البيان في تفسير القرآن

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي

البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

وشاع الطب اليوناني في عصر المسيح عليه‌السلام وأتى الأطباء في زمانه بالعجب العجاب ، كان للطب رواج باهر في سوريا وفلسطين ، لأنهما كانتا مستعمرتين لليونان. وحين بعث الله نبيه المسيح في هذين القطرين شاءت الحكمة أن تجعل برهانه شيئا يشبه الطب ، فكان من معجزاته أن يحيى الموتى ، وأن يبرئ الأكمه والأبرص. ليعلم أهل زمانه أن ذلك شىء خارج عن قدرة البشر ، وغير مرتبط بمبادئ الطب ، وأنه ناشئ عما وراء الطبيعة.

وأما العرب فقد برعت في البلاغة ، وامتازت بالفصاحة ، وبلغت الذروة في فنون الأدب ، حتى عقدت النوادي وأقامت الأسواق للمباراة في الشعر والخطابة. فكان المرء يقدّر على ما يحسنه من الكلام ، وبلغ من تقديرهم للشعر أن عمدوا لسبع قصائد من خيرة الشعر القديم ، وكتبوها بماء الذهب في القباطي ، وعلقت على الكعبة ، فكان يقال هذه مذهّبة فلان إذا كانت أجود شعره (١).

واهتمت بشأن الأدب رجال العرب ونساؤهم ، وكان النابغة الذبياني هو الحكم في شعر الشعراء. يأتي سوق عكاظ في الموسم فتضرب له قبة حمراء من الادم ، فتأتيه الشعراء تعرض عليه أشعارها ليحكم فيها (٢) ولذلك اقتضت الحكمة أن يخص نبي الإسلام بمعجزة البيان ، وبلاغة القرآن فعلم كل عربي أن هذا من كلام الله ، وأنه خارج ببلاغته عن طوق البشر ، واعترف بذلك كل عربي غير معاند.

ويدل على هذه الحقيقة ما روي عن ابن السكيت أنه قال لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام :

«لما ذا بعث الله موسى بن عمران عليه‌السلام بالعصا ، ويده البيضاء ، وآلة السحر؟ وبعث عيسى بآلة الطب؟ وبعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى

__________________

(١) العمدة : لابن رشيق : ١ / ٧٨.

(٢) شعراء النصرانية : ٢ / ٦٤٠ ، ط. بيروت.

٤١

جميع الأنبياء ـ بالكلام والخطب؟. فقال أبو الحسن عليه‌السلام : إن الله لما بعث موسى عليه‌السلام كان الغالب على أهل عصره السحر ، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله ، وما أبطل به سحرهم ، وأثبت به الحجة عليهم. وإن الله بعث عيسى عليه‌السلام في وقت قد ظهرت فيه الزمانات ، واحتاج الناس الى الطب ، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله ، وبما أحيى لهم الموتى ، وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله ، وأثبت به الحجة عليهم. وإنّ الله بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام ـ وأظنه قال : الشعر ـ فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل به قولهم ، وأثبت به الحجة عليهم» (١).

وقد كانت للنبي معجزات اخرى غير القرآن ، كشق القمر ، وتكلم الثعبان ، وتسبيح الحصى ، ولكن القرآن أعظم هذه المعجزات شأنا ، وأقومها بالحجة ، لأن العربي الجاهل بعلوم الطبيعة وأسرار التكوين ، قد يشك في هذه المعجزات ، وينسبها إلى أسباب علمية يجهلها. وأقرب هذه الأسباب إلى ذهنه هو السحر فهو ينسبها اليه ، ولكنه لا يشك في بلاغة القرآن وإعجازه ، لأنه يحيط بفنون البلاغة ، ويدرك أسرارها. على أن تلك المعجزات الاخرى موقتة لا يمكن لها البقاء ، فسرعان ما تعود خبرا من الأخبار ينقله السابق للاحق ، وينفتح فيه باب التشكيك. أما القرآن فهو باق إلى الأبد ، وإعجازه مستمر مع الأجيال. وسنضع بحثا خاصا عن معجزات النبي غير القرآن ، ونتفرغ فيه لمحاسبة من أنكر هذه المعجزات من الكتّاب المعاصرين وغير هم.

__________________

(١) اصول الكافي : ١ / ٢٤ ، الحديث : ٢٠ ،

٤٢

القرآن معجزة إلهية :

قد علم كل عاقل بلغته الدعوة الإسلامية ، أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشّر جميع الأمم بدعوتهم إلى الإسلام ، وأقام الحجة عليهم بالقرآن ، وتحدّاهم بإعجازه ، وطلب منهم أن يأتوا بمثله وإن كان بعضهم لبعض ظهيرا ، ثم تنزّل عن ذلك فطلب منهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات ، ثم تحدّاهم إلى الإتيان بسورة واحدة.

