البيان في تفسير القرآن

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي

البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

الأمر الى أن يكفّر بعض المسلمين بعضا ، ويتقرب الى الله بقتله ، وهتك حرمته ، وإباحة ماله ، وأي دليل على إهمال الأمة للقرآن أكبر من هذا التشتت العظيم؟!! وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام في صفة القرآن :

«ثم أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه ، وسراجا لا يخبو توقده ، وبحرا لا يدرك قعره ، ومنهاجا لا يضل نهجه ، وشعاعا لا يظلم ضوؤه ، وفرقانا لا يخمد برهانه ، وتبيانا لا تهدم أركانه ، وشفاء لا تخشى أسقامه ، وعزا لا تهزم أنصاره ، وحقا لا تخذل أعوانه ، فهو معدن الإيمان وبحبوحته ، وينابيع العلم وبحوره ، رياض العدل وغدرانه ، وأثافيّ الإسلام وبنيانه ، وأدوية الحق وغيطانه ، وبحر لا ينزفه المنتزفون ، وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغيضها الواردون ، ومنازل لا يضل نهجها المسافرون ، وأعلام لا يعمى عنها السائرون ، وآكام لا يجوز عنها القاصدون ، جعله الله ريّا لعطش العلماء ، وربيعا لقلوب الفقهاء ، ومحاجّ لطرق الصلحاء ، ودواء ليس بعده داء ، ونورا ليس معه ظلمة ، وحبلا وثيقا عروته ، ومعقلا منيعا ذروته ، وعزا لمن تولاه ، وسلما لمن دخله ، وهدى لمن ائتم به ، وعذرا لمن انتحله ، وبرهانا لمن تكلم به ، وشاهدا لمن خاصم به ، وفلجا لمن حاج به ، وحاملا لمن حمله ، ومطية لمن أعمله ، وآية لمن توسّم ، وجنّة لمن استلأم ، وعلما لمن وعى ، وحديثا لمن روى وحكما لمن قضى» (١)

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة : ١٩٨. راجع بحار الأنوار : ٩٢ / ٢١ ، الباب ١ ، الحديث : ٢١.

٢١

وقد استعرضت هذه الخطبة الشريفة كثيرا من الأمور المهمة التي يجب الوقوف عليها ، والتدبر في معانيها. فقوله :

«لا يخبو توقده» (١) يريد بقوله هذا وبكثير من جمل هذه الخطبة أن القرآن لا تنتهي معانيه ، وأنه غض جديد إلى يوم القيامة. فقد تنزل الآية في مورد أو في شخص أو في قوم ، ولكنها لا تختص بذلك المورد أو ذلك الشخص أو أولئك القوم ، فهي عامة المعنى.

وقد روى العياشي بإسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) «١٢ : ٨». أنه قال :

«عليّ : الهادي ، ومنا الهادي ، فقلت : فأنت جعلت فداك الهادي. قال : صدقت إن القرآن حيّ لا يموت ، والآية حيّة لا تموت ، فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام وماتوا ماتت الآية لمات القرآن ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين». (٢)

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام :

«إن القرآن حيّ لم يمت ، وإنه يجري كما يجري الليل والنهار ، وكما تجري الشمس والقمر ، ويجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا». (٣)

وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام أنه قال لعمر بن يزيد لما سأله عن قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) «١٣ : ٢١» :

__________________

(١) خبت النار : خمد لهبها.

(٢) بحار الأنوار : ٣٥ / ٤٠٣ ، الحديث ٢١ باختلاف يسير.

(٣) نفس المصدر : ذيل الحديث المتقدم.

٢٢

هذه نزلت في رحم آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد تكون في قرابتك ، فلا تكوننّ ممن يقول للشيء : إنه في شيء واحد (١).

وفي تفسير الفرات :

«ولو أن الآية إذا نزلت في قوم ثم مات أولئك ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء ، ولكن القرآن يجري أوله على آخره ما دامت السماوات والأرض ، ولكل قوم آية يتلوها هم منها من خير أو شر».

