البيان في تفسير القرآن

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي

البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

وأما ما روي عن علي عليه‌السلام في تحريم المتعة فهو موضوع قطعا ، وذلك لاتفاق المسلمين على حليّتها عام الفتح ، فكيف يمكن أن يستدل علي عليه‌السلام على ابن عباس بتحريمها في خيبر ، ولأجل ذلك احتمل بعضهم أن تكون جملة (زمن خيبر) في الرواية المتقدمة راجعة إلى تحريم لحوم الحمر الأهلية ، لا إلى تحريم المتعة ، ونقل هذا الاحتمال عن ابن عيينة كما في المنتقى ، وسنن البيهقي في باب المتعة. (١)

وهذا الاحتمال باطل من وجهين :

١ ـ مخالفته للقواعد العربية : لأن لفظ النهي في الرواية لم يذكر إلا مرة واحدة في صدر الكلام ، فلا بد وأن يتعلق الظرف به ، فالذي يقول : أكرمت زيدا وعمروا يوم الجمعة ، لا بد وأن يكون مراده أنه أكرمهما يوم الجمعة ، أما إذا كان المراد أن إكرامه لعمرو بخصوصه كان يوم الجمعة فلا بد له من أن يقول : أكرمت زيدا ، وأكرمت عمروا يوم الجمعة.

٢ ـ إن هذا الاحتمال مخالف لصريح رواية البخاري ، ومسلم ، وأحمد عن علي عليه‌السلام أنه قال : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن متعة النساء يوم خيبر ، وعن لحوم الحمر الانسية (٢)» وروى البيهقي ـ في باب المتعة ـ عن عبد الله بن عمر أيضا رواية تحريم المتعة يوم خيبر (٣).

وأما ما روي عن سلمة بن الأكوع ، عن أبيه ، قال :

«رخص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام ثم نهى عنها».

__________________

(١) سنن البيهقي : ٧ / ٢٠٢.

(٢) المنتقى : ٢ / ٥١٩. راجع صحيح البخاري : كتاب المخازي رقم الحديث : ٣٨٩٤ ، كتاب النكاح ، رقم الحديث : ٤٧٢٣. وصحيح مسلم : كتاب النكاح ، رقم الحديث : ٢٥١٠. ومسند أحمد : مسند العشرة المبشرين بالجنة ، رقم الحديث : ٥٥٨. وسنن ابن ماجة : كتاب النكاح ، رقم الحديث : ١٩٥١.

(٣) سنن البيهقي : ٧ / ٢٠٢.

٣٢١

فهو خبر واحد ، لا يثبت به النسخ ، على أن ذلك لو كان صحيحا لم يكن خفيا عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وجابر ، وعمرو بن حريث ، ولا عن غيرهم من الصحابة والتابعين وكيف يصح ذلك ولم يحرّم أبو بكر المتعة أيام خلافته ، ولم يحرّمها عمر في شطر كبير من أيامه ، وإنما حرّمها في أواخر أمره.

وقد مرّ عليك كلام ابن حزم في ثبوت جماعة من الصحابة والتابعين على إباحة المتعة ، ومما يدل على ما ذكره ابن حزم من فتوى جماعة من الصحابة بإباحة المتعة : ما رواه ابن جرير في تهذيب الآثار ، عن سليمان بن يسار ، عن أم عبد الله ابنة أبي خيثمة :

«إن رجلا قدم من الشام فنزل عليها ، فقال : إن العزبة قد اشتدت عليّ فابغيني امرأة أتمتع معها ، قالت : فدللته على امرأة فشارطها وأشهدوا على ذلك عدولا ، فمكث معها ما شاء الله أن يمكث ، ثم إنه خرج فأخبر عن ذلك عمر بن الخطاب ، فأرسل إلىّ فسألني أحق ما حدّثت؟ قلت : نعم : قال : فإذا قدم فآذنيني به ، فلما قدم أخبرته فأرسل إليه ، فقال : ما حملك على الذي فعلته؟ قال : فعلته مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم لم ينهنا عنه حتى قبضه الله ثم مع أبي بكر فلم ينهنا عنه حتى قبضه الله ، ثم معك فلم تحدث لنا فيه نهيا ، فقال عمر : أما والذي نفسي بيده لو كنت تقدمت في نهي لرجمتك ، بيّنوا حتى يعرف النكاح من السفاح».

وما رواه ابن جرير أيضا ، وأبو يعلى في مسنده ، وأبو داود في ناسخه عن علي عليه‌السلام قال :

٣٢٢

«لو لا ما سبق من رأي عمر بن الخطاب لأمرت بالمتعة ، ثم ما زنى إلا شقي» (١).

وفي هاتين الروايتين وجوه من الدلالة على أن التحريم إنما كان من عمر :

الأول : شهادة الصحابي ، وشهادة علي عليه‌السلام على أن تحريم المتعة لم يكن في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا بعده إلى أن حرّمها عمر برأيه.