وكان من الجدير بالعرب ـ وفيهم الفصحاء النابغون في الفصاحة ـ أن يجيبوه إلى ما يريد ، ويسقطوا حجته بالمعارضة ، لو كان ذلك ممكنا غير مستحيل. نعم كان من الجدير بهم أن يعارضوا سورة واحدة من سور القرآن ، ويأتوا بنظيرها في البلاغة ، فيسقطوا حجة هذا المدعي الذي تحدّاهم في أبرع كمالاتهم ، وأظهر ميزاتهم ، ويسجلوا لأنفسهم ظهور الغلبة وخلود الذكر ، وسموّ الشرف والمكانة ، ويستريحوا بهذه المعارضة البسيطة من حروب طاحنة ، وبذل أموال ، ومفارقة أوطان ، وتحمّل شدائد ومكاره.

ولكن العرب فكّرت في بلاغة القرآن فأذعنت لإعجازه ، وعلمت أنها مهزومة إذا أرادت المعارضة ، فصدّق منها قوم داعي الحق ، وخضعوا لدعوة القرآن ، وفازوا بشرف الإسلام ، وركب آخرون جادة العناد ، فاختاروا المقابلة بالسيوف على المقاومة بالحروف ، وآثروا المبارزة بالسنان على المعارضة في البيان ، فكان هذا العجز والمقاومة أعظم حجة على أن القرآن وحي إلهي خارج عن طوق البشر.

وقد يدّعي جاهل من غير المسلمين : أن العرب قد أتت بمثل القرآن وعارضته بالحجة ، وقد اختفت علينا هذه المعارضة لطول الزمان.

٤٣

وجواب ذلك : أن هذه المعارضة لو كانت حاصلة لأعلنتها العرب في أنديتها ، وشهرتها في مواسمها وأسواقها. ولأخذ منه أعداء الإسلام نشيدا يوقعونه في كل مجلس ، وذكرا يرددونه في كل مناسبة ، وللقّنه السلف للخلف ، وتحفظوا عليه تحفظ المدعي على حجته ، وكان ذلك أقرّ لعيونهم من الاحتفاظ بتاريخ السلف ، وأشعار الجاهلية التي ملأت كتب التاريخ ، وجوامع الأدب ، مع أنّا لا نرى أثرا لهذه المعارضة ، ولا نسمع لها بذكر. على أن القرآن الكريم قد تحدّى جميع البشر بذلك ، بل جميع الإنس والجن ، ولم يحصر ذلك بجماعة خاصة. فقال عزّ من قائل :

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) «١٧ : ٨٨».

ونحن نرى النصارى وأعداء الإسلام ، يبذلون الأموال الطائلة في الحطّ من كرامة هذا الدين ، والنيل من نبيه الأعظم ، وكتابه المقدس ، ويتكرر هذا العمل منهم في كل عام بل في كل شهر. فلو كان من الميسور لهم أن يعارضوا القرآن ، ولو بمقدار سورة منه ، لكان هذا أعظم لهم في الحجة ، وأقرب لحصول الامنية ، ولما احتاجوا إلى صرف هذه الأموال ، وإتعاب النفوس.

(يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) «٦١ : ٨».

على أن من مارس كلاما بليغا ، وبالغ في ممارسته زمانا ، أمكنه أن يأتي بمثله أو بما يقاربه في الأسلوب ، وهذا مشاهد في العادة ، ولا يجري مثل هذا في القرآن ، فإن كثرة ممارسته ودراسته ، لا تمكّن الإنسان من مشابهته في قليل ولا كثير ، وهذا يكشف لنا أن للقرآن اسلوبا خارجا عن حدود التعليم والتعلم ، ولو كان القرآن من كلام الرسول وإنشائه ، لوجدنا في بعض خطبه وكلماته ما يشبه القرآن في أسلوبه ،

٤٤

ويضارعه في بلاغته. وكلمات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخطبه محفوظة مدونة تختص بأسلوب آخر. ولو كان في كلماته ما يشبه القرآن لشاع نقله وتدوينه ، وخصوصا من أعدائه الذين يريدون كيد الإسلام بكل وسيلة وذريعة. مع أن للبلاغة المألوفة حدودا لا تتعدّاها في الأغلب ، فإنا نرى البليغ العربي الشاعر أو الناثر تختص بلاغته في جهة واحدة ، أو جهتين أو ثلاث جهات ، فيجيد في الحماسة مثلا دون المديح ، أو في الرثاء دون النسيب. والقرآن قد استطرد مواضيع عديدة ، وتعرّض لفنون من الكلام كثيرة ، وأتى في جميع ذلك بما يعجز عنه غيره ، وهذا ممتنع على البشر في العادة.

