البيان في تفسير القرآن

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي

البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

لا شك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يخترع لنفسه طريقة خاصة لإفهام مقاصده ، وأنه كلّم قومه بما ألفوه من طرائق التفهيم والتكلم وأنه أتى بالقرآن ليفهموا معانيه ، وليتدبروا آياته فيأتمروا بأوامره ، ويزدجروا بزواجره وقد تكرّر في الآيات الكريمة ما يدل على ذلك ، كقوله تعالى :

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) «٤٧ : ٢٤».

وقوله تعالى :

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) «٣٩ :

٢٧».

وقوله تعالى :

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ ٢٦ : ١٩٢. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ : ١٩٣. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ : ١٩٤. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ : ١٩٥)

وقوله تعالى :

(هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) «٣ : ١٣٨».

٢٦١

وقوله تعالى :

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) «٤٤ : ٥٨».

وقوله تعالى :

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) «٥٤ : ١٧».

وقوله تعالى :

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) «٤ : ٨٢».

إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وجوب العمل بما في القرآن ولزوم الأخذ بما يفهم من ظواهره.

ومما يدلّ على حجية ظواهر الكتاب وفهم العرب لمعانيه :

١ ـ أن القرآن نزل حجة على الرسالة ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تحدّى البشر على أن يأتوا ولو بسورة من مثله ، ومعنى هذا : أن العرب كانت تفهم معاني القرآن من ظواهره ، ولو كان القرآن من قبيل الألغاز لم تصح مطالبتهم بمعارضته ، ولم يثبت لهم إعجازه ، لأنهم ليسوا ممن يستطيعون فهمه ، وهذا ينافي الغرض من إنزال القرآن ودعوة البشر إلى الإيمان به.

٢ ـ الروايات المتظافرة الآمرة بالتمسك بالثقلين الذين تركهما النبي في المسلمين ، فإن من البيّن أن معنى التمسك بالكتاب هو الأخذ به ، والعمل بما يشتمل عليه ، ولا معنى له سوى ذلك.

٣ ـ الروايات المتواترة التي أمرت بعرض الأخبار على الكتاب ، وأن ما خالف

٢٦٢

الكتاب منها يضرب على الجدار ، أو أنه باطل ، أو أنه زخرف (١) ، أو أنه منهي عن قبوله (٢) ، أو أن الأئمة لم تقله (٣) ، وهذه الروايات صريحة في حجية ظواهر الكتاب ، وأنه مما تفهمه عامة أهل اللسان العارفين بالفصيح من لغة العرب. ومن هذا القبيل الروايات التي أمرت بعرض الشروط على كتاب الله وردّ ما خالفه منها. (٤) ٤ ـ استدلالات الأئمة عليه‌السلام على جملة من الأحكام الشرعية وغيرها بالآيات القرآنية :

منها : قول الصادق عليه‌السلام ـ حينما سأله زرارة من أين علمت أن المسح ببعض الرأس ـ «لمكان الباء». (٥)

ومنها : قوله عليه‌السلام في نهي الدوانيقي عن قبول خبر النحّام : «انه فاسق» وقد قال الله تعالى :

(إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) «٤٩ : ٦». (٦)

ومنها : قوله عليه‌السلام لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء اعتذارا بأنه لم يكن شيئا أتاه برجله ـ أما سمعت قول الله عزوجل :

(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) «١٧ : ٣٦». (٧)

ومنها : قوله عليه‌السلام لابنه إسماعيل : «فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم : مستدلا

__________________

(١) الوسائل : ٢٧ / ١١٠ ، باب ٩ ، الحديث : ٣٣٣٤٥ و ٣٣٣٤٧.

(٢) الوسائل : ٢٧ / ١١٩ ، باب ٩ ، الحديث : ٣٣٣٦٨.

(٣) الوسائل : ٢٧ / ١١١ ، باب ٩ ، الحديث : ٣٣٣٤٨.

(٤) الوسائل : ١٨ / ١٦ ، باب ٦ ، الحديث : ٢٣٠٤١.

