البيان في تفسير القرآن

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي

البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

العلم المجاهد الشيخ محمد جواد البلاغي في مقدمة تفسيره «آلاء الرحمن».

وقد نسب جماعة القول بعدم التحريف إلى كثير من الأعاظم. منهم شيخ المشايخ المفيد ، والمتبحر الجامع الشيخ البهائي ، والمحقق القاضي نور الله ، وأضرابهم. وممن يظهر منه القول بعدم التحريف : كل من كتب في الإمامة من علماء الشيعة وذكر فيه المثالب ، ولم يتعرض للتحريف ، فلو كان هؤلاء قائلين بالتحريف لكان ذلك أولى بالذكر من إحراق المصحف وغيره.

وجملة القول : أن المشهور بين علماء الشيعة ومحققيهم ، بل المتسالم عليه بينهم هو القول بعدم التحريف. نعم ذهب جماعة من المحدثين من الشيعة ، وجمع من علماء أهل السنة إلى وقوع التحريف. قال الرافعي : فذهب جماعة من أهل الكلام ممن لا صناعة لهم إلا الظن والتأويل ، واستخراج الأساليب الجدلية من كل حكم وكل قول إلى جواز أن يكون قد سقط عنهم من القرآن شىء ، حملا على ما وصفوا من كيفية جمعه (١) وقد نسب الطبرسي في «مجمع البيان» هذا القول إلى الحشوية من العامة.

أقول : سيظهر لك ـ بعيد هذا ـ ان القول بنسخ التلاوة هو بعينه القول بالتحريف ، وعليه فاشتهار القول بوقوع النسخ في التلاوة ـ عند علماء اهل السنة ـ يستلزم اشتهار القول بالتحريف.

٣ ـ نسخ التلاوة :

ذكر أكثر علماء أهل السنة : أن بعض القرآن قد نسخت تلاوته ، وحملوا على ذلك ما ورد في الروايات أنه كان قرآنا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيحسن بنا أن نذكر جملة من هذه الروايات ، ليتبين أن الالتزام بصحة هذه الروايات التزام بوقوع التحريف في القرآن :

__________________

(١) إعجاز القرآن : ص ٤١.

٢٠١

١ ـ روى ابن عباس أن عمر قال فيما قال ، وهو على المنبر :

«إن الله بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل الله آية الرجم ، فقرأناها ، وعقلناها ، وو عيناها. فلذا رجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال ... ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ ، من كتاب الله : أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ، أو : إنّ كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم ... (١).

وذكر السيوطي : أخرج ابن اشته في المصاحف عن الليث بن سعد. قال : «أول من جمع القرآن أبو بكر ، وكتبه زيد ... وإن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها ، لأنه كان وحده» (٢).

أقول : وآية الرجم التي ادعى عمر أنها من القرآن ، ولم تقبل منه رويت بوجوه : منها : «إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة ، نكالا من الله ، والله عزيز حكيم» ومنها : «الشيخ والشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة» ومنها : «إن الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» وكيف كان فليس في القرآن الموجود ما يستفاد منه حكم الرجم. فلو صحت الرواية فقد سقطت آية من القرآن لا محالة.

٢ ـ وأخرج الطبراني بسند موثق عن عمر بن الخطاب مرفوعا :

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب الحدود ، رقم الحديث : ٦٣٢٧. و ٦٣٢٨ وصحيح مسلم : كتاب الحدود ، رقم الحديث : ٣٢٠١ ، وسنن الترمذي : كتاب الحدود ، رقم الحديث : ١٣٥٢ ، وسنن ابى داود : كتاب الحدود ، رقم الحديث : ٣٨٣٥. وسنن ابن ماجة : كتاب الحدود ، رقم الحديث : ٢٥٤٣. ومسند احمد : مسند العشرة المبشرة بالجنة ، رقم الحديث : ١٩٢.

(٢) الإتقان : ١ / ١٠١.

٢٠٢

«القرآن ألف ألف وسبعة وعشرون ألف حرف» (١). بينما القرآن الذي بين أيدنا لا يبلغ ثلث هذا المقدار ، وعليه فقد سقط من القرآن أكثر من ثلثيه.

٣ ـ وروى ابن عباس عن عمر أنه قال :

«إن الله عزوجل بعث محمدا بالحق ، وأنزل معه الكتاب ، فكان مما أنزل اليه آية الرجم ، فرجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورجمنا بعده ، ثم قال : كنا نقرأ : ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم ، أو : إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم (٢).

٤ ـ وروى نافع أن ابن عمر قال :

«ليقولن أحدكم قد أخذت القرآن كله وما يدريه ما كله؟ قد ذهب منه قرآن كثير ، ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر» (٣).

٥ ـ وروى عروة بن الزبير عن عائشة قالت :

«كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مائتي آية ، فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلا ما هو الآن» (٤).

٦ ـ وروت حميدة بنت أبي يونس. قالت :

«قرأ عليّ أبي ـ وهو ابن ثمانين سنة ـ في مصحف عائشة : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) ، وعلى الذين يصلون الصفوف الأوّل. قالت : قبل أن يغير عثمان المصاحف» (٥).