إلى غير هذه من الروايات الواردة في المقام. (٢)

«ومنهاجا لا يضلّ نهجه» يريد به : أن القرآن طريق لا يضلّ سالكه ، فقد أنزله الله تعالى هداية لخلقه ، فهو حافظ لمن اتبعه عن الضلال.

«وتبيانا لا تهدم أركانه» المحتمل في المراد من هذه الجملة أحد وجهين :

الأول : إن أركان القرآن في معارفه وتعاليمه ، وجميع ما فيه من الحقائق محكمة لا تقبل التضعضع والانهدام.

الثاني : إن القرآن بألفاظه لا يتسرّب اليه الخلل والنقصان ، فيكون فيها إيماء إلى حفظ القرآن عن التحريف.

«ورياض العدل وغدرانه» (٣) معنى هذه الجملة : أن العدل بجميع نواحيه من

__________________

(١) الكافي : ٢ / ١٥٦ ، الحديث : ٢٨.

(٢) مرآة الأنوار : ص ٣ ، ٤.

(٣) الرياض : جمع روضة ، وهي الأرض الخضرة بحسن النبات. والغدران : جمع غدير ، وهو الماء الذي تغدره السيول. والعدل الاستقامة.

٢٣

الاستقامة في العقيدة والعمل والأخلاق قد اجتمع في الكتاب العزيز ، فهو مجمع العدالة وملتقى متفرقاتها.

«وأثافيّ الإسلام» (١) ومعنى ذلك : أن استقامة الإسلام وثباته بالقرآن كما أن استقامة القدر على وضعه الخاص تكون بسبب الأثافيّ.

«وأودية الحق وغيطانه» يريد بذلك : أن القرآن منابت الحق ، وفي الجملة تشبيه القرآن بالأرض الواسعة المطمئنة ، وتشبيه الحق بالنبات النابت فيها. وفي ذلك دلالة على أن المتمسك بغير القرآن لا يمكن أن يصيب الحق ، لأن القرآن هو منبت الحق ، ولا حق في غيره.

«وبحر لا ينزفه المنتزفون» (٢) ومعنى هذه الجملة والجمل التي بعدها : أن المتصدّين لفهم معاني القرآن لا يصلون إلى منتهاه ، لأنه غير متناهي المعاني ، بل وفيها دلالة على أن معاني القرآن لا تنقص أصلا ، كما لا تنضب العيون الجارية بالسقاية منها.

«وآكام لا يجوز عنها القاصدون» (٣) والمراد أن القاصدين لا يصلون إلى أعالي الكتاب ليتجاوزوها. وفي هذا القول إشارة إلى أن للقرآن بواطن لا تصل إليها أفهام اولي الأفهام. وسنبين هذا في ما سيأتي إن شاء الله تعالى. وقد يكون المراد أن القاصدين إذا وصلوا إلى أعاليه وقفوا عندها ولم يطلبوا غيرها ، لأنهم يجدون مقاصدهم عندها على الوجه الأتم.

__________________

(١) الأثافي : كأماني جمع اثفية ـ بالضم والكسر ـ وهي الحجارة التي يوضع عليها القدر.

(٢) نزف ماء البئر : نزح كله.

(٣) والآكام : جمع أكم ، كقصب ، وهو جمع أكمة ، كقصبة ، وهي التل.

٢٤

فضل قراءة القرآن :

القرآن هو الناموس الإلهي الذي تكفل للناس بإصلاح الدين والدنيا ، وضمن لهم سعادة الآخرة والأولى ، فكل آية من آياته منبع فيّاض بالهداية ومعدن من معادن الإرشاد والرحمة ، فالذي تروقه السعادة الخالدة والنجاح في مسالك الدين والدنيا ، عليه أن يتعاهد كتاب الله العزيز آناء الليل وأطراف النهار ، ويجعل آياته الكريمة قيد ذاكرته ، ومزاج تفكيره ، ليسير على ضوء الذكر الحكيم إلى نجاح غير منصرم وتجارة لن تبور.

