البيان في تفسير القرآن

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي

البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

وذهب بعض : إلى أنها نزلت مرتين ، مرة في مكة ، واخرى في المدينة تعظيما لشأنها ، وهذا القول محتمل في نفسه وإن لم يثبت بدليل ، ولا يبعد أن يكون هو الوجه في تسميتها بالسبع المثاني ، ويحتمل أن يكون الوجه هو وجوب الإتيان بها مرتين في كل صلاة : مرة في الركعة الأولى ومرة في الركعة الثانية.

فضلها :

كفي في فضلها : أن الله تعالى قد جعلها عدلا للقرآن العظيم في آية الحجر المتقدمة ، وأنه لا بد من قراءتها في الصلاة بحيث لا تغني عنها سائر السور ، وأن الصلاة هي عماد الدين ، وبها يمتاز المسلم عن الكافر. «وسنبين ـ إن شاء الله تعالى ـ ما اشتملت عليه هذه السورة من المعارف الإلهية على اختصارها».

روى الصدوق بإسناده ، عن الحسن بن علي ـ العسكري ـ عن آبائه ، عن أمير المؤمنين عليهم‌السلام.

أنه قال :

بسم الله الرّحمن الرّحيم آية من فاتحة الكتاب وهي سبع آيات تمامها : بسم الله الرّحمن الرّحيم سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : الله تعالى قال لي يا محمد : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) «١٥ : ٨٧». فأفرد الامتنان عليّ بفاتحة الكتاب ، وجعلها بإزاء القرآن العظيم وإن فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش ...» (١).

__________________

(١) تفسير البرهان : ١ / ٢٦.

٤٢١

وروى البخاري عن أبي سعيد بن المعلى ، قال :

«كنت أصلّي فدعاني النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم أجبه. قلت : يا رسول الله إني كنت اصلي. قال : ألم يقل الله : (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ) «٢٤ : ٨». ثم قال : ألا أعلّمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟ فأخذ بيدي فلما أردنا أن نخرج ، قلت : يا رسول الله إنك قلت ألا أعلمك أعظم سورة من القرآن؟ قال : الحمد لله ربّ العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» (١).

آياتها :

المعروف بين المسلمين : أن عدد آياتها سبع ، بل لا خلاف في ذلك وروي عن حسين الجعفي : أنها ست ، وعن عمرو بن عبيد أنها ثمان ، وكلا القولين شاذ مخالف لما اتفقت عليه روايات الطريقين من أنها سبع آيات. وقد مر أنها المراد من السبع المثاني في الآية المتقدمة ، فمن عدّ البسملة آية ذهب إلى أن قوله تعالى : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) إلى آخر السورة آية واحدة. ومن لم يعدها آية ذهب إلى أن قوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) آية مستقلة.

غاياتها :

الغاية من السورة المباركة بيان حصر العبادة في الله سبحانه ، والإيمان بالمعاد والحشر. وهذه هي الغاية القصوى من إرسال الرسول الأكرم وإنزال القرآن ، فإن

__________________

(١) صحيح البخاري : ٦ / ١٠٣ ، كتاب فضائل القرآن ، رقم الحديث : ٤٦٢٢ ، ومسند أحمد : مسند الشاميين ، رقم الحديث : ١٧١٧٧.

٤٢٢

دين الإسلام قد دعا جميع البشر إلى الإيمان بالله وإلى توحيده :

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) «٣ : ٦٤».

وإنه لا يستحق غيره لأن يعبد ، فالبشر ـ وكل موجود مدرك ـ يجب أن يكون خضوعه وتوجهه لله وحده. وبرهان ذلك ـ في هذه السورة الكريمة ـ هو أن العاقل إنما يخضع لمن سواه ويعبده ، ويتوجه اليه بحوائجه ، إما لكمال في ذلك المعبود المستعان ـ والناقص مجبول على الخضوع للكامل ـ وإما لإحسانه وإنعامه عليه وإما لاحتياج الناقص في جلب منفعة أو دفع مضرّة ، وإما لقهر الكامل وسلطانه فيخضع له خوفا من مخالفته وعصيانه.

