البيان في تفسير القرآن

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي

البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

(٣)

تحليل آية

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥))

اللغة

العبادة :

في اللغة تأتي لأحد معان ثلاثة :

الأول : الطاعة ، ومنه قوله تعالى :

(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) «٣٦ : ٦٠».

فإن عبادة الشيطان المنهي عنها في الآية المباركة إطاعته.

الثاني : الخضوع والتذلل ، ومنه قوله تعالى :

(فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) «٢٣ : ٤٧».

أي خاضعون متذللون ،

٤٦١

ومنه أيضا إطلاق «المعبّد» على الطريق الذي يكثر المرور عليه.

الثالث : التألّه ، ومنه قوله تعالى :

(قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ) «١٣ : ٣٦».

وإلى المعنى الأخير ينصرف هذا اللفظ في العرف العام إذا أطلق دون قرينة.

والعبد : الإنسان وإن كان حرا ، لأنه مربوب لبارئه ، خاضع له في وجوده وجميع شئونه ، وإن تمرد عن أوامره ونواهيه.

والعبد : الرقيق لأنه مملوك وسلطانه بيد مالكه ، وقد يتوسع في لفظ العبد فيطلق على من يكثر اهتمامه بشيء حتى لا ينظر إلا اليه ، ومنه قول أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام :

«الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم وإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديانون» (١)

وقد يطلق العبد على المطيع الخاضع ، كما في قوله تعالى :

(أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) «٢٦ : ٢٢».

أي جعلتهم خاضعين لا يتجاوزون عن أمرك ونهيك.

الاستعانة :

طلب المعونة ، تتعدى بنفسها وبالباء ، يقال استعنته واستعنت به أي طلبت منه أن يكون عونا وظهيرا لي في أمري.

__________________

(١) بحار الأنوار : ٤٤ / ١٩٥ ، باب ٢٦ ، الحديث : ٩.

٤٦٢

الاعراب

«إياك» : في كلا الموردين مفعول قدّم على الفعل لافادة الحصر ، وفي الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب. والسر في ذلك أحد أمرين :

الأول : إن سابق هذه الآية الكريمة قد دل على أن الله سبحانه هو المالك لجميع الموجودات ، والمربي لها والقائم بشئونها ، وهذا يقتضي أن تكون الأشياء كلها حاضرة لديه تعالى ، وأن يكون ـ سبحانه ـ محيطا بالعباد وبأعمالهم ليجازيهم يوم الدين بالطاعة أو بالمعصية ، واقتضى ذلك أن يظهر العبد حضوره بين يدي ربه ويخاطبه.

الثاني : ان حقيقة العبادة خضوع العبد لربه بما أنه ربه والقائم بأمره والربوبية تقتضي حضور الرب لتربية مربوبه ، وتدبير شئونه. وكذلك الحال في الاستعانة فإن حاجة الإنسان إلى إعانة ربه وعدم استقلاله عنه في عبادته تقتضى حضور المعبود لتتحقق منه الاعانة ، فلهذين الأمرين عدل السياق من الغيبة إلى الخطاب فالعبد حاضر بين يدي ربه غير غائب عنه.

التفسير

بعد أن مجّد الله نفسه بالآيات المتقدمة لقّن عباده أن يتلوا هذه الآية الكريمة وأن يعترفوا بمدلولها وبمغزاها ، فهم لا يعبدون إلا الله ، ولا يستعينون إلا به ، فإن ما سوى الله من الموجودات فقير في ذاته ، عاجز في نفسه ، بل هو لا شيء بحت ، إلا أن تشمله العناية الالهية ، ومن هذا شأنه لا يستحق أن يعبد أو يستعان ، والممكنات كلها ـ وان اختلفت مراتبها بالكمال والنقص ـ تشترك في صفة العجز اللازمة

٤٦٣

للامكان ، وفي ان جميعها تحت حكم الله وإرادته :

(أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) ٤٧ : ٥٤. (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) «٢٤ : ٤٢».

