البيان في تفسير القرآن

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي

البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

بالعربية صدوقا» (١).

وللكسائي راويان بغير واسطة. هما الليث بن خالد ، وحفص بن عمر.

أما الليث : فهو أبو الحارث بن خالد البغدادي. قال ابن الجزري : «ثقة معروف حاذق ضابط». عرض على الكسائي وهو من أجلة أصحابه مات سنة ٢٤٠ (٢).

أقول : الكلام في رواة قراءته كما تقدم.

وأما حفص بن عمر الدوري : فقد تقدمت ترجمته عند ترجمة عاصم.

هذا ما أردنا نقله من ترجمة القراء السبعة ، ورواة قراءاتهم ، وقد نظم أسماءهم ، وأسماء رواتهم «القاسم بن فيرة» في قصيدته اللامية المعروفة بالشاطبية.

وأما الثلاثة المتممة للعشرة فهم : خلف ، ويعقوب ، ويزيد بن القعقاع.

__________________

(١) معجم الأدباء : ٥ / ١٨٥.

(٢) طبقات القراء : ٢ / ٣٤.

١٤١

٨

خلف بن هشام البزّاز

تقدمت ترجمته عند ترجمة حمزة ، ولقراءته راويان ، هما : إسحاق ، وإدريس.

أما إسحاق : فقال فيه ابن الجزري : «إسحاق بن إبراهيم بن عثمان بن عبد الله أبو يعقوب المروزي ثم البغدادي ، ورّاق خلف ، وراوي اختياره عنه ، ثقة». توفي سنة ٢٨٦ (١).

أقول : الكلام فيمن قرأ عليه كما تقدم.

وأما إدريس : فقال فيه ابن الجزري : «إدريس بن عبد الكريم الحداد أبو الحسن البغدادي ، إمام ضابط ، متقن ثقة. قرأ على خلف بن هشام. سئل عنه الدار قطني فقال :

«ثقة وفوق الثقة بدرجة». توفي سنة ٢٩٢ (٢).

أقول : الكلام فيمن روى القراءة عنه كما تقدم.

__________________

(١) طبقات القراء : ١ / ١٥٥.

(٢) نفس المصدر : ص ١٥٤.

١٤٢

٩

يعقوب بن إسحاق

هو يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد الله أبو محمد الحضرمي ، مولاهم البصري. قال ابن الجزري : «أحد القراء العشرة». قال يعقوب : «قرأت على سلام في سنة ونصف ، وقرأت على شهاب بن شرنفة المجاشعي في خمسة أيام ، وقرأ شهاب على مسلمة بن محارب المحاربي في تسعة أيام ، وقرأ مسلمة على أبي الأسود الدؤلي على علي عليه‌السلام. مات في ذي الحجة سنة ٢٠٥ ، وله ثمان وثمانون سنة (١).

قال احمد وأبو حاتم : «صدوق». وذكره ابن حيان في الثقات.

وقال ابن سعد : «ليس هو عندهم بذاك الثبت» (٢).

وليعقوب راويان ، هما : رويس ، وروح.

أما رويس : فهو محمد بن المتوكل أبو عبد الله اللؤلؤي البصري. قال ابن الجزري : «مقرئ حاذق ضابط مشهور أخذ القراءة عرضا عن يعقوب الحضرمي». قال الداني : «وهو من أحذق أصحابه». روى القراءة عنه عرضا محمد بن هارون التمار ،

__________________

(١) طبقات القراء : ٢ / ٣٨.

(٢) تهذيب التهذيب : ١١ / ٣٨٢.

١٤٣

والإمام أبو عبد الله الزبير بن أحمد الزبيري الشافعي. توفي سنة ٣٣٨. (١)

وأما روح : فهو أبو الحسن بن عبد المؤمن الهذلي ، مولاهم البصري النحوي. قال ابن الجزري : «مقرئ جليل ثقة ضابط مشهور». عرض على يعقوب الحضرمي ، وهو من أجلة أصحابه ، توفي سنة ٢٣٥ أو ٢٣٤. (٢)

أقول : الكلام فيمن عرض القراءة عليه كما تقدم.

