البيان في تفسير القرآن

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي

البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

الشيطان أن يقترب من أحدهم :

(وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ١٥ : ٣٩. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ* : ٤٠).

قال أمير المؤمنين وسيد الموحدين صلوات الله عليه : «ما عبدتك خوفا من نارك ، ولا طمعا في جنتك ، ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك» (١).

وأما سائر العباد فتنحصر عبادتهم في أحد القسمين الأولين ، ولا يسعهم تحصيل هذه الغاية. وبذلك يظهر بطلان قول من أبطل العبادة إذا كانت ناشئة عن الطمع أو الخوف ، واعتبر في صحة العبادة أن تكون لله بما هو أهل للعبادة ووجه بطلان هذا القول : أن عامة البشر غير المعصومين لا يتمكنون من ذلك فكيف يمكن تكليفهم به! وهل هو إلا تكليف بما لا يطاق؟!

أضف إلى ذلك أن الآيتين الكريمتين المتقدمتين قد دلّتا على صحة العبادة إذا صدرت عن خوف أو طمع. فقد مدح الله سبحانه من يدعوه خوفا أو طمعا وذلك يقتضي محبوبية هذا العمل وأنه مما أمر به الله تعالى وأنه يكفي في مقام الامتثال. وقد ورد عن المعصومين عليهم‌السلام ما يدل على صحة العبادة إذا كانت ناشئة من خوف أو طمع. (٢).

وقد أوضحنا ـ فيما تقدم ـ أن الآيات السابقة من هذه السورة قد حصرت الحمد في الله تعالى من جهة كماله الذاتي ، ومن جهة ربوبيته ورحمته ، ومن جهة سلطانه وقدرته ، فتكون فيها إشارة إلى مناشئ العبادة ودواعيها أيضا ، فالعبادة إما ناشئة من إدراك العابد كمال المعبود واستحقاقه العبادة بذاته وهي عبادة الأحرار ، وإما من

__________________

(١) مرآة العقول : ٢ / ١٠١ ، باب النية.

(٢) انظر التعليقة رقم (٢٤) للوقوف على أقسام الدوافع للعبادة ـ في قسم التعليقات.

٤٨١

إدراكه إنعام المعبود وإحسانه وطمعه في ذلك وهي عبادة الاجراء ، وإما من إدراكه سطوته وقهره وعقابه وهي عبادة العبيد.

حصر الاستعانة بالله :

لا مانع من استعانة الإنسان في مقاصده بغير الله من المخلوقات أو الأفعال قال الله تعالى :

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ٢ : ٤٥. وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ٥ : ٢. قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ١٨ : ٩٥).

وإذن فليست الاستعانة بمطلقها تنحصر بالله سبحانه بل المراد منها استمداد القدرة على العبادة منه تعالى ، والاستزادة من توفيقه لها حتى تتم وتخلص والغرض من ذلك اثبات أن العبد في أفعاله الاختيارية وسط بين الجبر والتفويض فان الفعل يصدر عن العبد باختياره ، ولذلك أسند الفعل اليه في قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) إلا أن هذا الفعل الاختياري من العبد إنما يكون بعون الله له وبإمداده إياه بالقدرة آنا فآنا : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) بحيث لو انقطع المدد عنه في آن لم يستطع إتمام الفعل ، ولم تصدر منه عبادة ولا حسنة.

وهذا هو القول الذي يقتضيه محض الإيمان ، فان الجبر يلزمه أن يكون العقاب على المعاصي عقابا للعبد من غير استحقاق ، وهذا ظلم بيّن :

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) «١٧ : ٤٣».

وإن التفويض يلزمه القول بخالق غير الله فان معناه أن العبد مستقل في أفعاله ، وأنه خالق لها ، ومرجع هذا إلى تعدد الخالق وهو شرك بالله العظيم والإيمان الحق

٤٨٢

بالله هو الحد الوسط بين الإفراط والتفريط ، فالفعل فعل العبد وهو فاعله باختياره ، ولذلك استحق عليه الثواب أو العقاب ، والله سبحانه هو الذي يفيض على العبد الحياة والقدرة وغيرهما من مبادئ الفعل إفاضة مستمرة غير منقطعة ، فلا استقلال للعبد ، ولا تصرف له في سلطان المولى ، وقد أوضحنا هذا في بحثنا عن إعجاز القرآن (١).