الثاني : شهادة العدول عن المتعة في الرواية الأولى ، مع عدم نهيهم عنها تدل على أنهم كانوا يجوّزونها.

الثالث : تقرير عمر دعوى الشامي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينه عنها.

الرابع : قول عمر للشامي : «لو كنت تقدمت في نهي لرجمتك» فإنه صريح في أن عمر لم يتقدم بالنهي قبل هذه القصة ، ومعنى ذلك : أن عمر قد اعترف بأن المتعة لم ينه عنها قبل ذلك.

الخامس : قول عمر : «بينوا حتى يعرف النكاح من السفاح» فإنه يدل على أن المتعة كانت شايعة بين المسلمين ، فأراد أن يبلغ نهيه عن المتعة إليهم لينتهوا عنها بعد ذلك ، ولعل لهذه القصة دخلا مباشرا أو غير مباشر في تحريم عمر للمتعة ، فإن إنكاره على الشامي عمله هذا مع شهادة الحديث بأن التمتع كان أمرا شايعا بين المسلمين ووصول الخبر اليه ، مع أن هذه الأشياء لا يصل خبرها إلى السلطان عادة ، كل هذا يدلنا على أن في الأمر سرا جهلته الرواة ، أو أنهم أغفلوه فلم يصل إلينا خبره. ويضاف إلى ذلك أن رواية سلمة بن الأكوع ليس فيها ظهور في أن النهي كان من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمن المحتمل ان لفظ «نهى» في الرواية بصيغة المبني للمفعول

__________________

(١) كنز العمال : ٨ / ٢٩٤.

٣٢٣

وأريد منه نهي عمر بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وعلى الجملة : انه لم يثبت بدليل مقبول نهي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن المتعة ومما يدل على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينه عن المتعة : أن عمر نسب التحريم إلى نفسه حيث قال : «متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما (١) ولو كان التحريم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكان عليه أن يقول : نهى النبي عنهما.

٤ ـ ان ناسخ جواز المتعة الثابت بالكتاب والسنّة هو الإجماع على تحريمها.

والجواب عن ذلك :

إن الإجماع لا حجية له إذا لم يكن كاشفا عن قول المعصوم وقد عرفت أن تحريم المتعة لم يكن في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا بعده إلى مضي مدة من خلافة عمر ، أفهل يجوز في حكم العقل أن يرفض كتاب الله وسنة نبيه بفتوى جماعة لم يعصموا من الخطأ؟ ولو صح ذلك لأمكن نسخ جميع الأحكام التي نطق بها الكتاب ، أو أثبتتها السنّة القطعية ، ومعنى ذلك أن يلتزم بجواز نسخ وجوب الصلاة ، أو الصيام ، أو الحج بآراء المجتهدين ، وهذا مما لا يرضى به مسلم.

أضف إلى ذلك : أن الإجماع لم يتم في مسألة تحريم المتعة ، وكيف يدعي الإجماع على ذلك ، مع مخالفة جمع من المسلمين من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن بعده ولا سيما أن قول هؤلاء بجواز المتعة موافق لقول أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، وإذن فلم يبق إلا تحريم عمر.

__________________

(١) تقدم ذلك في الرواية الخامسة من روايات جابر ، ورواه أبو صالح كاتب الليث في نسخته والطحاوي ، ورواه ابن جرير في تهذيب الآثار ، وابن عساكر إلا أن عمر قال في ما روياه «واضرب فيهما» ، راجع كنز العمال : ٨ / ٢٩٣ ، ٢٩٤.

٣٢٤

ومن البين أن كتاب الله وسنة نبيه أحق بالاتباع من غيرهما ، ومن أجل ذلك أفتى عبد الله بن عمر بالرخصة بالتمتع في الحج ، فقال له ناس :

«كيف تخالف أباك وقد نهى عن ذلك ، فقال لهم : ويلكم ألا تتقون ... أفرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحق أن تتبعوا سنته أم سنة عمر؟» (١).

وخلاصة ما تقدم : أن جميع ما تمسك به القائلون بالنسخ لا يصلح أن يكون ناسخا لحكم الآية المباركة ، الذي ثبت ـ قطعا ـ تشريعه في الإسلام.

الرجم على المتعة :

قد صح في عدة روايات ـ تقدم بعضها ـ أن عمر حكم بالرجم على المتعة.

فمنها : ما رواه جابر ، قال :

«تمتعنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما قام عمر قال إن الله كان يحلّ لرسوله ما شاء بما شاء ، وإن القرآن قد نزل منازله ، فأتموا الحجة والعمرة لله كما أمركم ، وأبتّوا نكاح هذه النساء فلن أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة» (٢).

