت خدى على بنان يدى

قوله : «يدعون ربهم خوفا وطمعا» : قوم خوفا من العذاب وطمعا في الثواب ، وآخرون خوفا من الفراق وطمعا في التلاقي ، وآخرون خوفا من المكر وطمعا في الوصل.

(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) : يأتون بالشاهد الذي خصصناهم به ؛ فإن طهّرنا أحوالهم عن الكدورات حضروا بأحوال مقدّسة ، وإن دنّسّنا أوقاتهم بالآفات شهدوا بحالات مدنّسة (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ؛ فالعبد إنما يتجر في البضاعة التي يودعها لديه سيّده :

يفديك بالروح صبّ لو يكون له

أعزّ من روحه شىء فداك به

قوله جل ذكره : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧))

١٤٣

إنما تقرّ عينك برؤية من تحبه ، أو ما تحبه ؛ فطالب قلبك وراع حالك : فيحصل اليوم سرورك ، وكذلك غدا .. وعلى ذلك تحشر ؛ ففى الخبر :

«من كان بحالة لقى الله بها».

ثم إنّ وصف ما قال الله سبحانه إنه لا يعلمه أحد ـ محال ، اللهم أن يقال : إنها حال عزيزة ، وصفة جليلة.

قوله جل ذكره : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨))

(١) أفمن كان في حال الوصال يجرّ أذياله كمن هو في مذلة الفراق يقاسى وباله؟

أفمن كان في روح القربة ونسيم الزلفة كمن هو في هول العقوبة يعانى مشقة الكلفة؟

أفمن هو في روح إقبالنا عليه كمن هو في محنة إعراضنا عنه؟

أفمن بقي معنا كمن بقي عنّا؟

أفمن هو في نهار العرفان وضياء الإحسان كمن هو في ليالى الكفران ووحشة العصيان؟

أفمن أيّد بنور البرهان وطلعت عليه شموس العرفان كمن ربط بالخذلان ووسم بالحرمان؟ لا يستويان ولا يلتقيان!

قوله جل ذكره : (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩))

(الَّذِينَ آمَنُوا) : صدّقوا ، (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : بما حققّوا ـ فلهم حسن الحال ، وحميد المآل وجزيل المنال ، وأما الذين كدّوا وجحدوا ، وفي معاملاتهم أساءوا

__________________

(١) عن ابن عباس : أن الوليد بن عقبة قال لعل بن أبى طالب : أنا أحدّ منك سنانا ، وأبسط منك لسانا ، وأملأ للكتيبة منك ، فقال عليّ : اسكت فإنما أنت فاسق ... فنزلت الآية (الواحدي ص ٢٣٦).

١٤٤

وأفسدوا ، فقصاراهم الخزي والهوان ، وفنون من المحن وألوان ... كلما راموا من محنتهم خلاصا ازدادوا فيها انتكاسا ، وكلما أمّلوا نجاة جرّعوا وزيدوا يأسا.

قوله جل ذكره : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١))

قوم عذابهم الأدنى محن الدنيا ، والعذاب الأكبر لهم عقوبة العنبي.

وقوم العذاب الأدنى لهم فترة تتداخلهم في عبادتهم ، والعذاب الأكبر لهم قسوة في قلوبهم تصيبهم.

وقوم العذاب الأدنى لهم وقفة في سلوكهم تنيبهم ، والعذاب الأكبر لهم حجبة عن مشاهدهم تنالهم ، قال قائلهم :

أدّبتنى بانصراف قلبك عنّى

فانظر إليّ فقد أحسنت تأديبى (١)

ويقال العذاب الأدنى الخذلان في الزلة ، والأكبر الهجران في الوصلة.

ويقال العذاب الأدنى تكدّر مشاربهم بعد صفوها ، كما قالوا :

لقد كان ما بينى زمانا وبينه

كما بين ريح المسك والعنبر الورد

ويقال العذاب الأكبر لهم تطاول أيام الغياب من غير تبين آخر لها ، كما قيل :

تطاول نأينا يا نور حتى

كأن نسجت عليه العنكبوت

قوله جل ذكره : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢))

إذا نبّه العبد بأنواع الزّجر ، وحرّك ـ لتركه حدود الوقاق ـ بصنوف من التأديب

__________________

(١) الشطر الأول غير موزون ، والشطر الثاني من البسيط.

