لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

ومحله ؛ فالدرّ يطلب من الصدف لأن ذلك مسكنه ، والشمس تطلب من البروج لأنها مطلعها ، والشهد يطلب من النحل لأنه عشه. كذلك المعرفة (١) تطلب من قلوب خواصه لأن ذلك قانون معرفته ، ومنها (...) (٢)

قوله جل ذكره : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠))

خفيت عليهم حالتك ـ يا محمد ـ فطالبوك بإقامة الشواهد ، وقالوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ ...) أولم يكفهم ما أوضحنا عليك من السبيل ، وألحنا لك من الدليل ؛ يتلى عليهم ذلك ، ولا يمكنهم معارضته ولا الإتيان بشىء من مثله؟! هذا هو الجحود وغاية الكنود!

قوله جل ذكره : (قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢))

أنا على حقّ والله ـ سبحانه ـ يعلمه ، وأنتم لستم على حق والله يعلمه.

قوله جل ذكره : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣))

لو لا أنى ضربت لكلّ شىء أجلا لعجّلت لهم ذلك ، وليأتينّهم العذاب ـ حين يأتيهم ـ بغتة وفجأة.

__________________

(١) ورد في ص بعد كلمة المعرفة (وصف الحق) وربما كانت (بوصف الحق) وهي غير موجودة في م ، ونرجح أنها موجودة في الأصل بدليل اقتران الضمير ب (خواصه).

(٢) فى ص (توقع نسخة توحيده) وفي م (يرفع نسخة توحيده) وكلاهما غامض في الكتابة وإن كنا نستطيع أن نفهم أن التوحيد ـ وهو أقصى درجات المعرفة ـ محله قلوب الخواص.

١٠١

قوله جل ذكره : (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥))

وإذا أحاطت بهم في جهم سرادقات العذاب فلا صريخ لهم ، كذلك ـ اليوم ـ من أحاط به العذاب ؛ من فوقه اللّعن ومن تحته الخسف ، ومن حوله الخزي ، ويلبس لباس الخذلان ، ويوسم بكيّ الحرمان ، ويسقى شراب القنوط ، ويتوّج بتاج الخيبة ، ويقيّد بقيد السّخط ، ويغلّ بغلّ العداوة ، فهم يسحبون في جهنم الفراق حكما ، إلى أن يلقوا في جحيم الاحتراق عينا.

قوله جل ذكره : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦))

الدنيا أوسع رقعة من أن يضيق بمريد مكان ، فإذا نبا به منزل ـ لوجه من الوجوه ـ إمّا لمعلوم حصل ، أو لقبول من الناس ، أو جاه ، أو لعلاقة أو لقريب أو لبلاء ضدّ ، أو لوجه من الوجوه الضارة ... فسبيله أن يرتحل عن ذلك الموضع وينتقل إلى غيره ، كما قالوا (١) :

وإذا ما جفيت كنت حريّا

أن أرى غير مصبح حيث أمسى

وكذلك العارف إذا لم يوافق وقته مكان انتقل إلى غيره من الأماكن (٢).

قوله جل ذكره : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧))

إذا كان الأمر كذلك فالراحة معطوفة على تهوين الأمور ؛ فسبيل المؤمن أن يوطّن نفسه

__________________

(١) البحنرى في السينية.

(٢) تعبر هذه الفقرة عن رأى القشيري فيما يعرف عند الصوفية (بالسّفر) فهو يجيزه للعارف ، أما بالنسبة للمريد فإنه يرى عدم السفر ؛ لأن ثبات المريد في مكان به ابتلاء هروب من مواجهة الابتلاء وذلك آية ضعف في الإرادة : (ومن آداب المريد بل من فرائض حاله أن يلازم موضع إرادته وألا يسافر قبل أن تقبله الطريق وقبل الوصول بالقلب إلى الرب ، فإن السفر للمريد في غير وقتله سم قاتل (الرسالة ص ٢٠٠).

