البيان في تفسير القرآن

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي

البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

التعليقة (١)

ص ١٨

مصادر :

حديث الثقلين

روى ـ حديث الثقلين ـ أحمد في الجزء ٣ من مسنده ص ١٤ ، ١٧ ، ٢٦ ، ٥٩ عن أبي سعيد الخدري. ورواه الدارمي في كتاب فضائل القرآن الجزء ٢ ص ٤٣١ ، وأحمد في الجزء ٤ من مسنده : ص ٣٦٦ ، ٣٧١ عن زيد بن أرقم. ورواه أحمد في الجزء ٥ ص ١٨٢ ، ١٨٩ عن زيد بن ثابت.

ورواه جلال الدين السيوطي في «جامعه الصغير» عن الطبراني عن زيد بن ثابت وصححه. وقال العلّامة المناوي في شرحه الجزء ٣ ص ١٥ : قال الهيثمي : «رجاله موثقون».

ورواه أيضا أبو يعلى بسند لا بأس به ، والحافظ عبد العزيز بن الأخضر وزاد أنه قال في حجة الوداع «ووهم من زعم وضعه كابن الجوزي» قال السمهودي «وفي الباب ما يزيد على عشرين من الصحابة».

ورواه الحاكم في «المستدرك الجزء ٣ ص ١٠٩» عن زيد بن أرقم وصححه ولم يعقبه الذهبي. وفي ألفاظ الروايات اختلاف في التعبير لكنها متفقة في المقصود.

٥٠١

التعليقة (٢)

ص ١٨

ترجمة الحارث

وافتراء الشعبي عليه

هو الحارث بن عبد الله الأعور الهمداني ، وقد اتفقت كلمات علماء الإمامية على أنه من أعاظم أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام وعلى نزاهته ومكانته السامية ، وو صفوه بالورع والتقوى ، والقيام بخدمة سيده أمير المؤمنين عليه‌السلام.

ونص على توثيقه الأعلام في كتبهم الرجالية وغيرها ، وذكر غير واحد من أكابر علماء السنة الحارث فأثنى عليه. قال ابن حجر العسقلاني في «تهذيب التهذيب» في ترجمة الحارث : قال الدوري عن ابن معين : «الحارث قد سمع من ابن مسعود وليس به بأس». وقال عثمان الدارمي عن ابن معين : «ثقة». وقال أشعث بن سوار ، عن ابن سيرين : «أدركت الكوفة وهم يقدمون خمسة ، من بدأ بالحارث ثنى بعبيدة ، ومن بدأ بعبيدة ثنى بالحارث». وقال ابن أبي داود : «كان الحارث أفقه الناس ، وأحسب الناس ، وأفرض الناس ، تعلم الفرائض من علي».

وقال أبو جعفر الطبري في المنتخب من كتاب «ذيل المذيل» تحت عنوان من هلك سنة ١٦١ : «وكان الحارث من مقدمي أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام وعبد الله في الفقه والعلم بالفرائض والحساب».

قال الذهبي في ترجمة الحارث ، وحديث الحارث في السنن الأربعة ، والنسائي مع تعنته في الرجال فقد احتج به وقوى أمره وكان من أوعية العلم. قال مرّة بن خالد

٥٠٢

أنبأنا محمد بن سيرين قال : «كان من أصحاب ابن مسعود خمسة يؤخذ عنهم ، أدركت منهم أربعة وفاتني الحارث فلم أره ، وكان يفضل عليهم وكان أحسنهم».

أقول : قد شاء التعصب والهوى أن يقول الشعبي : «حدثني الحارث الأعور وكان كذابا» وان يتابعه جماعة على رأيه.

قال أبو عبد الله القرطبي في الجزء الأول من تفسيره ص ٥ : «الحارث رماه الشعبي بالكذب وليس بشيء ولم يبين من الحارث كذب ، وإنما نقم عليه إفراطه في حب علي عليه‌السلام وتفضيله له على غيره ، ومن هاهنا ـ والله أعلم ـ كذبه الشعبي لأن الشعبي يذهب إلى تفضيل أبي بكر وإلى أنه أول من أسلم».

قال ابن حجر في ترجمة الحارث : وقد فسر ابن عبد البر في كتاب «العلم» السر في طعن الشعبي على الحارث فقال : «إنما نقم عليه لإفراطه في حب علي عليه‌السلام ، وأظن أن الشعبي عوقب على تكذيبه الحارث لأنه لم تبن منه كذبة أبدا».