(٥) الوسائل : ١ / ٤١٣ ، باب ٢٣ ، الحديث : ١٠٧٣ و ٣ / ٣٦٤ باب ١٣ ، الحديث ٣٨٧٨.

(٦) بحار الأنوار : ٧٥ / ٢٦٣ ، باب ٦٧ ، الحديث : ٣.

(٧) الكافي : ٦ / ٤٣٢ ، الحديث : ١٠.

٢٦٣

بقول الله عزوجل : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) «٩ : ٦١». (١)

ومنها : قوله عليه‌السلام في تحليل نكاح العبد للمطلقة ثلاثا : إنه زوج ، قال الله عزوجل :

(حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) «٢ : ٢٣٠». (٢) ومنها : قوله عليه‌السلام في أن المطلقة ثلاثا لا تحلّ بالعقد المنقطع : إن الله تعالى قال :

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) «٤ : ١٢٧».

«ولا طلاق في المتعة». (٣) ومنها : قوله عليه‌السلام فيمن عثر فوقع ظفره فجعل على إصبعه مرارة : إن هذا وشبهه يعرف من كتاب الله تعالى :

(وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) «٢٢ : ٧٨».

ثم قال : «امسح عليه». (٤) ومنها : استدلاله عليه‌السلام على حلية بعض النساء بقوله تعالى :

(وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) «٤ : ٢٣». (٥) ومنها : استدلاله عليه‌السلام على عدم جواز نكاح العبد بقوله تعالى :

(عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) «١٦ : ٧٥». (٦)

__________________

(١) الكافي : ٥ / ٢٩٩ ، الحديث : ١.

(٢) الكافي : ٥ / ٤٢٥ ، الحديث : ٣.

(٣) التهذيب : ٨ / ٣٤ ، باب ٣٦ ، الحديث : ٢٢.

(٤) الاستبصار : ١ / ٧٧ ، باب ٤٦ ، الحديث : ٣.

(٥) الوسائل : ٢٠ / ٢٤٥ ، باب ١٤٠ ، الحديث : ٢٥٥٤٨.

(٦) الاستبصار : ٣ / ٢١٥ ، باب ١٣٤ ، الحديث : ٣.

٢٦٤

ومنها : استدلاله عليه‌السلام على حلية بعض الحيوانات بقوله تعالى :

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) «٦ : ١٤٥». (١)

وغير ذلك من استدلالاتهم عليهم‌السلام بالقرآن في موارد كثيرة ، وهي متفرقة في أبواب الفقه وغيرها.

أدلة إسقاط حجية ظواهر الكتاب :

وقد خالف جماعة من المحدثين ، فأنكروا حجية ظواهر الكتاب ومنعوا عن العمل به. واستدلوا على ذلك بأمور :

١ ـ اختصاص فهم القرآن :

إن فهم القرآن مختص بمن خوطب به ، وقد استندوا في هذه الدعوى إلى عدة روايات واردة في هذا الموضوع ، كمرسلة شعيب بن أنس ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال لأبي حنيفة :

«أنت فقيه أهل العراق؟ قال : نعم. قال عليه‌السلام : فبأيّ شىء تفتيهم؟ قال : بكتاب الله وسنّة نبيه. قال عليه‌السلام : يا أبا حنيفة تعرف كتاب الله حق معرفته ، وتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال : نعم. قال عليه‌السلام : يا أبا حنيفة لقد ادعيت علما ـ وويلك ـ ما جعل الله ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم ، وويلك ما هو إلا عند الخاص من ذرية نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما ورّثك الله تعالى من كتابه حرفا». (٢)

__________________

(١) التهذيب : ٩ / ٥ ، باب ٤ ، الحديث : ١٥.

(٢) الوسائل : ٢٧ / ٤٧ ، باب ٦ ، الحديث : ٣٣١٧٧.