وما أكثر الأحاديث الواردة عن أئمة الهدى عليهم‌السلام وعن جدهم الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضل تلاوة القرآن.

منها : ما عن الإمام الباقر عليه‌السلام. قال :

«قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قرأ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين ، ومن قرأ خمسين آية كتب من الذاكرين ، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين ، ومن قرأ مائتي آية كتب من الخاشعين ، ومن قرأ ثلاثمائة آية كتب من الفائزين ، ومن قرأ خمسمائة آية كتب من المجتهدين ، ومن قرأ ألف آية كتب له قنطار من تبر ...» (١)

ومنها : ما عن الإمام الصادق عليه‌السلام. قال :

«القرآن عهد الله إلى خلقه ، فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده ، وأن يقرأ منه في كل يوم خمسين آية». (٢)

__________________

(١) الكافي : ٢ / ٦١٢ ، الحديث : ٥.

(٢) الكافي : ٢ / ٦٠٩ ، الحديث : ١.

٢٥

وقال عليه‌السلام :

«ما يمنع التاجر منكم المشغول في سوقه إذا رجع إلى منزله أن لا ينام حتى يقرأ سورة من القرآن ، فيكتب له مكان كل آية يقرأها عشر حسنات ، ويمحى عنه عشر سيئات؟». (١)

وقال عليه‌السلام :

«عليكم بتلاوة القرآن ، فإن درجات الجنة على عدد آيات القرآن ، فإذا كان يوم القيامة يقال لقارئ القرآن : اقرأ وارق ، فكلما قرأ آية رقى درجة». (٢)

وقد جمعت كتب الأصحاب من جوامع الحديث كثيرا من هذه الآثار الشريفة من أرادها فليطلبها. وفي التاسع عشر من كتاب بحار الأنوار (٣) الشيء الكثير من ذلك.

وقد دلّت جملة من هذه الآثار على فضل القراءة في المصحف على القراءة عن ظهر القلب. ومن هذه الأحاديث قول إسحاق بن عمار للصادق عليه‌السلام :

«جعلت فداك إني أحفظ القرآن عن ظهر قلبي فأقرأه عن ظهر قلبي أفضل أو أنظر في المصحف قال : فقال لي : لا. بل اقرأه وانظر في المصحف فهو أفضل. أما علمت أن النظر في المصحف عبادة»؟. (٤)

__________________

(١) الكافي : ٢ / ٦١١ ، الحديث ٢.

(٢) الكافي : ٢ / ٦٠٦ ، الحديث ١٠. راجع بحار الأنوار : ٨ / ١٨٦ ، الحديث ١٥٢.

(٣) من الطبعة القديمة والجزء : ٨٩ و ٩٢ من الطبعة الحديثة.

(٤) الكافي : ٢ / ٦١٣ ، الحديث : ٥ :

٢٦

وقال عليه‌السلام :

«من قرأ القرآن في المصحف متع ببصره ، وخفف عن والديه وإن كانا كافرين». (١)

وفي البحث على القراءة في نفس المصحف نكتة جليلة ينبغي الالتفات إليها ، وهو الإلماع إلى كلاءة القرآن عن الاندراس بتكثر نسخه ، فإنه لو اكتفى بالقراءة ، عن ظهر القلب لهجرت نسخ الكتاب ، وأدّى ذلك الى قلتها ، ولعله يؤدي أخيرا الى انمحاء آثارها.

على أن هناك آثارا جزيلة نصت عليها الأحاديث لا تحصل إلا بالقراءة في المصحف ، منها قوله : «متع ببصره» وهذه الكلمة من جوامع الكلم ، فيراد منها أن القراءة في المصحف سبب لحفظ البصر من العمى والرمد ، أو يراد منها أن القراءة في المصحف سبب لتمتع القارئ بمغازي القرآن الجليلة ونكاته الدقيقة ، لأن الإنسان عند النظر إلى ما يروقه من المرئيات تبتهج نفسه ، ويجد انتعاشا في بصره وبصيرته. وكذلك قارئ القرآن إذا سرح بصره في ألفاظه ، وأطلق فكره في معانيه وتعمق في معارفه الراقية وتعاليمه الثمينة يجد في نفسه لذة الوقوف عليها ، ومتعة الطموح إليها ، ويشاهد هشة من روحه وتطلعا من قلبه.