وقال ابن شاهين في الثقات : قال أحمد بن صالح المصري : «الحارث الأعور ثقة ما أحفظه وما أحسن ما روى عن علي وأثنى عليه ، قيل له فقد قال الشعبي : كان يكذب ، قال : لم يكن يكذب في الحديث إنما كان كذبه في رأيه».

بربك أخبرني أيها الناقد البصير هل يجوز في شريعة العلم؟ أو هل يسوّغ الدين نسبة الفاحشة إلى المسلم ، وقذفه بالكذب بمجرد ولائه لأمير المؤمنين عليه‌السلام وتفضيله إياه على غيره؟ أليس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي جاهر بتفضيل علي عليه‌السلام على غيره ، حتى جعله منه بمنزلة هارون من موسى وأثبت له خصالا لم يحظ بمثلها رجل من الصحابة ، وقد شهد بذلك ـ على ما رواه الحاكم في المستدرك [لجزء ٣ ص ١٠٨] سعد بن أبي وقاص أمام معاوية حين حمله على سبه فقال : «كيف أسب رجلا

٥٠٣

كانت له خصال من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لو أن لي واحدة منها لكان أحب إليّ من حمر النعم» ثم ذكر قصة الكساء ، وحديث المنزلة وإعطاء الراية له في يوم خيبر ، ولم يكتف نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك حتى أعلم الامة بمنزلة الرفيعة ـ كما في نفس المصدر ص ١٠٨ ـ فقال لعلي : «من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاعك فقد أطاعني ، ومن عصاك فقد عصاني» ، وغير ذلك من فضائله التي لا تعد ولا تحصى.

نعم ليس من الغريب أن يفتري الشعبي على الحارث ، ويصفه بالكذب فقد كان من صنايع الأمويين يرتع في دنياهم ، ويسير على رغباتهم ، فقد بعثه عبد الملك بن مروان ـ كما في كتاب النجوم الزاهرة الجزء ١ ص ٢٠٨ ـ إلى مصر بسبب البيعة للوليد بن عبد الملك ، ثم تولى المظالم بالكوفة ـ كما في كتاب الأغاني الجزء ٢ ص ١٢٠ ـ من قبل بشر بن مروان أيام ولايته عليها من قبل عبد الملك ، ثم تولى القضاء ـ كما في تاريخ الطبري الجزء ٥ ص ٣١٠ الطبعة الثانية ـ من قبل عمر بن عبد العزيز في الكوفة ، فهو مرواني النزعة ، يقول ويفعل بما يشاء له الهوى ، لا يتحرج من كذبه ، ولا يتبرم من خطل.

ذكر أبو الفرج في الأغاني الجزء ١ ص ١٢١ عن الحسن بن عمر الفقيمي قال : «دخلت على الشعبي فبينا أنا عنده في غرفته إذ سمعت صوت غناء فقلت أهذا في جوارك؟ فأشرف بي على منزله فإذا بغلام كأنه قمر وهو يتغنى ... قال فقال لي الشعبي : أتعرف هذا؟ قلت : لا : فقال : هذا الذي أوتي الحكم صبيا ، هذا ابن سريج».

وذكر أيضا في الجزء ٢ ص ٧١ عن عمر بن أبي خليفة قال : «كان الشعبي مع أبي في أعلى الدار فسمعنا تحتنا غناء حسنا فقال له أبي : هل ترى شيئا؟ قال : لا.

٥٠٤

فنظرنا فإذا غلام حسن الوجه حديث السن يتغنى ... فإذا هو ابن عائشة فجعل الشعبي يتعجب من غنائه ، ويقول : يؤتي الحكمة من يشاء».

وذكر أيضا في الجزء ٢ ص ١٣٣ «أن مصعب بن الزبير أيام ولايته على الكوفة أخذ بيد الشعبي وأدخله في حجلة زوجته عائشة بنت طلحة ، وهي بارزة حاسرة ، فسأله عن حالها فأبدى رأيه فيها ، ووصفها له بما يريد ، ثم أمر مصعب له بعشرة آلاف درهم وثلاثين ثوبا».

نعم ليس غريبا من الشعبي أن يصف الحارث بهذه الصفة ، وقد افترى على أمير المؤمنين عليه‌السلام كما في القرطبي (١) الجزء ١ ص ١٥٨ حيث كان يحلف بالله : «لقد دخل على حفرته وما حفظ القرآن».