هذه هي الاستعانة المنحصرة بالله تعالى ، فلو لا الإفاضة الإلهية لما وجد فعل من الأفعال ولو تظاهرت الجن والإنس على إيجاده ، فإن الممكن غير مستقل في وجوده ، فيستحيل أن يكون مستقلا في إيجاده ، وبما ذكرناه يظهر الوجه في تأخير جملة : (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) عن قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فإنه تعالى حصر العبادة بذاته أولا ، فالمؤمنون لا يعبدون إلا الله ، ثم أبان لهم أن عباداتهم إنما تصدر عنهم بعون الله وإقداره ، فالعبد رهين إفاضة الله ومشيئته ، والله أولى بحسنات العبد من نفسه ، كما أن العبد أولى بسيئاته من الله (٢).

الشفاعة :

ل الآيات المباركة على أن الله سبحانه هو الكافل بامور عبيده ، وأنه الذي بيده الأمر ، يدبر شئون عبده ويوجهه إلى كماله برحمته ، وهو قريب منه ، يسمع نداءه ويجيب دعاءه :

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ ٣٩ : ٣٦. وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) «٢ : ١٨٦».

__________________

(١) في الصفحة ٣٥ من هذا الكتاب.

(٢) انظر التعليقة رقم (٢٥) للوقوف على الأمر بين الأمرين في كسب الحسنات وارتكاب السيئات ـ في قسم التعليقات.

٤٨٣

وعلى هذا فليس لمخلوق أن يستشفع بمخلوق مثله ، ويجعله واسطة بينه وبين ربه ، ففي ذلك تبعيد للمسافة ، بل وفيه إظهار للحاجة إلى غير الله وما ذا يصنع محتاج بمحتاج مثله؟ وما ذا ينتفع العاصي بشفاعة من لا ولاية له ولا سلطان؟ بل :

(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ٣٠ : ٤. قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ٣٩ : ٤٤).

هذا كله إذا لم تكن الشفاعة بإذن من الله سبحانه ، وأما إذا أذن الله بالشفاعة لأحد فإن الاستشفاع به يكون نحوا من الخضوع لله والتعبد له ، ويستفاد من القرآن الكريم أن الله تعالى قد أذن لبعض عباده بالشفاعة ، إلا أنه لم ينوّه بذكر هم عدا الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد قال الله تعالى :

و (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ١٩ : ٨٧. يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ ٢٠ : ١٠٩. وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ٣٤ : ٢٣. وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً ٤ : ٦٤).

والروايات الواردة عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن أوصيائه الكرام عليهم‌السلام في هذا الموضوع متواترة.

أحاديث الشفاعة عند الامامية :

أما الروايات من طريق الشيعة الامامية فهي أكثر من أن تحصى ، وأمر الشفاعة عندهم أوضح من أن يخفى ، ونكتفي بذكر رواية واحدة منها :

٤٨٤

روى البرقي في المحاسن بإسناده عن معاوية بن وهب ، قال :

«سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله تبارك وتعالى : (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) «٧٨ : ٣٨».

قال : نحن والله المأذون لهم في ذلك ، والقائلون صوابا ، قلت : جعلت فداك وما تقولون إذا تكلمتم؟ قال : نمجّد ربّنا ، ونصلي على نبيّنا ، ونشفع لشيعتنا فلا يردّنا ربّنا». (١)

وروى محمد بن يعقوب في الكافي بإسناده ، عن محمد بن الفضيل ، عن أبي الحسن الماضي عليه‌السلام مثله» (٢).

أحاديث الشفاعة عند العامة :

وأما الروايات من طرق أهل السنة فهي أيضا كثيرة متواترة (٣) نتعرض لذكر بعضها :

١ ـ روى يزيد الفقير ، قال : أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي ، نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا .. وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ...» (٤).

__________________

(١) المحاسن : ١ / ٢٩٢ ، طبع المجمع العالمي لأهل البيت عليهم‌السلام الحديث : ٥٨٠ ، وفي المصدر «في ذلك اليوم».

(٢) الكافي : ١ / ٤٣٥ ، الحديث : ٩١.

(٣) راجع كنز العمال : ٧ / ٢١٥ ، ٢٧٠ ، ففيه ما يزيد على ثمانين رواية من هذه الروايات.