وقد أرشدتنا الأحاديث الشريفة الى فضل القراءة في البيوت. ومن أسرار ذلك إذاعة أمر الإسلام ، وانتشار قراءة القرآن ، فإن الرجل إذا قرأه في بيته قرأته المرأة ، وقرأه الطفل ، وذاع أمره وانتشر. أما إذا جعل لقراءة القرآن أماكن مخصوصة فإن القراءة لا تتهيأ لكل أحد ، وفي كل وقت ، وهذا من أعظم الأسباب في نشر الإسلام.

__________________

(١) اصول الكافي : ٢ / ٦١٣ ، كتاب فضل القرآن ، الحديث : ١.

٢٧

ولعل من أسراره أيضا إقامة الشعار الإلهي ، إذا ارتفعت الأصوات بالقراءة في البيوت بكرة وعشيا ، فيعظم أمر الإسلام في نفوس السامعين لما يعروهم من الدهشة عند ارتفاع أصوات القرّاء في مختلف نواحي البلد.

ومن آثار القراءة في البيوت ما ورد في الأحاديث :

«إن البيت الذي يقرأ فيه القرآن ويذكر الله تعالى فيه تكثر بركته ، وتحضره الملائكة ، وتهجره الشياطين ، ويضيء لأهل السماء كما يضيء الكوكب الدرّي لأهل الأرض ، وان البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن ، ولا يذكر الله تعالى فيه تقل بركته ، وتهجره الملائكة ، وتحضره الشياطين» (١).

نعم قد ورد في الأحاديث في فضل القرآن ، وفي الكرامات التي يختص الله بها قارئه ما يذهل العقول ويحير الألباب. وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف».

وقد ورد هذا الحديث من طرق العامة ، فقد نقله القرطبي (٢) عن الترمذي عن ابن مسعود وروى الكليني قريبا منه عن الصادق عليه‌السلام. وإن الناظر في جوامع كتب الحديث ومفرداتها يرى من أمثال هذا الحديث الشيء الكثير في فضل القرآن وقراءته ، وخواص سوره وآياته.

__________________

(١) اصول الكافي : ٢ / ٤٩٨ ، الحديث : ١. والحديث : ٣ ، كتاب فضل القرآن.

(٢) راجع تفسير القرطبي : ١ / ٧. والكافي : ٢ / ٦١٢ ، كتاب فضل القرآن ، الحديث : ٦.

٢٨

وهناك حثالة من كذبة الرواة ، توهموا نقصان ما ورد في ذلك ، فوضعوا من أنفسهم أحاديث ـ في فضل القرآن وسوره ـ لم ينزل بها وحي ولم ترد بها سنة وهؤلاء كأبي عصمة فرج بن أبي مريم المروزي ، ومحمد بن عكاشة الكرماني ، وأحمد بن عبد الله الجويباري.

وقد اعترف أبو عصمة المروزي بذلك ، فقد قيل له : من أين لك عن عكرمة ، عن ابن عباس في فضل سور القرآن سورة سورة؟ فقال :

«إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن ، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ، ومغازي محمد بن إسحاق ، فوضعت هذا الحديث حسبة».

وقال أبو عمرو عثمان بن الصلاح في شأن الحديث الذي يروى عن أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضل القرآن سورة سورة :

«إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن ، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ، ومغازي محمد بن إسحاق ، فوضعت هذا الحديث حسبة».

وقال أبو عمرو عثمان بن الصلاح في شأن الحديث الذي يروى عن أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضل القرآن سورة سورة :

«قد بحث باحث عن مخرجه حتى انتهى إلى من اعترف بأنه وجماعة وضعوه. وقد أخطأ الواحدي وجماعة من المفسرين حيث أودعوه في تفاسيرهم» (١).