قال الصحابي في فقه اللغة ص ١٧٠ : «وهذا كلام شنيع جدا فيمن يقول : سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوني فما من آية إلا أعلم بليل نزلت أم بنهار ، أم في سهل أم في جبل».

وروى السدي ، عن عبد خير ، عن علي : «أنه رأى من الناس طيرة عند وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقسم أن لا يضع على ظهره رداء حتى يجمع القرآن ، قال : فجلس في بيته حتى جمع القرآن فهو أول مصحف جمع فيه القرآن جمعه من قلبه وكان عند آل جعفر».

ألا تنظر أيها المسلم الغيور إلى هذا الرجل كيف تجرّأ على الله وعلى رسوله ، وتكلم بهذا الكلام الشنيع؟ أفيقال مثل هذا الكلام فيمن هو باب مدينة علم الرسول والمبين لامته لما أرسله الله به؟ وفي ذلك روايات كثيرة كما في «كنز العمال

__________________

(١) أي تفسير القرطبي : ١ / ١٥٨.

٥٠٥

الجزء ٦ ص ١٥٦» وفيمن هو باب مدينة الحكمة كما في «صحيح الترمذي الجزء ١٣ ص ١٧١» وفيمن هو مع القرآن والقرآن معه لن يفترقا حتى يردا على الحوض كما في «مستدرك الحاكم الجزء ٣ ص ١٢٤ والجامع الصغير للسيوطي الجزء ٤ ص ٣٥٦» (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ).

٥٠٦

التعليقة (٣)

ص ٢٠

مصادر حديث :

«لتركبنّ سنن من قبلكم ...»

ورد هذا الحديث في مسند أحمد الجزء ٥ ص ٢١٨ من حديث أبي واقد الليثي.

وعند البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب قول النبي : «لتتبعنّ سنن من قبلكم» الجزء ٨ ص ١٥١ وعند مسلم في كتاب «العلم» باب اتباع سنن اليهود والنصارى الجزء ٨ ص ٥٧. وفي مسند أحمد الجزء ٣ ص ٧٤ عن أبي سعيد الخدري. وفي مجمع الزوائد للهيثمي الجزء ٧ ص ٢٦١ عن ابن عباس.

٥٠٧

التعليقة (٤)

ص ٤٥

محادثة بين المؤلف

وحبر يهودي

وقد جرت محادثة بيني وبين حبر من أحبار اليهود تتصل بموضع انتهاء شريعتهم بانتهاء أمد حجتها وبرهانها. قلت له : هل التدين بشريعة موسى عليه‌السلام يختص باليهود أو يعم من سواهم من الأمم؟ فإن اختصت شريعته باليهود لزم أن نثبت لسائر الأمم نبيا آخر ، فمن هو ذلك النبي؟ وإن كانت شريعة موسى عامة لجميع البشر ، فمن الواجب أن تقيموا شاهدا على صدق نبوته وعمومها ، وليس لكم سبيل إلى ذلك فإن معجزاته ليست مشاهدة للأجيال الآخرين ليحصل لهم العلم بها ، وتواتر الخبر بهذه المعجزات يتوقف على أن يصل عدد المخبرين في كل جيل إلى حد يمنع العقل من تواطئهم على الكذب ، وهذا شىء لا يسعكم إثباته ، وأي فرق بين إخباركم أنتم عن معاجز موسى عليه‌السلام وإخبار النصارى عن معاجز عيسى عليه‌السلام وإخبار كل امة اخرى بمعاجز أنبيائها الآخرين فإذا لزم على الناس تصديقكم بما تخبرون به ، فلم لا يجب على الناس تصديق المخبرين الآخرين في نقلهم عن أنبيائهم؟!. وإذا كان الأمر على هذه الصورة فلم لا تصدقون الأنبياء الآخرين ،

فقال : إن معاجز موسى ثابتة عند كل من اليهود ، والنصارى والمسلمين ، وكلهم يعترفون بصدقها. وأما معاجز غيره فلم يعترف بها الجميع ، فهي لذلك تحتاج إلى الإثبات.

٥٠٨

فقلت له : إن معجزات موسى عليه‌السلام لم تثبت عند المسلمين ولا عند النصارى إلا بأخبار نبيهم بذلك لا بالتواتر فإذا لزم تصديق المخبر عن تلك المعاجز وهو يدعي النبوة لزم الإيمان به والاعتقاد بنبوته ، وإلا لم تثبت تلك المعاجز أيضا ، هذا شأن الشرائع السابقة.