٢٦٥

وفي رواية زيد الشحام ، قال :

«دخل قتادة على أبي جعفر عليه‌السلام فقال له : أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال : هكذا يزعمون. فقال عليه‌السلام بلغني أنك تفسّر القرآن. قال : نعم (إلى أن قال) يا قتادة إن كنت قد فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت قد فسّرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت ، يا قتادة ـ ويحك ـ إنما يعرف القرآن من خوطب به». (١)

والجواب :

إن المراد من هذه الروايات وأمثالها أن فهم القرآن حق فهمه ، ومعرفة ظاهره وباطنه ، وناسخه ومنسوخه مختص بمن خوطب به. والرواية الأولى صريحة في ذلك ، فقد كان السؤال فيها عن معرفة كتاب الله حق معرفته ، وتمييز الناسخ من المنسوخ ، وكان توبيخ الإمام عليه‌السلام لأبي حنيفة على دعوى معرفة ذلك.

وأما الرواية الثانية فقد تضمنت لفظ التفسير ، وهو بمعنى كشف القناع ، فلا يشمل الأخذ بظاهر اللفظ ، لأنه غير مستور ليكشف عنه القناع ، ويدل على ذلك أيضا ما تقدم من الروايات الصريحة في أن فهم الكتاب لا يختص بالمعصومين عليهم‌السلام ويدل على ذلك أيضا قوله عليه‌السلام في المرسلة : «وما ورّثك الله من كتابه حرفا» (٢) فإن معنى ذلك أن الله قد خص أوصياء نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإرث الكتاب ، وهو معنى قوله تعالى :

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) «٣٥ : ٣٢».

__________________

(١) الوسائل : ٢٧ / ١٨٥ ، باب ١٣ ، الحديث : ٣٣٥٥٦.

(٢) الوسائل : ٢٧ / ٤٨ ، باب ٦ ، الحديث : ٣٣١٧٧.

٢٦٦

فهم المخصوصون بعلم القرآن على واقعه وحقيقته ، وليس لغيرهم في ذلك نصيب. هذا هو معنى المرسلة وإلا فكيف يعقل أن أبا حنيفة لا يعرف شيئا من كتاب الله حتى مثل قوله تعالى :

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) «١١١ : ١».

وأمثال هذه الآية مما يكون صريحا في معناه ، والأخبار الدالة على الاختصاص المتقدم كثيرة جدا ، وقد تقدم بعضها.

٢ ـ النهي عن التفسير بالرأي

: إن الأخذ بظاهر اللفظ من التفسير بالرأي ، وقد نهى عنه في روايات متواترة بين الفريقين.

والجواب :

إن التفسير هو كشف القناع كما قلنا ، فلا يكون منه حمل اللفظ على ظاهره ، لأنه ليس بمستور حتى يكشف ، ولو فرضنا أنه تفسير فليس تفسيرا بالرأي ، لتشمله الروايات الناهية المتواترة ، وإنما هو تفسير بما يفهمه العرف من اللفظ ، فإن الذي يترجم خطبة من خطب نهج البلاغة ـ مثلا ـ بحسب ما يفهمه العرف من ألفاظها ، وبحسب ما تدل القرائن المتصلة والمنفصلة ، لا يعدّ عمله هذا من التفسير بالرأي.

وقد أشار إلى ذلك الإمام الصادق عليه‌السلام بقوله : «إنما هلك الناس في المتشابه لأنهم لم يقفوا على معناه ، ولم يعرفوا حقيقته ، فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم ، واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء فيعرفونهم». (١)

__________________

(١) الوسائل : ٢٧ / ٢٠١ ، باب ١٣ ، الحديث ٣٣٥٩٣.

٢٦٧

ويحتمل أن معنى التفسير بالرأي الاستقلال في الفتوى من غير مراجعة الأئمة عليهم‌السلام ، مع أنهم قرناء الكتاب في وجوب التمسك ، ولزوم الانتهاء إليهم ، فإذا عمل الإنسان بالعموم أو الإطلاق الوارد في الكتاب ، ولم يأخذ التخصيص أو التقييد الوارد عن الأئمة عليهم‌السلام كان هذا من التفسير بالرأي.