القرآن معجزة خالدة :

قد عرفت أن طريق التصديق بالنبوة والإيمان بها ، ينحصر بالمعجز الذي يقيمه النبي شاهدا لدعواه ، ولما كانت نبوءات الأنبياء السابقين مختصة بأزمانهم وأجيالهم ، كان مقتضى الحكمة أن تكون معاجزهم مقصورة الأمد ، ومحدودة ، لأنها شواهد على نبوءات محدودة ، فكان البعض من أهل تلك الأزمنة يشاهد تلك المعجزات فتقوم عليه الحجة ، والبعض الآخر تنقل اليه أخبارها من المشاهدين على وجه التواتر ، فتقوم عليه الحجة أيضا.

أما الشريعة الخالدة ، فيجب أن تكون المعجزة التي تشهد بصدقها خالدة أيضا ، لأن المعجزة إذا كانت محدودة قصيرة الأمد لم يشاهدها البعيد ، وقد تنقطع أخبارها المتواترة ، فلا يمكن لهذا البعيد أن يحصل له العلم بصدق تلك النبوة ، فإذا كلفه الله بالإيمان بها كان من التكليف بالممتنع ، والتكليف بالممتنع مستحيل على الله تعالى ، فلا بدّ للنبوة الدائمة المستمرة من معجزة دائمة. وهكذا أنزل الله القرآن معجزة خالدة ليكون برهانا على صدق الرسالة الخالدة ، وليكون حجة على الخلف كما كان حجة

٤٥

على السلف. وقد نتج لنا عما قدمناه أمران :

الأول : تفوّق القرآن على جميع المعجزات التي ثبتت للأنبياء السابقين ، وعلى المعجزات الاخرى التي ثبتت لنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكون القرآن باقيا خالدا ، وكون إعجازه مستمرا يسمع الأجيال ويحتج على القرون.

الثاني : إن الشرائع السابقة منتهية منقطعة ، والدليل على انتهائها هو انتهاء أمد حجتها وبرهانها ، لانقطاع زمان المعجزة التي شهدت بصدقها. (١)

ثم ان القرآن يختص بخاصة اخرى ، وبها يتفوق على جميع المعجزات التي جاء بها الأنبياء السابقون ، وهذه الخاصة هي تكفله بهداية البشر (٢) ، وسوقهم إلى غاية كما لهم. فإن القرآن هو المرشد الذي أرشد العرب الجفاة الطغاة ، المعتنقين أقبح العادات والعاكفين على الأصنام ، والمشتغلين ـ عن تحصيل المعارف وتهذيب النفوس ـ بالحروب الداخلية ، والمفاخرات الجاهلية فتكونت منهم ـ في مدة يسيرة ـ امة ذات خطر في معارفها ، وذات عظمة في تاريخها ، وذات سموّ في عاداتها. ومن نظر في تاريخ الإسلام وسبر تراجم أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المستشهدين بين يديه ، ظهرت له عظمة القرآن في بليغ هدايته ، كبير أثره ، فإنه هو الذي أخرجهم من حضيض الجاهلية إلى أعلى مراتب العلم والكمال ، وجعلهم يتفانون في سبيل الدين وإحياء الشريعة ، ولا يعبئون بما تركوا من مال وولد وأزواج.

وإن كلمة المقداد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين شاور المسلمين في الخروج إلى بدر شاهد عدل على ما قلنا :

__________________

(١) انظر في قسم التعليقات محادثة علمية جرت بين المؤلف وبين حبر يهودي يتصل بهذا الموضوع برقم (٤).

(٢) انظر قسم التعليقات لمعرفة الحاجة الى ترجمة القرآن وشروطها برقم (٥).

٤٦

«يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك ، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا الى برك الغماد ـ يعني مدينة الحبشة ـ لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيرا ، ودعا له بخير» (١).

هذا واحد من المسلمين ، يعرب عن عقيدته وعزمه ، وتفانيه في إحياء الحق ، وإماتة الشرك. وكان الكثير منهم على هذه العقيدة ، متذرعين بالإخلاص.

إن القرآن هو الذي نوّر قلوب أولئك العاكفين على الأصنام ، المشتغلين بالحروب الداخلية والمفاخرات الجاهلية ، فجعلهم أشدّاء ، على الكفار رحماء بينهم. يؤثر أحدهم حياة صاحبه على نفسه ، فحصل للمسلمين بفضل الإسلام من فتوح البلدان في ثمانين سنة ما لم يحصل لغيرهم في ثمانمائة سنة. ومن قارن بين سيرة أصحاب النبي وسيرة أصحاب الأنبياء السابقين علم أن في ذلك سرا إلهيا ، وأن مبدأ هذا السر هو كتاب الله الذي أشرق على النفوس ، وطهّر القلوب والأرواح بسموّ العقيدة ، وثبات المبدأ.

انظر الى تاريخ الحواريين ، والى تاريخ غيرهم من أصحاب الأنبياء تعلم كيف كانوا. كانوا يخذلون أنبياءهم عند الشدائد ، ويسلمونهم عند خشية الهلاك!! ولذلك لم يكن لاولئك الأنبياء تقدم على طواغيت زمانهم بل كانوا يتسترون عنهم بالكهوف والأودية. هذه هي الخاصة الثانية التي تفضل القرآن على سائر المعجزات.