١٠٢

على الخروج مستعدا له ، ثم إذا لم يحصل الأجل فلا يستعجل ، وإذا حضر فلا يستثقل ، ويكون بحكم الوقت ، كما قالوا :

لو قال لى مت متّ سمعا وطاعة

وقلت لداعى الموت : أهلا ومرحبا

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨))

هم ـ اليوم ـ فى غرف معارفهم على أسرّة وصلهم ، متوّجون بتيجان سيادتهم ، يسقون كاسات الوجد ، ويجبرون في جنان القرب ، وعدا كما قال : ـ

(الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)

والصبر الوقوف مع الله بشرط سقوط الفكرة.

الصبر العكوف في أوطان الوفاء ، الصبر حبس النّفس على فطامها.

الصبر تجرّع كاسات التقدير من غير تعبيس.

الصبر صفة توجب معيّة الحقّ .. وأعزز بها! وأول الصبر تصبّر بتكلف ، ثم صبر بسهولة ، ثم اصطبار وهو ممزوج بالراحة ، ثم تحقّق بوصف الرضا ؛ فيصير العبد فيه محمولا بعد أن كان متحمّلا.

والتوكل انتظار مع استبشار ، والتوكل سكون السّرّ إلى الله ، التوكل استقلال بحقيقة التوكل ؛ فلا تتبرّم في الخلوة بانقطاع الأغيار عنك. التوكل إعراض القلب عن غير الربّ.

قوله جل ذكره : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

١٠٣

(لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) أي لا تدخره ، فمن لم يدخر رزقه في كيسه أو خزائنه فالله يرزقه من غير مقاساة تعب منه.

ويقال (لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) المقصود بها الطيور والسباع إذ ليس لها معلوم ، وليس لها بيت تجمع فيه القوت ، وليس لها خازن ولا وكيل .. الله يرزقها وإياكم.

ويقال إرادة الله في أن يستبقيك ولا يقبض روحك أقوى وأتمّ وأكبر من تعنّيك لأجل بقائك .. فلا ينبغى أن يكون اهتمامك بسبب عيشك أتمّ وأكبر من تدبير صانعك لأجل بقائك.

قوله جل ذكره : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١))

إذا سئلوا عن الخالق أقروا بالله ، وإذا سئلوا عن الرزاق لم يستقروا مع الله .. هذه مناقضة ظاهرة!

قوله جل ذكره : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢))

الرزق على قسمين : رزق الظواهر ومنه الطعام والشراب ، ورزق السرائر ومنه الاستقلال بالمعاني بحيث لا يحصره تكلف الكلام ، والناس فيهم مرزوق ومرفه عليه ، وفيهم مرزوق ولكن مضيّق عليه.

قوله جل ذكره : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣))

١٠٤

كما علموا أنّ حياة الأرض بعد موتها بالمطر من قبل الله فليعلموا أنّ حياة النفوس بعد موتها ـ عند النّشر والبعث ـ بقدرة الله. وكما علموا ذلك فليعلموا أنّ حياة الأوقات بعد نفرتها ، وحياة القلوب بعد فترتها ... بماء الرحمة بالله.

قوله جل ذكره : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤))

الدنيا كالأحلام ، وعند الخروج منها انتباه من النوم. والآخرة هنالك العيش بكماله ، والتخلص ـ من الوحشة ـ بتمامه ودوامه.

قوله جل ذكره : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥))

الإخلاص تفريغ القلب عن الكلّ ، والثقة بأن الإخلاص ليس إلا به ـ سبحانه ، والتحقق بأنه لا يستكبر حالا في المحمودات ولا في المذمومات ، فعند ذلك يعبدونه مخلصين له الدّين. وإذا توالت عليهم الضرورات ، وانقطع عنه الرجاء أذعنوا الله متضرعين (فإذا كشف الضّرّ عنهم عادوا إلى الغفلة ، ونسوا ما كانوا فيه من الحال كما قيل) (١) :

إذا ارعوى عاد إلى جهله

كذى الضنى عاد إلى نكسه

قوله جل ذكره : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧))

منّ عليهم بدفع المحن عنهم وكون الحرم آمنا. وذكّرهم عظيم إحسانه عليهم ، ثم إعراضهم عن شكر ذلك.

__________________

(١) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص ، والسياق يتطلبه ؛ لأن الشاهد الشعرى الموجود فى النسختين يؤيد معناه.