(٤) صحيح البخاري : كتاب التيمم رقم الحديث : ٣٢٣. وكتاب الصلاة : رقم الحديث : ٤١٩.

٤٨٥

٢ ـ روى أنس بن مالك ، قال : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنا أول شفيع في الجنة» (١).

٣ ـ روى أبو هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكل نبي دعوة وأردت إن شاء الله أن أختبئ دعوتي شفاعة لامتي يوم القيامة» (٢).

٤ ـ وروى أيضا قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنا سيد ولد آدم عليه‌السلام يوم القيامة ، وأول من ينشق عنه القبر ، وأول شافع ، وأول مشفع» (٣).

٥ ـ وروى أيضا ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشفعاء خمسة : القرآن ، والرحم ، والأمانة ، ونبيكم ، وأهل بيته» (٤).

٦ ـ روى عبد الله بن أبي الجدعاء قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم» ورواه الترمذي والحاكم (٥).

ومن هذه الروايات يستكشف أن الاستشفاع بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبأهل بيته الكرام عليهم‌السلام أمر ندب اليه الشرع ، فكيف يعدّ ذلك من الشرك؟ عصمنا الله من متابعة الهوى وزلل الأقدام والأقلام.

__________________

(١) صحيح مسلم : كتاب الإيمان ، رقم الحديث : ٢٩١.

(٢) انظر التعليقة رقم (٢٦) لاستقصاء مصادر هذه الرواية ، في قسم التعليقات.

(٣) صحيح مسلم : كتاب الفضائل ، رقم الحديث : ٤٢٢٣.

(٤) كنز العمال : ٧ / ٢١٧.

(٥) سنن الترمذي : كتاب صفة القيامة والرقائق والورع ، رقم الحديث : ٢٣٦٢.

٤٨٦

(٤)

تحليل آية

(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ

وَلَا الضَّالِّينَ) (٧)

القراءة

المعروف قراءة «غير» بالجر ، ونقل الزمخشري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعمر قرءا بالنصب ، والصحيح هو الأول ، فإن قراءة النصب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمن تثبت وكذلك لم تثبت عن عمر ، على أنها لو ثبتت عنه فهي ليست بحجة ، فقد أوضحنا أن قراءة غير المعصوم إنما يعبأ بها إذا كانت من القراءات المشهورة ، وإلا فهي شاذة لا تجزي للامتثال.

والمعروف أيضا قراءة (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) ونسب إلى علي عليه‌السلام وإلى عمر قراءة «من أنعمت عليهم وغير الضالين» أما قراءة علي عليه‌السلام بذلك فلم تثبت ، بل الثابت عدمها ، فلو كانت قراءته هي ذلك ، لشاع خبرها بين شيعته ، ولأقرّها الأئمة من بعده ، مع أنها لم تنقل حتى بخبر رجل

٤٨٧

واحد يعتمد عليه ، ومثل هذا يقال في نسبة قراءة «غير» بالنصب إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأما قراءة عمر فقد عرفت الحال فيها.

اللغة

الهداية :

الإرشاد والدلالة ، والهدى ضد الضلال ، وستقف على بيان هداية الله للناس وإرشادهم.

الصراط :

الطريق وهو ما يتوصل بالسير فيه إلى المقصود ، وقد يكون غير حسّي فيقال :

الاحتياط طريق النجاة ، وإطاعة الله طريق الجنة ، وإطلاقه على الطريق غير الحسي إما لعموم المعنى اللغوي وإما من باب التشبيه والاستعارة.

الاستقامة :

الاعتدال ، وهو ضد الانحراف إلى اليمين أو الشمال ، و «الصراط المستقيم» هو الصراط الذي يصل بسالكه إلى النعيم الأبدي ، وإلى رضوان الله ، وهو أن يطيع المخلوق خالقه ، ولا يعصيه في شىء من أوامره ونواهيه ، وأن لا يعبد غيره ، وهو الصراط الذي لا عوج فيه ، قال الله تعالى :

(وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ٤٢ : ٥٢. صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ : ٥٣. وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً ٦ : ١٢٦. إِنَّ اللهَ

٤٨٨

رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ* ٣ : ٥١. وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ٣٦ ٦١. وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ٦ : ١٥٢. وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ : ١٥٣).