ومنها : ما رواه الشافعي ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة أن خولة بنت حكيم دخلت على عمر بن الخطاب ، فقالت :

«إن ربيعة بن أمية استمتع بامرأة مولدة فحملت منه فخرج

__________________

(١) مسند أحمد : ٢ / ٩٥ ، مسند المكثرين من الصحابة ، رقم الحديث : ٥٤٤١.

(٢) صحيح مسلم : ٤ / ٣٦ ، كتاب الحج باب المتعة بالحج والعمرة ، رقم الحديث : ٢١٣٥. وروى الطيالسي قريبا منها عن جابر في مسنده : ٨ / ٢٤٧.

٣٢٥

عمر يجرّ رداءه فزعا ، فقال : هذه المتعة ولو كنت تقدمت فيه لرجمته» (١).

ومنها : ما رواه نافع عن عبد الله بن عمر :

«إنه سئل عن متعة النساء ، فقال : حرام ، أما إن عمر بن الخطاب لو أخذ فيها أحدا لرجمه» (٢).

ونهج ابن الزبير هذا المنهج ، فإنه حينما أنكر نكاح المتعة ، قال له ابن عباس :

«إنك لجلف جاف ، فلعمري لقد كانت المتعة تفعل على عهد إمام المتقين ـ رسول الله ـ فقال له ابن الزبير : فجرّب بنفسك فو الله لئن فعلتها لأرجمنّك بأحجارك» (٣).

وهذا من الغريب ، وكيف يستحق الرجم رجل من المسلمين خالف عمر في الفتيا واستند في قوله هذا إلى حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونص الكتاب ، ولنفرض أن هذا الرجل كان مخطئا في اجتهاده ، أفليست الحدود تدرأ بالشبهات؟! على أن ذلك فرض محض ، وقد علمت أنه لا دليل يثبت دعوى النسخ.

وما أبعد هذا القول من مذهب أبي حنيفة ، حيث يرى سقوط الحد إذا تزوج الرجل بامرأة نكاحا فاسدا وبإحدى محارمه في النكاح ، ودخل بها مع العلم بالحرمة وفساد العقد (٤) وأنه إذا استأجر امرأة فزنى بها ، سقط الحد لأن الله تعالى

__________________

(١) سنن البيهقي : ٧ / ٢٠٦ ، باب نكاح المتعة. وموطأ مالك : كتاب النكاح ، رقم الحديث : ٩٩٥. ومنه «ولو كنت تقدمت فيها لرجمت».

(٢) نفس المصدر.

(٣) صحيح مسلم : ٤ / ١٣٣ ، كتاب النكاح ، باب نكاح المتعة رقم الحديث : ٢٥٠٨.

(٤) الهداية ، وفتح القدير : ٤ / ١٤٧.

٣٢٦

سمى المهر أجرا. وقد روي نحو ذلك عن عمر بن الخطاب أيضا (١).

مزاعم حول المتعة :

زعم صاحب المنار أن التمتع ينافي الإحصان ، بل يكون قصده الأول المسافحة ، لأنه ليس من الإحصان في شىء أن تؤجر المرأة نفسها كل طائفة من الزمن لرجل ، فتكون كما قيل :

كرة حذفت بصوالجة

فتلقفها رجل رجل

وزعم أنه ينافي قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* ٢٣ : ٥. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* : ٦. فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ* : ٧).

ثم ذكر أن تحريم عمر لم يكن من قبل نفسه ، فإن ثبت أنه نسبه إلى نفسه فمعناه أنه بين تحريمها ، أو أنه أنفذه. ثم إنه استغفر بعد ذلك عما كتبه في المنار من أن عمر منع المتعة اجتهادا منه ووافقه عليه الصحابة (٢).

ودفعا لهذه المزاعم نقول :

أما حكاية منافاة التمتع للإحصان فهو مبني على ما يزعمه هو من أن المتمتع بها ليست زوجة ، وقد أوضحنا ـ فيما تقدم ـ فساد هذا القول ومنه يظهر أيضا فساد توهمه أن جواز التمتع ينافي وجوب حفظ الفروج على غير الأزواج.

وأما تعبيره عن عقد المتعة بإجارة المرأة نفسها ، وتشبيه المرأة بالكرة التي

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٢ / ١٤٦.

(٢) تفسير المنار : ٥ / ١٣ ـ ١٦.

٣٢٧

تتلقفها الأيدي ، فهو ـ لو كان صحيحا ـ لكان ذلك اعتراضا على تشريع هذا النوع من النكاح على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأن هذا التشبيه والتقبيح لا يختص بزمان دون زمان ، ولا يشك مسلم في أن التمتع كان حلالا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد عرفت ـ فيما تقدم ـ أن إباحته استمرت حتى إلى مدة من عهد عمر.