هذه هي الأسباب الموجبة للعبادة والخضوع. وأيها ينظر فيه العاقل يراه منحصرا في الله سبحانه. فالله هو المستحق للحمد ، فانه المستجمع لجميع صفات الكمال ، بحيث لا يتطرّق إلى ساحة قدسه شائبة نقص. والله هو المنعم على جميع العوالم الظاهرية والباطنية المجتمعة والمتدرجة ، وهو مربّيها تكوينا وتشريعا. والله هو المتصف بالرحمة الواسعة غير القابلة للزوال. والله هو المالك المطلق ، والسلطان على الخلق بلا شريك ولا منازع. فهو المعبود بالحق لكماله وإنعامه ورحمته وسلطانه ، فلا يتوجه الإنسان العاقل إلا إليه ، ولا يعبد إلا إياه ، ولا يستعين إلا به ، ولا يتوكل إلا عليه ، لأن ما سوى الله ممكن ، والممكن محتاج في ذاته. والاستعانة والعبادة لا تكونان إلا للغني :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) «٣٥ : ١٥».

وبعد أن أثبت تبارك وتعالى أنه هو المستحق للحمد والثناء بقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) لقّن عباده أن يقولوا بألسنتهم

٤٢٣

وقلوبهم : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).

ثم أشار تعالى إلى أحوال البشر بعد إرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وإتمام الحجة عليهم ، وأنهم قد انقسموا إلى ثلاثة أقسام :

الأول : من شملته العناية الإلهية والنعم القدسية ، فاهتدى إلى الصراط المستقيم ، فسلكه إلى مقصده المطلوب وغايته القصوى ، ولم ينحرف عنه يمينا ولا شمالا.

الثاني : من ضل الطريق فانحرف يمنة ويسرة إلا أنه لم يعاند الحق ، وإن ضلّ عنه لتقصيره ، وزعم أن ما اتبعه هو الدين ، وما سلكه هو الصراط السوي.

الثالث : من دعاه حب المال والجاه إلى العناد فعاند الحق ونابذه ، سواء أعرف الحق ثم جحده أم لم يعرفه. ومثل هذا ـ في الحقيقة ـ قد عبد هواه ، كما أشار سبحانه اليه بقوله :

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) «٤٥ : ٢٢».

وهذا الفريق أشد كفرا من سابقه ، فهو يستحق الغضب الإلهي بعناده زائدا على ما يستحقه بضلاله.

وبما أن البشر لا يخلو من حب الجاه والمال ، ولا يؤمن عليه من الوقوع في الضلال ، وغلبة الهوى ما لم تشمله الهداية الربانية ، كما أشير إلى هذا في قوله تعالى :

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) «٢٤ : ٢١».

لقّن الله عبيده أن يطلبوا منه الهداية ، وأن يقولوا : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (٦) (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) فالعبد يطلب من ربه الهداية المختصة بالمؤمنين ، وقد قال تعالى :

٤٢٤

(وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) «٢ : ٢١٣».

ويسأله أن يدخله في زمرة من أنعم عليهم وفي السالكين طريقتهم ، كما أشير اليه بقوله تعالى :

(أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) «١٩ : ٨٥».

وأن لا يسلك طريق الطائفتين الزائغتين عن الهدى : «المغضوب عليهم ولا الضّالّين».

خلاصة السورة :

إنه تعالى مجّد نفسه بما يرجع إلى كمال ذاته ، ومجدها بما يرجع إلى أفعاله من تربيته العوالم كلها ، ورحمته العامة غير المنفكة عنه ، وسلطانه يوم الحشر وهو يوم الجزاء ، وهذا هو هدف السورة الاولى.

ثم حصر به العبادة والاستعانة ، فلا يستحق غيره أن يعبد أو يستعان ، وهذا هو هدفها الثاني.

ثم لقّن عبيده أن يطلبوا منه الهداية إلى الصراط المستقيم الذي يوصلهم إلى الحياة الدائمة ، والنعيم الذي لا زوال له ، والنور الذي لا ظلمة بعده ، وهذا هو هدفها الثالث.

ثم بيّن أن هذا الصراط خاص بمن أنعم الله عليهم برحمته وفضله ، وهو يغاير صراط من غضب عليهم وصراط الآخرين الذين ضلوا الهدى ، وهذا هو هدفها الرابع.

