البيان في تفسير القرآن

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي

البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

«وفي يوم السبت خروفان حوليان صحيحان ، وعشران من دقيق ملتوت بزيت تقدمة مع سكيبه. محرقة كل سبت فضلا عن المحرقة الدائمة وسكيبها».

وقد نسخ هذا الحكم : وجعلت محرقة السبت سنة حملان وكبش ، وجعلت التقدمة إيفة للكبش ، وعطية يد الرئيس للحملان ، وهين زيت للإيفة بما جاء في الاصحاح السادس والأربعين من كتاب حزقيال أيضا «عدد ٤ ، ٥» : «والمحرقة التي يقرّبها الرئيس للرب في يوم السبت ستة حملان صحيحة ، وكبش صحيح. والتقدمة إيفة للكبش ، وللحملان تقدمة عطية يده ، وهين زيت للإيفة».

٤ ـ وجاء في الاصحاح الثلاثين من سفر العدد «عدد ٢» :

«إذا نذر رجل نذرا للرب ، أو أقسم أن يلزم نفسه بلازم فلا ينقض كلامه ، حسب كل ما خرج من فمه يفعل».

وقد نسخ جواز الحلف الثابت بحكم التوراة بما جاء في الاصحاح الخامس من إنجيل متى «عدد ٣٣ ، ٣٤» : «أيضا سمعتم انه قيل للقدماء لا تحنث ، بل أوف للرب أقسامك. وأما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة».

٥ ـ وجاء في الاصحاح الحادي والعشرين من سفر الخروج «عدد ٢٣ ـ ٢٥» :

«وإن حصلت أذية تعطي نفسا بنفس ، وعينا بعين وسنا بسنّ ويدا بيد ورجلا برجل ، وكيّا بكيّ وجرحا بجرح ورضّا برضّ».

وقد نسخ هذا الحكم بالنهي عن القصاص في شريعة عيسى بما جاء في الاصحاح الخامس من إنجيل متى «عدد ٣٨» : «سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن ، وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر ، بل من لطمك على خدّك الأيمن فحوّل له الآخر أيضا».

٢٨١

٦ ـ وجاء في الاصحاح السابع عشر من سفر التكوين «عدد ١٠» في قول الله لإبراهيم :

«هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك ، يختن منكم كل ذكر». وقد جاء في شريعة موسى إمضاء ذلك. ففي الاصحاح الثاني عشر من سفر الخروج «عدد ٤٨ ـ ٤٩» : «وإذا نزل عندك نزيل ، وصنع فصحا للرب فليختن منه كل ذكر ، ثم يتقدم ليصنعه فيكون كمولود الأرض ، وأما كل أغلف فلا يأكل منه ، تكون شريعة واحدة لمولود الأرض ، وللنزيل النازل بينكم». وجاء في الاصحاح الثاني عشر من سفر اللاويين «عدد ٢ ، ٣» : «إذا حبلت امرأة وولدت ذكرا تكون نجسة سبعة أيام كما في أيام طمث علتها تكون نجسة ، وفي اليوم الثامن يختن لحم غرلته».

وقد نسخ هذا الحكم ، ووضع ثقل الختان عن الامة بما جاء في الاصحاح الخامس عشر من أعمال الرسل «عدد ٢٤ ـ ٣٠» وفي جملة من رسائل بولس الرسول.

٧ ـ وجاء في الاصحاح الرابع والعشرين من التثنية «عدد ١ ـ ٣» :

«إذا أخذ رجل امرأة وتزوج بها فإن لم تجد نعمة في عينيه ، لأن وجد فيها عيب شىء ، وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها ، وأطلقها من بيته ، ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر ، فإن أبغضها الرجل الآخر وكتب لها كتاب طلاق ، ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته أو إذا مات الرجل الأخير الذي اتخذها له زوجة ، لا يقدر زوجها الأول الذي طلقها أن يعود يأخذها ، لتصير له زوجة».

وقد نسخ الإنجيل ذلك وحرّم الطلاق بما جاء في الاصحاح الخامس من متى

٢٨٢

«عدد ٣١ ـ ٣٢» : «وقيل من طلّق امرأته فليعطها كتاب طلاق ، وأما أنا فأقول لكم إن من طلق امرأته إلا لعلة الزنا يجعلها تزني ، ومن يتزوج مطلّقة فإنه يزني. «وقد جاء مثل ذلك في الاصحاح العاشر من مرقس : عدد «١١ ، ١٢» والاصحاح السادس عشر من لوقا «عدد ١٨».