١٤٥

ثم لم يرتدع عن فعله ، واغترّ بطول سلامته ، وأمن من هواجم مكره ، وخفايا سرّه .. أخذه بغتة بحيث لا يجد خرجة من أخذته ، قال تعالى : (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) (١)

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣))

فلا تكن في مرية من لقائه غدا لنا ورؤيته لنا (٢).

(وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) :

وهذا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل رحمة للعالمين.

قوله جل ذكره : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤))

لمّا صبروا على طلبنا سعدوا بوجودنا ، وتعدّى مانالوا من أفضالنا إلى متبعيهم ، وانبسط شعاع شموسهم على جميع أهلهم ؛ فهم للخلق هداة ، وفي الدين عيون ، وللمسترشدين نجوم.

قوله جل ذكره : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥))

يحكم بينهم ، وعند ذلك يتبين المردود من المقبول ، والمهجور من الموصول ، والرضى من

__________________

(١) آية ٦٥ سورة المؤمنون.

(٢) صرف القشيري الرؤية واللقاء إلى موسى عليه‌السلام ، وأنه سيلقى ربه ويراه. بينما يرى قتادة أن المقصود : فلا تكن في شك من لقاء موسى في القيامة وستلقاه ـ أي محمد ـ فيها ، كما لقيته ليلة الإسراء. وعن الحسن : فلا تكن ـ يا محمد ـ فى شك من أنك ستلقى ما لقيه من التكذيب والأذى ، فالهاء عائدة على محذوف.

وقيل إن الكلام متصل بقوله تعالى : قل يتوفاكم ملك الموت» ... فلا تكن في مرية من لقائه ، وجاءت «ولقد آتينا موسى» اعتراضا.

١٤٦

الغوي ، والعدو من الوليّ ... فكم من بهجة دامت هنالك! وكم من مهجة ذابت عند ذلك!

قوله جل ذكره : (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦))

أو لم يعتبروا بمنازل أقوام كانوا في حبرة فصاروا عبرة ، كانوا في سرور فآلوا إلى ثبور ؛ فجميع ديارهم ومزارهم صارت لأغيارهم ، وصنوف أموالهم عادت إلى أشكالهم ، سكنوا فى ظلالهم ولم يعتبروا بمن مضى من أمثالهم ، وكما قيل :

نعمة كانت على قو

م زمانا تم بانت

هكذا النعمة والإح

سان مذ كان وكانت

قوله جل ذكره : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧))

(١) الإشارة فيه : تسقى حدائق وصلهم بعد جفاف عودها ، وزوال المأنوس من معهودها ، فيعود عودها مورقا بعد ذبوله ، حاكيا بحاله حال حصوله.

قوله جل ذكره : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩))

__________________

(١) يقول الزمخشري (الجرز) الأرض التي جزر نباتها أي قطع ، إما لعدم الماء وإما لأنه رعى وأزيل ، ولا يقال التي لا تنبت كالسباخ جرز ، ويدل عليه قوله تعالى «فنخرج به زرعا».

وقال عكرمة : هى الأرض الظمأى.

ويحاول بعضهم أن يطلقها على مكان بعينه (ابن عباس : أرض باليمن) ومجاهد : (أرض النيل).

١٤٧

استبعدوا يوم التلاقي وجحدوه ، فأخبرهم أنه ليس لهم إلا الحسرة والمحنة إذا شهدوه.

قوله جل ذكره : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠))

أعرض عنهم باشتغالك بنا ، وإقبالك علينا ، وانقطاعك إلينا.

(وَانْتَظِرْ) زوائد وصلنا ، وعوائد لطفنا.

(إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) هواجم مقتنا وخفايا مكرنا .. وعن قريب يجد كلّ منتظره محتضرا.