__________________

(١) طبقات القراء : ٢ / ٢٣٤.

(٢) نفس المصدر : ١ / ٢٨٥.

١٤٤

١٠

يزيد بن القعقاع

قال ابن الجزري : «يزيد بن القعقاع الإمام أبو جعفر المخزومي المدني القارئ.

أحد القراء العشرة تابعيّ مشهور كبير القدر». عرض القرآن على مولاه عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة ، وعبد الله بن عباس ، وأبي هريرة. قال يحيى بن معين : «كان إمام أهل المدينة في القراءة فسمّي القارئ بذلك ، وكان ثقة قليل الحديث». وقال ابن أبي حاتم : «سألت أبي عنه فقال : صالح الحديث». مات بالمدينة سنة ١٣٠ (١).

ولأبي جعفر راويان هما : عيسى ، وابن جماز :

أما عيسى : فهو أبو الحارث عيسى بن وردان المدني الحذاء. قال ابن الجزري :

«إمام مقرئ حاذق ، وراو محقق ضابط». عرض على أبي جعفر وشيبة ثم عرض على نافع. قال الداني : «هو من أجلة أصحاب نافع وقدمائهم ، وقد شاركه في الاسناد». مات ـ فيما أحسب ـ في حدود سنة ١٦٠ (٢).

أقول : الكلام فيمن عرض عليه كما تقدم.

__________________

(١) طبقات القراء : ٢ / ٣٨٢.

(٢) نفس المصدر : ١ / ٦١٦.

١٤٥

وأما ابن جماز : فهو سليمان بن مسلم بن جماز أبو الربيع الزهري مولاهم المدني.

قال ابن الجزري : «مقرئ جليل ضابط». عرض على أبي جعفر ، وشيبة على ما في كتابي «الكامل والمستنير» ، ثم عرض على نافع على ما في «الكامل». مات بعد سنة ١٧٠ فيما أحسب (١).

إن من ذكرناهم من رواة القراء العشرة هم المعروفون بين أهل التراجم. وأما القراءة المروية بغير ما ذكرناه من الطرق فغير مضبوطة. وقد وقع الخلاف بين المترجمين في رواة اخرى لهم. وقد أشرنا إلى هذا ـ فيما تقدم ـ ولذلك لم نتعرض ـ هنا ـ لذكرهم.

__________________

(١) طبقات القراء : ١ / ٣١٥.

١٤٦

نظرة في القراءات

١٤٧

ـ تواتر القرآن من الضروريات.

ـ ليست القراءات متواترة.

ـ تصريحات أرباب الفن بعدم تواتر القراءات.

ـ نقد ما استدل به على تواتر القراءات.

ـ ليست الأحرف السبع هي القراءات السبع.

ـ حجية القراءات.

ـ جواز القراءة بها في الصلاة.

١٤٨

قد أسلفنا في التمهيد من بحث «أضواء على القرّاء» بعض الآراء حول تواتر القراءات وعدمه وأشرنا إلى ما ذهب اليه المحققون من نفي تواتر القراءات ، مع أن المسلمين قد أطبقوا على تواتر القرآن نفسه. والآن نبدأ بالاستدلال على ما اخترناه من عدم تواترها بأمور :

الأول : إن استقراء حال الرواة يورث القطع بأن القراءات نقلت إلينا بأخبار الآحاد. وقد اتضح ذلك فيما أسلفناه في تراجمهم فكيف تصح دعوى القطع بتواترها عن القرّاء. على أن بعض هؤلاء الرواة لم تثبت وثاقته.

الثاني : إن التأمل في الطرق التي أخذ عنها القرّاء ، يدلنا دلالة قطعية على أنّ هذه القراءات إنما نقلت إليهم بطريق الآحاد.

الثالث : اتصال أسانيد القراءات بالقرّاء أنفسهم يقطع تواتر الأسانيد حتى لو كانت رواتها في جميع الطبقات ممن يمتنع تواطؤهم على الكذب ، فإن كل قارئ إنما ينقل قراءته بنفسه.