أما شريعة الإسلام فإن حجتها باقية تتحدى الأمم إلى يوم القيامة ، وإذا ثبتت هذه الشريعة المقدسة وجب علينا تصديق جميع الأنبياء السابقين لشهادة القرآن الكريم ونبي الإسلام العظيم.

وإذن فالقرآن هو المعجزة الخالدة الوحيدة الباقية التي تشهد لجميع الكتب المنزلة بالصدق ، ولجميع الأنبياء بالتنزيه.

٥٠٩

التعليقة (٥)

ص ٤٦

ترجمة القرآن

وشروطها

لقد بعث الله نبيه لهداية الناس فعززه بالقرآن ، وفيه كل ما يسعدهم ويرقى بهم إلى مراتب الكمال ، وهذا لطف من الله لا يختص بقوم دون آخر بل يعم البشر عامة ، وقد شاءت حكمته البالغة أن ينزل قرآنه العظيم على نبيه بلسان قومه ، مع أن تعاليمه عامة ، وهدايته شاملة ، ولذلك فمن الواجب أن يفهم القرآن كل أحد ليهتدي به.

ولا شك أن ترجمته مما يعين على ذلك ، ولكنه لا بد وأن تتوفر في الترجمة براعة وإحاطة كاملة باللغة التي ينقل منها القرآن إلى غيرها ، لأن الترجمة مهما كانت متقنة لا تفي بمزايا البلاغة التي امتاز بها القرآن ، بل ويجري ذلك في كل كلام إذ لا يؤمن أن تنتهي الترجمة إلى عكس ما يريد الأصل.

ولا بد ـ إذن ـ في ترجمة القرآن من فهمه ، وينحصر فهمه في أمور ثلاثة :

١ ـ الظهور اللفظي الذي تفهمه العرب الفصحى.

٢ ـ حكم العقل الفطري السليم.

٣ ـ ما جاء من المعصوم في تفسيره.

وعلى هذا تتطلب إحاطة المترجم بكل ذلك لينقل منها معنى القرآن إلى لغة اخرى.

٥١٠

وأما الآراء الشخصية التي يطلقها بعض المفسرين في تفاسيرهم ، لم تكن على ضوء تلك الموازين فهي من التفسير بالرأي ، وساقطة عن الاعتبار ، وليس للمترجم أن يتكل عليها في ترجمته.

وإذا روعي في الترجمة كل ذلك فمن الراجح أن تنقل حقائق القرآن ومفاهيمه إلى كل قوم بلغتهم ، لأنها نزلت للناس كافة ، ولا ينبغي أن تحجب ذلك عنهم لغة القرآن ما دامت تعاليمه وحقائقه لهم جميعا.

٥١١

التعليقة (٦)

ص ١١٤

قصة قريش

في محاولتهم لتعجيز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

ويرشد إلى ما أوضحناه في معنى الآيات الكريمة المتقدمة : الروايات التي وردت في شأن نزولها. ففي «تفسير البرهان» عند تفسير هذه الآيات : (١)

«أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قاعدا ذات يوم بمكة بفناء الكعبة ، إذ اجتمع جماعة من رؤساء قريش ، منهم الوليد بن المغيرة المخزومي ، وأبو البختري بن هشام ، وأبو جهل بن هشام ، والعاص بن وائل السهمي ، وعبد الله بن أبي أمية المخزومي ، وجمع ممن يليهم كثير ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نفر من أصحابه يقرأ عليهم كتاب الله ، يذكرهم عن الله أمره ونهيه. فقال المشركون بعض لبعض : قد استفحل أمر محمد وأعظم خطبه. تعالوا نبدأ بتقريعه وتبكيته وتوبيخه ، والاحتجاج عليه ، وإبطال ما جاء به ليهون خطبه على أصحابه ، ويصغر قدره عندهم ، فلعله أن ينزع عما هو فيه ، ومن غيّه وباطله ، وتمرّده وطغيانه ، فإن انتهى وإلا عاملناه بالسيف الباتر. فقال أبو جهل : فمن ذا الذي يلي كلامه ومحاورته؟ قال عبد الله بن أبي أمية المخزومي : أنا إلى ذلك ، أما ترضاني له قرنا حسيبا ومحاورا كفيا؟ قال أبو جهل : بلى. فأتوه جميعا فابتدأ عبد الله بن أبي أمية المخزومي فقال : يا محمد لقد ادعيت دعوى عظيمة ، وقلت مقالا هائلا. زعمت أنك رسول الله رب العالمين ، وما ينبغي لرب العالمين ،

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ١ ص ٤٦ ـ ٥٢.