من ذا الذي يعارضه في سلطانه وينازعه في أمره وحكمه؟ وهو القابض والباسط ، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، فالمؤمن لا يعبد غير الله ، ولا يستعين إلا به ، فان غير الله ـ أيّا كان ـ محتاج إلى الله في جميع شئونه وأطواره والمعبود لا بد وأن يكون غنيا ، وكيف يعبد الفقير فقيرا مثله؟!.

وعلى الجملة : الإيمان بالله يقتضي أن لا يعبد الإنسان أحدا سواه ، ولا يسأل حاجته إلا منه ، ولا يتكل إلا عليه ، ولا يستعين إلا به ، وإلا فقد أشرك بالله وحكم في سلطانه غيره :

(وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) «١٧ : ٢٣».

٤٦٤

البحث الثاني

حول آية الحمد

٤٦٥

ـ العبادة والتألّه.

ـ العبادة والطاعة.

ـ العبادة والخضوع.

ـ السجود لغير الله.

ـ دواعي العبادة.

ـ حصر الاستعانة بالله.

ـ الشفاعة.

٤٦٦

العبادة والتألّه :

مما لا يرتاب فيه مسلم : ان العبادة بمعنى التأله تختص بالله سبحانه وحده ، وقد قلنا : إن هذا المعنى هو الذي ينصرف اليه لفظ العبادة عند الإطلاق ، وهذا هو التوحيد الذي أرسلت به الرسل وأنزلت لأجله الكتب :

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) «٣ : ٦٤».

فالإيمان بالله تعالى لا يجتمع مع عبادة غيره ، سواء أنشأت هذه العبادة عن اعتقاد التعدد في الخالق ، وإنكار التوحيد في الذات؟ أم نشأت عن الاعتقاد بأن الخلق معزولون عن الله فلا يصل اليه دعاؤهم ، وهم محتاجون إلى إله أو آلهة اخرى تكون وسائط بينهم وبين الله يقربونهم اليه ، وشأنه في ذلك شأن الملوك وحفدتهم ، فإن الملك لما كان بعيدا عن الرعية احتاجت إلى وسائط يقضون حوائجهم ، ويجيبون دعواتهم.

٤٦٧

وقد أبطل الله سبحانه كلا الاعتقادين في كتابه العزيز ، فقال تعالى في إبطال الاعتقاد بتعدد الآلهة :

(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) ٢١ : ٢٢. (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) ٢٣ : ٩١.

وأما الاعتقاد الثاني ـ وهو إنما ينشأ عن مقايسته بالملوك والزعماء من البشر فقد أبطله الله بوجوه من البيان :

فتارة يطلب البرهان على هذه الدعوى ، وأنها مما لم يدل عليه دليل ، فقال :

(أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ٢٧ : ٦٤. (قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) ٢٦ : ٧١. (قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ) : ٧٢. (أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) : ٧٣. (قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) : ٧٤.

وأخرى بإرشادهم إلى ما يدركونه بحواسهم من أن ما يعبدونه لا يملك لهم ضرا ولا نفعا ، والذي لا يملك شيئا من النفع والضر ، والقبض والبسط ، والإماتة والإحياء ، لا يكون إلا مخلوقا ضعيفا ، ولا ينبغي أن يتخذ إلها معبودا :

(قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ) ٢١ : ٦٦. (أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) : ٦٧. (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) ٥ : ٧٦. (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ) ٧ : ١٤٨.

وهذا الحكم عقلي فطري شاءت الحكمة أن تنبه العباد عليه في هذه الآيات المباركة ، وهو سار في كل موجود ممكن محتاج ، وإن كان نبيا :

٤٦٨

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ٥ : ١١٦ (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) : ١١٧.

وأبطل هذا الاعتقاد مرة ثالثة ، بأن الله قريب من عباده يسمع نجواهم ويجيب دعواهم ، وأنه القائم بتدبيرهم وبتربيتهم ، فقال تعالى :

(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ٥٠ : ١٦. أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ ٣٩ : ٣٦. ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ٤٠ : ٦٠. وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ٦ : ١٨. قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٣ : ٢٩. وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ ١٠ : ١٠٧. وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٦ : ١٧. اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ* ١٣ : ٢٦. إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ٥١ : ٥٨. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ٤٢ : ١١. أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ٤١ : ٥٤).