انظر إلى هؤلاء المجترئين على الله كيف يكذبون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في

__________________

(١) نفس المصدر ج ١ ص ٧٨ ، ٧٩.

٢٩

الحديث؟ ثم يجعلون هذا الافتراء حسبة يتقرّبون به إلى الله :

(كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) «١٠ : ١٢».

التدبر في القرآن ومعرفة تفسيره :

ورد الحثّ الشديد في الكتاب العزيز ، وفي السنة الصحيحة على التدبر في معاني القرآن والتفكر في مقاصده وأهدافه. قال الله تعالى :

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) «٤٧ : ٢٤».

وفي هذه الآية الكريمة توبيخ عظيم على ترك التدبر في القرآن. وفي الحديث عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه». (١) وعن ابي عبد الرحمن السلمي قال :

«حدثنا من كان يقرئنا من الصحابة انهم كانوا يأخذون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشر آيات فلا يأخذون في العشر الاخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل». (٢)

وعن عثمان وابن مسعود وأبيّ :

«ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر اخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل فيعلمهم القرآن والعمل جميعا».

__________________

(١) بحار الأنوار : ٩٢ / ١٠٦ ، الباب : ٩ ، الحديث : ١.

(٢) تفسير القرطبي : ١ / ٦.

٣٠

وعن علي بن أبي طالب عليه‌السلام أنه ذكر جابر بن عبد الله ووصفه بالعلم ، فقال له رجل : جعلت فداك تصف جابرا بالعلم وأنت أنت؟ فقال : إنه كان يعرف تفسير قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) «٢٨ : ٨٥» (١)

والأحاديث في فضل التدبر في القرآن كثيرة. ففي الجزء التاسع عشر من بحار الأنوار (٢) طائفة كبيرة من هذه الأحاديث ، على أن ذلك لا يحتاج الى تتبع أخبار وآثار ، فإن القرآن هو الكتاب الذي أنزله الله نظاما يقتدي الناس به في دنياهم ، ويستضيئون بنوره في سلوكهم الى أخراهم. وهذه النتائج لا تحصل إلا بالتدبر فيه والتفكر في معانيه. وهذا أمر يحكم به العقل. وكل ما ورد من الأحاديث أو من الآيات في فضل التدبر فهي ترشد اليه.

ففي الكافي بإسناده عن الزهري. قال : سمعت علي بن الحسين عليهما‌السلام يقول :

«آيات القرآن خزائن فكلما فتحت خزينة ينبغي لك أن تنظر ما فيها» (٣).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١ / ٢٦.

(٢) راجع بحار الأنوار ٦ / ٩٢ ، من الطبعة الحديثة.

(٣) اصول الكافي : ٢ / ٦٠٩ ، الحديث : ٢ ،

٣١
٣٢

إعجاز القرآن

٣٣

ـ معنى الإعجاز.

ـ لا بد للنبي من إقامة المعجز.

ـ خير المعجزات ما شابه أرقى فنون العصر.

ـ القرآن معجزة إلهية.

ـ القرآن معجزة خالدة.

ـ القرآن والمعارف.

ـ القرآن والاستقامة في البيان.

ـ القرآن في نظامه وتشريعه.

ـ القرآن والإتقان في المعاني.

ـ القرآن والأخبار بالغيب.

ـ القرآن وأسراره الخليقة.

٣٤

قد ذكر للاعجاز في اللغة عدة معان : الفوت. وجدان العجز. إحداثه كالتعجيز. فيقال : أعجزه الأمر الفلاني أي فاته ، ويقال : أعجزت زيدا أي وجدته عاجزا ، أو جعلته عاجزا.

وهو في الاصطلاح أن يأتي المدعي لمنصب من المناصب الإلهية بما يخرق نواميس الطبيعة ويعجز عنه غيره شاهدا على صدق دعواه.