١٠٥

قوله جل ذكره : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨))

أي لا أحد أشدّ ظلما ممن افترى على الله الكذب ، وعدل عن الصدق ، وآثر البهتان ولم يتصرف بالتحقق ، أولئك هم السّقّاط في الدنيا والآخرة.

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩))

الذين زيّنوا ظواهرهم بالمجاهدات حسنت سرائرهم بالمشاهدات. الذين شغلوا ظواهرهم بالوظائف أوصلنا إلى سرائرهم اللطائف. الذين قاسوا فينا التعب من حيث الصلوات جازيناهم بالطرب من حيث المواصلات.

ويقال الجهاد فيه : أولا بترك المحرّمات ، ثم بترك الشّبهات ، ثم بترك الفضلات ، ثم بقطع العلاقات ، والتنقّى من الشواغل في جميع الأوقات.

ويقال بحفظ الحواسّ لله ، وبعدّ الأنفاس مع الله.

١٠٦

السورة التي يذكر فيها

الروم

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

بسم الله اسم عزيز شفيع المذنبين جوده ، بلاء المتهمين قصوده ، ضياء الموحّدين عهوده. وسلوة المحزونين ذكره ، وحرفة (١) الممتحنين شكره.

اسم عزيز رداؤه كبرياؤه ، وجبّار سناؤه بهاؤه ، وبهاؤه علاؤه.

العابدون حسبهم عطاؤه ، والواجدون حسبهم بقاؤه (٢).

قوله جل ذكره : (الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ)

الإشارة فى «الألف» إلى أنه ألف صحبتنا من عرف عظمتنا ، وأنّه ألف بلاءنا من عرف كبرياءنا.

والإشارة فى «اللام» إلى أنه لزم بابنا من ذاق محابّنا ، ولزم بساطنا من شهد جمالنا.

والإشارة فى «الميم» إلى أنه مكّن من قربنا من قام على خدمتنا ، ومات على وفاتنا من تحقق بولائنا.

قوله : (غُلِبَتِ الرُّومُ) : سرّ المسلمون بظفر الروم على العجم ـ وإن كان الكفر يجمعهم ـ إلا أن الروم اختصوا بالإيمان ببعض الأنبياء ، فشكر الله لهم ، وأنزل فيهم الآية .. فكيف بمن يكون سروره لدين الله ، وحزنه واهتمامه لدين الله؟

__________________

(١) الحرفة هنا معناها دأبه وديدنه (الوسيط).

(٢) لأن بقاءهم به خلف لهم عن كل شىء ، فكل شىء زائل.

١٠٧

قوله جل ذكره : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

(قَبْلُ) إذا أطلق انتظم الأزل ، و (بَعْدُ) إذا أطلق دلّ على الأبد ؛ فالمعنى الأمر الأزليّ لله ، والأمر الأبديّ لله ؛ لأنّ الرّبّ الأزليّ والسّيّد الأبديّ الله.

لله الأمر يوم العرفان (١) ، ولله الأمر يوم الغفران.

لله الأمر حين القسمة ولا حين ، ولله الأمر عند النعمة وليس أي معين (٢).

ويقال : لى الأمر (مِنْ قَبْلُ) وقد علمت ما تفعلون ، فلا يمنعنى أحد من تحقيق عرفانكم ، ولى الأمر (مِنْ بَعْدُ) وقد رأيت ما فعلتم ، فلا يمنعنى أحد من غفرانكم.

وقيل (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ) بتحقيق ودّكم ، ولله الأمر من بعد بحفظ عهدكم :

إنى ـ على جفواتها ـ وبربّها

وبكلّ متصل بها متوسل (٣)

(وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) :

اليوم إرجاف السرور وإنما

يوم اللّقاء حقيقة الإرجاف

اليوم ترح وغدا فرح ، اليوم عبرة وغدا حبرة ، اليوم أسف وغدا لطف ، اليوم بكاء وغدا لقاء.

قوله جل ذكره : (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦))

__________________

(١) هكذا في م وهي في ص يوم (القربان) ، والمعرفة والقرب يجريان في هذه الحياة الدنيا ، أما الغفران فهو في الآخرة يوم الحساب.

(٢) هكذا في وهي في ص : (ولله الأمر عند النقمة وليس في معسر) وهي غامضة في الكتابة والمعنى ، وقد آثرنا ما جاء في م لوضوحه.