وبما أن عبادة الله لا تنحصر في نوع معين ، بل تعم أفعال الجانحة وأفعال الجارحة على كثرتها فقد يلاحظ المعنى العام الشامل لهذه الأفعال كلها ، فيعبر عنه باللفظ المفرد كالصراط المستقيم ، والصراط السويّ ، وقد تلاحظ الأنواع على كثرتها من الإيمان بالله وبرسوله وبالمعاد ، ومن الصلاة والصيام والحج وما سوى ذلك ، فيعبر عنها بالجمع.

(قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ ٥ : ١٥. يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ : ١٦. وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا ١٤ : ١٢ وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ٢٩ : ٦٩).

الإنعام :

الإفضال بالنعمة وزيادتها ، ومن أنعم الله عليهم هم الذين سلكوا «الصراط المستقيم» ولم يمل بهم الهوى إلى طاعة الشيطان ، ولذلك قد فازوا بالحياة الدائمة والسعادة الأبدية ، وفوق ذلك كله فازوا برضوان من الله :

(وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ٩ : ٧٣».

٤٨٩

الغضب :

السخط ، وتقابله الرحمة ، والمغضوب عليهم هم الذين توغلوا في الكفر وعندوا عن الحق ، ونبذوا آيات الله ، وراء ظهورهم ، ولا يراد به مطلق الكافر :

(وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) «١٦ : ١٠٦».

الضلال :

التيه ويقابله الهدى ، والضالّون هم الذين سلكوا غير طريق الهدى فأفضى بهم إلى الهلاك الأبدي والعذاب الدائم ، ولكنهم دون المغضوب عليهم في شدة الكفر ، لأنهم وإن ضلوا الطريق المستقيم عن تقصير في البحث والفحص ، إلا أنهم لم يعاندوا الحق بعد وضوحه ، وقد ورد في المأثور أن المغضوب عليه هم اليهود ، والضالين هم النصارى. وقد تقدم (١) أن الآيات القرآنية لا تختص بمورد ، وأن كل ما يذكر لها من المعاني فهو من باب تطبيق الكبرى.

الاعراب

(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) بدل من جملة (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) أو صفة للذين وذلك : أن نعمة الله كرحمته قد وسعت جميع البشر ، فمنهم من شكر ، ومنهم من كفر :

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) «٣١ : ٣٠».

__________________

(١) الصفحة ٢٥ من هذا الكتاب.

٤٩٠

وإذا ففي توصيف من أنعم الله عليهم بأنهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين تقييد لإطلاقه ، وتضييق لسعته ، فلا يشمل هؤلاء الذين لم يؤدوا شكر النعمة ، ويكون مدلول الآية أن العبد يطلب من الله الهداية إلى طريق سلكه فريق خاص من الذين أنعم الله عليهم وهم الذين لم يبدّلوا نعمة الله كفرا ، فحازوا بإطاعتهم واستقامتهم نعمة الآخرة كما كانوا حائزين نعمة الدنيا ، فاتصلت لهم السعادة في الدنيا والعقبى ، ونظير الآية المباركة أن يقال : يجوز اقتناء كل كتاب غير كتب الضلال ، وعلى ذلك فلا موقع لقول بعضهم : إن كلمة غير متوغلة في الإبهام ولا تعرف بما تضاف اليه فلا يصح جعلها صفة للمعرفة ولا لما ذكروه جوابا عن ذلك.

وخلاصة القول : إن الحكم المذكور في القضية ـ خبرية كانت أو إنشائية ـ إذا كان عاما لجميع الأفراد ، فإنه يصح تخصيصه متى أريد ذلك ـ بكلمة غير ، كما يصح تخصيصه بغيرها ، فتقول : جاءني جميع أهل البلد ، أو أكرم جميعهم غير الفاسقين.

«الضالين» : عطف على المغضوب عليهم : وأتي بكلمة «لا» تأكيدا للنفي لئلا يتوهم السامع أن المنفي هو المجموع ، وكلمة «غير» تدل على النفي التزاما فاجري عليها حكم غيرها من دوالّ النفي. تقول : جالس رجلا غير فاسق ولا سيّئ الخلق ، أعبد الله بغير كسل ولا ملل ، وتوهم بعض مقاربي عصرنا عدم جواز ذلك فأتعب نفسه في توجيه الآية المباركة ولم يأت بشيء ، واعترف بعجزه عن الجواب.