وعلى الجملة حمل اللفظ على ظاهره بعد الفحص عن القرائن المتصلة والمنفصلة من الكتاب والسنّة ، أو الدليل العقلي لا يعد من التفسير بالرأي بل ولا من التفسير نفسه ، وقد تقدم بيانه ، على أن الروايات المتقدمة دلت على الرجوع إلى الكتاب ، والعمل بما فيه. ومن البين أن المراد من ذلك الرجوع إلى ظواهره ، وحينئذ فلا بدّ وأن يراد من التفسير بالرأي غير العمل بالظواهر جمعا بين الأدلة.

٣ ـ غموص معاني القرآن :

إن في القرآن معاني شامخة ، ومطالب غامضة ، واشتماله على ذلك يكون مانعا عن فهم معانيه ، والإحاطة بما أريد منه ، فإنا نجد بعض كتب السلف لا يصل إلى معانيها إلا العلماء المطّلعون ، فكيف بالكتاب المبين الذي جمع علم الأولين والآخرين.

والجواب :

إن القرآن وإن اشتمل على علم ما كان وما يكون ، وكانت معرفة هذا من القرآن مختصة بأهل بيت النبوة من دون ريب ، ولكن ذلك لا ينافي أن للقرآن ظواهر يفهمها العارف باللغة وأساليبها ، ويتعبد بما يظهر له بعد الفحص عن القرائن.

٤ ـ العلم بارادة خلاف الظاهر :

إنا نعلم ـ إجمالا ـ بورود مخصّصات لعمومات القرآن ، ومقيدات لإطلاقاته ، ونعلم بأن بعض ظواهر الكتاب غير مراد قطعا ، وهذه العمومات المخصّصة ، والمطلقات

٢٦٨

المقيّدة ، والظواهر غير المرادة ليست معلومة بعينها ، ليتوقف فيها بخصوصها. ونتيجة هذا أن جميع ظواهر الكتاب وعموماته ومطلقاته تكون مجملة بالعرض ، وإن لم تكن مجملة بالأصالة ، فلا يجوز أن يعمل بها حذرا من الوقوع فيما يخالف الواقع.

والجواب :

إن هذا العلم الإجمالي إنما يكون سببا للمنع عن الأخذ بالظواهر ، إذا أريد العمل بها قبل الفحص عن المراد ، وأما بعد الفحص والحصول على المقدار الذي علم المكلف بوجوده إجمالا بين الظواهر ، فلا محالة ينحل العلم الإجمالي ، ويسقط عن التأثير ، ويبقى العلم بالظواهر بلا مانع. ونظير هذا يجري في السنّة أيضا ، فإنا نعلم بورود مخصّصات لعموماتها ومقيدات لمطلقاتها ، فلو كان العلم الإجمالي مانعا عن التمسك بالظواهر حتى بعد انحلاله لكان مانعا عن العمل بظواهر السنة أيضا ، بل ولكان مانعا عن أجراء أصالة البراءة في الشبهات الحكمية ، الوجوبية منها والتحريمية ، فإن كل مكلف يعلم بوجود تكاليف إلزامية في الشريعة المقدسة ، ولازم هذا العلم الإجمالي وجوب الاحتياط عليه في كل شبهة تحريمية ، أو وجوبية يقع فيها مع أن الاحتياط ليس بواجب فيها يقينا.

نعم ذهب جمع كثير من المحدّثين إلى وجوب الاحتياط في موارد الشبهات التحريمية ، إلا أن ذلك نشأ من توهّمهم أن الروايات الآمرة بالتوقّف أو الاحتياط تدلّ على وجوب الاحتياط والتوقف في موارد تلك الشبهات. وليس قولهم هذا ناشئا من العلم الإجمالي بوجود التكاليف الإلزامية في الشريعة المقدسة ، وإلا لكان اللازم عليهم القول بوجوب الاحتياط حتى في الشبهات الوجوبية ، مع أنه لم يذهب إلى وجوبه فيها أحد فيما نعلم. والسر في عدم وجوب الاحتياط في هذه الموارد وفي

٢٦٩

أمثالها واحد ، وهو أن العلم الإجمالي قد انحلّ بسبب الظفر بالمقدار المعلوم ، وبعد انحلاله يسقط عن التأثير. ولتوضيح ذلك يراجع كتابنا «أجود التقريرات».