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٢ / ١٤٠ ، غزوة بدر.

٤٧

وإذ قد عرفت أن القرآن معجزة إلهية ، في بلاغته وأسلوبه فاعلم أن اعجازه لا ينحصر في ذلك ، بل هو معجزة ربانية ، وبرهان صدق على نبوة من انزل اليه من جهات شتى ، فيحسن بنا أن نتعرض الى جملة منها على نحو الاختصار :

١ ـ القرآن والمعارف :

صرّح الكتاب في كثير من آياته الكريمة بأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمّي ، وقد جهر النبي بهذه الدعوى بين ملأ من قومه وعشيرته الذين نشأ بين أظهرهم ، وتربّى في أوساطهم ، فلم ينكر أحد عليه هذه الدعوى ، وفي ذلك دلالة قطعية على صدقه فيما يدعيه. ومع أمّيته فقد أتى في كتابه من المعارف بما أبهر عقول الفلاسفة ، وأدهش مفكري الشرق والغرب منذ ظهور الإسلام إلى هذا اليوم ، وسيبقى موضعا لدهشة المفكرين ، وحيرتهم إلى اليوم الأخير ، وهذا من أعظم نواحي الإعجاز.

ولنتنازل للخصوم عن هذه الدعوى ، ولنفرض أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن أمّيّا ، ولنتصوره قد تلقّن المعارف ، وأخذ الفنون والتاريخ بالتعليم ، أفليس لازم هذا أنه اكتسب معارفه وفنونه من مثقفي عصره الذين نشأ بين أظهرهم؟ ونحن نرى هؤلاء الذين نشأ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينهم ، منهم وثنيون يعتقدون بالأوهام ، ويؤمنون بالخرافات ، وذلك ظاهر. ومنهم كتابيون يأخذون معارفهم وتأريخهم ، وأحكامهم من كتب العهدين التي ينسبونها إلى الوحي ، ويعزونها إلى الأنبياء. وإذا فرضنا أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ تعاليمه من أهل عصره ، أفليس لازم هذا أن ينعكس على أقواله ومعارفه ظلال هذه العقائد التي اكتسبها من معلميه ومرشديه ومن هذه الكتب التي كانت مصدر ثقافته وعلومه؟ ونحن نرى مخالفة القرآن لكتب العهدين في جميع النواحي ، وتنزيهه

٤٨

لحقائق المعارف عن الموهومات الخرافية التي ملأت كتب العهدين وغيرها من مصادر التعلم في ذلك العصر.

وقد تعرض القرآن الكريم لصفات الله جل شأنه في آيات كثيرة ، فوصفه بما يليق بشأنه من صفات الكمال ، ونزّهه عن لوازم النقص والحدوث. وهذه نماذج منها :

(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ ٢ : ١١٦. بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ١١٧. وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. ١٦٣. اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ : ٢٥٥. إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ٣ : ٥. هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ : ٦. ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ٦ : ١٠٢. لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ : ١٠٣. قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ١٠ : ٣٤. اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ١٣ : ٢. وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٢٨ : ٧٠. هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ ٥٩ : ٢٢. هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ

٤٩

الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. ٢٣. هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ : ٢٤).

هكذا يصف القرآن إله العالمين ، ويأتي بالمعارف التي تتمشّى مع البرهان الصريح ، ويسير مع العقل الصحيح ، وهل يمكن لبشر أمي نشأ في محيط جاهل أن يأتي بمثل هذه المعارف العالية؟.

ويتعرض القرآن لذكر الأنبياء فيصفهم بكل جميل ينبغي أن يوصفوا به ، وينسب إليهم كل مأثرة كريمة تلازم قداسة النبوة ، ونزاهة السفارة الإلهية ، وإليك نماذج منها :

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ٧ : ١٥٧. هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ٦٢ : ٢. وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ٦٨ : ٣. وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ : ٤. إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ٣ : ٢٣. وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ٤٣ : ٢٦. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ : ٢٧. وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ٦ : ٧٥. وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ : ٨٤. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى

٥٠

وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ : ٨٥. وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ : ٨٦. وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ : ٨٧. وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ٢٧ : ١٥. وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ ٣٨ : ٤٨. أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا ١٩ : ٥٨).

هذه جملة من الآيات التي جاء بها الكتاب العزيز في تنزيه الأنبياء وتقديسهم ، وإظهارهم على حقيقتهم من القداسة والنزاهة وجميل الذكر.