وفيما ذكرناه كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد ، ومن أراد الاطلاع على أكثر من ذلك فليراجع كتابي إظهار الحق (١) والهدى إلى دين المصطفى (٢).

النسخ في الشريعة الاسلامية :

لا خلاف بين المسلمين في وقوع النسخ ، فإن كثيرا من أحكام الشرائع السابقة قد نسخت بأحكام الشريعة الإسلامية ، وإن جملة من أحكام هذه الشريعة قد نسخت بأحكام اخرى من هذه الشريعة نفسها ، فقد صرح القرآن الكريم بنسخ حكم التوجه في الصلاة إلى القبلة الاولى ، وهذا مما لا ريب فيه.

وإنما الكلام في أن يكون شىء من أحكام القرآن منسوخا بالقرآن ، أو بالسنة القطعية ، أو بالإجماع ، أو بالعقل. وقبل الخوض في البحث عن هذه الجهة يحسن بنا أن نتكلم على أقسام النسخ ، فقد قسموا النسخ في القرآن إلى ثلاثة أقسام :

١ ـ نسخ التلاوة دون الحكم :

وقد مثلوا لذلك بآية الرجم فقالوا : إن هذه الآية كانت من القرآن ثم نسخت تلاوتها وبقي حكمها ، وقد قدمنا لك في بحث التحريف أن القول بنسخ التلاوة هو

__________________

(١) للشيخ رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي ، وهو كتاب جليل نافع جدا.

(٢) للامام البلاغي.

٢٨٣

نفس القول بالتحريف وأوضحنا أن مستند هذا القول أخبار آحاد وأن أخبار الآحاد لا أثر لها في أمثال هذا المقام.

فقد أجمع المسلمون على أن النسخ لا يثبت بخبر الواحد كما أن القرآن لا يثبت به ، والوجه في ذلك ـ مضافا إلى الإجماع ـ أن الأمور المهمة التي جرت العادة بشيوعها بين الناس ، وانتشار الخبر عنها على فرض وجودها لا تثبت بخبر الواحد فإن اختصاص نقلها ببعض دون بعض بنفسه دليل على كذب الراوي أو خطئه ، وعلى هذا فكيف يثبت بخبر الواحد أن آية الرجم من القرآن ، وانها قد نسخت تلاوتها ، وبقي حكمها ، نعم قد تقدم أن عمر أتى بآية الرجم وادعى انها من القرآن فلم يقبل قوله المسلمون ، لأن نقل هذه الآية كان منحصرا به ، ولم يثبتوها في المصاحف ، فالتزم المتأخرون بأنها آية منسوخة التلاوة باقية الحكم.

٢ ـ نسخ التلاوة والحكم :

ومثلوا لنسخ التلاوة والحكم معا بما تقدم نقله عن عائشة في الرواية العاشرة من نسخ التلاوة في بحث التحريف ، والكلام في هذا القسم كالكلام على القسم الأول بعينه.

٣ ـ نسخ الحكم دون التلاوة :

وهذا القسم هو المشهور بين العلماء والمفسرين ، وقد ألف فيه جماعة من العلماء كتبا مستقلة ، وذكروا فيها الناسخ والمنسوخ. منهم العالم الشهير أبو جعفر النحاس ، والحافظ المظفر الفارسي ، وخالفهم في ذلك بعض المحققين ، فأنكروا وجود المنسوخ في القرآن. وقد اتفق الجميع على إمكان ذلك ، وعلى وجود آيات في القرآن ناسخة لأحكام ثابتة في الشرائع السابقة ، ولأحكام ثابتة في صدر الإسلام.

٢٨٤

ولتوضيح ما هو الصحيح في هذا المقام نقول : إن نسخ الحكم الثابت في القرآن يمكن أن يكون على أقسام ثلاثة :

١ ـ إن الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بالسنة المتواترة ، أو بالإجماع القطعي الكاشف عن صدور النسخ عن المعصوم عليه‌السلام وهذا القسم من النسخ لا إشكال فيه عقلا ونقلا ، فإن ثبت في مورد فهو المتّبع ، وإلا فلا يلتزم بالنسخ ، وقد عرفت أن النسخ لا يثبت بخبر الواحد.

٢ ـ إن الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بآية أخرى منه ناظرة إلى الحكم المنسوخ ، ومبينة لرفعه ، وهذا القسم أيضا لا إشكال فيه ، وقد مثلوا لذلك بآية النجوى «وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى».

٣ ـ إن الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بآية أخرى غير ناظرة إلى الحكم السابق ، ولا مبينة لرفعه ، وإنما يلتزم بالنسخ لمجرد التنافي بينهما فيلتزم بأن الآية المتأخرة ناسخة لحكم الآية المتقدمة.