الرابع : احتجاج كل قارئ من هؤلاء على صحة قراءته ، واحتجاج تابعيه على

١٤٩

ذلك أيضا ، وإعراضه عن قراءة غيره دليل قطعي على أن القراءات تستند إلى اجتهاد القراء وآرائهم ، لأنها لو كانت متواترة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يحتج في إثبات صحتها إلى الاستدلال والاحتجاج.

الخامس : ان في إنكار جملة من أعلام المحققين على جملة من القراءات دلالة واضحة على عدم تواترها ، إذ لو كانت متواترة لما صح هذا الإنكار فهذا ابن جرير الطبري أنكر قراءة ابن عامر ، وطعن في كثير من المواضع في بعض القراءات المذكورة في السبع ، وطعن بعضهم على قراءة حمزة ، وبعضهم على قراءة أبي عمرو ، وبعضهم على قراءة ابن كثير. وان كثيرا من العلماء أنكروا تواتر ما لا يظهر وجهه في اللغة العربية ، وحكموا بوقوع الخطأ فيه من بعض القرّاء (١).

وقد تقدم في ترجمة حمزة إنكار قراءته من إمام الحنابلة أحمد ، ومن يزيد بن هارون ، ومن ابن مهدي (٢) ومن أبي بكر بن عياش ، ومن ابن دريد.

قال الزركشي : ـ بعد ما اختار أن القراءات توقيفية ـ خلافا لجماعة منهم الزمخشري ، حيث ظنوا أنها اختيارية ، تدور مع اختيار الفصحاء ، واجتهاد البلغاء ، وردّ على حمزة قراءة «والأرحام» بالخفض ، ومثل ما حكي عن أبي زيد ، والأصمعي ، ويعقوب الحضرمي أنهم خطئوا حمزة في قراءته «وما أنتم بمصرخيّ» بكسر الياء المشددة ، وكذلك أنكروا على أبي عمرو إدغامه الراء في اللام في «يغفر لكم». وقال الزجاج : «إنه غلط فاحش» (٣).

__________________

(١) التبيان : ص ١٠٦ للمعتصم بالله طاهر بن صالح بن أحمد الجزائري. طبع في مطبعة المنار سنة ١٣٣٤.

(٢) هو عبد الرحمن بن مهدي قال في تهذيب التهذيب : ٦ / ٢٨٠ ، قال أحمد بن سنان : سمعت علي بن المديني يقول : «كان عبد الرحمن بن مهدي أعلم الناس» قالها مرارا. وقال الخليلي : «هو إمام بلا مدافعة». وقال الشافعي : «لا أعرف له نظيرا في الدنيا».

(٣) التبيان : ص ٨٧.

١٥٠

وقد رأينا ومن المناسب أن نذكر من كلمات خبراء الفن ممن صرح بعدم تواتر القراءات ليظهر الحق في المسألة بأجلى صوره :

١

قال ابن الجزري : «كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمال ، وصح سندها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ، ولا يحل إنكارها ، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ، ووجب على الناس قبولها سواء كانت عن الأئمة السبعة أم عن العشرة ، أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين ، ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة ، أو شاذة ، أو باطلة سواء كانت من السبعة أم عمن هو أكبر منهم».

هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف. صرح بذلك الإمام الحافظ أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني ، ونص عليه في غير موضع الإمام أبو محمد مكي بن أبي طالب ، وكذلك الإمام أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي ، وحققه الإمام الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة وهو مذهب السلف الذي لا يعرف عن أحد منهم خلافه.

٢

وقال أبو شامة في كتابه المرشد الوجيز : «فلا ينبغي أن يغتر بكل قراءة تعزى إلى واحد من هؤلاء الأئمة السبعة ويطلق عليها لفظ الصحة ، وانها هكذا أنزلت ، إلا

١٥١

إذا دخلت في ذلك الضابط ، وحينئذ لا يتفرد بنقلها مصنف عن غيره ، ولا يختص ذلك بنقلها عن غيرهم من القرّاء فذلك لا يخرجها عن الصحة ، فإن الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف لا على من تنسب اليه ، فإن القراءات المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة وغيرهم منقسمة إلى المجمع عليه والشاذ ، غير أن هؤلاء السبعة لشهرتهم ، وكثرة الصحيح المجمع عليه في قراءتهم : تركن النفس إلى ما نقل عنهم فوق ما ينقل عن غيرهم» (١).