__________________

(١) الإتقان : ١ / ١٢١.

(٢) سنن الترمذي : كتاب الحدود ، رقم الحديث : ١٣٥٢. ومسند احمد : مسند العشرة المبشرين بالجنة ، رقم الحديث : ٣١٣.

(٣) الإتقان : ٢ / ٤٠ ـ ٤١.

(٤) نفس المصدر : ٢ / ٤٠ ـ ٤١.

(٥) الإتقان : ٢ / ٤٠ ـ ٤١.

٢٠٣

٧ ـ وروى أبو حرب ابن الأسود عن أبيه. قال :

«بعث أبو موسى الأشعري إلى قراء أهل البصرة ، فدخل عليه ثلاثمائة رجل. قد قرءوا القرآن. فقال : أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم ، فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب العرب من كان قبلكم ، وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدّة ببراءة فانسيتها ، غير أني قد حفظت منها : لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فانسيتها ، غير أني حفظت منها : يا أيّها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ، فتكتب شهادة في أعناقكم ، فتسألون عنها يوم القيامة» (١).

٨ ـ وروى زرّ. قال : قال أبيّ بن كعب يا زرّ :

«كأيّن تقرأ سورة الأحزاب قلت : ثلاث وسبعين آية. قال : إن كانت لتضاهي سورة البقرة ، أو هي أطول من سورة البقرة ...» (٢).

٩ ـ وروى ابن أبي داود وابن الانباري عن ابن شهاب. قال :

«بلغنا أنه كان أنزل قرآن كثير ، فقتل علماؤه يوم اليمامة ، الذين كانوا قد وعوه ، ولم يعلم بعدهم ولم يكتب ...» (٣).

١٠ ـ وروى عمرة عن عائشة أنها قالت :

«كان فيما أنزل من القرآن : عشر رضعات معلومات يحرّمن ثم نسخن ب : خمس

__________________

(١) صحيح مسلم : ٣ / ١٠٠ ، كتاب الزكاة ، رقم الحديث : ١٧٤٠.

(٢) منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد : ٢ / ٤٣.

(٣) منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد : ٢ / ٥٠.

٢٠٤

معلومات ، فتوفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن» (١).

١١ ـ وروى المسور بن مخرمة. قال :

«قال عمر لعبد الرحمن بن عوف : ألم تجد فيما انزل علينا. أن جاهدوا كما جاهدتم أوّل مرّة. فإنا لا نجدها. قال : أسقطت فيما أسقط من القرآن» (٢).

١٢ ـ وروى أبو سفيان الكلاعي : أن مسلمة بن مخلد الأنصاري قال لهم ذات يوم :

أخبروني بآيتين في القرآن لم يكتبا في المصحف ، فلم يخبروه ، وعندهم أبو الكنود سعد بن مالك ، فقال ابن مسلمة : إنّ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ألا أبشروا أنتم المفلحون. والذين آووهم ونصروهم وجادلوا عنهم القوم الذين غضب الله عليهم أولئك لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرّة أعين جزاء بما كانوا يعملون (٣).

وقد نقل بطرق عديدة عن ثبوت سورتي الخلع والحفد في مصحف ابن عباس وأبيّ بن كعب : (اللهمّ إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك ، اللهمّ إيّاك نعبد ولك نصلّي ونسجد وإليك نسعى ونحفد ، نرجو رحمتك ونخشى عذابك إنّ عذابك بالكافرين ملحق).

وغير ذلك ممّا لا يهمنا استقصاؤه (٤).

وغير خفي أن القول بنسخ التلاوة هو بعينه القول بالتحريف والاسقاط.

__________________

(١) صحيح مسلم : ٤ / ١٦٧ ، كتاب الرضاع ، رقم الحديث : ٢٦٣٤.

(٢) الإتقان : ٢ / ٤٢.

(٣) نفس المصدر السابق.

(٤) الإتقان : ١ / ١٢٢ ـ ٢١٣.

٢٠٥

وبيان ذلك : أن نسخ التلاوة هذا إما أن يكون قد وقع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإما أن يكون ممن تصدّى للزعامة من بعده ، فإن أراد القائلون بالنسخ وقوعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو أمر يحتاج إلى الإثبات. وقد اتفق العلماء أجمع على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد ، وقد صرّح بذلك جماعة في كتب الأصول وغيرها (١) بل قطع الشافعي وأكثر أصحابه ، وأكثر أهل الظاهر بامتناع نسخ الكتاب بالسّنة المتواترة ، وإليه ذهب أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه ، بل إن جماعة ممن قال بإمكان نسخ الكتاب بالسنة المتواترة منع وقوعه (٢). وعلى ذلك فكيف تصحّ نسبة النسخ إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأخبار هؤلاء الرواة؟ مع أن نسبة النسخ إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تنافي جملة من الروايات التي تضمنت أن الاسقاط قد وقع بعده. وإن أرادوا أن النسخ قد وقع من الذين تصدّوا للزعامة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو عين القول بالتحريف. وعلى ذلك. فيمكن أن يدّعى أن القول بالتحريف هو مذهب أكثر علماء أهل السنة ، لأنهم يقولون بجواز نسخ التلاوة. سواء أنسخ الحكم أم لم ينسخ ، بل تردّد الاصوليون منهم في جواز تلاوة الجنب ما نسخت تلاوته ، وفي جواز أن يمسّه المحدث. واختار بعضهم عدم الجواز. نعم ذهبت طائفة من المعتزلة إلى عدم جواز نسخ التلاوة (٣).