والتحقيق : أن هذا القسم من النسخ غير واقع في القرآن ، كيف وقد قال الله عزوجل :

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) «٤ : ٨٢».

ولكنّ كثيرا من المفسرين وغيرهم لم يتأملوا حق التأمل في معاني الآيات الكريمة ، فتوهموا وقوع التنافي بين كثير من الآيات ، والتزموا لأجله بأن الآية المتأخرة ناسخة لحكم الآية المتقدمة ، وحتى أن جملة منهم جعلوا من التنافي ما إذا

٢٨٥

كانت إحدى الآيتين قرينة عرفية على بيان المراد من الآية الأخرى ، كالخاص بالنسبة إلى العام ، وكالمقيد بالإضافة إلى المطلق ، والتزموا بالنسخ في هذه الموارد وما يشبهها ، ومنشأ هذا قلة التدبر ، أو التسامح في إطلاق لفظ النسخ بمناسبة معناه اللغوي ، واستعماله في ذلك وإن كان شائعا قبل تحقق المعنى المصطلح عليه ، ولكن إطلاقه ـ بعد ذلك ـ مبني على التسامح لا محالة.

مناقشة الآيات المدعى نسخها :

وعلى كل فلا بد لنا من الكلام في الآيات التي ادعي النسخ فيها. ونذكر منها ما كان في معرفة وقوع النسخ فيه وعدم وقوعه غموض في الجملة. أما ما كان عدم النسخ فيه ظاهرا ـ بعد ما قدّمناه ـ فلا نتعرض له في المقام «وسنتعرض لذلك عند تفسيرنا الآيات إن شاء الله تعالى».

وليكن كلامنا في الآيات على حسب ترتيبها في القرآن الكريم :

١ ـ (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) «٢ : ١٠٩».

فعن ابن عباس وقتادة والسدي ، أنها منسوخة بآية السيف. واختاره أبو جعفر النحاس (١). وآية السيف هو قوله تعالى :

(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ

__________________

(١) راجع «الناسخ والمنسوخ» ص ٢٦ ، طبع المكتبة العلامية بمصر.

٢٨٦

وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) «٩ : ٢٩».

والالتزام بالنسخ ـ هنا ـ يتوقف على الالتزام بأمرين فاسدين :

الأول : أن يكون ارتفاع الحكم الموقت بانتهاء وقته نسخا ، وهذا واضح الفساد ، فإن النسخ إنما يكون في الحكم الذي لم يصرّح فيه لا بالتوقيت ولا بالتأييد. فإن الحكم إذا كان موقتا ـ وإن كان توقيته على سبيل الإجمال ـ كان الدليل الموضح لوقته ، والمبين لانتهائه من القرائن الموضحة للمراد عرفا ، وليس هذا من النسخ في شيء. فإن النسخ هو رفع الحكم الثابت الظاهر بمقتضى الإطلاق في الدوام وعدم الاختصاص بزمان مخصوص.

وقد توهم الرازي أن من النسخ بيان الوقت في الحكم الموقت بدليل منفصل وهو قول بيّن الفساد ، وأما الحكم الذي صرح فيه بالتأييد ، فعدم وقوع النسخ فيه ظاهر.

الثاني : أن يكون أهل الكتاب أيضا ممن أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتالهم ، وذلك باطل ، فإن الآيات القرآنية الآمرة بالقتال إنما وردت في جهاد المشركين ودعوتهم إلى الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر. وأما أهل الكتاب فلا يجوز قتالهم إلا مع وجود سبب آخر من قتالهم للمسلمين ، لقوله تعالى :

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) «٢ : ١٩٠».

أو إلقائهم الفتنة بين المسلمين ، لقوله تعالى بعد ذلك :

(وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) «٢ : ١٩١».

٢٨٧

أو امتناعهم عن إعطاء الجزية للآية المتقدمة ، وأما مع عدم وجود سبب آخر فلا يجوز قتالهم لمجرد الكفر ، كما هو صريح الآية الكريمة.

وحاصل ذلك : أن الأمر في الآية المباركة بالعفو والصفح عن الكتابيين ، لأنهم يودّون أن يردّوا المسلمين كفارا ـ وهذا لازم عادي لكفرهم ـ لا ينافيه الأمر بقتالهم عند وجود سبب آخر يقتضيه ، على أن متوهم النسخ في الآية الكريمة قد حمل لفظ الأمر من قوله تعالى :

(حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) «٢ : ١٠٩».

على الطلب ، فتوهم أن الله أمر بالعفو عن الكفار إلى أن يأمر المسلمين بقتالهم فحمله على النسخ.