وإنما يكون المعجز شاهدا على صدق ذلك المدعي إذا أمكن أن يكون صادقا في تلك الدعوى. وأما إذا امتنع صدقه في دعواه بحكم العقل ، أو بحكم النقل الثابت عن نبي ، أو إمام معلوم العصمة ، فلا يكون ذلك شاهدا على الصدق ، ولا يسمى معجزا في الاصطلاح وإن عجز البشر عن أمثاله :

مثال الأول : ما إذا ادعى أحد أنه إله ، فإن هذه الدعوى يستحيل أن تكون صادقة بحكم العقل ، للبراهين الصحيحة الدالة على استحالة ذلك.

ومثال الثاني : ما إذا ادعى أحد النبوة بعد نبي الإسلام ، فإن هذه الدعوى كاذبة قطعا بحكم النقل المقطوع بثبوته الوارد عن نبي الإسلام ، وعن خلفائه المعصومين

٣٥

بأن نبوته خاتمة النبوات ، وإذا كانت الدعوى باطلة قطعا ، فما ذا يفيد الشاهد إذا أقامه المدعي؟ ولا يجب على الله جل شأنه أن يبطل ذلك بعد حكم العقل باستحالة دعواه ، أو شهادة النقل ببطلانها.

وقد يدعي أحد منصبا إلهيا ثم يأتي بشيء يعجز عنه غيره من البشر ويكون ذلك الشيء شاهدا على كذب ذلك المدعي ، كما يروى أن «مسيلمة» تفل في بئر قليلة الماء ليكثر ماؤها فغار جميع ما فيها من الماء ، وأنه أمرّ يده على رءوس صبيان بني حنيفة وحنّكهم فأصاب القرع كل صبي مسح رأسه ، ولثغ كل صبي حنكه (١) فإذا أتى المدعي بمثل هذا الشاهد لا يجب على الله أن يبطله ، فإن في هذه كفاية لإبطال دعواه ، ولا يسمى ذلك معجزا في الاصطلاح.

وليس من الإعجاز المصطلح عليه ما يظهره الساحر والمشعوذ ، أو العالم ببعض العلوم النظرية الدقيقة ، وإن أتى بشيء يعجز عنه غيره ، ولا يجب على الله إبطاله إذا علم استناده في عمله إلى أمر طبيعي من سحر ، أو شعبذة ، أو نحو ذلك وإن ادعى ذلك الشخص منصبا إلهيا ، وقد أتى بذلك الفعل شاهدا على صدقه ، فإن العلوم النظرية الدقيقة لها قواعد معلومة عند أهلها ، وتلك القواعد لا بد من أن توصل إلى نتائجها ، وإن احتاجت إلى دقة في التطبيق ، وعلى هذا القياس تخرج غرائب علم الطب المنوطة بطبائع الأشياء ، وإن كانت خفية على عامة الناس ، بل وإن كانت خفية على الأطباء أنفسهم.

وليس من القبيح أن يختص الله أحدا من خلقه بمعرفة شيء من تلك الأشياء ، وإن كانت دقيقة وبعيدة عن متناول أيدي عامة الناس ، ولكن القبيح أن يغري الجاهل بجهله ، وأن يجري المعجز على يد الكاذب فيضل الناس عن طريق الهدى.

__________________

(١) الكامل لابن الأثير : ٢ / ١٣٨.

٣٦

لا بد للنبي من إقامة المعجز :

تكليف عامة البشر واجب على الله سبحانه ، وهذا الحكم قطعي قد ثبت بالبراهين الصحيحة ، والأدلة العقلية الواضحة ، فإنهم محتاجون إلى التكليف في طريق تكاملهم ، وحصولهم على السعادة الكبرى ، والتجارة الرابحة. فإذا لم يكلفهم الله سبحانه ، فإما أن يكون ذلك لعدم علمه بحاجتهم إلى التكليف ، وهذا جهل يتنزّه عنه الحق تعالى ، وإما لأن الله أراد حجبهم عن الوصول إلى كمالاتهم ، وهذا بخل يستحيل على الجواد المطلق ، وإما لأنه أراد تكليفهم فلم يمكنه ذلك ، وهو عجز يمتنع على القادر المطلق ، وإذن فلا بد من تكليف البشر ، ومن الضروري أن التكليف يحتاج إلى مبلّغ من نوع البشر يوقفهم على خفيّ التكليف وجليّه :

(لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) «٨ : ٤٢».