أما كتب العهدين فقد تعرضت أيضا لذكر الأنبياء ووصفتهم ، ولكن بما ذا وصفتهم؟ بأي منزلة وضيعة أنزلت هؤلاء السفرة الأبرار ، ولنذكر لذلك أمثلة :

١ ـ ذكرت التوراة في الإصحاحين الثاني والثالث من سفر التكوين. قصة آدم وحواء خروجهما من الجنة. وذكرت أن الله أجاز لآدم أن يأكل من جميع الأثمار إلا ثمرة شجرة معرفة الخير والشر. وقال له : «لأنك يوم تأكل منها موتا تموت» ثم خلق الله من آدم زوجته حواء وكانا عاريين في الجنة لأنهما لا يدركان الخير والشر ، وجاءت الحية ودلتهما على الشجرة ، وحرضتهما على الأكل من ثمرها وقالت : إنكما لا تموتان بل إن الله عالم أنكما يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتعرفان الخير والشر فلما أكلا منها انفتحت أعينهما ، وعرفا أنهما عاريان. فصنعا لأنفسهما مئزرا فرآهما الرب وهو يتمشى في الجنة ، فاختبأ آدم وحواء منه فنادى الله آدم أين أنت؟ فقال آدم :

٥١

سمعت صوتك فاختبأت لأني عريان. فقال الله : من أعلمك بأنك عريان ، هل أكلت من الشجرة؟ ثم إن الله بعد ما ظهر له أكل آدم من الشجرة. قال : هو ذا آدم صار كواحد منا عارف بالخير والشر ، والآن يمدّ يده فيأكل من شجرة الحياة ، ويعيش إلى الأبد ، فأخرجه الله من الجنة ، وجعل على شرقيّها ما يحرس طريق الشجرة. وذكر في العدد التاسع من الإصحاح الثاني عشر أن الحية القديمة هو المدعو إبليس ، والشيطان الذي يضل العالم كله.

انظر كيف تنسب كتب الوحي الى قداسة الله أنه كذب على آدم ، وخادعه في أمر الشجرة ، ثم خاف من حياته ، وخشي من معارضته إياه في استقلال مملكته فأخرجه من الجنة ، وأن الله جسم يتمشى في الجنة ، وأنه جاهل بمكان آدم حين اختفى عنه ، وأن الشيطان المضل نصح لآدم ، وأخرجه من ظلمة الجهل الى نور المعرفة ، وأدراك الحسن والقبح.

٢ ـ وفي الإصحاح الثاني عشر من التكوين : أن «إبراهيم» ادّعى أمام «فرعون» أن «سارة» أخته وكتم أنها زوجته ، فأخذها فرعون لجمالها «وصنع الى إبراهيم خيرا بسببها ، وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال». وحين علم فرعون أن سارة كانت زوجة إبراهيم وليست أخته قال له : «لما ذا لم تخبرني أنها امرأتك؟ لما ذا قلت : هي اختي حتى أخذتها لي لتكون زوجتي». ثم ردّ فرعون سارة إلى إبراهيم.

ومغزى هذه القصة أن إبراهيم صار سببا لأخذ فرعون سارة زوجة إبراهيم ، زوجة له. وحاشا إبراهيم ـ وهو من أكرم أنبياء الله ـ أن يرتكب ما لا يرتكبه فرد عادي من الناس.

٥٢

٣ ـ وفي الإصحاح التاسع عشر من سفر التكوين : قصة «لوط» مع ابنتيه في الجبل ، وأن الكبيرة قالت لاختها : «أبونا قد شاخ وليس في الأرض رجل ليدخل علينا. هلمي نسقي أبانا خمرا ، ونضطجع معه فنحيي من أبينا نسلا فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة» واضطجعت معه الكبيرة. وفي الليلة الثانية سقتاه الخمر أيضا ، ودخلت معه الصغيرة فحملتا منه ، وولدت الكبيرة ابنا وسمته «موآب» وهو أب الموآبيين ، وولدت الصغيرة ابنا فسمّته «بن عمي» وهو أبو بني عمون إلى اليوم.

هذا ما نسبته التوراة الرائجة إلى لوط نبي الله وإلى ابنتيه ، وليحكّم الناظر فيها عقله ، ثم ليقل ما يشاء.

٤ ـ وفي الإصحاح السابع والعشرين من التكوين : أن «إسحق» أراد أن يعطي ابنه «عيسو» بركة النبوة فخادعه «يعقوب» وأوهمه أنه عيسو ، وقدم له طعاما وخمرا فأكل شرب ، وبهذه الحيلة والكذب المتكرر توسل إلى أن باركه الله. وقال له إسحاق : «كن سيدا لاخوتك ، ويسجد لك بنو أمك ليكن لاعنوك ملعونين ، ومباركوك مباركين» ولما جاء عيسو علم أن أخاه يعقوب قد انتهب بركة النبوة. فقال لأبيه : «باركني أنا أيضا يا أبي. فقال : جاء أخوك بمكر وأخذ بركتك». ثم قال عيسو : «أما أبقيت لي بركة»؟ فقال إسحق : «إني قد جعلته سيدا لك ، ودفعت اليه جميع إخوته عبيدا ، وعضدته بحنطة وخمر. فما ذا أصنع إليك يا ابني؟ ورفع عيسو صوته وبكى».