٥١٢

وخالق الخلق أن يكون مثلك رسولا له بشرا مثلنا ، تأكل كما نأكل ، وتشرب كما نشرب ، وتمشي في الأسواق كما نمشي. فهذا ملك الروم وملك الفرس لا يبعثان رسولا إلا كثير مال ، عظيم حال له قصور ودور وفساطيط وخيام وعبيد وخدم. ورب العالمين فوق هؤلاء كلهم وهم عبيده ... لو أراد الله أن يبعث إلينا رسولا لبعث أجلّ من فيما بينا مالا ، وأحسن حالا. فهلّا انزل هذا القرآن ـ الذي تزعم أن الله أنزله إليك وبعثك رسولا ـ على رجل من القريتين عظيم ، إما الوليد بن مغيرة بمكة ، وإما عروة بن مسعود الثقفي بالطائف.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فهل بقي من كلامك شىء يا عبد الله؟ قال : بلى لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا بمكة هذه ، فإنها ذات أحجار وعرة وجبال ، تكسح أرضها وتحفرها ، وتجري فيها العيون فإنا إلى ذلك محتاجون ، أو يكون لك جنة من نخيل وعنب فتأكل منها وتطعمها ، وتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ، فإنك قلت لنا : (وَإِنْ)(يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) ، فلعلنا نقول ذلك.

ثم قال : ولن نؤمن لك أو تأتي بالله والملائكة قبيلا تأتي بهم وهم لنا مقابلون أو يكون لك بيت من زخرف تعطينا منه وتغنينا فلعلنا نطغى فإنك قلت لنا : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى).

ثم قال : أو ترقى في السماء ولن نؤمن لصعودك حتى تنزل علينا كتابا من الله العزيز الحكيم ، إلى عبد الله بن أبي أمية المخزومي ومن معه بأن آمنوا بمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، فإنه رسولي ، وصدقوه في مقاله فإنه من عندي.

ثم لا ادري يا محمد إذا فعلت هذا كله أؤمن بك أو لا أؤمن بك ، لو رفعتنا إلى السماء ، وفتحت أبوابها ، ودخلناها لقلنا إنما سكّرت أبصارنا وسحرتنا ...

٥١٣

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اللهم أنت السامع لكل صوت ، والعالم بكل شىء ، تعلم ما قاله عبادك ...

وأما قولك : إن هذا ملك الروم ، وملك الفرس لا يبعثان رسولا إلا كثير المال ... فإن الله له التدبير والحكم ، لا يفعل على ظنك وحسابك واقتراحك ، بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ... فلو كان النبي صاحب قصور يحتجب فيها ، أو عبيد وخدام يسترونه عن الناس أليس كانت الرسالة تضيع والأمور تتباطأ؟

وأما قولك لي : ولو كنت نبيا لكان معك ملك يصدقك ونشاهده فالملك لا تشاهده حواسكم ، لأنه من جنس هذا الهواء لاعيان منه ، ولو شاهدتموه بأن يزاد في قوى أبصاركم لقلتم : ليس هذا ملك بل هذا بشر لأنه إنما كان يظهر لكم بصورة البشر الذي ألفتموه لتفهموا عنه مقاله ...

وأما قولك : ما أنت إلا رجلا مسحورا فكيف أكون كذلك وأنتم تعلمون أني في التمييز والعقل فوقكم ، فهل جربتم على مذ نشأت إلى أن استكملت أربعين سنة جريرة أو كذبة أو خنى ، أو خطأ من القول أو سفها من الرأي؟ أتظنون أن رجلا يعتصم طول هذه بحول نفسه وقوتها أو بحول الله وقوته ...؟

وأما قولك : لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ... فإن الله ليس يستعظم مال الدنيا كما تستعظمه أنت ، ولا خطر له عنده كما له عندك ... وليس هو عزوجل مما يخاف أحدا كما تخافه لما له وحاله.