ومن الضروري أيضا أن السفارة الإلهية من المناصب العظيمة التي يكثر لها المدعون ، ويرغب في الحصول عليها الراغبون ، ونتيجة هذا أن يشتبه الصادق بالكاذب ، ويختلط المضلّ بالهادي. وإذن فلا بد لمدعي السفارة أن يقيم شاهدا واضحا يدل على صدقه في الدعوى ، وأمانته في التبليغ ، ولا يكون هذا الشاهد من الأفعال العادية التي يمكن غيره أن يأتي بنظيرها ، فينحصر الطريق بما يخرق النواميس الطبيعية.

وإنما يكون الإعجاز دليلا على صدق المدعي ، لأن المعجز فيه خرق للنواميس الطبيعية ، فلا يمكن أن يقع من أحد إلا بعناية من الله تعالى ، وإقدار منه ، فلو كان مدعي النبوة كاذبا في دعواه ، كان إقداره على المعجز من قبل الله تعالى إغراء بالجهل وإشادة بالباطل ، وذلك محال على الحكيم تعالى. فإذا ظهرت المعجزة على يده كانت

٣٧

دالة على صدقه ، وكاشفة عن رضا الحق سبحانه بنبوته.

وما ذكرناه قاعدة مطردة يجري عليها العقلاء من الناس فيما يشبه هذه الأمور ، ولا يشكّون فيها أبدا ، فإذا ادعى أحد من الناس سفارة عن ملك من الملوك في امور تختص برعيته ، كان من الواجب عليه أولا أن يقيم على دعواه دليلا يعضدها ، حين تشك الرعية في صدقه ، ولا بد من أن يكون ذلك الدليل في غاية الوضوح ، فإذا قال لهم ذلك السفير : الشاهد على صدقي أن الملك غدا سيحيّيني بتحيته الخاصة التي يحيّي بها سفراءه الآخرين. فإذا علم الملك ما جرى بين السفير وبين الرعية ، ثم حيّاه في الوقت المعين بتلك التحية ، كان فعل الملك هذا تصديقا للمدعي في السفارة ولا يرتاب العقلاء في ذلك لأن الملك القادر المحافظ على مصالح رعيته يقبح عليه أن يصدّق هذا المدعي إذا كان كاذبا ، لأنه يريد إفساد الرعية.

وإذا كان هذا الفعل قبيحا من سائر العقلاء كان محالا على الحكيم المطلق ، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بقوله في كتابه الكريم :

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) «٦٩ : ٤٤ ـ ٤٦».

والمراد من الآية الكريمة أن محمدا الذي أثبتنا نبوته ، وأظهرنا المعجزة لتصديقه ، لا يمكن أن يتقوّل علينا بعض الأقاويل ، ولو صنع ذلك لأخذنا منه باليمين ، ولقطعنا منه الوتين ، فإن سكوتنا عن هذه الأقاويل إمضاء منا لها ، وإدخال للباطل في شريعة الهدى ، فيجب علينا حفظ الشريعة في مرحلة البقاء ، كما وجب علينا في مرحلة الحدوث.

٣٨

ولكن دلالة المعجز على صدق مدعي النبوة متوقفة على القول بأن العقل يحكم بالحسن والقبح. أما الأشاعرة الذين ينكرون هذا القول ، ويمنعون حكم العقل بذلك فلا بد لهم من سدّ باب التصديق بالنبوة. وهذا أحد مفاسد هذا القول ، وإنما لزم من قولهم هذا سدّ باب التصديق بالنبوة ، لأن المعجز إنما يكون دليلا على صدق النبوة إذا قبح في العقل أن يظهر المعجز على يد الكاذب وإذا لم يحكم العقل بذلك لم يستطع أحد أن يميز بين الصادق والكاذب.