٤٢٥

تحليل آية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

اللغة

الله :

علم للذات المقدسة ، وقد عرفها العرب به حتى في الجاهلية ، قال لبيد :

ألا كل شىء ما خلا الله باطل

وكل نعيم لا محالة زائل

وقال سبحانه :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) «٣١ : ٢٥».

ومن توهم أنه اسم جنس فقد أخطأ ، ودليلنا على ذلك أمور :

الأول : التبادر ، فإن لفظ الجلالة ينصرف بلا قرينة إلى الذات المقدسة ، ولا يشك في ذلك أحد ، وبأصالة عدم النقل يثبت أنه كذلك في اللغة ، وقد حققت حجيتها في علم الأصول.

الثاني : ان لفظ الجلالة ـ بما له من المعنى ـ لا يستعمل وصفا ، فلا يقال : العالم الله ، الخالق الله ، على أن يراد بذلك توصيف العالم والخالق بصفة هي كونه الله وهذه آية كون لفظ الجلالة جامدا ، وإذا كان جامدا كان علما لا محالة ، فإن الذاهب إلى

٤٢٦

أنه اسم جنس فسره بالمعنى الاشتقاقي.

الثالث : أن لفظ الجلالة لو لم يكن علما لما كانت كلمة «لا إله إلا الله» كلمة توحيد ، فإنها لا تدل على التوحيد بنفسها حينئذ ، كما لا يدل عليه قول : لا إله إلا الرازق ، أو الخالق ، أو غيرهما من الألفاظ التي تطلق على الله سبحانه ، ولذلك لا يقبل إسلام من قال إحدى هذه الكلمات.

الرابع : أن حكمة الوضع تقتضي وضع لفظ للذات المقدسة ، كما تقتضي الوضع بإزاء سائر المفاهيم ، وليس في لغة العرب لفظ موضوع لها غير لفظ الجلالة ، فيتعين أن يكون هو اللفظ الموضوع لها.

إن قلت :

إن وضع لفظ لمعنى يتوقف على تصور كل منهما ، وذات الله سبحانه يستحيل تصورها ، لاستحالة إحاطة الممكن بالواجب ، فيمتنع وضع لفظ لها ، ولو قلنا بأن الواضع هو الله ـ وأنه لا يستحيل عليه أن يضع اسما لذاته لأنه محيط بها ـ لما كانت لهذا الوضع فائدة لاستحالة أن يستعمله المخلوق في معناه فإن الاستعمال أيضا يتوقف على تصور المعنى كالوضع ، على أن هذا القول باطل في نفسه.

قلت :

وضع اللفظ بإزاء المعنى يتوقف على تصوره في الجملة ، ولو بالإشارة اليه ، وهذا أمر ممكن في الواجب وغيره ، والمستحيل هو تصور الواجب بكنهه وحقيقته ، وهذا لا يعتبر في الوضع ولا في الاستعمال ، ولو اعتبر ذلك لامتنع الوضع والاستعمال في الموجودات الممكنة التي لا تمكن الإحاطة بكنهها : كالروح والملك والجن ، ومما لا يرتاب فيه أحد أنه يصح استعمال اسم الاشارة أو الضمير ويقصد به الذات المقدسة ،

٤٢٧

فكذلك ، يمكن قصدها من اللفظ الموضوع لها ، وبما أن الذات المقدسة مستجمعة لجميع صفات الكمال ، ولم يلحظ فيها ـ في مرحلة الوضع ـ جهة من كمالاتها دون جهة صح أن يقال : لفظ الجلالة موضوع للذات المستجمعة لجميع صفات الكمال.

إن قلت :

إن كلمة «الله» لو كانت علما شخصيا لم يستقيم معنى قوله عز اسمه :

(وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) «٦ : ٣».

وذلك لأنها لو كانت علما لكانت الآية قد أثبتت له المكان وهو محال ، فلا مناص من أن يكون معناه المعبود ، فيكون معنى الآية : وهو المعبود في السماوات والأرضين.