٥ ـ المنع عن اتباع المتشابه :

إن الآيات الكريمة قد منعت عن العمل بالمتشابه ، فقد قال الله تعالى :

(مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) «٣ : ٧».

والمتشابه يشمل الظاهر أيضا ، ولا أقل من احتمال شموله للظاهر فيسقط عن الحجية.

الجواب :

إن لفظ المتشابه واضح المعنى ولا إجمال فيه ولا تشابه ، ومعناه أن يكون للّفظ وجهان من المعاني أو أكثر ، وجميع هذه المعاني في درجة واحدة بالنسبة الى ذلك اللفظ ، فإذا أطلق ذلك اللفظ احتمل في كل واحد من هذه المعاني أن يكون هو المراد. ولذلك فيجب التوقف في الحكم إلى أن تدل قرينة على التعيين ، وعلى ذلك فلا يكون اللفظ الظاهر من المتشابه.

ولو سلمنا أن لفظ المتشابه متشابه ، يحتمل شموله للظاهر ، فهذا لا يمنع عن العمل بالظاهر بعد استقرار السيرة بين العقلاء على اتباع الظهور من الكلام. فإن الاحتمال بمجرده لا يكون رادعا عن العمل بالسيرة ، ولا بد في الردع عنها من دليل قطعي ، وإلا فهي متبعة من دون ريب ، ولذلك فإن المولى يحتج على عبده إذا خالف ظاهر كلامه ، ويصح له أن يعاقبه على المخالفة ، كما أن العبد نفسه يحتج على مولاه إذا وافق ظاهر كلام مولاه وكان هذا الظاهر مخالفا لمراده. وعلى الجملة فهذه السيرة متّبعة في

٢٧٠

التمسك بالظهور حتى يقوم دليل قطعي على الردع.

٦ ـ وقوع التحريف في القرآن :

إن وقوع التحريف في القرآن ، مانع من العمل بالظواهر ، لاحتمال كون هذه الظواهر مقرونة بقرائن تدل على المراد ، وقد سقطت بالتحريف.

والجواب :

منع وقوع التحريف في القرآن ، وقد قدمنا البحث عن ذلك ، وذكرنا أن الروايات الآمرة بالرجوع إلى القرآن بأنفسها شاهدة على عدم التحريف ، وإذا تنزلنا عن ذلك فإن مقتضى تلك الروايات هو وجوب العمل بالقرآن ، وإن فرض وقوع التحريف فيه. ونتيجة ما تقدم أنه لا بدّ من العمل بظواهر القرآن ، وأنه الأساس للشريعة ، وأن السنة المحكية لا يعمل بها إذا كانت مخالفة له.

٢٧١
٢٧٢

النّسخ في القرآن

٢٧٣

ـ المعنى اللغوي والاصطلاحي للنسخ.

ـ إمكان النسخ. وقوعه في التوراة.

ـ وقوعه في الشريعة الإسلامية. أقسام النسخ الثلاثة.

ـ الآيات المدعى نسخها وإثبات انها محكمة.

ـ آية المتعة ودلالتها على جواز نكاح المتعة.

ـ الرجم على المتعة.

ـ فتوى أبي حنيفة بسقوط حد الزنا بالمحارم إذا عقد عليها.

ـ فتواه بسقوط الحد إذا استأجر امرأة فزنى بها.

ـ نسبة هذه الفتوى إلى عمر.

ـ مزاعم حول المتعة.

ـ تعصب مكشوف حول ترك الصحابة العمل بآية النجوى.

ـ كلام الرازي والرد عليه.