(٣) فى موضع آخر من هذا المجلد ...... نجد هذا البيت متبوعا بالبيت التالي (الذي فيه خبر إن) :

لأحبها وأحب منزلها الذي

نزلت به وأحب أهل المنزل

١٠٨

الكريم لا يخلف وعده لا سيما والصدق نعته.

يقول المؤمنون : منا يوم الميثاق وعد بالطاعة ، ومنه ذلك اليوم وعد بالجنة ، فإن وقع في وعدنا تقصير لا يقع في وعده قصور.

قوله جل ذكره : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧))

استغراقهم في الاشتغال بالدنيا ، وانهما كهم في تعليق القلب بها .. منعهم عن العلم بالآخرة. وقيمة كلّ امرئ علمه بالله ؛ ففى الأثر عن عليّ ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : أهل الدنيا على غفلة من الآخرة ، والمشتغلون بعلم الآخرة كذلك بوجودها فى غفلة عن الله.

قوله جل ذكره : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨))

إنّ من نظر حقّ النظر ، ووضع النظر موضعه أثمر له العلم واجبا ، فإذا استبصر بنور اليقين أحكام الغائبات ، وعلم موعوده الصادق في المستأنف ـ نجا عن كدّ التردد والتجويز (١). فسبيل من صحا عقله ألا يجنح إلى التقصير فيما به كمال سكونه.

قوله جل ذكره : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ

__________________

(١) التردد والتجويز آفتان تصيبان ـ فى نظر القشيري ـ العقل ، بينما القلب والروح والسر وعين السر لا تصاب بهما.

١٠٩

رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩))

سير النفوس في أقطار الأرض ومنا كها لأداء العبادات ، وسير القلوب بجولان الفكر فى جميع المخلوقات ، وغايته الظّفر بحقائق العلوم التي توجب ثلج الصدر ـ ثم تلك العلوم على درجات. وسير الأرواح في ميادين الغيب بنعت خرق سرادقات الملكوت ، وقصاراه الوصول إلى محلّ الشهود واستيلاء سلطان الحقيقة. وسير الأسرار بالترقي عن الحدثان (١) بأسرها ، والتحقق أولا بالصفات ، ثم بالخمود بالكلية عمّا سوى الحقّ (٢).

قوله جل ذكره : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠))

من زرع الشوك لم يحصد الورد ، ومن استنبت الحشيش لم يقطف الثمار ، ومن سلك طريق الغيّ لم يحلل بساحة الرشد.

قوله جل ذكره : (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١))

يبدأ الخلق على ما يشاء ، ثم يعيده إذا ما شاء على ما يشاء.

قوله جل ذكره : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢))

شهودهم ما جحدوه في الدنيا عيانا ، ثم ما ينضاف إلى ذلك من اليأس بعد ما يعرفون قطعا (٣) هو الذي يفتت أكبادهم ، وبه تتمّ محنتهم.

قوله جل ذكره : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣))

__________________

(١) المقصود بالحدثان المخلوقات إذ لها أول وابتداء ولها آخر وانتهاء.

(٢) انظر بخصوص هذا الترقي صقحة ٤٨٦ (المجلد الأول من هذا الكتاب).

(٣) لأن معرفتهم العينية تقطع كل شك كان يراودهم في الحياة الدنيا ، فلا مجال يومئذ لأمل زائف.

١١٠

تغلب العداوة من بعض على بعض.

قوله جل ذكره : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤))

فريق منهم أهل الوصلة ، وفريق هم أهل الفرقة. فريق للجنة والمنّة ، وفريق للعذاب والمحنة. فريق في السعير ، وفريق في السرور. فريق في الثواب ، وفريق في العذاب. فريق في الفراق ، وفريق في التلاقي.

قوله جل ذكره : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥))

فهم في رياض وغياض

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦))

فهم في بوار وهلاك.

قوله جل ذكره : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨))

من كان صباحه لله بورك له في يومه ، ومن كان مساؤه بالله بورك له في ليله :

وإنّ صباحا نلتقى في مسائه

صباح على قلب الغريب حبيب

شتّان بين عبد صباحه مفتتح بعبادته ومساؤه مختتم بطاعته ، وبين عبد صباحه مفتتح بمشاهدته ورواحه مفتتح بعزيز قربته!