١٤٨

سورة الأحزاب

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

بسم الله شهود وجوده يوجب لك تلفا في تلف ، ووجود جوده يوجب لك شرفا فى شرف ، ففى تلفك يكون (هو) (١) عنك الخلف ، وفي شرفك تصل إلى كلّ لطف.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١))

يا أيها المشرّف حالا ، المفخّم قدرا منّا ، المعلّى رتبة من قبلنا .. يا أيها المرقّى إلى أعلى الرّتب بأسنى القرب .. يا أيها المخبّر عنا ، المأمون على أسرارنا ، المبلّغ خطابنا إلى أحبابنا ... اتق الله أن تلاحظ غيرا معنا ، أو تساكن شيئا من دوننا ، أو تثبت أحدا سوانا ، أو تتوهّم شظية من الحدثان من سوانا. (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) إشفاقا منك عليهم ، وطمعا في إيمانهم بنا لو وافقتهم في شىء أرادوه منك (٢).

والتقوى رقيب على قلوب أوليائه يمنعهم في أنفاسهم ، وسكناتهم ، وحركاتهم أن ينظروا إلى غيره ـ أو يثبتوا معه غيره ـ إلا منصوبا لقدرته ، مصرّفا بمشيئته ، نافذا فيه حكم قضيته.

__________________

(١) وضعنا (هو) من عندنا ليتضح المعنى كما نفهم من أسلوب القشيري في مثل هذا المجال.

(٢) يقال نزلت هذه الآية حينما دخل أبو سفيان وأبو جهل وأبو الأعور السلمى على النبي (ص) بعد قتال أحد ، وطلبوا الأمان ، وقالوا للرسول : «أرفض ذكر آلهتنا ، وقل إن لها شفاعة ومنعة وندعك وربك» فشق على النبي (ص) قولهم ، فقال عمر بن الخطاب ـ وكان بصحبة النبي : ائذن لى يا رسول الله في قتلهم ، فقال النبي : إنى قد أعطيتهم الأمان ... وأمر بإخراجهم من المدينة. (الواحدي ص ٣٦).

١٤٩

التقوى لجام يكبحك عمّا لا يجوز ، زمام يقودك إلى ما تحب ، سوط يسوقك إلى ما أمرت به ، شاخص يحملك على القيام بحقّ الله ، حرز يعصمك من توصل أعدائك إليك ، عوذة تشفيك من داء الخطأ.

التقوى وسيلة إلى ساحات كرمه ، ذريعة تتوسل بها إلى عقوة جوده.

قوله جل ذكره : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢))

اتبع ولا تبتدع ، واقتد بما نأمرك به ، ولا تهتد باختيارك غير ما نختار لك ، ولا تعرّج في أوطان الكسل ، ولا تجنحّ إلى ناحية التواني ، وكن لنا لا لك ، وقم بنا لا بك.

قوله جل ذكره : (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣))

انسلخ عن إمابك ، واصدق في إيابك إلينا ، وتشاغل عن حسبانك معنا ، واحذر ذهابك عنا ، ولا تقصّر في خطابك معنا.

ويقال التوكل تحقّق ثم تخلّق ثم توثق ثم تملق ؛ تحقق في العقيدة ، وتخلق بإقامة الشريعة ، وتوثق بالمقسوم من القضية ، وتملّق بين يديه بحسن العبودية.

ويقال التوكل تحقّق وتعلق وتخلق : تحقّق بالله وتعلّق بالله ثم تخلق بأوامر الله.

ويقال التوكل استواء القلب في العدم والوجود.

قوله جل ذكره : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ)

القلب إذا اشتغل بشىء شغل عما سواه ، فالمشتغل بما من العدم منفصل عمن له القدم ، وللتصل بقلبه بمن نعته القدم مشتغل عمّا من العدم .. والليل والنهار لا يجتمعان ، والغيب والغير لا يلتقيان.

(وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ)

١٥٠

(مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ).

اللائي تظاهرتم (١) منهن لسن أمهاتكم ، والذين تبنيتم ليسوا بأبنائكم ، وإن الذي صرتم إليه من افترائكم ، وما نسبتم إلينا من آرائكم فذلك مردود عليكم ، غير مقبول منكم ، وإن أمسكتم عنه بعد البيان نجوتم ، وإن تماديتم بعد ما أعلمتم أطلت المحنة عليكم.