فالله سبحانه غير معزول عن خلقه ، وأمورهم كلها بيده ، ولا يفتقر العباد الى وسائط تبلغه حوائجهم ، ليكونوا شركاء له في العبادة ، بل الناس كلهم شرع سواء في أن الله ربهم وهو القائم بشئونهم :

(ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى

٤٦٩

مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ٥٨ : ٧. كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ٣ : ٤٠).

(إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ ٥ : ١).

وعلى الجملة ، لا شك لمسلم في ذلك. وهذا ما يمتاز به الموحد عن غيره ، فمن عبد غير الله واتخذه ربا كان كافرا مشركا.

العبادة والطاعة :

لا شك أيضا في وجوب طاعة الله سبحانه ، وفي استحقاق العقاب عقلا على مخالفته ، وقد تكرر في القرآن وعد الله تعالى لمن أطاعه بالثواب ووعيده لمن عصاه بالعقاب.

وأما إطاعة غير الله تعالى فهي على أقسام :

الأول : أن تكون إطاعته بأمر من الله سبحانه وباذنه كما في إطاعة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوصيائه الطاهرين عليهم‌السلام وهذا في الحقيقة إطاعة الله سبحانه ، فهو واجب أيضا بحكم العقل :

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) ٤ : ٨٠. (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ ٤ : ٦٤).

ومن أجل ذلك قرن الله طاعة رسوله بطاعته في كل مورد أمر فيه بطاعته :

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً ٣٣ : ٧١. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ٤ : ٥٩).

الثاني : أن تكون إطاعة غير الله منهيا عنها ، كإطاعة الشيطان وإطاعة كل من

٤٧٠

يأمر بمعصية الله ، ولا شك في حرمة هذا القسم شرعا ، وقبحه عقلا ، بل قد تكون كفرا او شركا ، كما إذا امر بالشرك أو الكفر :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ ٣٣ : ١. فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ٧٦ : ٢٤. وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ٣١ : ١٥).

الثالث : أن تكون إطاعة غير الله مجردة لا أمر بها من الله ولا نهى ، وهي حينئذ تكون جائزة لا واجبة ولا محرمة.

العبادة والخضوع :

لا ينبغي الريب في أنه لا بد للمخلوق من أن يخضع ويتذلل لخالقه ، فإن ذلك مما حكم به العقل ، وندب اليه الشرع.

وأما الخضوع والتذلل للمخلوق فهو على أقسام :

أحدها : الخضوع لمخلوق من دون إضافة ذلك المخلوق إلى الله بإضافة خاصة وذلك : كخضوع الولد لوالده ، والخادم لسيده والمتعلم لمعلمه ، وغير ذلك من الخضوع المتداول بين الناس ، ولا ينبغي الشك في جواز هذا القسم ما لم يرد فيه نهي كالسجود لغير الله ، بل جواز هذا القسم مقتضى الضرورة ، وليس فيه أدنى شائبة للشرك ، وقد قال عز من قائل :

(وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) «١٧ : ٢٤».

٤٧١

أفترى أنه سبحانه أمر بعبادة الوالدين ، حيث أمر بالتذلل لهما؟ مع أنه قد نهى عن عبادة من سواه قبل ذلك :

(وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) «١٧ : ٢٣».

أم ترى أن خفض الجناح من الذلّ ـ كما تفعله صغار الطير ـ هو من الإحسان الذي أمرت به الآية الكريمة ، وجعلته مقابلا للعبادة ، وإذا فلا يكون كل خضوع وتذلل لغير الله شركا بالله تعالى.

ثانيها : الخضوع للمخلوق باعتقاد أن له إضافة خاصة الى الله يستحق من أجلها أن يخضع له ، مع أن العقيدة باطلة ، وأن هذا الخضوع بغير اذن من الله كما في خضوع أهل الأديان والمذاهب الفاسدة لرؤسائهم. ولا ريب في أنه إدخال في الدين لما لم يكن منه ، فهو تشريع محرّم بالأدلة الأربعة ، وافتراء على الله تعالى.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) «١٨ : ١٥».