قلت :

المراد بالآية المباركة أنه تعالى لا يخلو منه مكان ، وأنه محيط بما في السماوات وما في الأرض ، ولا تخفى عليه منها خافية ، ويشهد لهذا قوله تعالى في آخر الآية الكريمة

(يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) «٦ : ٣».

وقد روى أبو جعفر وهو محمد بن نعمان في ظن الصدوق قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قوله الله عزوجل : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) «٦ : ٣». قال عليه‌السلام :

كذلك هو في كل مكان ، قلت : بذاته؟ قال : ويحك إن الأماكن أقدار ، فإذا قلت في مكان بذاته لزمك أن تقول في أقدار وغير ذلك ،

٤٢٨

ولكن هو بائن من خلقه محيط بما خلق : علما وقدرة وإحاطة وسلطانا ...» (١).

والألف واللام : من كلمة الجلالة وإن كانت جزء منها على العلمية ، إلا أن الهمزة فيها همزة وصل تسقط في الدرج ، إلا إذا وقعت بعد حرف النداء ، فتقول يا الله بإثبات الهمزة وهذا مما اختص به لفظ الجلالة ، ولم يوجد نظيره في كلام العرب قط ، ولا مضايقة في كون كلمة الجلالة من المنقول ، وعليه فالأظهر أنه مأخوذ من كلمة «لاه» بمعنى الاحتجاب والارتفاع ، فهو مصدر مبني للفاعل ، لأنه سبحانه هو المرتفع حقيقة الارتفاع التي لا يشوبها انخفاض ، وهو في غاية ظهوره ـ بآثاره وآياته ـ محتجب عن خلقه بذاته ، فلا تدركه الأبصار ولا تصل إلى كنهه الأفكار :

فيك يا أعجوبة الكو

ن غدا الفكر كليلا

أنت حيّرت ذوي

اللّب وبلبلت العقولا

كلما أقدم فكري

فيك شبرا فرّ ميلا

ناكصا يخبط في عشواء

لا يهدي السبيلا

ولا موجب للقول باشتقاقه من «أله» بمعنى عبد ، أو «أله» بمعنى تحير ليكون الإله مصدرا بمعنى المفعول ـ ككتاب ـ فانه التزام بما لا يلزم.

الرحمن :

مأخوذ من الرحمة ، ومعناها معروف ، وهي ضد القسوة والشدة. قال الله تعالى :

(أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ٤٨ : ٢٩. اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَ

__________________

(١) تفسير البرهان : ١ / ٣١٥.

٤٢٩

اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) «٥ : ٩٨».

وهي من الصفات الفعلية ، وليست رقّة القلب مأخوذة في مفهومها ، بل هي من لوازمها في البشر. فالرحمة ـ دون تجرّد عن معناها الحقيقي ـ من صفات الله الفعلية كالخلق والرزق ، يوجدها حيث يشاء. قال عزوجل :

(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ١٧ : ٥٤ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ٢٩ : ٢١).

حسب ما تقتضيه حكمته البالغة. وقد ورد في الآيات طلب الرحمة من الله سبحانه :

(وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) «٢٣ : ١١٨».

وقال غير واحد من المفسرين وبعض اللغويين : إن صيغة الرحمن مبالغة في الرحمة ، وهو كذلك في خصوص هذه الكلمة ، سواء أكانت هيئة فعلان مستعملة في المبالغة أم لم تكن ، فان كلمة «الرحمن» في جميع موارد استعمالها محذوفة المتعلق ، فيستفاد منها العموم وأن رحمته وسعت كل شىء. ومما يدلنا على ذلك أنه لا يقال : إن الله بالناس أو بالمؤمنين لرحمان ، كما يقال : إن الله بالناس أو بالمؤمنين لرحيم.

وكلمة «الرحمن» بمنزلة اللقب من الله سبحانه ، فلا تطلق على غيره تعالى ، ومن أجل ذلك استعملت في كثير من الآيات الكريمة من دون لحاظ مادتها قال سبحانه :

(قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ ٣٦ : ١٥. إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ : ٢٣. هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ : ٥٢. ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ٦٧ : ٣).

٤٣٠

ومما يقرب اختصاص هذا اللفظ به قوله تعالى :

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) «١٩ : ٦٥».