أفهل يعقل انتهاب النبوة؟ وهل يعطي الله نبوته لمخادع كاذب ، ويحرم منها أهلها؟ هل أن يعقوب بعمله هذا خادع الله أيضا كما خادع إسحاق ولم يقدر الله بعد ذلك على إرجاعها إلى أهلها؟!! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ولعل سكرة الخمر دعت الى وضع هذه السخافة ، والى نسبة شرب الخمر الى إسحق.

٥٣

٥ ـ وفي الإصحاح الثامن والثلاثين من التكوين : أن «يهوذا» بن يعقوب زنى بزوجة ابنه «عير» المسماة «بثامار» وأنها حبلت منه وولدت له ولدين «فارص» و «زارح» ، وقد ذكر إنجيل متى في الإصحاح الأول نسب يسوع المسيح تفصيلا ، وجعل المسيح وسليمان وأباه داود من نسل فارص «هذا الذي ولد من زنا يهوذا بكنّته (١) ثامار».

حاشا أنبياء الله أن يولدوا من الزنى ، كيف وأن تنسب إليهم الولادة من الزنى بذات محرم!! ولكن واضع التوراة الرائجة لا يبالي بما يكتب وبما يقول!!.

٦ ـ وفي الإصحاحين الحادي والثاني عشر من صموئيل الثاني : أن داود زنى بامرأة «أوريا» المجاهد المؤمن. وحملت من ذلك الزنى ، فخشي داود الفضيحة ، وأراد تمويه الأمر على أوريا ، فطلبه وأمره أن يدخل بيته فأبى «أوريا» وقال : «سيدي ـ يوآب ـ وعبيد سيدي نازلون على وجه الصحراء ، وأنا آتي الى بيتي لآكل وأشرب وأضطجع مع امرأتي ، وحياتك وحياة نفسك لا أفعل هذا الأمر» فلما يئس داود من التمويه أقامه عنده اليوم ، ودعاه فأكل عنده وشرب وأسكره وفي الصباح كتب داود الى يوآب : «اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة ، وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت» وقد فعل يوآب ذلك فقتل أوريا ، وأرسل الى داود يخبره بذلك ، فضم داود امرأة أوريا الى بيته وصارت امرأة له بعد انتهاء مناحتها على بعلها. وفي الإصحاح الأول من إنجيل متى : أن سليمان بن داود ولد من تلك المرأة.

تأمل كيف تجرّأ هذا الوضّاع على الله؟ وكيف تصح نسبة هذا الفعل إلى من له أدنى غيرة وحمية فضلا عن نبي من أنبياء الله؟ وكيف يجتمع هذا مع ما في إنجيل لوقا

__________________

(١) كنّة : زوجة الابن.

٥٤

من أن المسيح يجلس على كرسي داود أبيه؟!!

٧ ـ وفي الإصحاح الحادي عشر من الملوك الأول : أي سليمان كانت له سبعمائة زوجة من السيدات ، وثلاثمائة من السراري ، فأمالت النساء قلبه وراء آلهة اخرى «فذهب سليمان وراء عشتورث آلهة الصيدونيين ، وملكوم ، رجس العمونيين ، وعمل سليمان الشر في عيني الرب ... فقال الرب : إني امزق المملكة عنك تمزيقا وأعطيها لعبدك». وفي الثالث والعشرين من الملوك الثاني : أن المرتفعات التي بناها سليمان لعشتورث رجاسة الصيدونيين ول «كموش» رجاسة الموآبيين وملكوم كراهة بني عمون نجسها الملك «يوشيا» وكسر التماثيل وقطع السواري ، وكذلك فعل بجميع آثار الوثنيين.

هب أن النبي لا يلزم أن يكون معصوما ـ والأدلة العقلية قائمة على عصمته ـ فهل يجوز له في حكم العقل أن يعبد الأصنام ، وأن يبني لها المرتفعات ثم يدعو الناس الى التوحيد والى عبادة الله؟ كلا!!!

وفي الإصحاح الأول من كتاب «هوشع» : أن «أول ما كلم الرب هوشع. قال الرب لهوشع : اذهب خذ لنفسك امرأة زنى ، وأولاد زنى ، لأن الأرض قد زنت زنى تاركة الرب ، فذهب وأخذ «جومر» بنت دبلايم فحبلت ، وولد له ابنان وبنت». وفي الإصحاح الثالث : أن الرب قال له : «اذهب أيضا أحبب امرأة ـ حبيبة صاحب وزانية ـ كمحبة الرب لبني إسرائيل».

أهكذا يكون أمر الله ، يأمر نبيه بالزنى وبمحبة امرأة زانية؟ تعالى عن ذلك علوا كبيرا. ولا عجب في أن الكاتب لا يدرك قبح ذلك. وإنما العجب من الأمم المثقفة ورجال العصر ، ومهرة العلوم الناظرين في التوراة الرائجة ، والمطلعين على ما

٥٥

اشتملت عليه من الخرافات ، كيف تعتقد بأنها وحي إلهي وكتاب سماوي. نعم ان تقليد الآباء كالغريزة الثانوية ، يصعب التنازل عنه إلى اتباع الحق والحقيقة. والله الهادي والموفق.