٢٧٤

في كتب التفسير وغيرها آيات كثيرة ادعى نسخها. وقد جمعها أبو بكر النحاس في كتابه «الناسخ والمنسوخ» فبلغت (١٣٨) آية.

وقد عقدنا هذا البحث لنستعرض جملة من تلك الآيات المدعى نسخها ولنتبيّن فيها أنه ليست ـ في واقع الأمر ـ واحدة منها منسوخة ، فضلا عن جميعها.

وقد اقتصرنا على (٣٦) آية منها ، وهي التي استدعت المناقشة والتوضيح لجلاء الحق فيها ، وأما سائر الآيات فالمسألة فيها أوضح من أن يستدل على عدم وجود نسخ فيها.

النسخ في اللغة :

هو الاستكتاب ، كالاستنساخ والانتساخ ، وبمعنى النقل والتحويل ، ومنه تناسخ المواريث والدهور ، وبمعنى الإزالة ، ومنه نسخت الشمس الظل ، وقد كثر استعماله في هذا المعنى في ألسنة الصحابة والتابعين فكانوا يطلقون على المخصّص والمقيّد لفظ الناسخ (١).

__________________

(١) وقد اطلق النسخ كثيرا على التخصيص في التفسير المنسوب الى ابن عباس.

٢٧٥

النسخ في الاصطلاح :

هو رفع أمر ثابت في الشريعة المقدسة بارتفاع أمده وزمانه ، سواء أكان ذلك الأمر المرتفع من الأحكام التكليفية أم الوضعية ، وسواء أكان من المناصب الإلهية أم من غيرها من الأمور التي ترجع إلى الله تعالى بما أنه شارع ، وهذا الأخير كما في نسخ القرآن من حيث التلاوة فقط ، وإنما قيدنا الرفع بالأمر الثابت في الشريعة ليخرج به ارتفاع الحكم بسبب ارتفاع موضوعه خارجا ، كارتفاع وجوب الصوم بانتهاء شهر رمضان ، وارتفاع وجوب الصلاة بخروج وقتها ، وارتفاع مالكية شخص لماله بسبب موته ، فإن هذا النوع من ارتفاع الأحكام لا يسمى نسخا ، ولا إشكال في إمكانه ووقوعه ، ولا خلاف فيه من أحد.

ولتوضيح ذلك نقول : إن الحكم المجعول في الشريعة المقدسة له نحوان من الثبوت :

أحدهما : ثبوت ذلك الحكم في عالم التشريع والإنشاء ، والحكم في هذه المرحلة يكون مجعولا على نحو القضية الحقيقية ، ولا فرق في ثبوتها بين وجود الموضوع في الخارج وعدمه ، وإنما يكون قوام الحكم بفرض وجود الموضوع. فإذا قال الشارع : شرب الخمر حرام ـ مثلا ـ فليس معناه أن هنا خمرا في الخارج. وأن هذا الخمر محكوم بالحرمة ، بل معناه أن الخمر متى ما فرض وجوده في الخارج فهو محكوم بالحرمة في الشريعة سواء أكان في الخارج خمر بالفعل أم لم يكن ، ورفع هذا الحكم في هذه المرحلة لا يكون إلا بالنسخ.

وثانيهما : ثبوت ذلك الحكم في الخارج بمعنى أن الحكم يعود فعليا بسبب فعلية موضوعه خارجا ، كما إذا تحقق وجود الخمر في الخارج ، فإن الحرمة المجعولة في

٢٧٦

الشريعة للخمر تكون ثابتة له بالفعل ، وهذه الحرمة تستمر باستمرار موضوعها ، فإذا انقلب خلا فلا ريب في ارتفاع تلك الحرمة الفعلية التي ثبتت له في حال خمريته ، ولكن ارتفاع هذا الحكم ليس من النسخ في شىء ، ولا كلام لأحد في جواز ذلك ولا في وقوعه ، وإنما الكلام في القسم الأول ، وهو رفع الحكم عن موضوعه في عالم التشريع والإنشاء.