وقد اتضح للقارئ أن هذا ـ على فرض صحته ـ لا يستلزم النسخ ولكن هذا التوهم ساقط ، فإن المراد بالأمر هنا الأمر التكويني وقضاء الله تعالى في خلقه ، ويدل على ذلك تعلق الإتيان به ، وقوله تعالى بعد ذلك :

(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) «٢ : ١٠٩».

وحاصل معنى الآية الأمر بالعفو والصفح عن الكتابيين بودّهم هذا ، حتى يفعل الله ما يشاء في خلقه من عز الإسلام ، وتقوية شوكته ، ودخول كثير من الكفار في الإسلام ، وإهلاك كثير من غيرهم ، وعذابهم في الآخرة ، وغير ذلك مما يأتي الله به من قضائه وقدره.

٢ ـ (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) «٢ : ١١٥».

٢٨٨

فقد نسب إلى جماعة منهم ابن عباس ، وأبو العالية ، والحسن ، وعطاء ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدى ، وزيد بن أسلم أن الآية منسوخة (١) واختلف في ناسخها فذكر ابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى :

(وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) «٢ : ١٥٠».

وذهب قتادة إلى أن الناسخ قوله تعالى :

(فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) «٢ : ١٥٠».

كذلك ذكر القرطبي (٢) ، وذكروا في وجه النسخ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجميع المسلمين كانوا مخيرين في الصلاة إلى أية جهة شاءوا وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد اختار من الجهات جهة بيت المقدس ، فنسخ ذلك بالأمر بالتوجه إلى خصوص بيت الله الحرام.

ولا يخفى ما في هذا القول من الوهن والسقوط ، فإن قوله تعالى :

(وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) «٢ : ١٤٣».

صريح في أن توجهه إلى بيت المقدس كان بأمر من الله تعالى لمصلحة كانت تقتضي ذلك ، ولم يكن لاختيار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك دخل أصلا.

والصحيح أن يقال في الآية الكريمة : إنها دالة على عدم اختصاص جهة خاصة بالله تعالى ، فإنه لا يحيط به مكان ، فأينما توجه الإنسان في صلاته ودعائه وجميع عباداته فقد توجه إلى الله تعالى. ومن هنا استدل بها أهل البيت عليهم‌السلام على الرخصة

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ١٥٧ ، ١٥٨.

(٢) تفسير القرطبي : ٢ / ٧٤.

٢٨٩

للمسافر أن يتوجه في نافلته إلى أية جهة شاء ، وعلى صحة صلاة الفريضة فيما إذا وقعت بين المشرق والمغرب خطأ ، وعلى صحة صلاة المتحير إذا لم يعلم أين وجه القبلة. وعلى صحة سجود التلاوة إلى غير القبلة ، وقد تلاها سعيد بن جبير «رحمه‌الله» لما أمر الحجاج بذبحه إلى الأرض (١) فهذه الآية مطلقة ، وقد قيدت في الصلاة الفريضة بلزوم التوجه فيها إلى بيت المقدس تارة ، وإلى الكعبة تارة أخرى ، وفي النافلة أيضا في غير حال المشي على قول. وأما ما في بعض الروايات من أنها نزلت في النافلة فليس المراد أنها مختصة بذلك «وقد تقدّم أن الآيات لا تختص بموارد نزولها».

وجملة القول : ان دعوى النسخ في الآية الكريمة يتوقف ثبوتها على أمرين :

الأول : أن تكون واردة في خصوص صلاة الفريضة ، وهذا معلوم بطلانه ، وقد وردت روايات من طريق أهل السنة في أنها نزلت في الدعاء وفي النافلة للمسافر ، وفي صلاة المتحير ، وفي من صلّى إلى غير القبلة خطأ (٢) وقد مر عليك ـ آنفا ـ استشهاد أهل البيت عليهم‌السلام بالآية المباركة في عدة موارد.

الثاني : أن يكون نزولها قبل نزول الآية الآمرة بالتوجه الى الكعبة وهذا أيضا غير ثابت ، وعلى ذلك فدعوى النسخ في الآية باطلة جزما. وفي بعض الروايات المأثورة عن أهل البيت عليهم‌السلام التصريح بأن الآية المباركة ليست منسوخة. نعم قد يراد من النسخ معنى عاما شاملا للتقييد ، فإذا أريد به ذلك في المقام فلا مانع منه ، ولا يبعد أن يكون هذا هو مراد ابن عباس من النسخ فيها ، وقد أشرنا اليه فيما تقدم.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢ / ٧٥.

(٢) تفسير الطبري : ١ / ٤٠٠ ـ ٤٠٢.