قوله جل ذكره : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥))

راعوا أنسابهم ، فإن أردتم غير النسبة فالأخوّة في الدّين تجمعكم ، وقرابة الدّين والشكلية أولى من قرابة النّسب ، كما قالوا :

وقالوا قريب من أب وعمومة

فقلت : وإخوان الصفاء الأقارب

نناسبهم شكلا وعلما وألفة

وإن باعدتهم في الأصول المناسب

قوله جل ذكره : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ ...)

__________________

(١) يعنى أن يقول الرجل لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي ، وسيأتى تفصيل ذلك في سورة المجادلة (المجلد الثالث.)

١٥١

الإشارة من هذا : تقديم سنته على هواك ، والوقوف عند إشارته دون ما يتعلق به مناك ، وإيثار من تتوسل به سببا ونسبا على أعزّتك ومن والاك.

(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) :

ليكن الأجانب منك على جانب ، ولتكن صلتك بالأقارب. وصلة الرحم ليست بمقاربة الديار وتعاقب المزار ، ولكن بموافقة القلوب ، والمساعدة في حالتى المكروه والمحبوب :

أرواحنا في مكان واحد وغدت

أشباحنا بشام (١) أو خراسان

قوله جل ذكره : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧))

أخذ ميثاق النبيين وقت استخراج الذرية من صلب آدم ـ فهو الميثاق الأول ، وكذلك ميثاق الكلّ. ثم عند بعث كلّ رسول ونبوّة كلّ نبيّ أخذ ميثاقه ، وذلك على لسان جبريل عليه‌السلام ، وقد استخلص الله سبحانه نبيّنا عليه‌السلام ، فأسمعه كلامه ـ بلا واسطة ـ ليلة المعراج. وكذلك موسى عليه‌السلام ـ أخذ الميثاق منه بلا واسطة ولكن كان لنبينا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ زيادة حال ؛ فقد كان له مع سماع الخطاب كشف الرؤية (٢).

ثم أخذ المواثيق من العبّاد بقلوبهم وأسرارهم بما يخصهم من خطابه ، فلكلّ من الأنبياء والأولياء والأكابر على ما يؤهلهم له ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لقد كان في الأمم

__________________

(١) هكذا في ص وهي في م (بعراق)

(٢) فى كتاب الرؤية الكبير يرى الأشعري جواز ذلك ، أما القشيري : فبينما يشير هنا إلى ذلك إذ به كما سيأتى فى بسملة سورة البروج يقول : «بسم الله اسم لم يره بصر إلّا واحد ، وهو أيضا مختلف فيه» المجلد الثالث

١٥٢

محدّثون فإن يكن في أمتى فعمر» وغير عمر مشارك لعمر في خواص كثيرة ، وذلك شىء يتمّ بينهم وبين ربّهم.

قوله جلّ ذكره : (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨))

يسألهم سؤال تشريف لا سؤال تعنيف ، وسؤال إيجاب لا سؤال عتاب. والصدق ألّا يكون في أحوالك شوب ولا في اعتقادك ريب ، ولا في أعمالك عيب. ويقال من أمارات الصدق في المعاملة وجود الإخلاص من غير ملاحظة مخلوق. والصدق في الأحوال تصفيتها من غير مداخلة إعجاب.

والصدق في الأقوال سلامتها من المعاريض فيما بينك وبين نفسك ، وفيما بينك وبين الناس التباعد عن التلبيس ، وفيما بينك وبين الله بإدامة التبرّى من الحول والقوة ، ومواصلة الاستعانة (١) ، وحفظ العهود معه على الدوام.

والصدق في التوكل عدم الانزعاج عند الفقد ، وزوال الاستبشار بالوجود (٢).

والصدق في الأمر بالمعروف التحرّز من قليل المداهنة وكثيرها ، وألا تترك ذلك لفزع أو لطمع ، وأن تشرب مما تسفى ، وتتصف بما تأمر ، وتنهى (نفسك) (٣) عما تزجر.