ويقال الآية تتضمن الأمر بتسبيحه في هذه الأوقات ، والآية تتضمن الصلوات الخمس (١) ،

__________________

(١) قيل لابن عباس : هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ فقال : نعم وتلا هذه الآية. ف (حين تمسون) صلاة المغرب والعشاء ، (وحين) تصبحون صلاة الفجر ، (وعشيا) صلاة العصر ، (وحين تظهرون) صلاة الظهر.

١١١

وإرادة الحقّ من أوليائه بأن يجددوا العهد في اليوم والليلة خمس مرات ؛ فتقف على بساط المناجاة ، وتستدرك ما فاتك فيما بين الصلاتين من طوارق الزلات.

قوله جل ذكره : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩))

(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) : الطير من البيض ، والحيوان من النّطفة.

و (يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) : البيض من الطير ، والنطفة من الحيوان.

والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.

ويظهر أوقاتا من بين أوقات ؛ كالقبض من بين أوقات البسط ، والبسط من بين أوقات القبض.

(وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) : يحييها بالمطر ، ويأتى بالربيع بعد وحشة الشتاء ؛ كذلك يوم النشور يحيى الخلق بعد الموت.

قوله جل ذكره : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠))

خلق آدم من التراب ، ثم من آدم الذّرّية. فذكّرهم نسبتهم لئلا يعجبوا بأحوالهم.

ويقال الأصل تربة ولكن العبرة بالتربية لا بالتربة ، القيمة لما منه لا لأعيان المخلوقات. اصطفى واختار الكعبة فهى أفضل من الجنة ؛ الجنة جواهر ويواقيت ، والبيت حجر! ولكن البيت مختاره وهذا المختار حجر! واختار الإنسان ، وهذا المختار مدر! والغنيّ غنيّ لذاته ، غنيّ عن كلّ غير من رسم وأثر.

قوله جل ذكره : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ

١١٢

مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١))

ردّ المثل إلى المثل ، وربط الشكل بالشكل ، وجعل سكون البعض إلى البعض ، ولكنّ ذلك للأشباح والصّور ، أمّا الأرواح فصحبتها للأشباح كره لا طوع (١). وأمّا الأسرار فمعتقة لا تساكن الأطلال ولا تتدنس بالأعلال.

قوله جل ذكره : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢))

خلق السماوات في علوّها والأرض في دنوّها ؛ هذه بنجومها وكواكبها ، وهذه بأقطارها ومناكبها. وهذه بشمسها وقمرها ، وهذه بمائها ومدرها.

ومن آياته اختلاف لغات أهل الأرض ، واختلاف تسبيحات الملائكة الذين هم سكان السماء. وإنّ اختصاص كلّ شىء منها بحكم ـ شاهد عدل ، ودليل صدق على أنها تناجى أفكار المتيقظين ، وتنادى على أنفسها .. أنها جميعها من تقدير العزيز العليم.

قوله جل ذكره : (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣))

غلبة النوم بغير اختيار صاحبه ثم انتباهه من غير اكتساب له بوسعه يدلّ على موته وبعثه بعد ذلك وقت نشوره. ثم في حال منامه يرى ما يسرّه وما يضرّه ، وعلى أوصاف كثيرة أمره .. كذلك الميت في قبره .. الله أعلم كيف حاله في أمره ، وما يلقاه من خيره وشرّه ، ونفعه وضرّه؟

__________________

(١) فكرة اغتراب الروح عن مصدرها الأصيل ، ولبثها في داخل البدن ، ذلك القفص المادي أو السجن الترابي ـ تحتل اهتماما كبيرا عند شعراء الصوفية (أنظر كتابنا «نشأة التصوف الإسلامى» فصل الفطرية).

١١٣

قوله جل ذكره : (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤))

يلقى في القلوب من الرجاء والتوقع في الأمور ، ثم يختلف بهم الحال ؛ فمن عبد يحصل مقصوده ، ومن آخر لا يتفق مراده.