٢٩٠

٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) «٢ : ١٧٨».

فقد ادعي انها منسوخة بقوله تعالى :

(وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِ) «٥ : ٤٥».

ومن أجل ذلك ذهب الجمهور من أهل السنة إلى أن الرجل يقتل بالمرأة من غير أن يردّ إلى ورثته شيء من الدية (١) ، وخالف في ذلك الحسن وعطاء ، فذهبا إلى أن الرجل لا يقتل بالمرأة. وقال الليث : إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة (٢) وذهبت الامامية إلى أن وليّ دم المرأة مخير بين المطالبة بديتها ، ومطالبة الرجل القاتل بالقصاص ، بشرط أداء نصف دية الرجل.

والمشهور بين أهل السنة : أن الحر لا يقتل بالعبد ، وعليه إجماع الإمامية ، وخالفهم في ذلك أبو حنيفة ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، وداود ، فقالوا : إن الحر يقتل بعبد غيره (٣) ، وذهب شواذ منهم إلى أن الحر يقتل بالعبد وإن كان عبد نفسه (٤).

والحق : أن الآية الأولى محكمة ولم يرد عليها ناسخ ، والوجه في ذلك : أن الآية الثانية مطلقة من حيث العبد ، والحر ، والذكر ، والأنثى فلا صراحة لها في حكم العبد ، وحكم الأنثى. وعلى كل فإن لم تكن الآية في مقام البيان من حيث خصوصية

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢ / ٢٢٩.

(٢) تفسير ابن كثير : ١ / ٢١٠.

(٣) نفس المصدر ص ٢٠٩. وقال ابن كثير : قال البخاري وعلي بن المديني ، وإبراهيم النخعي ، والثوري في رواية عنه : ويقتل السيد بعبده.

(٤) أحكام القرآن للجصاص : ١ / ١٣٧.

٢٩١

القاتل والمقتول ، بل كانت في مقام بيان المساواة في مقدار الاعتداء فقط ، على ما هو مفاد قوله تعالى :

(فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) «٢ : ١٩٤».

كانت مهملة ولا ظهور لها في العموم لتكون ناسخة للآية الأولى ، وإن كانت في مقام البيان من هذه الناحية ـ وكانت ظاهرة في الإطلاق وظاهرة في ثبوت الحكم في هذه الأمة أيضا ، ولم تكن للأخبار عن ثبوت ذلك في التوراة فقط ـ كانت الآية الأولى مقيدة لإطلاقها ، وقرينة على بيان المراد منها ، فإن المطلق لا يصلح لأن يكون ناسخا للمقيد وإن كان متأخرا عنه ، بل يكون المقيد قرينة على التصرف في ظهور المطلق على ما هو الحال في المقيد المتأخر ، وعلى ذلك فلا موجب للقول بجواز قتل الحر بالعبد.

وأما الرواية التي رووها عن علي عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : «المسلمون تتكافأ دماؤهم» (١) فهي ـ على تقدير تسليمها ـ مخصصة بالآية ، فإن دلالة الرواية على جواز قتل الحر بالعبد إنما هي بالعموم.

ومن البين أن حجية العام موقوفة على عدم ورود المخصص عليه المتقدم منه والمتأخر. وأما ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطريق الحسن ، عن سمرة فهو ضعيف السند ، وغير قابل للاعتماد عليه. قال أبو بكر بن العربي : «ولقد بلغت الجهالة بأقوام أن قالوا : يقتل الحر بعبد نفسه ورووا في ذلك حديثا عن الحسن ، عن سمرة قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قتل عبده قتلناه (٢) ، وهذا حديث ضعيف (٣)».

__________________

(١) سنن أبي داود : كتاب الجهاد ، رقم الحديث : ٢٣٧١. وسنن ابن ماجة : كتاب الديات ، رقم الحديث : ٢٦٧٣. عن ابن عباس.

(٢) سنن أبي داود : كتاب الديات ، رقم الحديث : ٣٩١٤ ، وسنن الترمذي : كتاب الديات ، رقم الحديث : ١٣٣٤. وسنن النسائي : كتاب القسامة ، رقم الحديث : ٤٦٥٥.

(٣) أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي : ١ / ٢٧.

٢٩٢

أقول : هذا ، مضافا إلى أنها معارضة برواية عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن رجلا قتل عبده متعمدا ، فجلده النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونفاه سنة ، ومحا سهمه من المسلمين ، ولم يقده به (١). وبما رواه ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبما رواه جابر ، عن عامر ، عن علي عليه‌السلام : «لا يقتل حر بعبد» (٢) ، وبما رواه عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن أبا بكر وعمر كانا لا يقتلان الحر بقتل العبد (٣).