ثالثها : الخضوع للمخلوق والتذلل له بأمر من الله وإرشاده ، كما في الخضوع للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولأوصيائه الطاهرين عليهم‌السلام بل الخضوع لكل مؤمن ، أو كل ما له إضافة إلى الله توجب له المنزلة والحرمة ، كالمسجد والقرآن والحجر الأسود وما سواها من الشعائر الإلهية. وهذا القسم من الخضوع محبوب لله فقد قال تعالى :

(فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) «٥ : ٤٥».

بل هو لدى الحقيقة خضوع لله ، وإظهار للعبودية له فمن اعتقد بالوحدانية الخالصة لله ، واعتقد أن الإحياء والإماتة والخلق والرزق والقبض والبسط والمغفرة والعقوبة كلها بيده ، ثم اعتقد بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوصياءه الكرام عليهم‌السلام :

٤٧٢

(عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) «٢١ : ٢٧».

وتوسّل بهم إلى الله ، وجعلهم شفعاء اليه بإذنه ، تجليلا لشأنهم وتعظيما لمقامهم ، لم يخرج بذلك عن حد الإيمان ، ولم يعبد غير الله.

ولقد علم كل مسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقبل الحجر الأسود ، ويستلمه بيده إجلالا لشأنه وتعظيما لأمره. وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يزور قبور المؤمنين والشهداء والصالحين ، ويسلّم عليهم ، ويدعو لهم.

وعلى هذا جرت الصحابة والتابعون خلفا عن سلف ، فكانوا يزورون قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتبرّكون به ويقبّلونه ، ويستشفعون برسول الله ، كما كانوا يستشفعون به في حياته. وهكذا كانوا يفعلون مع قبور ائمة الدين وأولياء الله الصالحين ، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة ، ولا أحد من التابعين أو الأعلام ، إلى أن ظهر أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحرّاني فحرّم شدّ الرحال إلى زيارة القبور ، وتقبيلها ، ومسّها ، والاستشفاع بمن دفن فيها ، حتى أنه شدد النكير على من زار قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو تبرّك به بتقبيل أو لمس ، وجعل ذلك من الشرك الأصغر تارة ومن الشرك الأكبر أخرى.

ولما رأى علماء عصره عامة أنه قد خالف في رأيه هذا ما ثبت من الدين ، وضرورة المسلمين ، لأنهم قد رووا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حثه على زيارة المؤمنين عامة وعلى زيارته خاصة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زارني بعد مماتي كان كمن زارني في حياتي» (١) وما يؤدي هذا المعنى بألفاظ أخر (٢) تبرئوا منه ، وحكموا بضلاله ، و

__________________

(١) بحار الأنوار : ١٠٠ / ١٤٣ ، باب ١ ، الحديث : ٢٧.

(٢) انظر التعليقة رقم (١٧) للوقوف على الروايات التي استفاضت في جواز زيارة القبور ـ وقد ذكر جملة منها عبد السلام بن تيمية ـ في قسم التعليقات.

٤٧٣

أوجبوا عليه التوبة ، فأمروا بحبسه إما مطلقا أو على تقدير أن لا يتوب.

والذي أوقع ابن تيمية في الغلط ـ إن لم يكن عامدا لتفريق كلمة المسلمين ـ هو تخيّله أن الأمور المذكورة شرك بالله ، وعبادة لغيره. ولم يدرك أن هؤلاء الذين يأتون بهذه الأعمال يعتقدون توحيد الله ، وأنه لا خالق ولا رازق سواه ، وأن له الخلق والأمر ، وإنما يقصدون بأفعالهم هذه تعظيم شعائر الله ، وقد علمت أنها راجعة إلى تعظيم الله والخضوع له والتقرب اليه سبحانه ، والخلوص لوجهه الكريم ، وأنه ليس في ذلك أدنى شائبة للشرك ، لأن الشرك ـ كما عرفت ـ أن يعبد الإنسان غير الله. والعبادة إنما تتحقق بالخضوع لشىء على أنه رب يعبد ، وأين هذا من تعظيم النبي الأكرم وأوصيائه الطاهرين عليهم‌السلام بما هو نبي وهم أوصياء ، وبما أنهم عباد مكرمون ، ولا ريب في أن المسلم لا يعبد النبي أو الوصي فضلا عن أن يعبد قبورهم.