٣

وقال ابن الجزري أيضا : «وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن ولم يكتف فيه بصحة السند ، وزعم أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر ، وان ما جاء مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن. وهذا مما لا يخفى ما فيه ، فإن التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين الأخيرين من الرسم وغيره ، إذ ما ثبت من أحرف الخلاف متواترا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجب قبوله ، وقطع بكونه قرآنا سواء وافق الرسم أم خالفه ، وإذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف ، الثابت عن هؤلاء الأئمة السبعة وغيرهم. ولقد كنت ـ قبل ـ اجنح الى هذا القول ، ثم ظهر فساده وموافقة أئمة السلف والخلف».

٤

وقال الإمام الكبير أبو شامة في مرشده : «وقد شاع على ألسنة جماعة من المقرءين المتأخرين ، وغيرهم من المقلدين أن القراءات السبع كلها متواترة أي كل

__________________

(١) النشر في القراءات العشر : ١ / ٩.

١٥٢

فرد فرد ما روي عن هؤلاء السبعة. قالوا : والقطع بأنها منزّلة من عند الله واجب. ونحن بهذا نقول ، ولكن فيما اجتمعت على نقله عنهم الطرق ، واتفقت عليه الفرق ، من غير نكير له مع أنه شاع واشتهر واستفاض ، فلا أقل من اشتراط ذلك إذا لم يتفق التواتر في بعضها» (١).

٥

وقال السيوطي : «وأحسن من تكلم في هذا النوع إمام القرّاء في زمانه شيخ شيوخنا أبو الخير ابن الجزري. قال في أول كتابه ـ النشر (كل قراءة وافقت العربية ... فنقل كلام ابن الجزري بطوله الذي نقلنا جملة منه آنفا. ـ ثم قال ـ قلت : أتقن الإمام ابن الجزري هذا الفصل جدا» (٢).

٦

وقال أبو شامة في كتاب البسملة : «إنا لسنا ممن يلتزم بالتواتر في الكلمات المختلف فيها بين القرّاء ، بل القراءات كلها منقسمة إلى متواتر وغير متواتر ، وذلك بيّن لمن أنصف وعرف ، وتصفح القراءات وطرقها» (٣).

٧

وذكر بعضهم : «إنه لم يقع لأحد من الأئمة الأصوليين تصريح بتواتر القراءات ،

__________________

(١) النشر في القراءات العشر : ١ / ١٣.

(٢) الإتقان : ١ / ١٢٩ ، النوع ٢٢ ـ ٢٧.

(٣) التبيان : ١ / ١٠٢.

١٥٣

وقد صرح بعضهم بأن التحقيق ان القراءات السبع متواترة عن الأئمة السبعة بهذه القراءات السبع موجود في كتب القراءات ، وهي نقل الواحد عن الواحد» (١).

٨

وقال بعض المتأخرين من علماء الأثر : «ادّعى بعض أهل الأصول تواتر كل واحد من القراءات السبع ، وادّعى بعضهم تواتر القراءات العشر وليس على ذلك إثارة من علم ... وقد نقل جماعة من القرّاء الإجماع على أن في هذه القراءات ما هو متواتر ، وفيها ما هو آحاد ، ولم يقل أحد منهم بتواتر كل واحد من السبع فضلا عن العشر ، وإنما هو قول قاله بعض أهل الأصول. وأهل الفن أخبر بفنهم» (٢).

٩

وقال مكي في جملة ما قال : «وربما جعلوا الاعتبار بما اتفق عليه عاصم ونافع فإن قراءة هذين الإمامين أولى القراءات ، وأصحها سندا ، وأفصحها في العربية» (٣).