والأحوال اللطيفة كالبروق ، وقالوا : إنها لوائح ثم لوامع ثم طوالع ثم شوارق ثم متوع النهار (١) ، فاللوائح في أوائل العلوم ، واللوامع من حيث الفهوم ، والطوالع من حيث المعارف (٢) ، والشوارق من حيث التوحيد.

قوله جل ذكره : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥))

يفنى هذه الأدوار ، ويغيّر هذه الأطوار ، ويبدّل أحوالا غير هذه الأحوال ؛ إماتة ثم إحياء ، وإعادة وقبلها إبداء ، وقبر ثم نشر ، ومعاتبة في القبر ثم محاسبة بعد النّشر.

قوله جل ذكره : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧))

له ذلك ملكا ، ومنه تلك الأشياء بدءا ، وبه إيجادا ، وإليه رجوعا.

قوله جل ذكره : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

__________________

(١) يتفق موقف القشيري من هذه المصطلحات هنا مع ما ذكره فى «الرسالة» وإن كان قد زاد عليها هنا (متوع النهار).

(٢) نفهم من هذا أن القشيري يرى هذا الترتيب : العلم ثم الفهم ثم المعرفة أو العرفان ، ونفهم أن التوحيد أعلى درجات العرفان.

١١٤

(وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) أي في ظنّكم وتقديركم (١).

وفي الحقيقة السهولة والوعورة على الحقّ لا تجوز.

(وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) : له الصفة العليا في الوجود بحقّ القدم ، وفي الجود بنعت الكرم ، وفي القدرة بوصف الشمول ، وفي النصرة بوصف الكمال ، وفي العلم بعموم التعلّق ، وفي الحكم بوجوب التحقق ، وفي المشيئة بوصف البلوغ ، وفي القضية (٢) بحكم النفوذ ، وفي الجبروت بعين العزّ والجلال ، وفي الملكوت بنعت المجد والجمال.

قوله جل ذكره : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨))

أي إذا كان لكم مماليك لا ترضون بالمساواة بينكم وبينهم ، وأنتم متشاكلون (٣) بكلّ وجه ـ إلا أنكم بحكم الشرع مالكوهم ـ فما تقولون في الذي لم يزل ، ولا يزال كما لم يزل؟.

هل يجوز أن يقدّر في وصفه أن يساويه عبيده؟ وهل يجوز أن يكون مملوكه شريكه؟

تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا!.

قوله جل ذكره : (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩))

__________________

(١) معنى هذه العبارة : حسب ظنكم وتقديركم الإعادة أسهل من الإنشاء .. فلم أنكرتم الإعادة؟ فضلا عن أنه ليس عند الله سهل ولا عسير.

(٢) القضية : هى قضاء الله.

(٣) متشاكلون معناها : متشابهون ومتساوون ولا فرق في الجوهرية بينكم وبينهم.

١١٥

أشدّ الظلم متابعة الهوى ؛ لأنه قريب من الشّرك ، قال تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) (١). فمن اتّبع هواه خالف رضا مولاه ؛ فهو بوضعه الشيء غير موضعه صار ظالما ، كما أنّ العاصي بوضعه المعصية موضع الطاعة ظالم .. كذلك هذا بمتابعة هواه بدلا عن موافقة ومتابعة رضا مولاه صار في الظلم متماديا.

قوله جل ذكره : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠))

أخلص قصدك إلى الله ، واحفظ عهدك مع الله ، وأفرد عملك في سكناتك وحركاتك وجميع تصرفاتك لله.

(حَنِيفاً) : أي مستقيما في دينه ، مائلا إليه ، معرضا عن غيره (٢). والزم (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) أي أثبتهم عليها قبل أن يوجد منهم فعل ولا كسب ، ولا شرك ولا كفر ، وكما ليس منهم إيمان وإحسان فليس منهم كفران ولا عصيان. فاعرف بهذه الجملة ، ثم افعل ما أمرت به ، واحذر ما نهيت عنه.

فعلى هذا التأويل فإن معنى قوله : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) أي اعرف واعلم أن فطرة الله التي فطر الناس عليها : تجرّدهم عن أفعالهم ، ثم اتصافهم بما يكسبون ـ وإن كان هذا أيضا بتقدير الله (٣).