وصفوة القول : أن التقبيل والزيارة وما يضاهيهما من وجوه التعظيم لا تكون شركا بأي وجه من الوجوه ، وبأي داع من الدواعي ، ولو كان كذلك لكان تعظيم الحي من الشرك أيضا ، إذ لا فرق بينه وبين الميت من هذه الجهة ـ ولا يلتزم ابن تيمية وأتباعه بهذا ـ وللزم نسبة الشرك إلى الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحاشاه فقد كان يزور القبور ، ويسلم على أهلها ، ويقبل الحجر الأسود كما سبق وعلى هذا فيدور الأمر بين الحكم بأن بعض الشرك جائز لا محذور فيه ، وبين أن يكون التقبيل والتعظيم ـ لا بعنوان العبودية ـ خارجا عن الشرك وحدوده ، وحيث أنه لا مجال للأول لظهور بطلانه فلا بد وأن يكون الحق هو الثاني ، فإذا تكون الأمور المذكورة داخلة في عبادة الله وتعظيمه :

(وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) «٢٢ : ٣٢».

٤٧٤

وقد مرت الروايات الدالة على استحباب زيارة قبر النبي وأولياء الله الصالحين.

السجود لغير الله :

لقد اتضح مما قدمنا أن الخضوع لأىّ مخلوق إذا نهى عنه في الشريعة لم يجز فعله ، وإن لم يكن على نحو التأله ، ومن هذا القبيل السجود لغير الله ، فقد أجمع المسلمون على حرمة السجود لغير الله ، قال عزّ من قائل :

(لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) «٤١ : ٣٧».

فإن المستفاد منه أن السجود مما يختص بالخالق ، ولا يجوز للمخلوق وقال تعالى :

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) «٧٢ : ١٨».

ودلالة هذه الآية الكريمة على المقصود مبنية على أن المراد بالمساجد المساجد السبعة ، وهي الأعضاء التي يضعها الإنسان على الأرض في سجوده وهذا هو الظاهر ، ويدل عليه المأثور (١) وكيف كان فلا ريب في هذا الحكم وأنه لا يجوز السجود لنبي أو وصي فضلا عن غيرهما.

وأما ما ينسب إلى الشيعة الإمامية من أنهم يسجدون لقبور أئمتهم ، فهو بهتان محض ، ولسوف يجمع الله بينهم وبين من افترى عليهم وهو أحكم الحاكمين ولقد أفرط بعضهم في الفرية ، فنسب إليهم ما هو أدهى وأمض ، وادّعى أنهم يأخذون

__________________

(١) راجع الوسائل : ٦ / ٣٤٥ ، باب ٤ ، الحديث : ٨١٤١ و ١٥ / ١٦٩ ، باب ٢ ، الحديث : ٢٠٢٢٤ ، ٢٠٢١٨.

٤٧٥

التراب من قبور أئمّتهم ، فيسجدون له سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم (١) وهذه كتب الشيعة. قديمها وحديثها مطبوعها ومخطوطها ، وهي منتشرة في أرجاء العالم متفقة على تحريم السجود لغير الله ، فمن نسب إليهم جواز السجود للتربة فهو إما مفتر يتعمد البهت عليهم ، وإما غافل لا يفرق بين السجود لشىء والسجود عليه.

والشيعة يعتبرون في سجود الصلاة أن يكون على أجزاء الأرض الأصلية : من حجر أو مدر أو رمل أو تراب ، أو على نبات الأرض غير المأكول والملبوس ويرون أن السجود على التراب أفضل من السجود على غيره ، كما أن السجود على التربة الحسينية أفضل من السجود على غيرها. وفي كل ذلك اتبعوا أئمة مذهبهم الأوصياء المعصومين (٢) ومع ذلك كيف تصح نسبة الشرك إليهم وأنهم يسجدون لغير الله. (٣)

والتربة الحسينية ليست إلا جزء من أرض الله الواسعة التي جعلها لنبيه مسجدا وطهورا (٤) ولكنها تربة ما أشرفها وأعظمها قدرا ، حيث تضمنت ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيد شباب أهل الجنة من فدى بنفسه ونفيسه ونفوس عشيرته وأصحابه في سبيل الدين وإحياء كلمة سيد المرسلين. وقد وردت من الطريقين في فضل هذه التربة عدة روايات عن رسول الله (٥) وهب أنه لم يرد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا عن أوصيائه ما يدل على فضل هذه التربة ، أفليس من الحق أن يلازم المسلم هذه التربة ، ويسجد عليها في مواقع السجود؟ فإن في السجود عليها ـ بعد

__________________

(١) انظر التعليقة رقم (١٨) للوقوف على التهمة التي ألصقها الآلوسي بالشيعة في صيامهم ـ في قسم التعليقات.