١٠

وممن اعترف بعدم التواتر حتى في القراءات السبع : الشيخ محمد سعيد العريان في تعليقاته ، حيث قال : «لا تخلو إحدى القراءات من شواذ فيها حتى السبع المشهورة فإن فيها من ذلك أشياء». وقال أيضا : «وعندهم أن أصح القراءات من جهة توثيق

__________________

(١) نفس المصدر : ص ١٠٥.

(٢) التبيان : ١ / ١٠٦.

(٣) نفس المصدر : ص ٩٠.

١٥٤

سندها نافع وعاصم ، وأكثرها توخّيا للوجوه التي هي أفصح أبو عمرو ، والكسائي» (١).

ولقد اقتصرنا في نقل الكلمات على المقدار اللازم ، وستقف على بعضها الآخر أيضا بعيد ذلك.

تأمّل بربك. هل تبقى قيمة لدعوى التواتر في القراءات بعد شهادة هؤلاء الأعلام كلهم بعدمه؟ وهل يمكن إثبات التواتر بالتقليد ، وباتّباع بعض من ذهب إلى تحققه من غير أن يطالب بدليل ، ولا سيما إذا كانت دعوى التواتر مما يكذّبها الوجدان؟ وأعجب من جميع ذلك أن يحكم مفتي الديار الأندلسية أبو سعيد بكفر من أنكر تواترها!!!

لنفرض أن القراءات متواترة ، عند الجميع ، فهل يكفر من أنكر تواترها إذا لم تكن من ضروريات الدين ، ثم لنفرض أنها بهذا التواتر الموهوم أصبحت من ضروريات الدين ، فهل يكفر كل أحد بإنكارها حتى من لم يثبت عنده ذلك؟! اللهم إنّ هذه الدعوى جرأة عليك ، وتعدّ لحدودك ، وتفريق لكلمة أهل دينك!!!

أدلة تواتر القراءات :

وأما القائلون بتواتر القراءات السبع فقد استدلوا على رأيهم بوجوه :

الأول : دعوى قيام الإجماع عليه من السلف إلى الخلف ،

وقد وضح للقارئ فساد هذه الدعوى ، على أن الإجماع لا يتحقق باتفاق أهل

__________________

(١) اعجاز القرآن للرافعي : ص ٥٢ ، ٥٣ ، الطبعة الرابعة.

١٥٥

مذهب واحد عند مخالفة الآخرين. وسنوضح ذلك في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

الثاني : ان اهتمام الصحابة والتابعين بالقرآن يقضي بتواتر قراءته ، وإن ذلك واضح لمن أنصف نفسه وعدل.

الجواب :

إن هذا الدليل إنما يثبت تواتر نفس القرآن ، لا تواتر كيفية قراءته ، وخصوصا مع كون القراءة عند جمع منهم مبتنية على الاجتهاد ، أو على السماع ولو من الواحد. وقد عرفت ذلك مما تقدم ، ولو لا ذلك لكان مقتضى هذا الدليل أن تكون جميع القراءات متواترة ، ولا وجه لتخصيص الحكم بالسّبع أو العشر. وسنوضح للقارئ أن حصر القراءات في السبع إنما حدث في القرن الثالث الهجري ، ولم يكن له قبل هذا الزمان عين ولا أثر ، ولازم ذلك أن نلتزم إما بتواتر الجميع من غير تفرقة بين القراءات ، وإما بعدم تواتر شىء منها في مورد الاختلاف ، والأول باطل قطعا فيكون الثاني هو المتعين.

الثالث : ان القراءات السبع لو لم تكن متواترة لم يكن القرآن متواترا والتالي باطل بالضرورة فالمقدم مثله : ووجه التلازم أن القرآن إنما وصل إلينا بتوسط حفّاظه ، والقرّاء المعروفين ، فإن كانت قراءاتهم متواترة فالقرآن متواتر ، وإلا فلا. وإذن فلا محيص من القول بتواتر القراءات.