ومن الغريب : أن يصرح ـ هنا ـ انه لم يقصد غير بيان الحق ، وانه لا يتعصب لمذهب ، ثم يجرّه التعصب إلى أن يشنّع على ما ثبت في الشرع الإسلامي بنص الكتاب والسنة وإجماع المسلمين ، وإن وقع الاختلاف بينهم في نسخه واستمراره. أضف إلى ذلك أن انتقال المرأة من رجل إلى رجل لو كان قبيحا لكان ذلك مانعا عن طلاق المرأة في العقد الدائم ، لتنتقل إلى عصمة رجل آخر ، وعن انتقال المرأة بملك اليمين ، ولم يستشكل في ذلك أحد من المسلمين ، إلا أن صاحب المنار في مندوحة عن هذا الإشكال ، لأنه يرى المنع من الاسترقاق ، وأن في تجويزه مفاسد كثيرة ، وزعم أن العلماء الأعلام أهملوا ذكر ذلك ، وذهب إلى بطلان العقد الدائم ، إذا قصد الزوج من أول الأمر الطلاق بعد ذلك ، وخالف في ذلك فتاوى فقهاء المسلمين. ومن الغريب أيضا : ما وجه به نسبة عمر تحريم المتعة إلى نفسه ، فإنه لا ينهض ذلك بما زعمه. فإن بيان عمر للتحريم إمّا أن يكون اجتهادا منه على خلاف قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإما أن يكون اجتهادا منه بتحريم النبي إياها ، وإما أن يكون رواية منه للتحريم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أما احتمال أن يكون قوله رواية عن النبي فلا يساعد عليه نسبة التحريم ، والنهي إلى نفسه في كثير من الروايات. على أنه إذا كان رواية ، كانت معارضة بما تقدم من الروايات الدالة على بقاء إباحة المتعة إلى مدة غير يسيرة من خلافة عمر ، وأين كان عمر أيام خلافة أبي بكر؟ وهلّا أظهر روايته لأبي بكر ولسائر المسلمين؟ على

٣٢٨

أن رواية عمر خبر واحد لا يثبت به النسخ.

وأما احتمال أن يكون قول عمر هذا اجتهادا منه بتحريم النبي نكاح المتعة فهو أيضا لا معنى له بعد شهادة جماعة من الصحابة بإباحته في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى وفاته. على أن اجتهاده هذا لا يجدي غيره ممن لم يؤمر باتباع اجتهاده ورأيه ، بل وهذان الاحتمالان مخالفان لتصريح عمر في خطبته : «متعتان كانتا على عهد رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما».

وإذن فقد انحصر الأمر في أن التحريم كان اجتهادا منه على خلاف قول رسول الله بالإباحة ، ولأجل ذلك لم تتبعه الأمة في تحريمه متعة الحج وفي ثبوت الحد في نكاح المتعة ، فإن اللازم على المسلم أن يتبع قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن يرفض كل اجتهاد يكون على خلافه :

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) «٣٣ : ٣٦».

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أحللت إلا ما أحلّ الله ، ولا حرّمت إلّا ما حرّم الله» (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه ـ فمه ـ إلّا حق» (٢).

ومع هذا كله : «فقد قال القوشجي في الاعتذار عن تحريم عمر المتعة ، خلافا لرسول الله وأجيب : «بأن ذلك ليس مما يوجب قدحا فيه ، فإن مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهادية ليس ببدع» (٣).

__________________

(١) طبقات ابن سعد : ٤ / ٧٢ طبعة مصر ، وبمضمونها رواية ما بعدها.

(٢) سنن أبي داود : كتاب العلم ، رقم الحديث : ٣١٦١. راجع التاج : ١ / ٦٦.

(٣) شرح التجريد في مبحث الإمامة.

٣٢٩

وقال الآمدي : اختلفوا في أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل كان متعبدا بالاجتهاد فيما لا نص فيه؟ فقال أحمد بن حنبل ، والقاضي أبو يوسف : «إنه كان متعبدا به» وجوّز الشافعي في رسالته ذلك من غير قطع ، وبه قال بعض أصحاب الشافعي والقاضي عبد الجبار ، وأبو الحسين البصري ، ثم قال : «والمختار جواز ذلك عقلا ووقوعه سمعا» (١).

وقال فيه أيضا : القائلون بجواز الاجتهاد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اختلفوا في جواز الخطأ عليه في اجتهاده ، فذهب بعض أصحابنا إلى المنع من ذلك ، وذهب أكثر أصحابنا ، والحنابلة ، وأصحاب الحديث ، والجبائي ، وجماعة من المعتزلة الى جوازه ، لكن بشرط أن لا يقرّ عليه وهو المختار (٢).

وحاصل ما تقدم : أن آية التمتع لا ناسخ لها ، وأن تحريم عمر ، وموافقة جمع من الصحابة له على رأيه طوعا أو كرها إنما كان اجتهادا في مقابل النص ، وقد اعترف بذلك جماعة ، وأنه لا دليل على تحريم المتعة غير نهي عمر ، إلا أنهم رأوا أن اتباع سنة الخلفاء كاتباع سنة النبي (٣).