٩ ـ وفي الإصحاح الثاني عشر من إنجيل متى ، والثالث من مرقس والثامن من لوقا : أن المسيح فيما هو يكلم الجموع «إذا أمه وإخوته قد وقفوا خارجا طالبين أن يكلموه. فقال له واحد : هو ذا أمك وإخوتك واقفون خارجا طالبين أن يكلموك. فأجاب وقال للقائل له : من هم أمي ومن هم إخوتي ، ثم مدّ يده نحو تلاميذه وقال : ها أمي وإخوتي ، لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي».

انظر إلى هذا الكلام وتأمّل ما فيه من سخافة. ينتهر المسيح امه القدّيسة البرّة ويحرمها رؤيته ، ويعرّض بقداستها ، ويفضّل تلاميذه عليها وهم الذين قال فيهم المسيح : «إنهم لا إيمان لهم» كما في الرابع من مرقس ، وإنه ليس لهم من الإيمان مثل حبة خردل كما في السابع عشر من متى ، وهم الذين طلب منهم المسيح أن يسهروا معه ليلة هجوم اليهود عليه فلم يفعلوا ، ولما أمسكه اليهود في الظاهر تركه التلاميذ كلهم وهربوا ، كما في الإصحاح السادس والعشرين من إنجيل متى ، إلى ما سوى ذلك من الشنائع التي نسبتها إليهم الأناجيل.

١٠ ـ وفي الإصحاح الثاني من يوحنا : أن المسيح حضر مجلس عرس فنفد خمرهم ، فعمل لهم ستة أجران من الخمر بطريق المعجزة. وفي الحادي عشر من متى ، والسابع من لوقا : أن المسيح كان يشرب الخمر ، بل كان شرّيب خمر «كثير الشرب لها».

٥٦

حاشا قدس المسيح من هذا البهتان العظيم. فقد جاء في العاشر اللاويين أن الرب قال لهارون : «خمرا ومسكرا لا تشرب أنت وبنوك معك عند دخولكم خيمة الاجتماع لكي لا تموتوا ، فرضا دهريا في أجيالكم ، وللتمييز بين المقدس والمحلل ، وبين النجس والطاهر». وفي الأول من لوقا في مدح يوحنا المعمدان : «لأنه يكون عظيما أمام الرب خمرا ومسكرا لا يشرب». إلى غير ذلك مما دلّ على حرمة شرب الخمر في العهدين.

هذه أمثلة يسيرة في كتب العهدين الرائجة من سخافات وخرافات ، وأضاليل وأباطيل لا تلتئم مع البرهان ، ولا تتمشى مع المنطق الصحيح ، وضعناها أمام القارئ ليمعن النظر فيها ، وليحكّم عقله ووجدانه. وهل يمكن أن يحكم أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد اقتبس معارفه ، وأخذ محتويات قرآنه العظيم من هذه السخافات وهو على ما هو عليه من سموّ المعارف ، ورصانة التعليم؟ وهل يمكن أن تنسب هذه الكتب السخيفة إلى وحي السماء وهي التي لوّثت قداسة الأنبياء بما ذكرناه وبما لم نذكره (١)؟

٢ ـ القرآن والاستقامة في البيان :

قد علم كل عاقل جرّب الأمور ، وعرف مجاريها أن الذي يبني أمره على الكذب والافتراء في تشريعه وأخباره ، لا بد من أن يقع منه التناقض والاختلاف ، ولا سيما إذا تعرّض لكثير من الأمور المهمة في التشريع والاجتماع والعقائد ، والنظم الأخلاقية المبتنية على أدق القواعد ، وأحكم الاسس ، ولا سيما إذا طالت على ذلك المفتري

__________________

(١) راجع الهدى إلى دين المصطفى. والرحلة المدرسية لشيخنا البلاغي. وكتابنا الاعجاز ، تجد في هذه الكتب ، الشيء الكثير من نقل هذه الخرافات. (المؤلف)

٥٧

أيام ، ومرّت عليه أعوام. نعم لا بد من أن يقع في التناقض والتهافت من حيث يريد أو لا يريد ، لأن ذلك مقتضى الطبع البشري الناقص إذا خلا من التسديد. وقد قيل في المثل المعروف : «لا حافظة لكذوب».