فان الملحوظ أن الله تعالى قد اعتنى بكلمة «الرحمن» في هذه السورة «مريم» حتى كررها فيها ست عشرة مرة. وهذا يقرّب أن المراد بالآية الكريمة أنه ليس لله سميّ بتلك الكلمة.

الرحيم :

صفة مشبهة ، أو صيغة مبالغة. ومن خصائص هذه الصيغة أنها تستعمل غالبا في الغرائز واللوازم غير المنفكة عن الذات : كالعليم والقدير والشريف ، والوضيع والسخي والبخيل والعلي والدّني. فالفارق بين الصفتين : أن الرحيم يدل على لزوم الرحمة للذات وعدم انفكاكها عنها ، والرحمن يدل على ثبوت الرحمة فقط. ومما يدل على أن الرحمة في كلمة «رحيم» غريزة وسجية : أن هذه الكلمة لم ترد في القرآن عند ذكر متعلقها إلا متعدية بالباء ، فقد قال تعالى :

(إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) ٢ : ١٤٣. (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) «٣٣ : ٤٣».

فكأنها عند ذكر متعلقها انسلخت عن التعدية إلى اللزوم. وذهب الآلوسي إلى أن الكلمتين ليستا من الصفات المشبهة ، بقرينة إضافتها إلى المفعول في جملة : «رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما». والصفة المشبهة لا بد من أن تؤخذ من اللازم (١).

وهذا الاستدلال غريب ، لأن الإضافة في الجملة المذكورة ليست من الإضافة

__________________

(١) تفسير الآلوسي : ١ / ٥٩.

٤٣١

إلى المفعول بل هي من الإضافة إلى المكان أو الزمان. ولا يفرق فيها بين اللازم والمتعدي.

ثم إنه قد ورد في بعض الروايات : أن «الرحمن» اسم خاص ومعناه عام وأما لفظ «الرحيم» فهو اسم عام ، ومعناه خاص ومختص بالآخرة أو بالمؤمنين (١) إلا أنه لا مناص من تأويل هذه الروايات أو طرحها ، لمخالفتها الكتاب العزيز ، فانه قد استعمل فيه لفظ «الرحيم» من غير اختصاص بالمؤمنين أو بالآخرة ففي الكتاب العزيز :

(فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ١٤ : ٣٦. نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ١٥ : ٤٩. إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ* ٢٢ : ٦٥. رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ١٧ : ٦٦. وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ٣٣ : ٢٤).

إلى غير ذلك من الآيات الكريمة ، وفي بعض الأدعية والروايات : رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما (٢).

ويمكن أن يوجه هذا الاختصاص بأن الرحمة الإلهية إذا لم تنته إلى الرحمة في الآخرة ، فكأنها لم تكن رحمة (٣). وما جدوى رحمة تكون عاقبتها العذاب والخسران؟ فإن الرحمة الزائلة تندك أمام العذاب الدائم لا محالة ، وبلحاظ ذلك صح أن يقال : الرحمة مختصة بالمؤمنين أو بالآخرة.

__________________

(١) تفسير الطبري : ١ / ٤٣ ، وتفسير البرهان : ١ / ٢٨.

(٢) الصحيفة السجادية في دعائه عليه‌السلام في استكشاف الهموم ، وبحار الأنوار : ٨٩ / ٣٨٣ ، باب ٤ ، الحديث : ٦٨ ، في الدعاء بعد صلاة الأعرابي ، ومستدرك الحاكم : ١ / ١٥٥.

(٣) أشير إلى ذلك في بعض الأدعية المأثورة.

٤٣٢

الإعراب

ذهب بعضهم إلى أن متعلق الجار والمجرور هو أقرأ ، أو اقرأ ، أو أقول ، أو قل ، وقال بعض : متعلقة أستعين ، أو استعن ، وذهب آخرون إلى تعلّقه بأبتدئ ، والوجهان الأولان باطلان :

أما الوجه الأول : فلأن مفعول القراءة أو القول ـ هنا ـ يجب أن يكون هي الجملة بما لها من المعنى ، فلا مناص من تقدير كلمة أخرى ، لتكون الجملة بما لها من المتعلق مقولا للقول.