التفسير :

وبعد أن لقّن الله عبيده أن يعترفوا بين يديه بالتوحيد في العبادة والاستعانة لقّنهم أن يطلبوا منه الهداية إلى الصراط المستقيم. وقد اشتملت هذه السورة الكريمة في

٤٩١

بدايتها على تمجيد الله سبحانه ، والثناء عليه بما هو أهله واشتملت في نهايتها على سؤال الهداية منه. وبين تلك البداءة وهذه الخاتمة أنزل الله تعالى قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فهو نتيجة للتمجيد السابق وتوطئة للسؤال اللاحق ، فإن في التمجيد السابق ملاك حصر العبادة والاستعانة به تعالى فالمستحق للعبادة إنما هو الله بذاته برحمته وسلطانه ، وغيره لا يستحق أن يعبد أو يستعان به.

وإذا كانت العبادة والاستعانة منحصرتين بالله سبحانه فلا مناص للعبد من أن يدعو ربه الذي حصر عبادته واستعانته به. ومن هنا ورد عن الطريقين «أن الله تبارك وتعالى قد جعل هذه السورة نصفين : نصف له ونصف لعبده ، فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين ، يقول الله تعالى : مجّدني عبدي ، وإذا قال : اهدنا الصراط المستقيم ، قال الله تعالى : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» (١).

ثم إنك عرفت أن الطريق التي يسلكها البشر في أعمالهم وإيمانهم ثلاثة :

أحدها : الطريق الذي مهّده الله لعباده ، يسلكه من هداه الله إليه بفضله وإحسانه.

ثانيها : الطريق الذي يسلكه الضالّون.

ثالثها : الطريق الذي يسلكه المغضوب عليهم. وقد بيّن الله سبحانه مغايرة الطريق المستقيم للطريقين الآخرين ببيان أن سالكي هذا الطريق غير سالكي ذينك الطريقين. وبذلك بيّن أن من اجتنب الطريق المستقيم فلا مناص له من الخذلان ، إما بضلاله فحسب وإما بضلاله مع استحقاقه الغضب الإلهي. أعاذنا الله من الخذلان وهدانا إلى صراطه المستقيم.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ـ باب ما جاء عن الرضا من الأخبار المتفرقة ص ١٦٦ ، طبعة إيران سنة ١٣١٧ ه‍. وتقدم نظير هذا عن أبي هريرة في الصفحة ٤٤٢ من هذا الكتاب.

٤٩٢

البحث الثالث

حول آية اهدنا

٤٩٣

ـ الهداية بمعنى الاستمرار.

ـ الهداية بمعنى الثواب.

ـ الهداية بمعنى الاستزادة منها.

٤٩٤

ذكر المفسرون : أن من يطلب الهداية من الله لا بد وأن يكون فاقدا لها ، فكيف يطلبها المسلم الموحد في صلاته ، وأجابوا عنه بوجوه :

١ ـ أن يراد بالهداية : الاستمرار عليها ، فبعد ما منّ الله تعالى على المصلي بهدايته إلى الإيمان يطلب منه الاستمرار والثبات على هذه النعمة لئلا تزل له قدم بعد ثبوتها.

٢ ـ أن يراد بالهداية : الثواب فمعناه اهدنا طريق الجنة ثوابا لنا.

٣ ـ أن يراد بالهداية : زيادتها فإن الهداية قابلة للزيادة والنقصان ، فمن كان واجدا لمرتبة منها جاز أن يطلب مرتبة أكمل منها.

وكل هذه الوجوه استحسانية تخالف ما يقتضيه ظاهر الآية المباركة والصحيح أن يقال : إن الهداية التي يطلبها المسلم في صلاته هي هداية غير حاصلة له ، وإنما يطلب حصولها من ربه فضلا منه ورحمة.