(٢) راجع الوسائل : ٥ / ٣٦٥ و ٣٦٦ ، باب ١٥ و ١٦ ، الحديث : ٦٨٠٦ ، ٦٨٠٧ ، ٦٨٠٨ ، ٦٨٠٩.

(٣) انظر التعليقة رقم (١٩) بشأن حوار جرى بين المؤلف وأحد علماء الحجاز حول التربة الحسينية ـ في قسم التعليقات.

(٤) راجع سنن البيهقي : ١ / ٢١٢ ، ٢١٣. باب التيمم بالصعيد الطيب.

(٥) راجع الوسائل : ٥ / ٣٦٥ ، أحاديث باب استحباب السجود على تربة الحسين عليه‌السلام ، انظر التعليقة رقم (٢٠) بشأن فضيلة تربة الحسين عليه‌السلام في قسم التعليقات.

٤٧٦

كونها مما يصح السجود عليه في نفسه ـ رمزا وإشارة إلى أن ملازمها على منهاج صاحبها الذي قتل في سبيل الدين وإصلاح المسلمين.

آراء حول السجود لآدم :

بقي الكلام في سجود الملائكة لآدم ، وكيف جاز ذلك؟ مع أن السجود لا يجوز لغير الله ، وقد أجاب العلماء عن ذلك بوجوه :

الرأي الأول :

إن سجود الملائكة هنا بمعنى الخضوع ، وليس بمعنى السجود المعهود.

ويرده : ان ذلك خلاف الظاهر من اللفظ ، فلا يصار اليه من غير قرينة ، وان الروايات قد دلت على أن ابن آدم إذا سجد لربه ضجر إبليس وبكى ، وهي دالة على أن سجود الملائكة الذي أمرهم الله به ، واستكبر عنه إبليس كان بهذا المعنى المعهود ، ولذلك يضجر إبليس ويبكي من إطاعة ابن آدم للأمر وعصيانه هو من قبل.

الرأي الثاني :

إن سجود الملائكة كان لله ، وإنما كان آدم قبلة لهم ، كما يقال : صلّى للقبلة أي إليها. وقد أمر هم الله بالتوجه إلى آدم في سجودهم تكريما له وتعظيما لشأنه.

ويردّه : أنه تأويل ينافيه ظاهر الآيات والروايات ، بل ينافيه صريح الآية المباركة. فإن إبليس إنما أبى عن السجود بادعاء أنه أشرف من آدم ، فلو كان السجود لله ، وكان آدم قبلة له لما كان لقوله :

(أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) «١٧ : ٦١».

٤٧٧

معنى لجواز أن يكون الساجد أشرف مما يستقبله.

الرأي الثالث :

إن السجود لآدم حيث كان بأمر من الله تعالى فهو في الحقيقة خضوع لله وسجود له.

وبيان ذلك : ان السجود هو الغاية القصوى للتذلل والخضوع ، ولذلك قد خصّه الله بنفسه ، ولم يرخص عباده أن يسجدوا لغيره ، وإن لم يكن السجود بعنوان العبودية من الساجد ، والربوبية للمسجود له. غير أن السجود لغير الله إذا كان بأمر من الله كان في الحقيقة عبادة له وتقربا اليه ، لأنه امتثال لأمره ، وانقياد لحكمه ، وإن كان في الصورة تذللا للمخلوق. ومن أجل ذلك يصح عقاب المتمرد عن هذا الأمر ، ولا يسمع اعتذاره بأنه لا يتذلل للمخلوق ، ولا يخضع لغير الآمر. (١)

وهذا هو الوجه الصحيح : فإن العبد يجب أن لا يرى لنفسه استقلالا في أموره ، بل يطيع مولاه من حيث يهوى ويشتهي. فإذا أمره بالخضوع لأحد وجب عليه أن يمتثله ، وكان خضوعه حينئذ خضوعا لمولاه الذي أمره به (٢).