ويقال الصدق أن يهتدى إليك كلّ أحد ، ويكون عليك فيما تقول وتظهر اعتماد. ويقال الصدق ألا تجنح إلى التأويلات (٤).

__________________

(١) هكذا في ص وهي في م (الاستغاثة) وكلاهما مقبول في السياق.

(٢) هكذا في ص وم وربما كلتت (الموجود) إذ نحسب أن مقصد القشيري أن تكون راضيا إذا فقدت أو وجدت ، وفي ذلك يقول عبد الله بن خفيف : القناعة ترك التشوف إلى المفقود والاستغناء (بالموجود) الرسالة ص ٨١ والشاكر الذي يشكر على (الموجود) والشكور الذي يشكر على المفقود (الرسالة ص ٨٩). ومع ذلك فقد وردت (الوجود) فى قول النوري : الصوفي نعته السكون عند العدم والإيثار عند الوجود ... فالوجود بهذا المعنى ضد العدم ؛ أي وجود الأشياء وفقدانها. ولكننا نفضل أن يقتصر اصطلاح (الوجود) على الدرجة القصوى بعد التواجد والوجد ، وهو للحق. (الرسالة ص ٣٦ و ٣٧) وأنظر أيضا تفسير القشيري للآية ٣٩ سورة سبأ (فى هذا المجلد)

(٣) وضعنا (نفسك) من عندنا ليتضح المعنى.

(٤) معروف أن القشيري يكره التأويلات المؤدية إلى الاسترخاص بالنسبة للصوفية.

١٥٣

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩))

ذكر نعمة الله مقابلتها بالشكر ، ولو تذكرت ما دفع عنك فيما سلف لهانت عليك مقاساة البلاء في الحال ، ولو تذكرت ما أولاك في الماضي لقربت من قلبك الثقة في إيصال ما تؤمّله في المستقبل.

ومن جملة ما ذكّرهم به : (١) (إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ ...) كم بلاء صرفه عن العبد وهو لم يشعر! وكم شغل كان يقصده فصدّه عنه ولم يعلم! وكم أمر عوّقه والعبد يضجّ وهو ـ ـ (سبحانه) ـ يعلم أن في تيسيره له هلاك العبد فمنعه منه رحمة به ، والعبد يتّهم ويضيق صدره بذلك!

قوله جل ذكره : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠))

أحاط بهم سرادق البلاء ، وأحدق بهم عسكر العدوّ ، واستسلموا للاجتياح ، وبلغت القلوب الحناجر ، وتقسّمت الظنون ، وداخلتهم كوامن الارتياب ، وبدا في سويدائهم جولان الشكّ.

(هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً)

ثم أزال عنهم جملتها ، وقشع عنهم شدّتها ، فانجاب عنهم سحابها ، وتفرّقت عن قلوبهم همومها ، وتفجّرت ينابيع سكينتهم.

__________________

(١) يوضح القشيري هنا ما يسمى عنده (نعم المنع) وهي صنف آخر يختلف عن (نعم المنح) ، والعبد ـ لقصر نظره ـ يشكر على هذه ، وتخفى عليه تلك.

١٥٤

قوله جل ذكره : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢))

صرّحوا بالتكذيب ـ لما انطوت عليه قلوبهم ـ حين وجدوا للمقال مجالا.

قوله جل ذكره : (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣))

تواصوا فيما بينهم بالفرار عند ما سوّلت لهم شياطينهم من وشك ظفر الأعداء. قوله : (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ ...) : يتعلّلون (١) بانكشاف بيوتهم وضياع مخلّفاتهم ، ويكذبون فيما أظهروه عذرا ، وهم لم يحملهم على فعلهم غير جبنهم وقلة يقينهم.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥))

ولكن لما عزم الأمر ، وظهر الجدّ لم يساعدهم الصدق ، ولم يذكروا أنهم سيسألون عن عهدهم ، ويعاقبون على ما أسلفوه من ذنبهم.