وعلى هذا تكون (فِطْرَتَ) الله منصوبة بإضمار اعلم ـ كما قلنا.

__________________

(١) آية ٢٣ سورة الجاثية.

(٢) فكلمة «حنيف» من الأضداد.

(٣) يذكرنا هذا بتفسير أبى طالب المكي لقول رابعة «أحبك حبين ..» فالحب الأول فطرى تفضل الله به ، والحب الثاني عانته هي بكسبها ولكنها حتى في هذا الحب الكسبي لا فضل لها ، ولذلك استدركت :

فلا الحمد في ذا ولا ذاك لى

ولكن لك الحمد في ذا وذاكا

أنظر (قوت القلوب المكي ح ٢ ص ٥٦ وماتلاها) وانظر أيضا كتابنا (نشأة التصوف الإسلامى) ط دار المعارف.

١١٦

سبحانه فطر كلّ أحد على ما علم أنه يكون في السعادة أو الشقاوة ، ولا تبديل لحكمه ، ولا تحويل لما عليه فطره. فمن علم أنه يكون سعيدا أراد سعادته وأخبر عن سعادته ، وخلقه في حكمه سعيدا. ومن علم شقاوته أراد أن يكون شقيا وأخبر عن شقاوته وخلقه فى حكمه شقيا .. ولا تبديل لحكمه ، هذا هو الدين المستقيم والحقّ الصحيح (١)

قوله جل ذكره : (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١))

أي راجعين إلى الله بالكلية من غير أن تبقى بقية ، متصفين بوفاقه ، منحرفين بكل وجه عن خلافه ، متقّين صغير الإثم وكبيره ، قليله وكثيره ، مؤثرين يسير وفاقه وعسيره ، مقيمين الصلاة بأركانها وسننها وآدابها جهرا ، متحققين بمراعاة فضائلها سرا.

قوله جل ذكره : (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢))

أقاموا في دنياهم في خمار الغفلة ، وعناد الجهل والفترة ؛ فركنوا إلى ظنونهم ، واستوطنوا مركب أوهامهم ، وتموّلوا من كيس غيرهم ، وظنوا أنهم على شىء. فإذا انكشف ضباب وقتهم ، وانقشع سحاب جحدهم .. انقلب فرحهم ترحا ، واستيقنوا أنهم كانوا في ضلالة ، ولم يعرّجوا إلّا في أوطان الجهالة.

قوله جل ذكره : (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣))

__________________

(١) نحسب أن القشيري قد حاول إيضاح مشكلة هامة من مشاكل علم الكلام ، فليست الجبرية عنده بناقضة لحرية الإنسان واختياره ، ما دامت الأمور كلها مرتبطة بعلم الله الذي سبق كل شىء ، وبفضل الله الذي فطر على ما علم.

١١٧

إذا أظلتهم المحنة ونالتهم الفتنة ؛ ومسّتهم البليّة رجعوا إلى الله بأجمعهم مستعينين ، وبلطفه مستجيرين ، وعن محنتهم مستكشفين (١).

فإذا جاد عليهم بكشف ما نالهم ، ونظر إليهم باللطف فيما أصابهم : إذا فريق منهم ـ لا كلّهم ـ بل فريق منهم بربهم يشركون ؛ يعودون إلى عاداتهم المذمومة فى الكفران ، ويقابلون إحسانه بالنسيان ، هؤلاء ليس لهم عهد ولا وفاء ، ولا فى مودتهم صفاء.

قوله جل ذكره : (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤))

أي عن قريب سيحدث بهم مثلما أصابهم ، ثم إنهم يعودون إلى التضرع ، ويأخذون فيما كانوا عليه بدءا من التخشع ، فإذا أشكاهم وعافاهم رجعوا إلى رأس خطاياهم.

قوله جل ذكره : (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥))

بين أنهم بنوا على غير أصل طريقهم ، واتبعوا فيما ابتدعوه أهواءهم ، وعلى غير شرع من الله أو حجة أو بيان أسّسوا مذاهبهم.

قوله جل ذكره : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦))

تستميلهم طوارق أحوالهم ؛ فإن كانت نعمة فإلى فرح ، وإن كانت شدة فإلى قنوط وترح .. وليس وصف الأكابر كذلك ؛ قال تعالى : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) (٢).