ومن العجيب أن جماعة من علماء أهل السنة أنكروا نسبة القول بالتحريف إلى أحد من علمائهم ، حتى أن الآلوسي كذّب الطبرسي في نسبة القول بالتحريف إلى الحشوية ، وقال : «إن أحدا من علماء أهل السنة لم يذهب إلى ذلك».

واعجب من ذلك أنه ذكر أن قول الطبرسي بعدم التحريف نشأ من ظهور فساد

__________________

(١) الموافقات لأبي إسحاق الشاطبي : ٣ / ١٠٦ طبعة المطبعة الرحمانية بمصر.

(٢) الإحكام في اصول الأحكام للآمدي : ٣ / ٢١٧.

(٣) نفس المصدر : ٣ / ٢٠١ ـ ٢٠٣.

٢٠٦

قول أصحابه بالتحريف ، فالتجأ هو الى إنكاره (١).

مع انك قد عرفت أن القول بعدم التحريف هو المشهور بل المتسالم عليه بين علماء الشيعة ومحققيهم ، حتى أن الطبرسي قد نقل كلام السيد المرتضى بطوله ، واستدلاله على بطلان القول بالتحريف بأتم بيان وأقوى حجة (٢).

التحريف والكتاب :

والحق. بعد هذا كله ان التحريف «بالمعنى الذي وقع النزاع فيه» غير واقع في القرآن أصلا بالأدلة التالية :

الدليل الأول ـ قوله تعالى :

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) «١٥ : ٩».

فإن في هذه الآية دلالة على حفظ القرآن من التحريف ، وأن الأيدي الجائرة لن تتمكن من التلاعب فيه.

والقائلون بالتحريف قد أوّلوا هذه الآية الشريفة ، وذكروا في تأويلها وجوها :

الأول : «أن الذكر هو الرسول» فقد ورد استعمال الذكر فيه في قوله تعالى :

(قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) ٦٥ : ١٠. (رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ) : ١١).

وهذا الوجه بيّن الفساد : لأن المراد بالذكر هو القرآن في كلتا الآيتين بقرينة التعبير «بالتنزيل والإنزال» ولو كان المراد هو الرسول لكان المناسب أن يأتي بلفظ «الإرسال» أو بما يقاربه في المعنى ، على ان هذا الاحتمال إذا تم في الآية الثانية فلا يتم

__________________

(١) راجع روح المعاني : ١ / ٢٤.

(٢) مجمع البيان : ١ / ١٥ ، المقدمة.

٢٠٧

في آية الحفظ ، فإنها مسبوقة بقوله تعالى :

(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) «١٥ : ٦».

ولا شبهة في أن المراد بالذكر في هذه الآية هو القرآن ، فتكون قرينة على أن المراد من الذكر في آية الحفظ هو القرآن أيضا.

الثاني : «أن يراد من حفظ القرآن صيانته عن القدح فيه ، وعن إبطال ما يتضمنه من المعاني العالية ، والتعاليم الجليلة».

وهذا الاحتمال أبين فسادا من الأول : لأن صيانته عن القدح إن أريد بها حفظه من قدح الكفار والمعاندين فلا ريب في بطلان ذلك ، لأن قدح هؤلاء في القرآن فوق حد الإحصاء. وان أريد أن القرآن رصين المعاني ، قوي الاستدلال مستقيم الطريقة ، وأنه لهذه الجهات ونحوها أرفع مقاما من أن يصل اليه قدح القادحين ، وريب المرتابين فهو صحيح ولكن هذا ليس من الحفظ بعد التنزيل كما تقوله الآية ، لأن القرآن بما له من الميزات حافظ لنفسه ، وليس محتاجا إلى حافظ آخر ، وهو غير مفاد الآية الكريمة ، لأنها تضمنت حفظه بعد التنزيل.

الثالث : «أن الآية دلت على حفظ القرآن في الجملة ، ولم تدل على حفظ كل فرد من أفراد القرآن ، فإن هذا غير مراد من الآية بالضرورة وإذا كان المراد حفظه في الجملة ، كفى في ذلك حفظه عند الإمام الغائب عليه‌السلام.

وهذا الاحتمال أوهن الاحتمالات : لأن حفظ القرآن يجب أن يكون عند من انزل إليهم وهم عامة البشر ، أما حفظه عند الإمام عليه‌السلام فهو نظير حفظه في اللوح المحفوظ ، أو عند ملك من الملائكة ، وهو معنى تافه يشبه قول القائل : إني أرسلت إليك بهدية وأنا حافظ لها عندي ، أو عند بعض خاصتي.