وأما قولك : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ، إلى آخر ما قلته ، فإنك اقترحت على محمد رسول الله أشياء : منها ما لو جاءك به لم يكن برهانا لنبوته ، ورسول الله يرتفع أن يغتنم جهل الجاهلين ويحتج عليهم بما لا حجة فيه.

٥١٤

ومنها ما لو جاءك به كان معه هلاكك ، وإنما يؤتى بالحجج والبراهين ليلزم عباد الله الإيمان ، لئلا يهلكوا بها ، فإنما اقترحت هلاكك ، ورب العالمين أرحم بعباده ، وأعلم بمصالحهم من أن يهلكهم كما يقترحون ، ومنها المحال الذي لا يصح ولا يجوز كونه ... ومنها ما قد اعترفت على نفسك أنك فيه معاند متمرد لا تقبل حجة ، ولا تصغي لبرهان ..!

فأما قولك : يا عبد الله لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا فإنك سألت هذا وأنت جاهل بدلائل الله ، أرأيت لو فعلت هذا كنت من أجل هذا نبيا؟ ... فما هو إلا كقولك لن نؤمن لك حتى تقوم وتمشي على الأرض ... أو ليس لك ولأصحابك جنان من نخيل وعنب بالطائف تأكلون وتطعمون منها ، وتفجرون خلالها تفجيرا ، أفصرتم أنبياء بهذه؟ ...

وأما قولك : أو تسقط السماء كما زعمت كسفا ... فإن في سقوط السماء عليكم موتكم وهلاككم ، فإنما تريد بهذا من رسول الله أن يهلكك ورسول رب العالمين أرحم بك من ذلك ولا يهلكك ، لكنه يقيم عليك حجج الله ، وليس حجج الله لنبيه وحده على حسب الاقتراح من عباده ، لأن العباد جهال بما يجوز من الصلاح وما لا يجوز من الفساد ... وهل رأيت يا عبد الله طبيبا كان دواؤه للمرضى على حسب اقتراحهم؟ ... فمتى رأيت يا عبد الله مدعي حق من قبل رجل أوجب عليه حاكم من حكامهم فيما مضى بيّنة على دعواه على حسب اقتراح المدعى عليه ...!

وأما قولك : أو تأتي بالله والملائكة قبيلا يقابلوننا ونعاينهم ، فإن هذا من المحال الذي لا خفاء به إن ربنا عزوجل ليس كالمخلوقين يجيء ويذهب يقابل ويتحرك ، ويقابل شيئا حتى يؤتى به ، فقد سألتم بهذا المحال ...

وأما قولك : يا عبد الله أو يكون لك بيت من زخرف ـ وهو الذهب ـ أما بلغك

٥١٥

أن لعظيم مصر بيوتا من زخرف؟ قال : بلى. قال أفصار بذلك نبيا؟ قال : لا. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكذلك لا يوجب ذلك لمحمد لو كان له نبوة ، ومحمد لا يغتنم جهلك لحجج الله ...!

وأما قولك : يا عبد الله : أو ترقى في السماء ، ثم قلت : ولن نؤمن لرقيك حتى تنزيل علينا كتابا نقرؤه ، يا عبد الله الصعود إلى السماء أصعب من النزول عنها ، فإذا اعترفت على نفسك أنك لا تؤمن إذا صعدت فكذلك حكم نزولي ، ثم قلت : حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ، من بعد ذلك لا أدري أؤمن بك؟. فأنت يا عبد الله مقر بأنك تعاند حجة الله عليك ... وقد أنزل الله تعالى على كلمة جامعة لبطلان ما اقترحته فقال : «قل يا محمد سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ... وليس لي أن آمر ربي ولا أنهى ولا أشير ...».

والحديث يشتمل على فوائد كثيرة فليراجعه المتتبع ، وفي شأن نزول هذه الآيات روايات عديدة ذكرها «الطبري» عند تفسير الآيات المباركة.

٥١٦

التعليقة (٧)

ص ٣١٩

تحريف حديث المتعة

في صحيح البخاري

روى هذا الحديث :

«كنا نغزو مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس معنا نساء ، فقلنا : ألا نستخصي فنهانا عن ذلك ، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ، ثم قرأ عبد الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).

رواها عن البخاري جماعة من المحدثين ، والمفسرين ، والفقهاء بهذا النص ، ولكن الموجود في صحيح البخاري المتداول : الجزء ٦ ص ٥٣ يخالف ما ذكره هؤلاء من وجهين :

١ ـ حذف كلمة : «ابن مسعود» من سند الحديث ـ وقد ذكره معظمهم ـ لأنه كان يقول بجواز المتعة ، حتى لا تكون قرينة على أن المراد بهذه الرواية هو جواز نكاح المتعة وترخيصه.