وأما الوجه الثاني : فلأن الاستعانة تستحيل أن تكون من الله تعالى ، لغناه عن الاستعانة حتى بأسمائه الكريمة ، والاستعانة من الخلق إنما تكون بالله لا بأسمائه وقد نص تعالى على ذلك بقوله : «إيّاك نستعين» فتعين أن يكون متعلق الجار والمجرور هو أبتدئ ، وإضافة الاسم إلى الله ليست بيانية ، ليكون المراد من قوله : «الله الرحمن الرحيم» ألفاظها فإنه بعيد جدا ، ويضاف إلى ذلك : أنه لو كان المراد نفس هذه الألفاظ فإن أريد مجموعها ، فهو ليس من الأسماء الإلهية ، وإن أريد كل على انفراده ، احتيج إلى العاطف ، فتكون الجملة هكذا : «بسم الله الرّحمن الرّحيم» إذا فالإضافة معنوية لا محالة ، وكلمة «الله» مستعملة في معناها.

التفسير

لما كانت سور القرآن قد أنزلت لسوق البشر إلى كماله الممكن ، وإخراجه من ظلمات الشرك والجهالة إلى نور المعرفة والتوحيد ، ناسب أن يبدأ في كل سورة باسمه الكريم ، فإنه الكاشف عن ذاته المقدسة ، والقرآن إنما انزل ليعرف به الله

٤٣٣

سبحانه ، واستثنيت من ذلك سورة براءة ، فإنها بدأت بالبراءة من المشركين ولهذا الغرض أنزلت ، فلا يناسبها ذكر اسم الله ولا سيما مع توصيفه بالرحمن الرحيم (١).

وعلى الجملة : ابتدأ الله كتابه التدويني بذكر اسمه ، كما ابتدأ في كتابه التكويني باسمه الأتم ، فخلق الحقيقة المحمدية ونور النبي الأكرم قبل سائر المخلوقين ، وإيضاح هذا المعنى : أن الاسم هو ما دل على الذات ، وبهذا الاعتبار تنقسم الأسماء الإلهية إلى قسمين : تكوينية ، وجعلية. فالأسماء الجعلية هي الألفاظ التي وضعت للدلالة على الذات المقدسة ، أو على صفة من صفاتها الجمالية والجلالية ، والأسماء التكوينية هي الممكنات الدالة بوجودها على وجود خالقها وعلى توحيده : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ ٥٢ : ٣٥. (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا ٢١ : ٢٢).

ففي كل شىء دلالة على وجود خالقه وتوحيده ، وكما تختلف الأسماء الإلهية اللفظية من حيث دلالتها ، فيدل بعضها على نفس الذات بما لها من صفات الكمال ، ويدل بعضها على جهة خاصة من كمالاتها على اختلاف في العظمة والرفعة فكذلك تختلف الأسماء التكوينية من هذه الجهة ، وإن اشترك جميعها في الكشف عن الوجود والتوحيد ، وعن العلم والقدرة وعن سائر الصفات الكمالية.

ومنشأ اختلافها : أن الموجود إذا كان أتم كانت دلالته أقوى ، ومن هنا صح إطلاق الأسماء الحسنى على الأئمة الهداة ، كما في بعض الروايات (٢). فالواجب جل وعلا قد ابتدأ في أكمل كتاب من كتبه التدوينية بأشرف الألفاظ وأقربها إلى اسمه

__________________

(١) روى ابن عباس قال سألت علي بن أبي طالب عليه‌السلام لم لم تكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال : لأنها أمان ، وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان ، المستدرك : ٢ / ٣٣.

(٢) الكافي : ١ / ١٣٠ ، الحديث : ٢. وتفسير البرهان. ١ : ٣٧٧.

٤٣٤

الأعظم من ناظر العين إلى بياضها (١) كما بدأ في كتابه التكويني باسمه الأعظم في عالم الوجود العيني (٢) ، وفي ذلك تعليم البشر بأن يبتدءوا في أقوالهم وأفعالهم باسمه تعالى.

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال :

«كل كلام أو أمر ذي بال لم يفتح بذكر الله عزوجل فهو أبتر ، أو قاطع أقطع (٣)».

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الله عزوجل :

«كل أمر ذي بال لم يذكر فيه بسم الله فهو أبتر (٤)».