__________________

(١) أي راجين كشف الغمة عنهم.

(٢) آية ٢٣ سورة الحديد.

١١٨

قوله جل ذكره : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧))

الإشارة فيها إلى أن العبد لا يعلّق قلبه إلا بالله ؛ لأنّ ما يسوءهم ليس زواله إلا بالله ، وما يسرّهم ليس وجوده إلا من الله ، فالبسط الذي يسرّهم ويؤنسهم منه وجوده ، والقبض الذي يسوءهم ويوحشهم منه حصوله ، فالواجب لزوم عقوة (١) الأسرار ، وقطع الأفكار عن الأغيار.

قوله جل ذكره : (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨))

القرابة على قسمين : قرابة النسب وقرابة الدّين ، وقرابة الدين أمسّ ، وبالمواساة أحقّ وإذا كان الرجل مشتغلا بالعبادة ، غير متفرّغ لطلب المعيشة فالذين لهم إيمان بحاله ، وإشراف على وقته يجب عليهم القيام بشأنه بقدر ما يمكنهم ، مما يكون له عون على الطاعة وفراغ القلب من كل علة ؛ فاشتغال الرجل بمراعاة القلب يجعل حقّه آكد ، وتفقّده أوجب.

(ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) : المريد هو الذي يؤثر حقّ الله على حظّ نفسه ؛ فإيثار المريد وجه الله أتمّ من مراعاته حال نفسه ، فهمّته في الإحسان إلى ذوى القربى والمساكين تتقدم على نظره لنفسه وعياله وما يهمه من خاصته.

قوله جل ذكره : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩))

إيتاء الزكاة بأن تريد بها وجه الله ، وألا تستخدم الفقير لما تبرّه به من رافقة (٢) ،

__________________

(١) العقوة الموضع المتسع أمام الدار.

(٢) الرافقة الرفق واللطف ، تقول : أولاه رافقة (الوسيط).

١١٩

بل أفضل الصدقة على ذى رحم كاشح (١) حتى يكون إعطاؤه لله مجردا عن كل نصيب لك فيه ، فهؤلاء هم الذين يضاعف أجرهم : قهرهم لأنفسهم حيث يخالفونها ، وفوزهم بالعوض من قبل الله.

ثم الزكاة هي التطهير ، وتطهير المال معلوم ببيان الشريعة في كيفية إخراج الزكاة ، وأصناف المال وأوصافه.

وزكاة البدن وزكاة القلب وزكاة السّرّ .. كلّ ذلك يجب القيام به.

قوله جل ذكره : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠))

(ثُمَّ) حرف يقتضى التراخي ؛ وفي ذلك إشارة إلى أنه ليس من ضرورة خلقه إياك أن يرزقك ؛ كنت في ضعف أحوالك ابتداء ما خلقك ، فأنبتك وأحياك من غير حاجة لك إلى رزق ؛ فإلى أن خرجت من بطن أمّك : إمّا أن كان يغنيك عن الرزق وأنت جنين فى بطن الأم ولم يكن لك أكل ولا شرب ، وإمّا أن كان يعطيك ما يكفيك من الرزق ـ إن حقّ ما قالوا : إن الجنين يتغذّى بدم الطمث. وإذا أخرجك من بطن أمك رزقك على الوجه المعهود في الوقت المعلوم ، فيسّر لك أسباب الأكل والشرب من لبن الأم ، ثم من فنون الطعام ، ثم أرزاق القلوب والسرائر من الإيمان والعرفان وأرزاق التوفيق من الطاعات والعبادات ، وأرزاق اللسان من الأذكار وغير ذلك مما جرى ذكره (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) بسقوط شهواتكم ، ويميتكم عن شواهدكم.

(ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بحياة قلوبكم ثم بأن يحييكم بربّكم.

__________________

(١) كاشح أي مبغض. وربما كان خير مثل التصدق على ذى رحم مبغض ، ما حدث من أبى بكر حينما امتنع عن تقديم الزكاة لمسطح على أثر قيامه بدوره المعروف في قصة الإفك ، فعوتب أبو بكر في ذلك ونزلت فيه (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى) آية ٢٢ سورة النور.

١٢٠