٢٠٨

ومن الغريب قول هذا القائل إن المراد في الآية حفظ القرآن في الجملة ، لا حفظ كل فرد من أفراده ، فكأنه توهم أن المراد بالذكر هو القرآن المكتوب ، أو الملفوظ لتكون له أفراد كثيرة ، ومن الواضح أن المراد ليس ذلك ، لأن القرآن المكتوب أو الملفوظ لا دوام له خارجا ، فلا يمكن أن يراد من آية الحفظ وإنما المراد بالذكر هو المحكي بهذا القرآن الملفوظ أو المكتوب ، وهو المنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمراد بحفظه صيانته عن التلاعب ، وعن الضياع ، فيمكن للبشر عامة أن يصلوا اليه ، وهو نظير قولنا القصيدة الفلانية محفوظة ، فإنا نريد من حفظها صيانتها ، وعدم ضياعها بحيث يمكن الحصول عليها.

نعم هنا شبهة اخرى ترد على الاستدلال بالآية الكريمة على عدم التحريف.

وحاصل هذه الشبهة أن مدّعي التحريف في القرآن يحتمل وجود التحريف في هذه الآية نفسها ، لأنها بعض آيات القرآن ، فلا يكون الاستدلال بها صحيحا حتى يثبت عدم التحريف ، فلو أردنا أن نثبت عدم التحريف بها كان ذلك من الدور الباطل.

وهذه شبهة تدل على عزل العترة الطاهرة عن الخلافة الإلهية ، ولم يعتمد على أقوالهم وأفعالهم ، فإنه لا يسعه دفع هذه الشبهة ، وأما من يرى أنهم حجج الله على خلقه ، وأنهم قرناء الكتاب في وجوب التمسك فلا ترد عليه هذه الشبهة ، لأن استدلال العترة بالكتاب ، وتقرير أصحابهم عليه يكشف عن حجية الكتاب الموجود ، وإن قيل بتحريفه ، غاية الأمر أن حجية الكتاب على القول بالتحريف تكون متوقفة على إمضائهم.

الدليل الثاني قوله تعالى :

(وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ٤١ : ٤١. لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ : ٤٢).

٢٠٩

فقد دلت هذه الآية الكريمة على نفي الباطل بجميع أقسامه عن الكتاب فإن النفي إذا ورد على الطبيعة أفاد العموم ، ولا شبهة في أن التحريف من أفراد الباطل ، فيجب أن لا يتطرق إلى الكتاب العزيز.

وقد أجيب عن هذا الدليل :

بأن المراد من الآية صيانة الكتاب من التناقض في أحكامه ، ونفي الكذب عن أخباره ، واستشهد لذلك برواية علي بن إبراهيم القمي ، في تفسيره عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : «لا يأتيه الباطل من قبل التوراة ، ولا من قبل الإنجيل ، والزبور ، ولا من خلفه أي لا يأتيه من بعده كتاب يبطله» ورواية مجمع البيان عن الصادقين عليهم‌السلام أنه : «ليس في اخباره عما مضى باطل ، ولا في اخباره عما يكون في المستقبل باطل».

ويردّ هذا الجواب :

أن الرواية لا تدل على حصر الباطل في ذلك ، لتكون منافية لدلالة الآية على العموم ، وخصوصا إذا لاحظنا الروايات التي دلت على أن معاني القرآن لا تختص بموارد خاصة ، وقد تقدم بعض هذه الروايات في مبحث «فضل القرآن» فالآية دالة على تنزيه القرآن في جميع الأعصار عن الباطل بجميع أقسامه ، والتحريف من أظهر أفراد الباطل فيجب أن يكون مصونا عنه ، ويشهد لدخول التحريف في الباطل ، الذي نفته الآية عن الكتاب أن الآية وصفت الكتاب بالعزة ، وعزّة الشيء تقتضي المحافظة عليه من التغيير والضياع ، أما إرادة خصوص التناقض والكذب من لفظ الباطل في الآية الكريمة ، فلا يناسبها توصيف الكتاب بالعزة.

التحريف والسنة :

الدليل الثالث : أخبار الثقلين اللذين خلّفهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمّته وأخبر أنهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض ، وأمر الأمة بالتمسك بهما ، وهما الكتاب والعترة. وهذه

٢١٠

الأخبار متظافرة من طرق الفريقين (١) والاستدلال بها على عدم التحريف في الكتاب يكون من ناحيتين :

الناحية الأولى : إن القول بالتحريف يستلزم عدم وجوب التمسك بالكتاب المنزل لضياعه على الأمة بسبب وقوع التحريف ، ولكن وجوب التمسك بالكتاب باق إلى يوم القيامة ، لصريح أخبار الثقلين ، فيكون القول بالتحريف باطلا جزما.