إمكان النسخ :

المعروف بين العقلاء من المسلمين وغيرهم هو جواز النسخ بالمعنى المتنازع فيه «رفع الحكم عن موضوعه في عالم التشريع والإنشاء» وخالف في ذلك اليهود والنصارى فادعوا استحالة النسخ ، واستندوا في ذلك إلى شبهة هي أوهن من بيت العنكبوت.

وملخص هذه الشبهة :

إن النسخ يستلزم عدم حكمة الناسخ ، أو جهله بوجه الحكمة ، وكلا هذين اللازمين مستحيل في حقه تعالى ، وذلك لأن تشريع الحكم من الحكيم المطلق لا بد وأن يكون على طبق مصلحة تقتضيه ، لأن الحكم الجزافي ينافي حكمة جاعله ، وعلى ذلك فرفع هذا الحكم الثابت لموضوعه إما أن يكون مع بقاء الحال على ما هو عليه من وجه المصلحة وعلم ناسخه بها ، وهذا ينافي حكمة الجاعل مع أنه حكيم مطلق ، وإما أن يكون من جهة البداء ، وكشف الخلاف على ما هو الغالب في الأحكام والقوانين العرفية ، وهو يستلزم الجهل منه تعالى. وعلى ذلك فيكون وقوع النسخ في الشريعة محالا لأنه يستلزم المحال.

٢٧٧

والجواب :

إن الحكم المجعول من قبل الحكيم قد لا يراد منه البعث ، أو الزجر الحقيقيين كالأوامر التي يقصد بها الامتحان ، وهذا النوع من الأحكام يمكن إثباته أولا ثم رفعه ، ولا مانع من ذلك ، فإن كلا من الإثبات والرفع في وقته قد نشأ عن مصلحة وحكمة ، وهذا النسخ لا يلزم منه خلاف الحكمة ، ولا ينشأ من البداء الذي يستحيل في حقه تعالى ، وقد يكون الحكم المجعول حكما حقيقيا ، ومع ذلك ينسخ بعد زمان ، لا بمعنى أن الحكم بعد ثبوته يرفع في الواقع ونفس الأمر ، كي يكون مستحيلا على الحكيم العالم بالواقعيات ، بل هو بمعنى أن يكون الحكم المجعول مقيدا بزمان خاص معلوم عند الله ، مجهول عند الناس ، ويكون ارتفاعه بعد انتهاء ذلك الزمان ، لانتهاء أمده الذي قيد به ، وحلول غايته الواقعية التي أنيط بها.

والنسخ بهذا المعنى ممكن قطعا ، بداهة : أن دخل خصوصيات الزمان في مناطات الأحكام مما لا يشك فيه عاقل ، فإن يوم السبت ـ مثلا ـ في شريعة موسى عليه‌السلام قد اشتمل على خصوصية تقتضي جعله عيدا لأهل تلك الشريعة دون بقية الأيام ، ومثله يوم الجمعة في الإسلام ، وهكذا الحال في أوقات الصلاة والصيام والحج ، وإذا تصورنا وقوع مثل هذا في الشرائع فلنتصور أن تكون للزمان خصوصية من جهة استمرار الحكم وعدم استمراره. فيكون الفعل ذا مصلحة في مدة معينة ، ثم لا تترتب عليه تلك المصلحة بعد انتهاء تلك المدة ، وقد يكون الأمر بالعكس.

وجملة القول : إذا كان من الممكن أن يكون للساعة المعينة ، أو اليوم المعين أو الأسبوع المعين ، أو الشهر المعين تأثير في مصلحة الفعل أو مفسدته أمكن دخل السنة في ذلك أيضا ، فيكون الفعل مشتملا على مصلحة في سنين معينة ، ثم لا تترتب