وعلى أيّ فما أجود ما قاله عبد الله بن عمر : «أرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحق أن تتّبع سنته أم سنة عمر» ، وما أحق ما قاله الشيخ محمد عبده في تفسير قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ)(٤).

__________________

(١) الاحكام في اصول الأحكام : ٤ / ٢٢٢.

(٢) نفس المصدر : ص ٢٩٠.

(٣) هامش المنتقى للفقي : ٢ / ٥١٩.

(٤) انظر التعليقة رقم (٨) في قسم التعليقات رأي ابن عبده في الطلاق الثلاث.

٣٣٠

١٤ ـ (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) «٤ : ٣٣».

قد اختلفت الآراء في مدلول الآية المباركة :

فمنهم من حمل ذيل الآية المباركة «والذين عقدت أيمانكم» على بيان حكم مستقل عن سابقه ، فجعله جملة مستأنفة ، وفسّر كلمة «نصيبهم» بالنصر ، والنصح والرفادة ، والعون ، والعقل ، والمشورة ، وعلى ذلك : فالآية محكمة غير منسوخة ، وهذا القول منسوب إلى ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير (١) ، ومنهم من جعله معطوفا على ما قبله ، وفسر كلمة «نصيبهم» بما يستحقه الوارث من التركة.

ثم إن هؤلاء قد اختلفوا : فذهب بعضهم إلى أن المراد بعقد اليمين في الآية المباركة عقد المؤاخاة ، وما يشبهه من العقود التي كانت يتوارث بسببها في الجاهلية ، وقد أقر الإسلام ذلك إلى أن نزلت آية المواريث :

(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) «٨ : ٧٥».

وعلى ذلك فالآية منسوخة (٢).

وذهب بعضهم إلى أن المراد بعقد اليمين خصوص عقد ضمان الجريرة وعلى ذلك فإن قلنا بما ذهب اليه أكثر علماء أهل السنة من أنه لا إرث بعقد ضمان الجريرة كانت الآية منسوخة أيضا بآية المواريث (٣) ، وإن قلنا بما ذهب اليه أبو حنيفة وأصحابه من ثبوت الإرث بهذا العقد كانت الآية محكمة غير منسوخة.

__________________

(١) الناسخ والمنسوخ للنحاس : ص ١٠٧.

(٢) نفس المصدر : ص ١٠٩.

(٣) تفسير ابن كثير : ١ / ٤٩٠.

٣٣١

وقد استدلوا على ذلك بأن آية المواريث لم تنف إرث غير اولي الأرحام ، وإنما قدّمهم على غيرهم ، فلا تنافي بين الآيتين ، لتكون آية المواريث ناسخة لهذه الآية (١).

والحق : إن المراد بالآية ما هو ظاهرها الذي يفهم منها ، وهو ثبوت الإرث بالمعاقدة ، ومع ذلك فلا نسخ لمدلول الآية.

وبيان ذلك : إن سياق الآية يقتضي أن يكون المراد بالنصيب المذكور فيها هو الإرث ، وحمله على النصرة وما يشبهها خلاف ظاهرها ، بل كاد يكون صريحها.

ثم إن ذكر الطوائف الثلاث في الآية لا يدل على اشتراكهم وتساويهم في الطبقة ، فإن الولد يرث أبويه ولا يرث معه أحد من أقرباء الميث من أولي أرحامه فالذي يستفاد من الآية الكريمة أن الموروث هو هذه الطوائف الثلاث ، وأما ترتيب الإرث وتقدم بعض الوارث على بعض فلا يستفاد من الآية ، وقد استفيد ذلك من الأدلة الأخرى في الكتاب والسنّة.

وعلى هذا الذي ذكرناه تكون الآية الكريمة جامعة لجميع الورّاث على الإجمال ، فالولد يرث ما تركه الوالدان ، والأقربون من اولي الأرحام يرث بعضهم بعضا ، ومن عقد معه يرث في الجملة تشريكا أو ترتيبا.

وتفصيل ذلك :

إن الإرث من غير جهة الرحم لا بد له من تحقق عقد والتزام من العاقد بيمينه وقدرته ، وهو تارة يكون من جهة الزواج ، فكل من الزوجين يرث صاحبه بسبب عقد الزواج الذي تحقق بينهما ، وتارة يكون من جهة عقد البيعة والتبعية ويسمى

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٢ / ١٨٥.

٣٣٢

ذلك بولاء الإمامة ، ولا خلاف في ثبوت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد ورد في عدة روايات من طرق أهل السنة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أنا وارث من لا وارث له» (١).