وتوضيح ذلك :

أن هذه الروايات دلت على اقتران العترة بالكتاب ، وعلى أنهما باقيان في الناس إلى يوم القيامة ، فلا بد من وجود شخص يكون قرينا للكتاب ولا بد من وجود الكتاب ليكون قرينا للعترة ، حتى يردا على النبي الحوض ، وليكون التمسّك بهما حافظا للأمة عن الضلال ، كما يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الحديث. ومن الضروري أن التمسك بالعترة إنما يكون بموالاتهم ، واتباع أوامرهم ونواهيهم والسير على هداهم ، وهذا شىء لا يتوقف على الاتصال بالإمام ، والمخاطبة معه شفاها ، فإن الوصول إلى الإمام والمخاطبة معه لا يتيسر لجميع المكلفين في زمان الحضور ، فضلا عن أزمنة الغيبة ، واشتراط إمكان الوصول إلى الإمام عليه‌السلام لبعض الناس دعوى بلا برهان ولا سبب يوجب ذلك ، فالشيعة في أيام الغيبة متمسكون بإمامهم يوالونه ويتبعون أوامره ، ومن هذه الأوامر الرجوع إلى رواة أحاديثهم في الحوادث الواقعة ، أما التمسك بالقرآن فهو أمر لا يمكن إلا بالوصول اليه ، فلا بد من كونه موجودا بين الأمة ، ليمكنها أن تتمسك به ، لئلا تقع في الضلال ، وهذا البيان يرشدنا إلى فساد المناقشة بأن القرآن محفوظ وموجود عند الإمام الغائب ، فإن وجوده الواقعي لا يكفي لتمسك الأمة به.

__________________

(١) تقدمت الاشارة إلى مصادر هذه الأخبار في ص ٢٦ من هذا الكتاب.

٢١١

وقد أشكل على هذا الدليل :

بأن أخبار الثقلين إنما تدل على نفي التحريف في آيات الأحكام من القرآن ، لأنها هي التي أمر الناس بالتمسك بها ، فلا تنفي وقوع التحريف في الآيات الأخرى منه.

وجوابه :

إن القرآن بجميع آياته مما أنزله الله لهداية البشر ، وإرشادهم إلى كمالهم الممكن من جميع الجهات ، ولا فرق في ذلك بين آيات الأحكام وغيرها ، وقد قدمنا في بيان فضل القرآن أن ظاهر القرآن قصة وباطنه عظة ، على أن عمدة القائلين بالتحريف يدّعون وقوع التحريف في الآيات التي ترجع إلى الولاية وما يشبهها ومن البيّن أنها لو ثبت كونها من القرآن ، لوجب التمسك بها على الأمة.

الناحية الثانية : أن القول بالتحريف يقتضي سقوط الكتاب عن الحجية ، فلا يتمسك بظواهره ، فلا بد للقائلين بالتحريف من الرجوع إلى إمضاء الأئمة الطاهرين لهذا الكتاب الموجود بأيدينا ، وإقرار الناس على الرجوع اليه بعد ثبوت تحريفه ، ومعنى هذا : أن حجية الكتاب الموجود متوقفة على إمضاء الأئمة للاستدلال به ، وأولى الحجتين المستقلتين اللتين يجب التمسك بهما ، بل هو الثقل الأكبر ، فلا تكون حجيته فرعا على حجية الثقل الأصغر ، والوجه في سقوط الكتاب عن الحجية ـ على القول بالتحريف ـ هو احتمال اقتران ظواهره بما يكون قرينة على خلافها ، أما الاعتماد في ذلك على أصالة عدم القرينة فهو ساقط ، فإن الدليل على هذا الأصل هو بناء العقلاء على اتباع الظهور ، وعدم اعتنائهم باحتمال القرينة على خلافه ، وقد أوضحنا في مباحث الأصول أن القدر الثابت من البناء العقلائي ، هو عدم اعتناء العقلاء باحتمال وجود القرينة المنفصلة ، ولا باحتمال القرينة المتصلة إذا كان سببه احتمال غفلة المتكلم عن البيان ، أو غفلة السامع عن الاستفادة ، أما احتمال وجود

٢١٢

القرينة المتصلة من غير هذين السببين ، فإن العقلاء يتوقفون عن اتّباع الظهور معه ، ومثال ذلك : ما إذا ورد على إنسان كتاب ممن يجب عليه طاعته يأمره فيه بشراء دار ، ووجد بعض الكتاب تالفا ، واحتمل أن يكون في هذا البعض التالف بيان لخصوصيات في الدار التي أمر بشرائها من حيث السعة والضيق ، أو من حيث القيمة أو المحل ، فان العقلاء لا يتمسكون بإطلاق الكلام الموجود ، اعتمادا على أصالة عدم القرينة المتصلة ولا يشترون أية دار امتثالا لأمر هذا الآمر ، ولا يعدّون من يعمل مثل ذلك ممتثلا لأمر سيده.

ولعل القارئ يذهب به وهمه بعيدا ، فيقول : إن هذا التقريب يهدم أساس الفقه ، واستنباط الأحكام الشرعية ، لأن العمدة في أدلتها هي الأخبار المروية عن المعصومين عليهم‌السلام ومن المحتمل أن تكون كلماتهم مقرونة بقرائن متصلة ، ولم تنقل إلينا.

ولو تأمّل قليلا لم يستقر في ذهنه هذا التوهم ، فإن المتبع في مقام الإخبار ، هو ظهور كلام الراوي في عدم وجود القرينة المتصلة ، فإن اللازم عليه البيان لو كان كلام المعصوم متصلا بقرينة ، واحتمال غفلته عنها مدفوع بالأصل.