وقد عرفت أن روايات أهل البيت عليهم‌السلام مجمعة على أن الحر لا يقتل بالعبد ، وأهل البيت هم المرجع في الدين بعد جدهم الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد هذا فلا يبقي مجال لدعوى نسخ الآية الكريمة من جهة قتل الحر بالعبد.

وأما بالإضافة إلى قتل الرجل بالمرأة فليست الآية منسوخة أيضا ، بناء على مذهب الإمامية والحسن وعطاء ، نعم تكون الآية منسوخة على مسلك الجمهور ، وتوضيح ذلك أن ظاهر قوله تعالى :

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) «٢ : ١٧٨».

إن القصاص فرض واجب ، ومن الواضح أنه إنما يكون فرضا عند المطالبة بالقصاص من ولي الدم ، وذلك أمر معلوم من الخارج ، ويدل عليه من الآية قوله تعالى فيها :

(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) «٢ : ١٧٨».

__________________

(١) سنن البيهقي : ٨ / ٣٦.

(٢) نفس المصدر : ص ٣٤ ، ٣٥.

(٣) نفس المصدر : ص ٣٤.

٢٩٣

وعلى ذلك فالمستفاد من الآية الكريمة أن القاتل يجب عليه أن يخضع لحكم القصاص إذا طالبه ولي الدم بذلك ، ومن الواضح أن هذا الحكم إنما يكون في قتل الرجل رجلا ، أو قتل المرأة رجلا أو امرأة ، فإن الرجل إذ قتل امرأة لا يجب عليه الانقياد للقصاص بمجرد المطالبة ، وله الامتناع حتى يأخذ نصف ديته ، ولا يأخذه الحاكم بالقصاص قبل ذلك.

وبتعبير آخر : تدل الآية المباركة على أن بدل الأنثى هي الأنثى ، فلا يكون الرجل بدلا عنها ، وعليه فلا نسخ في مدلول الآية ، نعم ثبت من دليل خارجي أن الرجل القاتل يجب عليه أن ينقاد للقصاص حين يدفع ولي المرأة المقتولة نصف ديته ، فيكون الرجل بدلا عن مجموع الأنثى ونصف الدية ، وهو حكم آخر لا يمس بالحكم الأول المستفاد من الآية الكريمة ، وأين هذا من النسخ الذي يدعيه القائلون به.

وجملة القول : أن ثبوت النسخ في الآية يتوقف على إثبات وجوب الانقياد على القاتل بمجرد مطالبة ولي المرأة بالقصاص ، كما عليه الجمهور. وأنى لهم إثباته؟ فإنهم قد يتمسكون لإثباته بإطلاق الآية الثانية على ما صرحوا به في كلماتهم ، وبعموم قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المسلمون تتكافأ دماؤهم» وقد عرفت ما فيه.

وقد يتمسكون لإثبات ذلك بما رووه عن قتادة عن سعيد بن المسيب : أن عمر قتل نفرا من أهل صنعاء بامرأة وقادهم بها.

وعن ليث ، عن ، الحكم ، عن علي وعبد الله قالا : «إذا قتل الرجل المرأة متعمدا فهو بها قود».

وعن الزهري ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن أبيه ، عن جده أن

٢٩٤

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن الرجل يقتل بالمرأة» (١).

وهو باطل من وجوه :

١ ـ إن هذه الروايات ـ لو فرضت صحتها ـ مخالفة للكتاب ، وما كان كذلك لا يكون حجة. وقد عرفت ـ فيما تقدم ـ قيام الإجماع على أن النسخ لا يثبت بخبر الواحد.

٢ ـ إنها معارضة بالروايات المروية عن أهل البيت عليهم‌السلام وبما رواه عطاء والشعبي ، والحسن البصري ، عن علي عليه‌السلام أنه قال في قتل الرجل امرأة : «إن أولياء المرأة إن شاءوا قتلوا الرجل وأدّوا نصف الدية ، وإن شاءوا أخذوا نصف دية الرجل» (٢).

٣ ـ إن الرواية الاولى منها من المراسيل ، فإن ابن المسيب ولد بعد مضي سنتين من خلافة عمر (٣) فتبعد روايته عن عمر بلا واسطة ، وإذا سلمنا صحتها فهي تشتمل على نقل فعل عمر ، ولا حجية لفعله في نفسه ، وأن الرواية الثانية ضعيفة مرسلة ، وأما الرواية الثالثة فهي على فرض صحتها مطلقة ، وقابلة لأن تقيد بأداء نصف الدية.