ولا إشكال أيضا في ثبوته لأوصياء النبي الكرام عليهم‌السلام فقد ثبت بالأدلة القطعية أنهم بمنزلة نفس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلى ذلك اتفقت كلمات الإمامية وروايات أهل البيت عليهم‌السلام وتارة يكون من جهة عقد العتق ، فيرث المعتق عبده الذي أعتقه بولاء العتق ، ولا خلاف في ذلك بين الإمامية ، وقال به جمع من غيرهم ، وتارة يكون من جهة عقد الضمان ويسمى ذلك «بولاء ضمان الجريرة» وقد اتفقت الإمامية على ثبوت الإرث بسبب هذا الولاء ، وذهب اليه أبو حنيفة وأصحابه.

وجملة القول : فدعوى نسخ الآية يتوقف على ثبوتها على أمرين :

١ ـ أن يكون قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) «٤ : ٣٣».

في الآية معطوفا على ما قبله ، ولا يكون جملة مستأنفة ليكون المراد من «نصيبهم» النصح والمشورة وما يشبههما.

٢ ـ أن يراد بعقد اليمين فيها : خصوص ضمان الجريرة ، مع الالتزام بعدم ثبوت الإرث به ، أو عقد المؤاخاة وما يشبهه من العقود التي اتّفق المسلمون على عدم ثبوت الإرث بها أما «الأمر الأول» : فلا ريب فيه ، وهو الذي يقتضيه سياق الآية.

وأما «الأمر الثاني» : فهو ممنوع ، لأن ضمان الجريرة أحد مصاديق عقد اليمين ،

__________________

(١) سنن أبي داود : كتاب الفرائض ، رقم الحديث : ٢٥١٤ ، وسنن ابن ماجة : كتاب الديات ، رقم الحديث : ٢٦٢٤ ، ومسند أحمد : مسند الشاميين ، رقم الحديث : ١٦٥٤٧ ، راجع المنتقى : ٢ / ٤٦٢.

٣٣٣

ومع ذلك فلم ينسخ حكمه ، ودعوى أن المراد بعقد اليمين العقود التي لا توجب التوريث ، كالمؤاخاة ونحوها لا دليل على ثبوتها.

١٥ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) «٤ : ٤٣».

فقد ذهب أكثر العلماء إلى أنها منسوخة (١) ولكن وقع الكلام في ناسخها فعن قتادة ومجاهد أنها منسوخة بتحريم الخمر. وحكي هذا القول عن الحسن أيضا (٢) ، وعن ابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى :

(إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) «٥ : ٦».

وكلا هذين القولين ظاهر الفساد :

أما القول الأول : فلأن الآية الكريمة لا دلالة فيها على جواز شرب الخمر بوجه ، وإن فرض أن تحريم الخمر لم يكن في زمان نزول الآية ، فالآية لا تعرّض لها لحكم الخمر رخصة أو تحريما. على أن هذا مجرد فرض لا وقوع له ، ففي رواية ابن عمر : نزلت في الخمر ثلاث آيات فأول شىء نزل :

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) «٢ : ٢١٩».

فقيل : حرمت الخمر ، فقيل يا رسول الله دعنا ننتفع بها ، كما قال الله عزوجل ،

__________________

(١) الناسخ والمنسوخ للنحاس : ص ١٠٩.

(٢) أحكام القرآن للجصاص : ٢ / ٢٠١.

٣٣٤

فسكت عنهم ، ثم نزلت هذه الآية (١) :

(لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) «٤ : ٤٣».

وروى نحو ذلك أبو هريرة (٢). وروى أبو ميسرة ، عن عمر بن الخطاب قال : «لما نزل تحريم الخمر ، قال : اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزلت هذه الآية التي في سورة البقرة :

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) «٢ : ١٩».

قال : فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا ، فنزلت الآية التي في سورة النساء :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) «٤ : ٤٣».

فكان منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أقام الصلاة نادى : لا يقربنّ الصلاة سكران ، فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا ، فنزلت الآية التي في المائدة فدعي عمر فقرئت عليه ، فلما بلغ :

(فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) «٥ : ٩١».

قال : فقال عمر : «انتهينا انتهينا» (٣). وأخرج النسائي أيضا هذا الحديث باختلاف يسير في ألفاظه (٤).

__________________

(١) مسند الطيالسي : ٨ / ٢٦٤.

(٢) مسند أحمد : ٢ / ٣٥١ ، باقي مسند المكثرين رقم الحديث : ٨٢٦٦.

(٣) نفس المصدر : ١ / ٥٣ ، مسند العشرة المبشرين بالجنة ، رقم الحديث : ٣٥٥ ، وسنن الترمذي : كتاب تفسير القرآن ، رقم الحديث : ٢٩٧٥.

(٤) سنن النسائي : ٢ / ٣٢٣ ، كتاب الأشربة ، باب تحريم الخمر ، رقم الحديث : ٥٤٤٥.

٣٣٥

وأما القول الثاني : فلأن وجوب الوضوء عند القيام إلى الصلاة لا مساس له بمضمون الآية الكريمة ليكون ناسخا لها.