نعم إن القول بالتحريف يلزمه عدم جواز التمسك بظواهر القرآن ، ولا يحتاج في إثبات هذه النتيجة إلى دعوى العلم الإجمالي باختلال الظواهر في بعض الآيات ، حتى يجاب عنه بأن وقوع التحريف في القرآن لا يلزمه العلم الإجمالي المذكور ، وبأن هذا العلم الإجمالي لا ينجز ، لأن بعض أطرافه ليس من آيات الأحكام ، فلا يكون له أثر في العمل ، والعلم الإجمالي إنما ينجز إذا كان له أثر عملي في كل طرف من أطرافه.

وقد يدّعي القائل بالتحريف : أن إرشاد الأئمة المعصومين عليهم‌السلام إلى الاستدلال بظواهر الكتاب ، وتقرير أصحابهم عليه قد أثبت الحجية للظواهر ، وإن سقطت قبل

٢١٣

ذلك بسبب التحريف.

ولكن هذه الدعوى فاسدة ، فإن هذا الإرشاد من الأئمة المعصومين عليهم‌السلام ، وهذا التقرير منهم لأصحابهم على التمسك بظواهر القرآن ، إنما هو من جهة كون القرآن في نفسه حجة مستقلة ، لأنهم يريدون إثبات الحجية له بذلك ابتداء.

ترخيص قراءة السور في الصلاة :

الدليل الرابع : انه قد أمر الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام بقراءة سورة تامة بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين من الفريضة ، وحكموا بجواز تقسيم سورة تامة أو أكثر في صلاة الآيات ، على تفصيل مذكور في موضعه.

ومن البيّن أن هذه الأحكام إنما ثبتت في أصل الشريعة بتشريع الصلاة وليس للتقية فيها أثر ، وعلى ذلك فاللازم على القائلين بالتحريف أن لا يأتوا بما يحتمل فيه التحريف من السور ، لأن الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية. وقد يدعي القائل بالتحريف أنه غير متمكن من إحراز السورة التامة ، فلا تجب عليه ، لأن الأحكام إنما تتوجه إلى المتمكنين ، وهذه الدعوى إنما تكون مسلمة إذا احتمل وقوع التحريف في جميع السور.

أما إذا كان هناك سورة لا يحتمل فيها ذلك كسورة التوحيد ، فاللازم عليه أن لا يقرأ غيرها ، ولا يمكن للخصم أن يجعل ترخيص الأئمة عليهم‌السلام للمصلي بقراءة آية سورة شاء دليلا على الاكتفاء بما يختاره من السور ، وإن لم يجز الاكتفاء بها قبل هذا الترخيص بسبب التحريف ، فإن هذا الترخيص من الأئمة عليهم‌السلام بنفسه دليل على عدم وقوع التحريف في القرآن وإلا لكان مستلزما لتفويت الصلاة الواجبة على المكلف بدون سبب موجب ، فإن من البيّن أن الإلزام بقراءة السور التي يقع فيها تحريف

٢١٤

ليس فيه مخالفة للتقية ، ونرى أنهم عليهم‌السلام أمرونا بقراءة سورة «القدر والتوحيد» في كل صلاة استحبابا ، فأي مانع من الإلزام بهما ، أو بغيرهما مما لا يحتمل وقوع التحريف فيه.

اللهم إلا أن يدعي نسخ وجوب قراءة السورة التامة إلى وجوب قراءة سورة تامة من القرآن الموجود ، ولا أظن القائل بالتحريف يلتزم بذلك ، لأن النسخ لم يقع بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قطعا ، وان كان في إمكانه وامتناعه كلام بين العلماء ، وهذا خارج عما نحن بصدده.

وجملة القول انه لا ريب في أمر أهل البيت عليهم‌السلام بقراءة سورة من القرآن الذي بين أيدينا في الصلاة ، وهذا الحكم الثابت من دون ريب ولا شائبة تقية إما أن يكون هو نفس الحكم الثابت في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإما أن يكون غيره ، وهذا الأخير باطل لأنه من النسخ الذي لا ريب في عدم وقوعه بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كان أمرا ممكنا في نفسه ، فلا بد وأن يكون ذلك هو الحكم الثابت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعنى ذلك عدم التحريف. وهذا الاستدلال يجري في كل حكم شرعي ، رتبه أهل البيت عليهم‌السلام على قراءة سورة كاملة ، أو آية تامة.