ونتيجة ما تقدم :

أن الآية الكريمة لم يثبت نسخها بشيء ، وأن دعوى النسخ إنما هي بملاحظة فتوى جماعة من الفقهاء ، وكيف يمكن أن ترفع اليد عن قول الله تعالى بملاحظة قول زيد أو عمرو؟ ومما يبعث على العجب أن جماعة يفتون بخلاف القرآن مع إجماعهم

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ١ / ١٣٩.

(٢) نفس المصدر : ١ / ١٢٠.

(٣) تهذيب التهذيب : ٤ / ٨٦.

٢٩٥

على أن القرآن لا ينسخ بخبر الواحد. وقد اتضح مما بيّناه أن قوله تعالى :

(وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) «١٧ : ٣٣».

وقوله تعالى :

(وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) «٢ : ١٧٩».

لا يصلحان أن يكونا ناسخين للآية المتقدمة التي فرّقت بين الرجل والأنثى ، وبين الحر والعبد. ـ وسيأتي استيفاء البحث في هذا الموضوع عند تفسيرنا الآية الكريمة إن شاء الله تعالى ـ.

٤ ـ (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) «٢ : ١٨٠».

فقد ادّعى جمع أنها منسوخة بآية المواريث ، وادّعى آخرون أنها منسوخة بما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : «لا وصية لوارث» (١).

والحق : أن الآية ليست منسوخة. أما القول بنسخها بآية المواريث ، فيردّه أن الآيات قد دلّت على أن الميراث مترتب على عدم الوصية ، وعدم الدين. ومع ذلك فكيف يعقل كونها ناسخة لحكم الوصية؟ وقد قيل في وجه النسخ للآية : إن الميراث في أول الإسلام لم يكن ثابتا على الكيفية التي جعلت في الشريعة بعد ذلك ، وإنما كان الإرث يدفع جميعه للولد ، وما يعطى الولدان من المال فهو بطريق الوصية فنسخ ذلك بآية المواريث.

__________________

(١) الناسخ والمنسوخ للنحاس : ص ٢٠.

٢٩٦

وهذا القول مدفوع :

أولا : بأن هذا غير ثابت ، وإن كان مرويا في صحيح البخاري ، لأن النسخ لا يثبت بخبر الواحد إجماعا.

ثانيا : إنه موقوف على تأخر آية المواريث عن هذه الآية ، وأنّى للقائل بالنسخ إثبات ذلك؟ أما دعوى القطع بذلك من بعض الحنفية فعهدتها على مدّعيها.

ثالثا : إن هذا لا يتم في الأقربين ، فإنه لا إرث لهم مع الولد ، فكيف يعقل أن تكون آية المواريث ناسخة لحكم الوصية للأقربين؟ وعلى كلّ فإن آية المواريث من حيث ترتبها على عدم الوصية تكون مؤكدة لتشريع الوصية ونفوذها ، فلا معنى لكونها ناسخة لها.

وأما دعوى نسخ الآية بالرواية المتقدمة فهي أيضا باطلة من وجوه :

١ ـ ان الرواية لم تثبت صحتها ، والبخاري ومسلم لم يرضياها. وقد تكلم في تفسير المنار على سندهما (١).

٢ ـ إنها معارضة بالروايات المستفيضة عن أهل البيت عليهم‌السلام الدالة على جواز الوصية للوارث ، ففي صحيحة محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن الوصية للوارث فقال : تجوز. قال : ثم تلا هذه الآية :

(إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) «٢ : ١٨٠».

وبمضمونها روايات اخرى (٢).

٣ ـ إن الرواية لو صحّت ، وسلمت عن المعارضة بشيء فهي لا تصلح لنسخ

__________________

(١) تفسير المنار : ٢ / ١٣٨.

(٢) الكافي : ٧ / ١٠ ، باب الوصية للوارث ، رقم الحديث : ٥.

٢٩٧

الآية ، لأنها لا تنافيها في المدلول. غاية الأمر أنها تكون مقيدة لإطلاق الآية فتختص الوصية بالوالدين إذا لم يستحقا الإرث لمانع ، وبمن لا يرث من الأقربين وإذا فرض وجود المنافاة بينها وبين الآية فقد تقدم إن خبر الواحد لا يصلح أن يكون ناسخا للقرآن بإجماع المسلمين ، فالآية محكمة وليست منسوخة.

ثم ان الكتابة عبارة عن القضاء بشيء ، ومنه قوله تعالى :

(كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) «٦ : ١٢».