ولعل القائل بالنسخ يتوهم فيقول : إن النهي عن القرب إلى الصلاة حالة السكر يقتضي أن يراد بالسكر ما لا يبلغ بالشخص إلى حد الغفلة عن التكاليف وامتثالها ، وعدم الالتفات إليها. فإن الذي يصل به السكر إلى هذا الحد يكون تكليفه قبيحا ، وعلى ذلك فإذا فرضنا أن شخصا شرب الخمر ، وحصل له هذا المقدار من السكر فهو مكلف بالصلاة بالإجماع ، وذلك يستلزم نسخ مفاد الآية.

ولكن هذا القول توهم فاسد ، فإن المراد بالسكر بقرينة قوله تعالى :

(حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) «٤ : ٤٣».

هي المرتبة التي يفقد السكران معها الشعور ، وهذا النهي قد يحمل على الحرمة التكليفية ، ولا ينافيها فقد الشعور ، لأن إقامة الصلاة في ذلك الحال ، وإن كانت غير مقدورة إلا أن فقده لشعوره هذا كان باختياره ، والممتنع بالاختيار لا ينافي صحة العقاب عليه عقلا ، فيصح تعلق النهي بها قبل أن يتناول المسكر باختياره ، ومثل هذا كثير في الشريعة الإسلامية.

وقد يراد من النهي : الإرشاد إلى فساد الصلاة في هذا الحال كما هو الظاهر من مثل هذا التركيب ، والأمر على هذا الاحتمال واضح جدا ، وعلى كل فلا سبب يوجب الالتزام بالنسخ في الآية.

١٦ ـ (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ

٣٣٦

فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) «٤ : ٩٠».

فقد ذكروا أن الآية منسوخة بالأمر بنبذ ميثاق المشركين ، وبالأمر بقتالهم سواء أكانوا اعتزلوا المسلمين أم لم يعتزلوهم ، فيكون في الآية موردان للنسخ.

والجواب :

إن الآية الكريمة نزلت في شأن المنافقين الذين تولوا وكفروا بعد إسلامهم في الظاهر ، والدليل على ذلك سياق الآية الكريمة ، فقد قال الله تعالى :

(فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ٤ : ٨٨. وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً : ٨٩. إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ : ٩٠).

وعلى ذلك فالحكم في الآية وارد في المرتدين الذين كانوا كفارا ثم أسلموا ثم كفروا بعد إسلامهم ، والحكم فيهم بمقتضى الآية هو القتل إلا في موردين :

١ ـ وصولهم إلى قوم بينهم وبين المسلمين معاهدة ، واستجارتهم بهم فيجري عليهم حكم القوم الذين استجاروا بهم بمقتضى المعاهدة ، ولكن هذا الحكم مشروط ببقاء المعاهدة ، فإذا ألغيت بينهم وبين المسلمين لم يبق للحكم موضوع وقد أوضحنا في أول هذا البحث أن ارتفاع الحكم بسبب ارتفاع موضوعه ليس من النسخ في شىء ، وقد ألغيت المعاهدة بين المسلمين والمشركين في سورة التوبة وأمهلوا أربعة

٣٣٧

أشهر ليتخيروا إما الإسلام ، وإما الخروج عن بلاد المسلمين ، وعلى ذلك فلم يبق موضوع للاستجارة التي ذكرتها الآية.

٢ ـ مجيئهم إلى المسلمين ، وقد حصرت صدورهم عن القتال مع اعتزالهم ، والقائهم السلم إلى المسلمين بعد الردّة ، والمراد بإلقاء السلم إلقاء السلم إظهار الإسلام ، والإقرار بالشهادتين ، ويشهد لهذا قوله تعالى :

(وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) «٤ : ٩٤».

فالآية دالة على قبول المرتد الملي إذا أظهر التوبة والإسلام ، وانه لا يقتل بعد التوبة ، وقد استقر على هذا مذهب الإمامية : ولم ترد في القرآن آية تدل على وجوب قتل المرتد على الإطلاق ، لتكون ناسخة لذلك.

أما إذا أراد القائل بالنسخ : أن يتمسك في نسخ الآية بما دل على قتال المشرك والكافر ، فمن الواضح أن ذلك مشروط ببقاء موضوعه ، على ما هي القاعدة المتبعة في كل قضية حقيقة في الأحكام الشرعية وغيرها. نعم ورد الأمر بقتل المرتدّ على الإطلاق في بعض روايات أهل السنة ، فقد روى البخاري ، وأحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وأبو داود السجستاني ، وابن ماجة ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من بدّل دينه فاقتلوه» (١). إلا أنه لا خلاف بين المسلمين في أن هذا الحكم مقيد بعدم التوبة ، وإن وقع الخلاف بينهم في المدة التي يستتاب فيها ، وفي