قوله جل ذكره : (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦))

لأنّ الآجال لا تأخير لها ولا تقديم عليها ، وكما قالوا : «إنّ الهارب عمّا هو كائن في كفّ الطالب يتقلب».

(وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) : فإنّ ما يدّخره العبد عن الله من مال أو جاه أو نفيس أو قريب لا يبارك له فيه ، ولا يجد به منعة ، ولا يرزق منة غبطة.

__________________

(١) يغمز القشيري هنا ـ من بعيد ـ بالمتعللين في الطريق بعلل الاسترخاص ودعاوى النفس.

١٥٥

قوله جل ذكره : (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧))

من الذي يحقق لكم من دونه مرجوّا؟ ومن الذي يصرف عنكم دونه عدوّا؟.

قوله جل ذكره : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨))

هم الذين كانوا يمتنعون بأنفسهم عن نصرة النبي عليه‌السلام ، ويمنعون غيرهم ليكون جمعهم أكثر وكيدهم أخفى ، وهم لا يعلمون أنّ الله يطلع رسوله عليه‌السلام عليهم ثم ذكر وصفهم فقال : ـ

(أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ)

إذا جاء الخوف طاشت من الرعب عقولهم ، وطاحت بصائرهم ، وتعطلت عن النصرة جميع أعضائهم. وإذا ذهب الخوف زيّنوا كلامهم ، وقدّموا خداعهم ، واحتالوا في أحقاد خستهم ... أولئك هذه صفاتهم ؛ لم يباشر الإيمان قلوبهم ، ولا صدقوا فيما أظهروا من ادعائهم واستسلامهم.

قوله جل ذكره : (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠))

يحسبون الأحزاب لم يذهبوا ، ويخافون من عودهم ، ويفزعون من ظلّ أنفسهم

١٥٦

إذا وقعوا على آثارهم ، ولو اتفق هجوم الأعداء عليكم ما كانوا إلا في حرز سيوفهم ودرية (١) رماحهم.

قوله جل ذكره : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١))

(كانَ) صلة ومعناها : لكم في رسول الله أسوة حسنة ، به قدوتكم ، ويجب عليكم متابعته فيما يرسمه لكم. وأقوال الرسول (ض) وأفعاله على الوجوب إلى أن يقوم دليل التخصيص ، فأما أحواله فلا سبيل لأحد إلى الإشراف عليها ، فإن ظهر شىء من ذلك بإخباره أو بدلالة أقواله وأفعاله عليه فإن كان ذلك مكتسبا من قبله فيلحق في الظاهر بالوجوب بأفعاله وأقواله ، وإن كان غير مكتسب له فهى خصوصية له لا ينبغى لأحد أن يتعرّض لمقابلته لاختصاصه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعلوّ رتبته (٢).

قوله جلّ ذكره : (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢))

كما أنّ المنافقين اضطربت عقائدهم عند رؤية الأعداء ، فالمؤمنون وأهل اليقين ازدادوا ثقة ، وعلى الأعداء جرأة ، ولحكم الله استسلاما ، ومن الله قوة.

قوله جل ذكره : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣))

شكر صنيعهم في المراس ، ومدح يقينهم عند شهود البأس ، وسماهم رجالا إثباتا

__________________

(١) الدرية ما يستتر به الصائد من الصيد فيرميه إذا أمكنه.

(٢) يفيد هذا الكلام في توضيح نظرة هذا الباحث إلى السنّة كمصدر أساسى من مصادر التشريع ، فالسّنّة أقوال وأفعال وأحوال ، منها ما يصلح العموم ، ومنها ما يختص به الرسول نفسه.

١٥٧

لخصوصية رتبتهم (١) ، وتمييزا لهم من بين أشكالهم بعلوّ الحالة والمنزلة ، فمنهم من خرج من دنياه على صدقه (٢) ، ومنهم من ينتظر حكم الله في الحياة والممات ، ولم يزيغوا عن عهدهم ، ولم يراوغوا في مراعاة حدّهم ؛ فحقيقة الصدق حفظ العهد وترك مجاوزة الحدّ.

ويقال : الصدق استواء الجهر والسّرّ.