__________________

(١) التهذيب : ٢ / ٢٨٩ ، باب ١٣ ، رقم الحديث : ١٥ ، والمستدرك للحاكم : ١ / ٥٥٢ ، وكنزل العمال : ٢ / ١٩٠. انظر التعليقة رقم (١٢) لمعرفة أهمية البسملة ـ في قسم التعليقات.

(٢) انظر التعليقة رقم (١٢) لمعرفة كتابه التكويني بما ذا بدأه به ـ في قسم التعليقات.

(٣) مسند أحمد : ٢ / ٣٥٩ ، باقي مسند المكثرين ، رقم الحديث : ٨٣٥٥.

(٤) بحار الأنوار : ٧٦ / ٣٠٥ ، باب ٥٨ ، الحديث : ١ ، ٩٢١ / ٢٤٢ ، الحديث باب ٢٩ ، ٤٨.

٤٣٥
٤٣٦

البحث الاوّل

حول آية البسملة

٤٣٧

ـ ذكر الرحمة بدء القرآن.

ـ ذكر الرحيم بعد الرحمن.

ـ هل البسملة من القرآن؟

٤٣٨

ذكر الرحمة بدء القرآن :

قد وصف الله تعالى نفسه بالرحمة في ابتداء كلامه دون سائر صفاته الكمالية ، لأن القرآن إنما نزل رحمة من الله لعباده. ومن المناسب أن يبتدأ بهذه الصفة التي اقتضت إرسال الرسول وإنزال الكتاب. وقد وصف الله كتابه ونبيه بالرحمة في آيات عديدة ، فقد قال تعالى :

(هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٧ : ٢٠٣. وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ١٠ : ٥٧. وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ ١٦ : ٨٩. وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ١٧ : ٨٢. وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ٢١ : ١٠٧. وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ٢٧ : ٧٧).

ذكر الرحيم بعد الرحمن :

قد عرفت أن هيئة فعيل تدلّ على أن المبدأ فيها من الغرائز والسجايا غير

٤٣٩

المنفكة عن الذات (١). وبذلك تظهر نكتة تأخير كلمة «الرحيم) عن كلمة «الرحمن» فإن هيئة «الرحمن» تدل على عموم الرحمة وسعتها ولا دلالة لها على أنها لازمة للذات ، فأتت كلمة «الرحيم» بعدها للدلالة على هذا المعنى.

وقد اقتضت بلاغة القرآن أن تشير إلى كلا الهدفين في هذه الآية المباركة ، فالله رحمن قد وسعت رحمته كل شىء وهو رحيم لا تنفك عنه الرحمة.

وقد خفي الأمر على جملة من المفسرين ، فتخيلوا أن كلمة «الرحمن» أوسع معنى من كلمة «الرحيم» بتوهم أن زيادة المباني تدل على زيادة المعاني. وهذا التعليل ينبغي أن يعد من المضحكات ، فإن دلالة الألفاظ تتبع كيفية وضعها ، ولا صلة لها بكثرة الحروف وقلتها. ورب لفظ قليل الحروف كثير المعنى ، وبخلافه لفظ آخر ، فكلمه حذر تدل على المبالغة دون كلمة حاذر ، وإن كثيرا ما يكون الفعل المجرد والمزيد فيه بمعنى واحد ، كضرّ وأضرّ.

هذا إذا فرضنا أن يكون استعمال كلمة «الرحمن» استعمالا اشتقاقيا وأما بناء على كونها من أسماء الله تعالى وبمنزلة القلب له نقلا عن معناها اللغوي ـ وقد تقدم إثبات ذلك ـ فإن في تعقيبها بكلمة «الرحيم» زيادة على ما ذكر إشارة إلى سبب النقل ، وهو اتصافه تعالى بالرحمة الواسعة.

هل البسملة من القرآن؟

اتفقت الشيعة الإمامية على أن البسملة آية من كل سورة بدأت بها ، وذهب اليه ابن عباس ، وابن المبارك ، وأهل مكة كابن كثير ، وأهل الكوفة كعاصم ،

__________________

(١) مر ذلك في الصفحة ٤٣٠ من هذا الكتاب.

٤٤٠