والعقل يحكم بوجوب امتثال حكم المولى وقضائه ما لم تثبت فيه رخصة من قبل المولى. ومعنى هذا إن الوصية للوالدين والأقربين واجبه بمقتضى الآية ، ولكن السيرة المقطوع بثبوتها بين المسلمين ، والروايات المأثورة عن الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام والإجماع المتحقق من الفقهاء في كل عصر قد أثبت لنا الرخصة فيكون الثابت من الآية بعد هذه الرخصة هو استحباب الوصية المذكورة ، بل تأكد استحبابها على الإنسان ، ويكون المراد من الكتابة فيها هو : القضاء بمعنى التشريع لا بمعنى الإلزام.

٥ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) «٢ : ١٨٣».

فقد ادعي أنها منسوخة بقوله تعالى :

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) «٢ : ١٨٧».

وذكروا في وجه النسخ : أن الصوم الواجب على الأمة في بداية الأمر كان مماثلا

٢٩٨

للصوم الواجب على الأمة السالفة ، وأن من أحكامه أن الرجل إذا نام قبل أن يتعشى في شهر رمضان لم يجز له أن يأكل بعد نومه في ليلته تلك ، وإذا نام أحدهم بعد المساء حرم عليه الطعام والشراب والنساء ، فنسخ ذلك بقوله تعالى :

(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ) «٢ : ١٨٧».

وبقوله تعالى :

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) «٢ : ١٨٧».

وقد اتفق علماء أهل السنّة على أن آية التحليل ناسخة (١) ثم اختلفوا فقال بعضهم : هي ناسخة للآية السابقة ، فإنهم استفادوا منها أن الصوم الواجب في هذه الشريعة مماثل للصوم الواجب على الأمم السالفة ، وقال بذلك أبو العالية ، وعطاء ، ونسبه أبو جعفر النحاس إلى السدي أيضا (٢) وقال بعضهم : إن آية التحليل ناسخة لفعلهم الذي كانوا يفعلونه.

ولا يخفى أن النسخ للآية الأولى موقوف على إثبات تقدمها على الآية الثانية في النزول ، ولا يستطيع القائل بالنسخ إثباته ، وعلى أن يكون المراد من التشبيه في الآية تشبيه صيام هذه الأمة ، بصيام الأمم السالفة ، وهو خلاف المفهوم العرفي ، بل وخلاف صريح الآية ، فإن المراد بها تشبيه الكتابة بالكتابة فلا دلالة فيها على أن الصومين متماثلان لتصح دعوى النسخ ، وإذا ثبت ذلك من الخارج كان نسخا لحكم ثابت بغير القرآن ، وهو خارج عن دائرة البحث.

__________________

(١) الناسخ والمنسوخ للنحاس : ص ٢٤.

(٢) نفس المصدر : ص ٢١.

٢٩٩

٦ ـ (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) «٢ : ١٨٤».

فادعي أنها منسوخة بقوله تعالى :

(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) «٢ : ١٨٥».

ودعوى النسخ في هذه الآية الكريمة واضحة الثبوت لو كان المراد من الطوق (الطاقة) السعة والقدرة ، فإن مفاد الآية على هذا : أن من يستطع الصوم فله أن لا يصوم ويعطي الفدية : طعام مسكين بدلا عنه ، فتكون منسوخة.

ولكن من البين أن المراد من الطاقة : القدرة مع المشقة العظيمة. وحاصل المراد من الآية : أن الله تعالى بعد أن أوجب الصوم وجوبا تعيينيا في الآية السابقة ، وأسقطه عن المسافر والمريض ، وأوجب عليهما عدة من أيام أخر بدلا عنه ، أراد أن يبين حكما آخر لصنف آخر من الناس وهم الذين يجدون في الصوم مشقة عظيمة وجهدا بالغا ، كالشيخ الهمّ ، وذي العطاش ، والمريض الذي استمر مرضه إلى شهر رمضان الآخر ، فأسقط عنهم وجوب الصوم أداء وقضاء ، وأوجب عليهم الفدية ، فالآية المباركة حيث دلت على تعيين وجوب الصوم على المؤمنين في الأيام المعدودات ، وعلى تعين وجوبه قضاء في أيام أخر على المريض والمسافر ، كانت ظاهرة في أن وجوب الفدية تعيينا انما هو على غير هذين الصنفين اللذين تعين عليهما الصوم ، ومع هذا فكيف يدعى أن المستفاد من الآية هو الوجوب التخييري بين الصوم والفدية لمن تمكن من الصوم ، وإن أخبار أهل البيت عليهم‌السلام مستفيضة بما ذكرناه في تفسير الآية (١).

__________________

(١) راجع التهذيب : ٤ / ٢٣٦ ، باب العاجز عن الصيام.

٣٠٠