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب الجهاد والسير ، رقم الحديث : ٢٧٩٤ ، و ٦٤١١. وسنن الترمذي : كتاب الحدود ، رقم الحديث : ١٣٧٨ ، وسنن النسائي : كتاب تحريم الدم ، رقم الحديث : ٣٩٩١ ، و ٣٩٩٢ ، ٣٩٩٣ و ٣٩٩٤ و ٣٩٩٥ و ٣٩٩٦ و ٣٩٩٧. وسنن أبي داود : كتاب الحدود ، رقم الحديث : ٣٧٨٧. وسنن ابن ماجة : كتاب الحدود ، رقم الحديث ٢٥٢٦. ومسند أحمد : مسند بني هاشم ، رقم الحديث : ١٧٧٥ و ٢٤٢٠ و ٢٤٢١ و ٢٨١٣ و ٢١٠٠٧ راجع المنتقى : ٢ / ٧٤٥.

٣٣٨

وجوب الاستتابة واستحبابها. فالمشهور بين الإمامية أنه واجب ، وأنه لا يحدّ بمدة مخصوصة ، بل يستتاب مدة يمكن منه الرجوع فيها إلى الإسلام ، وقيل يستتاب ثلاثة أيام ، ونسب ذلك إلى بعض الإمامية ، واختاره كثير من علماء أهل السنة ، وذهب أبو حنيفة ، وأبو يوسف إلى استحباب الإمهال ثلاثة أيام. نعم ذهب علي بن أبي بكر المرغيناني إلى وجوب القتل من غير إمهال ، ونسب ابن الهمام إلى الشافعي ، وابن المنذر أنهما قالا في المرتد : «إن تاب في الحال وإلا قتل» (١).

وعلى كلّ فلا إشكال في سقوط حكم القتل بالتوبة ، كما صرّح به في الروايات المأثورة عن الطريقين ، وبعد ذلك فلا تكون الآية منسوخة.

١٧ ـ (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) «٥ : ٤٢».

وقد اختلفت الأقوال في هذه الآية الكريمة ، فقيل : إنها محكمة لم تنسخ وقد أجمعت الشيعة الاثني عشرية على ذلك ، فالحاكم ، مخير ـ حين يتحاكم اليه الكتابيون ـ بين أن يحكم بينهم بمقتضى شريعة الإسلام ، وبين أن يعرض عنهم ويتركهم وما التزموا به في دينهم.

وقد روى الشيخ الطوسي بسند صحيح عن أبي جعفر عليه‌السلام قال :

«إن الحاكم إذا أتاه أهل التوراة ، وأهل الإنجيل يتحاكمون اليه كان ذلك إليه ، إن شاء حكم بينهم ، وإن شاء ترك» (٢)

__________________

(١) فتح القدير : ٤ / ٣٨٦.

(٢) الوسائل : ٢٧ / ٢٩٦ ، باب ٢٧ ، رقم الحديث : ٣٣٧٨٦.

٣٣٩

وإلى هذا القول ذهب من علماء أهل السنة الشعبي ، وإبراهيم النخعي ، وعطاء ، ومالك (١) وذهب جمع منهم إلى أن الآية المباركة منسوخة بقوله تعالى بعد ذلك :

(فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) «٥ : ٤٨».

وروي عن مجاهد أنه ذهب إلى أن آية التخيير ناسخة للآية الثانية.

والتحقيق : عدم النسخ في الآية ، فإن الأمر بالحكم بين أهل الكتاب بما أنزل الله في قوله تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) مقيد بما إذا أراد الحاكم أن يحكم بينهم ، والقرينة على التقييد هي الآية الاولى. ويدلّ على ذلك أيضا ـ مضافا إلى شهادة سياق الآيات بذلك ـ قوله تعالى في ذيل الآية الاولى : «وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط» فإنه يدل على أن وجوب الحكم بينهم بالقسط معلق على إرادة الحكم بينهم ، وللحاكم أن يعرض عنهم فينتفي وجوب الحكم بانتفاء موضوعه. ومما يدل على عدم النسخ في الآية المزبورة الروايات التي دلّت على أن سورة المائدة نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جملة واحدة ، وهو في أثناء مسيره.

فقد روى عيسى بن عبد الله ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إن سورة المائدة كانت من آخر ما نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنها نزلت وهو على بغلته الشهباء ، وثقل عليه الوحي حتى وقعت» (٢).

وروت أسماء بنت يزيد ، قالت :

«إني لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله إذ أنزلت عليه المائدة كلها ، وكادت من ثقلها تدق من عضد الناقة» (٣).

__________________

(١) الناسخ والمنسوخ للنحاس : ص ١٣٠ ، وفي أحكام القرآن للجصاص : ٢ / ٤٣٤ نسبة هذا القول الى الحسن أيضا.

(٢) تفسير البرهان : ١ / ٢٦٣.

(٣) تفسير ابن كثير : ٢ / ٢.

٣٤٠