الجواب :

١ ـ ان تواتر القرآن لا يستلزم تواتر القراءات ، لأن الاختلاف في كيفية الكلمة لا ينافي الاتفاق على أصلها ، ولهذا نجد أن اختلاف الرواة في بعض ألفاظ قصائد

١٥٦

المتنبي ـ مثلا ـ لا يصادم تواتر القصيدة عنه وثبوتها له : وان اختلاف الرواة في خصوصيات هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ينافي تواتر الهجرة نفسها.

٢ ـ ان الواصل إلينا بتوسّط القرّاء إنما هو خصوصيات قراءاتهم. وأما أصل القرآن فهو واصل إلينا بالتواتر بين المسلمين ، وبنقل الخلف عن السلف. وتحفظهم على ذلك في صدورهم وفي كتاباتهم ، ولا دخل للقراء في ذلك أصلا ، ولذلك فإن القرآن ثابت التواتر حتى لو فرضنا أن هؤلاء القرّاء السبعة أو العشرة لم يكونوا موجودين أصلا. وعظمة القرآن أرقى من أن تتوقف على نقل أولئك النفر المحصورين.

الرابع : ان القراءات لو لم تكن متواترة لكان بعض القرآن غير متواتر مثل «ملك» و «مالك» ونحوهما ... فإن تخصيص أحدهما تحكّم باطل. وهذا الدليل ذكره ابن الحاجب وتبعه جماعة من بعده.

الجواب :

١ ـ ان مقتضى هذا الدليل الحكم بتواتر جميع القراءات ، وتخصيصه بالسبع أيضا تحكّم باطل. ولا سيما أن في غير القرّاء السبعة من هو أعظم منهم وأوثق ، كما اعترف به بعضهم ، وستعرف ذلك. ولو سلمنا أن القرّاء السبعة أوثق من غيرهم ، وأعرف بوجوه القراءات ، فلا يكون هذا سببا لتخصيص التواتر بقراءاتهم دون غيرهم. نعم ذلك يوجب ترجيح قراءاتهم على غيرها في مقام العمل. وبين الأمرين بعد المشرقين ، والحكم بتواتر جميع القراءات باطل بالضرورة.

٢ ـ ان الاختلاف في القراءة إنما يكون سببا لالتباس ما هو القرآن بغيره ، وعدم تميزه من حيث الهيئة أو من حيث الإعراب ، وهذا لا ينافي تواتر أصل القرآن.

١٥٧

فالمادة متواترة وإن اختلف في هيئتها أو في إعرابها ، وإحدى الكيفيتين أو الكيفيات من القرآن قطعا وإن لم تعلم بخصوصها.

تعقيب :

ومن الحق إن تواتر القرآن لا يستلزم تواتر القراءات. وقد اعترف بذلك الزرقاني حيث قال : يبالغ بعضهم في الإشادة بالقراءات السبع ، ويقول من زعم أن القراءات السبع لا يلزم فيها التواتر فقوله كفر ، لأنه يؤدي إلى عدم تواتر القرآن جملة ، ويعزى هذا الرأي إلى مفتي البلاد الأندلسية الأستاذ أبي سعيد فرج ابن لب ، وقد تحمّس لرأيه كثيرا وألف رسالة كبيرة في تأييد مذهبه. والرد على من رد عليه ، ولكن دليله الذي استند اليه لا يسلم. فإن القول بعدم تواتر القراءات السبع لا يستلزم القول بعدم تواتر القرآن ، كيف وهناك فرق بين القرآن والقراءات السبع ، بحيث يصح أن يكون القرآن متواترا في غير القراءات السبع ، أو في القدر الذي اتفق عليه القرّاء جميعا. أو في القدر الذي اتفق عليه عدد يؤمن تواطؤهم على الكذب قرّاء كانوا أو غير قرّاء (١).

وذكر بعضهم : ان تواتر القرآن لا يستلزم تواتر القراءات ، وانه لم يقع لأحد من أئمة الأصوليين تصريح بتواتر القراءات وتوقف تواتر القرآن على تواترها ، كما وقع لابن الحاجب (٢).