ويقال : هو الثبات عند ما يكون الأمر جدّا.

قوله جل ذكره : (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤))

فى الدنيا يجزى الصادقين بالتمكين والنصرة على العدو وإعلاء الراية ، وفي الآخرة بجميل الثواب وجزيل المآب والخلود في النعيم المقيم والتقديم على الأمثال بالتكريم والتعظيم ..

(وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) على الوجه الذي سبق به العلم ، وتعلّقت به المشيئة.

ويقال : إذا لم يجزم بعقوبة المنافق وعلّق القول فيه بالرجاء فبالحريّ ألا يخيّب المؤمن فى رجائه.

قوله جل ذكره : (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥))

لم يشمت بالمسلمين عدوّا ، ولم يوصّل إليهم من كيدهم سوءا ، ووضع كيدهم في نحورهم ، واجتثّهم من أصولهم ، وبيّن بذلك جواهر صدقهم وغير صدقهم ، وشكر من استوجب شكره من جملتهم ، وفضح من استحقّ الذمّ من المدلسين منهم.

__________________

(١) «من المؤمنين رجال ..» : عن أنس أنها نزلت في عمه أنس بن النضير الذي أبلى يوم أحد بلاء عظيما ، حتى قتل وبه ثمانون جراحة بين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح ورمية بالسهم .. رواه البخاري عن بندار ، ومسلم عن محمد بن حاتم.

(٢) «فمنهم من قضى نحبه» نزلت في طلحة بن عبيد الذي ثبت بجانب الرسول يوم أحد حتى دعا له الرسول (ص) : اللهم أوجب لطلحة الجنة. (الواحدي ص ٢٣٨).

١٥٨

(وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦))

إنّ الحقّ ـ سبحانه ـ إذا أجمل أكمل ، وإذا شفى كفى ، وإذا وفي أوفى .. فأظفر المسلمين عليهم ، وأورثهم معاقلهم ، وأذلّ متعزّزهم ، وكفاهم بكلّ وجه أمرهم ، ومكّنهم من قتلهم وأسرهم ونهب أموالهم ، وسبى ذراربهم.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩))

لم يرد أن يكون قلب أحد من المؤمنين والمؤمنات منه في شغل ، أو يعود إلى أحد منه أذى أو تعب ، فخيّر ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نساءه (١) ، ووفق الله سبحانه عائشة أمّ المؤمنين ـ رضى الله عنها ـ حتى أخبرت عن صدق (٢) قلبها ، وكمال دينها ويقينها ، (وبما هو المنتظر من أصلها وتربيتها) (٣) ، والباقي جرين على منهاجها ، ونسجن على منوالها.

قوله جلّ ذكره : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ

__________________

(١) يقال إنه قال لعائشة : إنى ذاكر لك أمرا ولا عليك أن لا تعجلى فيه حتى تستأمرى أبويك ، ثم قرأ عليها القرآن ، فقالت : أفي هذا أستأمر أبويّ؟ فإنى أريد الله ورسوله والدار الآخرة. فرؤى الفرح في وجهه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) هكذا في م وهي في ص (كذب) وهي خطا قطعا.

(٣) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص.

١٥٩

بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠))

زيادة العقوبة على الجرم من أمارات الفضيلة ، ولذا فضل حدّ الأحرار على العبيد وتقليل ذلك من أمارات النقص ؛ فلما كانت منزلتهن في الشرف تزيد على منزلة جميع النساء ضاعف عقوبتهن على أجرامهن ، وضاعف ثوابهن على طاعاتهن. وقال :

(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً).

ثم قال :

(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢))

نهاهن عن التبذّل ، وأمرهنّ بمراعاة حرمة الرسول (ص) ، والتصاون عن تطمّع المنافقين في ملاينتهن.

قوله جل ذكره : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣))

(الرِّجْسَ) : الأفعال الخبيثة والأخلاق الدنيئة ؛ فالأفعال الخبيثة الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وما قلّ وما جلّ. والأخلاق الدنيئة الأهواء والبدع كالبخل والشحّ

١٦٠