وقد أجاب «الفضل بن روزبهان» عن هذا الإشكال بأن فعل القبيح وإن كان ممكنا على الله تعالى ، ولكن عادة الله قد جرت على تخصيص المعجزة بالصادق ، فلا تظهر معجزة على يد الكاذب ، ولا يلزم سدّ باب التصديق بالنبوة على قول الأشعريين. وهذا الجواب بيّن الضعف ، متفكك العرى.

أولا : إن عادة الله التي يخبر عنها «ابن روزبهان» ليست من الأمور التي تدرك بالحس ، ويقع عليها السمع والبصر ، فينحصر طريق العلم بها بالعقل ، وإذا امتنع على العقل أن يحكم بالحسن والقبح ـ كما يراه الأشعري ـ لم يكن لأحد أن يعلم باستقرار هذه العادة لله تعالى.

ثانيا : إن إثبات هذه العادة يتوقف على تصديق الأنبياء السابقين ، الذين جاءوا بالمعجزات حتى نعلم أن عادة الله قد استقرت على تخصيص المعجزة بالصادق. أما المنكرون لتلك النبوات ، أو المشككون فيها فلا طريق لهم إلى إثبات هذه العادة التي يدعيها «ابن روزبهان» فلا تقوم عليهم الحجة بالمعجزة.

ثالثا : إذا تساوى الفعل والترك في نظر العقل ، ولم يحكم في ذلك بقبح ولا حسن ، فأي مانع يمنع الله أن يغير عادته؟ وهو القادر المطلق الذي لا يسأل عما يفعل ،

٣٩

فيظهر المعجزة على يد الكاذب.

رابعا : إن العادة من الأمور الحادثة التي تحصل من تكرر العمل ، وهو يحتاج الى مضي زمان. وعلى هذا فما هي الحجة على ثبوت النبوة الاولى الثابتة قبل أن تستقر هذه العادة؟ وسنتعرض لأقوال الأشعريين فيما يأتي ، ونوضح وجوه فسادها.

خير المعجزات ما شابه أرقى فنون العصر :

المعجز ـ كما عرفت ـ هو ما يخرق نواميس الطبيعة ، ويعجز عنه سائر أفراد البشر إذا أتى به المدعي شاهدا على سفارة إلهية. ومما لا يرتاب فيه أن معرفة ذلك تختص بعلماء الصنعة التي يشابهها ذلك المعجز ، فإن علماء أي صنعة أعرف بخصوصياتها ، وأكثر إحاطة بمزاياها ، فهم يميزون بين ما يعجز البشر عن الإتيان بمثله وبين ما يمكنهم. ولذلك فالعلماء أسرع تصديقا بالمعجز. أما الجاهل فباب الشك عنده مفتوح على مصراعيه ما دام جاهلا بمبادئ الصنعة ، وما دام يحتمل أن المدعي قد اعتمد على مبادئ معلومة عند الخاصة من أهل تلك الصنعة ، فيكون متباطئا عن الإذعان. ولذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن يخص كل نبي بمعجزة تشابه الصنعة المعروفة في زمانه ، والتي يكثر العلماء بها من أهل عصره ، فإنه أسرع للتصديق وأقوم للحجة ، فكان من الحكمة أن يخص موسى عليه‌السلام بالعصا واليد البيضاء لما شاع السحر في زمانه وكثر الساحرون. ولذلك كانت السحرة أسرع الناس الى تصديق ذلك البرهان والإذعان به ، حين رأوا العصا تنقلب ثعبانا ، وتلقف ما يأفكون ثم ترجع الى حالتها الاولى. رأى علماء السحر ذلك فعلموا أنه خارج عن حدود السحر وآمنوا بأنه معجزة إلهية. وأعلنوا إيمانهم في مجلس فرعون ولم يعبئوا بسخط فرعون ولا بوعيده.

٤٠