وتوضيح ذلك : إن الهداية من الله تعالى على قسمين : هداية عامة وهداية خاصة ، والهداية العامة قد تكون تكوينية ، وقد تكون تشريعية ، أما الهداية العامة

٤٩٥

التكوينية فهي التي أعدها الله تعالى في طبيعة كل موجود سواء أكان جمادا أم كان نباتا أو حيوانا ، فهي تسري بطبعها أو باختيارها نحو كمالها ، والله هو الذي أودع فيها قوة الاستكمال ، ألا ترى كيف يهتدي النبات إلى نموه ، فيسير إلى جهة لا صادّ له عن سيره فيها ، وكيف يهتدي الحيوان فيميز بين من يؤذيه ومن لا يؤذيه؟ فالفأرة تفرّ من الهرة ، ولا تفرّ من الشاة ، وكيف يهتدي النمل والنحل إلى تشكيل جمعية وحكومة وبناء مساكن! وكيف يهتدي الطفل إلى ثدي أمه ، ويرتضع منه في بدء ولادته :

(قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) «٢٠ : ٥٠».

وأما الهداية العامة التشريعية فهي الهداية التي بها هدى الله جميع البشر بإرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم ، فقد أتمّ الحجة على الإنسان بإفاضته عليه العقل وتمييز الحق من الباطل ، ثم بإرساله رسلا يتلون عليهم آياته ، ويبينون لهم شرائع أحكامه ، وقرن رسالتهم بما يدل على صدقها من معجز باهر ، وبرهان قاهر ، فمن الناس من اهتدى ، ومنهم من حق عليه الضلالة :

(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) «٧٦ : ٣».

وأما الهداية الخاصة ، فهي هداية تكوينية ، وعناية ربانية خصّ الله بها بعض عباده حسب ما تقتضيه حكمته ، فيهيّئ له ما به يهتدي إلى كماله ويصل إلى مقصوده ، ولو لا تسديده لوقع في الغي والضلالة ، هذا وقد أشير إلى هذا القسم من الهداية في غير واحد من الآيات المباركة ، قال عزّ من قائل :

(فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ ٧ : ٣٠. قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ ٦ : ١٤٩. لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ٢ : ٢٧٢.

٤٩٦

إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* ٦ : ١٤٤. وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* ٢ : ٢١٣. إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ٢٨ : ٥٦. وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ٢٩ : ٦٩. فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ١٤ : ٤).

إلى غير ذلك من الآيات التي يستفاد منها اختصاص هداية الله تعالى وعنايته الخاصة بطائفة خاصة دون بقية الناس ، فالمسلم بعد ما اعترف بأن الله قد منّ عليه بهدايته هداية عامة تكوينية وتشريعية طلب من الله تعالى أن يهديه بهدايته الخاصة التكوينية التي يختص الله بها من يشاء من عباده.

وصفوة القول : أن البشر بطبعه في معرض الهلاك والطغيان فلا بد للمسلم الموحّد أن لا يتكل على نفسه بل يستعين بربه ، ويدعوه لهدايته ، ليسلك به الجادة الوسطى فلا يكون من المغضوب عليهم ، ولا من الضالين.

٤٩٧
٤٩٨

قسم التعليقات

٤٩٩

ـ مصادر حديث الثقلين.

ـ ترجمة الحارث وافتراء الشعبي عليه.

ـ مصادر حديث لتركبنّ سنن من قبلكم.

ـ محادثة بين المؤلف وحبر يهودي.

ـ ترجمة القرآن وشروطها.

ـ قصة قريش في محاولتهم تعجيز النبي.

ـ تحريف رواية في صحيح البخاري.

ـ رأي محمد عبده في الطلاق الثلاث.

ـ اختلاق الرازي نسبة الجهل إلى الله على لسان الشيعة.

ـ أحاديث مشيئة الله.

ـ أحاديث إن الدعاء يغير القضاء.

ـ أهمية آية البسملة.

ـ معرفة بدء الخليقة في كتاب التكوين.

ـ أحاديث إن البسملة جزء من القرآن.

ـ قصة نسيان معاوية لقراءة البسملة.

ـ قراءة النبي البسملة وتوجيه رواية أنس.

ـ ابن تيمية ونقله أحاديث جواز زيارة القبور.

ـ تهمة الآلوسي للشيعة.

ـ حوار بين المؤلف وعالم حجازي ـ فضيلة تربة الحسين ٧.

ـ تأويل آية السجود بالكشف.

ـ حديث إبليس مع الله.

ـ الإسلام يدور مدار الشهادتين.

ـ العبادة وأقسام دوافعها.

ـ الأمر بين الأمرين والحسنات والسيئات.

ـ مصادر : رواية الشفاعة.

٥٠٠