قال الزركشي في «البرهان» : للقرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان ، فالقرآن هو الوحي المنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للبيان والاعجاز ، والقراءات اختلاف ألفاظ الوحي

__________________

(١) مناهل العرفان : ص ٢٤٨.

(٢) التبيان : ص ١٠٥.

١٥٨

المذكور في الحروف ، وكيفيتها من تخفيف وتشديد غيرهما ، والقراءات السبع متواترة عند الجمهور ، وقيل بل هي مشهورة. (وقال أيضا :) والتحقيق انها متواترة عن الأئمة السبعة. أما تواترها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ففيه نظر ، فإن اسنادهم بهذه القراءات السبع موجود في كتب القراءات ، وهي نقل الواحد عن الواحد (١).

القراءات والأحرف السبعة :

قد يتخيل أن الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن هي القراءات السبع ، فيتمسك لإثبات كونها من القرآن بالروايات التي دلت على أن القرآن نزل على سبعة أحرف ، فلا بد لنا أن ننبه على هذا الغلط ، وان ذلك شىء لم يتوهمه أحد من العلماء المحققين. هذا إذا سلمنا ورود هذه الروايات ، ولم نتعرض لها بقليل ولا كثير. وسيأتي الكلام على هذه الناحية.

والأولى أن نذكر كلام الجزائري في هذا الموضع. قال :

«لم تكن القراءات السبع متميزة عن غيرها ، حتى قام الإمام أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد ـ وكان على رأس الثلاثمائة ببغداد ـ فجمع قراءات سبعة من مشهوري أئمة الحرمين والعراقين والشام ، وهم : نافع ، وعبد الله بن كثير ، وأبو عمرو بن العلاء ، وعبد الله بن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، وعلي الكسائي. وقد توهم بعض الناس أن القراءات السبعة هي الأحرف السبعة ، وليس الأمر كذلك ... وقد لام كثير من العلماء ابن مجاهد على اختياره عدد السبعة ، لما فيه من الإيهام ... قال أحمد بن عمار المهدوي : لقد فعل مسبّع هذه السبعة ما لا ينبغي له ، وأشكل الأمر

__________________

(١) الإتقان : ١ / ١٣٨ ، النوع ٢٢ ـ ٢٧.

١٥٩

على العامة بايهامه كل من قلّ نظره أن هذه القراءات هي المذكورة في الخبر ، وليته إذ اقتصر نقص عن السبعة أو زاد ليزيل الشبهة ...».

وقال الأستاذ إسماعيل بن إبراهيم بن محمد القراب في الشافي :

«التمسك بقراءة سبعة من القرّاء دون غيرهم ليس فيه أثر ولا سنة ، وإنما هو من جمع بعض المتأخرين ، لم يكن قرأ بأكثر من السبع ، فصنف كتابا ، وسماه كتاب السبعة ، فانتشر ذلك في العامة ...».

وقال الإمام أبو محمد مكي :

«قد ذكر الناس من الأئمة في كتبهم أكثر من سبعين ممن هو أعلى رتبة ، وأجل قدرا من هؤلاء السبعة ... فكيف يجوز أن يظن ظان أن هؤلاء السبعة المتأخرين ، قراءة كل واحد منهم أحد الحروف السبعة المنصوص عليها ـ هذا تخلّف عظيم ـ أكان ذلك بنص من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم كيف ذلك!!! وكيف يكون ذلك؟ والكسائي إنما ألحق بالسبعة بالأمس في أيام المأمون وغيره ـ وكان السابع يعقوب الحضرمي ـ فأثبت ابن مجاهد في سنة ثلاثمائة ونحوها الكسائي موضع يعقوب» (١).

وقال الشرف المرسي :

«وقد ظن كثير من العوام أن المراد بها ـ الأحرف السبعة ـ القراءات السبع ، وهو جهل قبيح» (٢).

وقال القرطبي :

«قال كثير من علمائنا كالداودي ، وابن أبي سفرة وغيرهما : هذه القراءات السبع ،

__________________

(١) التبيان : ١ / ٨٢.

(٢) نفس المصدر : ٦١.

١٦٠