٢ ـ حذف كلمة «إلى أجل» من آخر الرواية ، لأنها صريحة في ترخيص نكاح المتعة كما فهمها الشرّاح وفسّروها ، لأن الترخيص في النكاح ـ في هذا المورد ـ لا بد وأن يكون ترخيصا لنكاح المتعة ، دون النكاح الدائم ، خاصة وإن كان المقصود من : «ليس معنا نساء» أي نساؤنا وزوجاتنا ، لا مطلق النساء ، وإلا لم يكن معنى للترخيص في النكاح في تلك الحالة ، ويؤيد ذلك ما ورد في بعض المصادر : «ليس لنا نساء».

٥١٧

ولدلالة هذه الرواية على نكاح المتعة ادعى غير واحد من الفقهاء نسخ هذا الحكم الثابت في هذه الرواية بتحريم نكاح المتعة بعد ذلك بروايات اخرى تفيد تحريمها.

ومع أن ذلك لا يتم لهم لأسباب مرّت عليك ـ عند مناقشة تلك الروايات في آية المتعة ـ فإن يد التحريف تناولت هذه الرواية فغيّرتها عما كانت عليه من الصحة. ألا قاتل الله التحريف ، وأهواء المحرفين!.

ومن المحدثين ، والمفسرين ، والفقهاء الذين رووا الحديث المذكور عن البخاري على وجه الصحة ، هم :

(أ) البيهقي : في سننه

 الجزء ٧

 الصفحة ٢٠٠

طبعة

 حيدرآباد

(ب) السيوطي : في تفسيره

 الجزء ٢

 الصفحة ٢٠٧

 طبعة الميمنية

بمصر

(ج) الزيلعي : في نصب الراية

 الجزء ٣

 الصفحة ١٨٠

 طبعة دار التأليف

بمصر

(د) ابن تيمية : في المنتقى

 الجزء ٢

 الصفحة ٥١٧

طبعة الحجازي

بمصر

(ه) ابن القيم : في زاد المعاد

 الجزء ٤

 الصفحة ٨

 طبعة محمد على صبيح

مصر

(و) القنوجي : في الروضة الندية

 الجزء ٢

 الصفحة ١٦

 طبعة المنيرية

مصر

(ز) محمد بن سليمان : في جمع الفوائد

 الجزء ١

 الصفحة ٥٨٩

 طبعة دار التأليف

 بمصر

ولهذه الرواية مصادر اخرى وهي :

(ح) مسند أحمد :

الجزء ١

الصفحة ٤٢٠

طبعه مصر ١٣١٣

(ط) تفسير القرطبي :

الجزء ٥

الصفحة ١٣٠

طبعة بمصر ١٣٥٦

(ي) تفسير ابن كثير :

 الجزء ٢

الصفحة ٨٧

طبعة مصر على البابي

٥١٨

(ك) أحكام القرآن :

 الجزء ٢

الصفحة ١٨٤

طبعة مصر ١٣٤٧

(ل) الاعتبار للحازمي :

الجزء ٣

الصفحة ١٧٦

طبعة حيدرآباد.

وهناك مصادر اخرى كصحيح أبي حاتم البستي وغير ذلك من أمهات المصادر.

٥١٩

التعليقة (٨)

ص ٣٣٠

رأي محمد عبده

في الطلاق الثلاث

فإنه بعد ما اثبت أن الطلاق الثلاث لا يقع إلا واحدة ، قال :

«وليس المراد مجادلة المقلدين أو إرجاع القضاة والمفتين عن مذاهبهم فيها ، فإن أكثرهم يطلع على هذه النصوص في كتب الحديث وغيرها ، ولا يبالي بها ، لأن العمل عندهم على أقوال كتبهم دون كتاب الله تعالى وسنة رسوله». تفسير المنار. الجزء ١ ص ٣٨٦.

وليته ذكر مثل هذا الكلام في بحث المتعة ، وذلك لما عرفت أن نكاح المتعة قد ثبت في الشريعة الإسلامية دون أن يثبت له ناسخ ، فلم يبق للقائلين بتحريمه غير اتباع أقوال كتبهم دون كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!.

٥٢٠