٢٧٨

عليه تلك المصلحة بعد انتهاء تلك السنين ، وكما يمكن أن يقيد إطلاق الحكم من غير جهة الزمان بدليل منفصل ، فكذلك يمكن أن يقيد إطلاقه من جهة الزمان أيضا بدليل منفصل ، فإن المصلحة قد تقتضي بيان الحكم على جهة العموم أو الإطلاق ، مع أن المراد الواقعي هو الخاص أو المقيد ، ويكون بيان التخصيص أو التقييد بدليل منفصل. فالنسخ في الحقيقة تقييد لإطلاق الحكم من حيث الزمان ولا تلزم منه مخالفة الحكمة ولا البداء بالمعنى المستحيل في حقه تعالى ، وهذا كله بناء على أن جعل الأحكام وتشريعها مسبب عن مصالح أو مفاسد تكون في نفس العمل. وأما على مذهب من يرى تبعية الأحكام لمصالح في الأحكام أنفسها فإن الأمر أوضح ، لأن الحكم الحقيقي على هذا الرأي يكون شأنه شأن الأحكام الامتحانية.

النسخ في التوراة :

وما قدمناه يبطل تمسك اليهود والنصارى باستحالة النسخ في الشريعة ، لاثبات استمرار الأحكام الثابتة في شريعة موسى. ومن الغريب جدا أنهم مصرّون على إحالة النسخ في الشريعة الإلهية ، مع أن النسخ قد وقع في موارد كثيرة من كتب العهدين :

١ ـ فقد جاء في الاصحاح الرابع من سفر العدد «عدد ٢ ، ٣» :

«خذ عدد بني قهات من بين بني لاوي حسب عشائرهم ، وبيوت آبائهم من ابن ثلاثين سنة فصاعدا إلى ابن خمسين سنة ، كل داخل في الجند ليعمل عملا في خيمة الاجتماع».

وقد نسخ هذا الحكم ، وجعل مبدأ زمان قبول الخدمة بلوغ خمس وعشرين سنة

٢٧٩

بما في الاصحاح الثامن من هذا السفر «عدد ٢٣ ، ٢٤» : «وكلم الرب موسى قائلا هذا ما للاويين من ابن خمس وعشرين سنة فصاعدا ، يأتون ليتجندوا أجنادا في خدمة خيمة الاجتماع».

ثم نسخ ثانيا : فجعل مبدأ زمان قبول الخدمة بلوغ عشرين سنة بما جاء في الاصحاح الثالث والعشرين من أخبار الأيام الاول «عدد ٢٤ ، ٣٢» : «هؤلاء بنو لاوي حسب بيوت آبائهم رءوس الآباء حسب إحصائهم في عدد الأسماء ، حسب رءوسهم عامل العمل لخدمة بيت الرب من ابن عشرين سنة فما فوق ... وليحرسوا حراسة خيمة الاجتماع ، وحراسة القدس».

٢ ـ وجاء في الإصحاح الثامن والعشرين من سفر العدد «عدد ٣ ـ ٧» :

«وقل لهم هذا هو الوقود الذي تقربون للرب ، خروفان حوليان صحيحان ، لكل يوم محرقة دائمة. الخروف الواحد تعمله صباحا ، والخروف الثاني تعمله بين العشاءين. وعشر الايفة من دقيق ملتوت بربع الهين من زيت الرضّ تقدمة ... وسكيبها ربع الهين للخروف الواحد».

وقد نسخ هذا الحكم : وجعلت محرقة كل يوم حمل واحد حولي في كل صباح ، وجعلت تقدمته سدس الايفة من الدقيق ، وثلث الهين من الزيت بما جاء في الاصحاح السادس والأربعين من كتاب جزقيال «عدد ١٣ ـ ١٥» : «وتعمل كل يوم محرقة للرب حملا حوليا صحيحا صباحا تعمله. وتعمل عليه تقدمة صباحا صباحا سدس الايفة. وزيتا ثلث الهين لرشّ الدقيق تقدمة للرب فريضة أبدية دائمة ، ويعملون الحمل والتقدمة والزيت صباحا صباحا محرقة دائمة».

٣ ـ وجاء في الاصحاح الثامن والعشرين من سفر العدد أيضا : «عدد ٩ ، ١٠» :

٢٨٠