ونتيجة ما قدمناه :

أنه لا بد في كل عمل يتقرب به العبد إلى ربه من أن يكون مأمورا به من قبله بدليل خاص أو عام. وإذا شك في أن ذلك العمل مأمور به كان التقرب به تشريعا محرما بالأدلة الأربعة. نعم إن زيارة القبور وتقبيلها وتعظيمها مما ثبت بالعمومات ، وبالروايات الخاصة من طرق أهل البيت عليهم‌السلام الذين جعلهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرناء للكتاب

__________________

(١) انظر التعليقة رقم (٢١) بشأن تأويل آية السجود من قبل بعض أصحاب الكشف ، في قسم التعليقات

(٢) انظر التعليقة رقم (٢٢) لمعرفة ما قاله تعالى لإبليس في ترك السجود ، في قسم التعليقات.

٤٧٨

في قوله : «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي». (١) وتؤكد جوازها أيضا سيرة المسلمين وجريهم عليها من السلف والخلف ، وما قدمناه من الروايات عن طرق أهل السنة.

كيف يتحقق الشرك بالله؟

تنبيه : إذا نهي عن خضوع خاص لغير الله كالسجود ، أو عن عبادة خاصة كصوم العيدين ، وصلاة الحائض ، والحج في غير الأشهر الحرم كان الآتي به مرتكبا للحرام ومستحقا للعقاب ، إلا أنه لا يكون بذلك الفعل مشركا ولا كافرا ، فليس كل فعل محرم يقتضي شرك مرتكبه أو كفره.

وقد عرفت أن الشرك إنما هو الخضوع لغير الله بما أن الخاضع عبد والمخضوع له رب ، فمن تعمّد السجود لغير الله بغير قصد العبودية لم يخرج بعمله هذا المحرم عن زمرة المسلمين ، فإن الإسلام يدور مدار الإقرار بالشهادتين ، وبذلك يحرم ماله ودمه.

والروايات الدالة على هذا متواترة من الطريقين (٢) ، ومع ذلك كيف يجوز الحكم بشرك من زار قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوصيائه عليهم‌السلام متقربا إلى الله وهو يشهد الشهادتين :

(وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) «٤ : ٩٤».

ولسوف يحكم الله بين عباده بالحق وهو أحكم الحاكمين.

__________________

(١) تقدم بعض مصادر الحديث في الصفحة ١٨ ، ٣٧٨ من هذا الكتاب.

(٢) انظر التعليقة رقم (٢٣) لمعرفة ان الإسلام يدور مدار الشهادتين ، في قسم التعليقات.

٤٧٩

دواعي العبادة :

العبادة فعل اختياري ، فلا بد لها من باعث نفساني يبعث نحوها ، وهو أحد امور :

١ ـ أن يكون الداعي لعبادة الله هو طمع الإنسان في إنعامه ، وبما يجزيه عليها من الأجر والثواب ، حسبما وعده في كتابه الكريم :

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ* ٤ : ١٣. وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ٥ : ٩).

٢ ـ أن يكون الداعي للعبادة هو الخوف من العقاب على المخالفة :

(إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* ١٠ : ١٥. إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ٧٦ : ١٠).

وقد أشير إلى كلا الأمرين في عدة من الآيات الكريمة :

(تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ٣٢ : ١٦. وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ٧ : ٥٦. يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ ١٧ : ٥٧).

٣ ـ أن يعبد الله بما أنه أهل لأن يعبد ، فإنه الكامل بالذات والجامع لصفات الجمال والجلال. وهذا القسم من العبادة لا يتحقق إلا ممن اندكت نفسيته فلم ير لذاته إنية إزاء خالقه ، ليقصد بها خيرا ، أو يحذر لها من عقوبة ، وإنما ينظر إلى صانعه وموجده ولا يتوجه إلا اليه ، وهذه مرتبة لا يسعنا التصديق ببلوغها لغير المعصومين عليهم‌السلام الذين أخلصوا لله أنفسهم فهم المخلصون الذين لا يستطيع

٤٨٠