دعوى وقوع التحريف من الخلفاء :

الدليل الخامس : أن القائل بالتحريف إما أن يدعي وقوعه من الشيخين ، بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإما من عثمان بعد انتهاء الأمر اليه ، وإما من شخص آخر بعد انتهاء الدور الأول من الخلافة ، وجميع هذه الدعاوى باطلة. أما دعوى وقوع التحريف من أبي بكر وعمر ، فيبطلها انهما في هذا التحريف إما أن يكونا غير عامدين ، وإنما صدر عنهما من جهة عدم وصول القرآن إليهما بتمامه ، لأنه لم يكن مجموعا قبل ذلك ، وإما

٢١٥

أن يكونا متعمدين في هذا التحريف ، وإذا كانا عامدين فإما أن يكون التحريف الذي وقع منهما في آيات تمس بزعامتهما وإما أن يكون في آيات ليس لها تعلق بذلك ، فالاحتمالات المتصورة ثلاثة :

أما احتمال عدم وصول القرآن إليهما بتمامه فهو ساقط قطعا ، فإن اهتمام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر القرآن بحفظه ، وقراءته ، وترتيل آياته ، واهتمام الصحابة بذلك في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد وفاته يورث القطع بكون القرآن محفوظا عندهم ، جمعا أو متفرقا ، حفظا في الصدور ، أو تدوينا في القراطيس ، وقد اهتموا بحفظ أشعار الجاهلية وخطبها ، فكيف لا يهتمون بأمر الكتاب العزيز ، الذي عرضوا أنفسهم للقتل في دعوته ، وإعلان أحكامه ، وهجروا في سبيله أوطانهم ، وبذلوا أموالهم ، وأعرضوا عن نسائهم وأطفالهم ، ووقفوا المواقف التي بيضوا بها وجه التاريخ ، وهل يحتمل عاقل مع ذلك كله عدم اعتنائهم بالقرآن؟ حتى يضيع بين الناس ، وحتى يحتاج في إثباته إلى شهادة شاهدين؟ وهل هذا إلا كاحتمال الزيادة في القرآن ، بل كاحتمال عدم بقاء شىء من القرآن المنزل؟. على أن روايات الثقلين المتظافرة «المتقدمة» دالة على بطلان هذا الاحتمال ، فإن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي» لا يصح إذا كان بعض القرآن ضائعا في عصره ، فإن المتروك حينئذ يكون بعض الكتاب لا جميعه ، بل وفي هذه الروايات دلالة صريحة على تدوين القرآن ، وجمعه في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأن الكتاب لا يصدق على مجموع المتفرقات ، ولا على المحفوظ في الصدور. ـ وسنتعرض للكلام فيمن جمع القرآن على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وإذا سلّم عدم اهتمام المسلمين بجمع القرآن على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما ذا لم يهتم بذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه مع اهتمامه الشديد بأمر القرآن؟ فهل كان غافلا عن نتائج هذا الإغفال ، أو كان غير متمكن من الجمع ، لعدم تهيؤ الوسائل عنده؟! ومن الواضح بطلان جميع ذلك.

٢١٦

وأما احتمال تحريف الشيخين للقرآن ـ عمدا ـ في الآيات التي لا تمس بزعامتهما ، وزعامة أصحابهما فهو بعيد في نفسه ، إذ لا غرض لهما في ذلك ، على أن ذلك مقطوع بعدمه ، وكيف يمكن وقوع التحريف منهما مع أن الخلافة كانت مبتنية على السياسة ، وإظهار الاهتمام بأمر الدين؟ وهلّا احتج بذلك أحد الممتنعين عن بيعتهما ، والمعترضين على أبي بكر في أمر الخلافة كسعد بن عبادة وأصحابه؟ وهلّا ذكر ذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبته الشقشقية المعروفة ، أو في غيرها من كلماته التي اعترض بها على من تقدّمه؟ ولا يمكن دعوى اعتراض المسلمين عليهما بذلك ، واختفاء ذلك عنا ، فإن هذه الدعوى واضحة البطلان.

وأما احتمال وقوع التحريف من الشيخين عمدا ، في آيات تمس بزعامتهما فهو أيضا مقطوع بعدمه ، فإن أمير المؤمنين عليه‌السلام وزوجته الصديقة الطاهرة عليهما‌السلام وجماعة من أصحابه قد عارضوا الشيخين في أمر الخلافة ، واحتجوا عليهما بما سمعوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستشهدوا على ذلك من شهد من المهاجرين والأنصار ، واحتجوا عليه بحديث الغدير وغيره ، وقد ذكر في كتاب الاحتجاج : احتجاج اثنى عشر رجلا على أبي بكر في الخلافة ، وذكروا له النص فيها (١) ، وقد عقد العلّامة المجلسي بابا لاحتجاج أمير المؤمنين في أمر الخلافة (٢) ، ولو كان في القرآن شىء يمس زعامتهم لكان أحق بالذكر في مقام الاحتجاج ، وأحرى بالاستشهاد عليه من جميع المسلمين ، ولا سيما أن أمر الخلافة كان قبل جمع القرآن على زعمهم بكثير ، ففي ترك الصحابة ذكر ذلك في أول أمر الخلافة وبعد انتهائها إلى علي عليه‌السلام دلالة قطعية على عدم التحريف المذكور.

__________________

(١) بحار الأنوار : ٢٨ / ١٨٩ ، الباب الرابع ، رقم الحديث : ٢.

(٢) نفس المصدر : الباب الرابع.

٢١٧

وأما احتمال وقوع التحريف من عثمان فهو أبعد من الدعوى الأولى :

١ ـ لأن الإسلام قد انتشر في زمان عثمان على نحو ليس في إمكان عثمان أن ينقص من القرآن شيئا ، ولا في إمكان من هو أكبر شأنا من عثمان.