وقد تعرض القرآن الكريم لمختلف الشئون ، وتوسّع فيها أحسن التوسع فبحث في الإلهيات ومباحث النبوات ، ووضع الأصول في تعاليم الأحكام والسياسات المدنية ، والنظم الاجتماعية ، وقواعد الأخلاق. وتعرّض لأمور أخرى تتعلق بالفلكيات والتاريخ ، وقوانين السلم والحرب ، ووصف الموجودات السماوية والأرضية من ملك وكواكب ورياح ، وبحار ونبات وحيوان وإنسان ، وتعرض لأنواع الأمثال ، ووصف أهوال القيامة ومشاهدها فلم توجد فيه أية مناقضة ولا أدنى اختلاف ، ولم يتباعد عن أصل مسلم عند العقل والعقلاء. وربما يستعرض الحادثة الواحدة مرتين أو أكثر ، فلا تجد فيه أقل تهافت وتدافع. وإليك قصة موسى عليه‌السلام ، فقد تكررت في القرآن مرارا عديدة ، وفي كل مرة تجد لها مزية تمتاز بها من غير اختلاف في جوهر المعنى.

وإذا عرفت أن الآيات نزلت نجوما متفرقة على الحوادث ، علمت أن القرآن روح من أمر الله ، لأن هذا التفرق يقتضي بطبعه عدم الملاءمة والتناسب حين يجتمع. ونحن نرى القرآن معجزا في كلتا الحالتين ، نزل متفرقا فكان معجزا حال تفرقه ، فلما اجتمع حصل له إعجاز آخر. وقد أشار إلى هذا النحو من الإعجاز قوله تعالى :

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) «٤ : ٨٢».

٥٨

وهذه الآية تدلّ الناس على أمر يحسّونه بفطرتهم ، ويدركونه بغريزتهم ، وهو أن من يعتمد في دعواه على الكذب والافتراء لا بد له من التهافت في القول ، والتناقض في البيان ، وهذا شىء لم يقع في الكتاب العزيز.

والقرآن يتبع هذه الخطة في كثير من استدلالاته واحتجاجاته ، فيرشد الناس إلى حكم الفطرة ، ويرجعهم إلى الغريزة ، وهي أنجح طريقة في الإرشاد ، وأقربها إلى الهداية. وقد أحسّت العرب بهذه الاستقامة في أساليب القرآن ، واستيقنت بذلك بلغاؤهم. وإن كلمة الوليد بن المغيرة في صفة القرآن تفسر لنا ذلك ، حيث قال ـ حين سأله أبو جهل أن يقول في القرآن قولا :

«فما أقول فيه؟ فو الله ما منكم رجل أعلم في الأشعار مني ولا أعلم برجزه مني ، ولا بقصيده ، ولا بأشعار الجن. والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ، وو الله إنّ لقوله لحلاوة ، وإنه ليحطم ما تحته ، وإنه ليعلو ولا يعلى.

قال أبو جهل : والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه قال الوليد : فدعني حتى أفكر فيه فلما فكر. قال : هذا سحر يأثره عن غيره». (١)

وفي بعض الروايات قال الوليد :

«والله لقد سمعت منه كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، وإن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه ، وما يقول هذا بشر ...» (٢)

__________________

(١) تفسير الطبري : ٢٩ / ٩٨.

(٢) تفسير القرطبي : ١٩ / ٧٢.

٥٩

وإذا أردت أن تحس ذلك من نفسك فانظر الى الكتب المنسوبة إلى الوحي ، فانك تجدها متناقضة المعاني ، مضطربة الأسلوب ، لا تنهض ولا تتماسك. وإذا نظرت إلى كتب العهدين ، وما فيها من تضارب وتناقض تجلّت لك حقيقة الأمر ، وبان لك الحق من الباطل. وهنا نذكر أمثلة مما وقع في الأناجيل من هذا الاختلاف.

١ ـ في الإصحاح الثاني عشر من إنجيل متى ، والحادي عشر من لوقا : إن المسيح قال : «من ليس معي فهو عليّ ، ومن لا يجمع معي فهو يفرق». وقال في التاسع من مرقس ، والتاسع من لوقا : «من ليس علينا فهو معنا».

٢ ـ وفي التاسع عشر من متى ، والعاشر من مرقس ، والثامن عشر من لوقا : إن بعض الناس قال للمسيح : «أيها المعلم الصالح. فقال : لما ذا تدعوني صالحا؟ ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله». وفي العاشر من يوحنا أنه قال : «أنا هو الراعي الصالح ... أما أنا فإني الراعي الصالح».

٣ ـ وفي السابع والعشرين من متى قال : «كان اللصّان اللذان صلبا معه ـ المسيح يعيرانه» ، وفي الثالث والعشرين من لوقا : «وكان واحد من المذنبين المعلقين يجدف عليه قائلا : إن كنت أنت المسيح فخلص نفسك وإيانا ، فأجاب الآخر وانتهره قائلا : أولا أنت تخاف الله؟ إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه».

٤ ـ وفي الإصحاح الخامس من إنجيل يوحنا : «إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقا». وفي الثامن من هذا الإنجيل نفسه أنه قال : «وإن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق».

هذه نبذة مما في الأناجيل ـ على ما هي عليه من صغر الحجم ـ من التضارب

٦٠