٢ ـ ولأن تحريفه إن كان للآيات التي لا ترجع إلى الولاية ، ولا تمس زعامة سلفه بشيء ، فهو بغير سبب موجب ، وإن كان للآيات التي ترجع إلى شىء من ذلك فهو مقطوع بعدمه ، لأن القرآن لو اشتمل على شىء من ذلك وانتشر بين الناس لما وصلت الخلافة إلى عثمان.

٣ ـ ولأنه لو كان محرّفا للقرآن ، لكان في ذلك أوضح حجة ، وأكبر عذر لقتلة عثمان في قتله علنا ، ولما احتاجوا في الاحتجاج على ذلك إلى مخالفته لسيرة الشيخين في بيت مال المسلمين ، وإلى ما سوى ذلك من الحجج.

٤ ـ ولكان من الواجب على علي عليه‌السلام بعد عثمان أن يردّ القرآن إلى أصله ، الذي كان يقرأ به في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزمان الشيخين ولم يكن عليه في ذلك شىء ينتقد به ، بل ولكان ذلك أبلغ أثرا في مقصوده وأظهر لحجته على الثائرين بدم عثمان ، ولا سيما أنه عليه‌السلام قد أمر بإرجاع القطائع التي أقطعها عثمان. وقال في خطبة له :

«والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الإماء لرددته فإن في العدل سعة ، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق» (١).

هذا أمر عليّ في الأموال ، فكيف يكون أمره في القرآن لو كان محرّفا ، فيكون إمضاؤه عليه‌السلام للقرآن الموجود في عصره ، دليلا على عدم وقوع التحريف فيه.

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة : ١٥ ، فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان.

٢١٨

وأما دعوى وقوع التحريف بعد زمان الخلفاء فلم يدّعها أحد فيما نعلم ، غير أنها نسبت إلى بعض القائلين بالتحريف ، فادّعى أن الحجاج لما قام بنصرة بني أمية أسقط من القرآن آيات كثيرة كانت قد نزلت فيهم ، وزاد فيه ما لم يكن منه ، وكتب مصاحف وبعثها إلى مصر ، والشام ، والحرمين ، والبصرة ، والكوفة ، وإن القرآن الموجود اليوم مطابق لتلك المصاحف. وأما المصاحف الاخرى فقد جمعها ولم يبق منها شيئا ولا نسخة واحدة (١).

وهذه الدعوى تشبه هذيان المحمومين ، وخرافات المجانين والأطفال ، فإن الحجاج واحد من ولاة بني أمية ، وهو أقصر باعا ، وأصغر قدرا من أن ينال القرآن بشيء ، بل وهو أعجز من أن يغير شيئا من الفروع الإسلامية ، فكيف يغير ما هو أساس الدين ، وقوام الشريعة؟ ومن أين له القدرة والنفوذ في جميع ممالك الإسلام وغيرها مع انتشار الإسلام فيها وكيف لم يذكر هذا الخطب العظيم مؤرخ في تاريخه ، ولا ناقد في نقده مع ما فيه من الأهمية ، وكثرة الدواعي إلى نقله ، وكيف لم يتعرض لنقله واحد من المسلمين في وقته ، وكيف أغضى المسلمون عن هذا العمل بعد انقضاء عهد الحجاج ، وانتهاء سلطته؟.

وهب أنه تمكن من جمع نسخ المصاحف جميعها ، ولم تشذ عن قدرته نسخة واحدة من أقطار المسلمين المتباعدة ، فهل تمكن من إزالته عن صدور المسلمين وقلوب حفظة القرآن؟ وعددهم في ذلك الوقت لا يحصيه إلا الله ، على أن القرآن لو كان في بعض آياته شىء يمس بني أمية ، لاهتمّ معاوية بإسقاطه قبل زمان الحجاج وهو أشد منه قدرة ، وأعظم نفوذا ، ولاستدل به أصحاب علي عليه‌السلام على معاوية ، كما احتجوا عليه بما حفظه التاريخ ، وكتب الحديث والكلام ،

__________________

(١) مناهل العرفان : ص ٢٥٧.

٢١٩

وبما قدمناه للقارئ ، يتضح له أن من يدّعي التحريف يخالف بداهة العقل ، وقد قيل في المثل : «حدّث الرجل بما لا يليق ، فإن صدّق فهو ليس بعاقل).

شبهات القائلين بالتحريف :

وهنا شبهات يتشبث بها القائلون بالتحريف لا بد لنا من التعرض لها ودفعها واحدة واحدة :

الشبهة الاولى :

إن التحريف قد وقع في التوراة والإنجيل ، وقد ورد في الروايات المتواترة من طريقي الشيعة والسنة : أن كل ما وقع في الأمم السابقة لا بد وأن يقع مثله في هذه الامة ، فمنها ما رواه الصدوق في «الإكمال» عن غياث بن إبراهيم ، عن الصادق عن آبائه عليهم‌السلام قال :

«قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كل ما كان في الأمم السالفة ، فإنه يكون في هذه الأمة مثله حذو النعل بالنعل ، والقذة بالقذة» (١).

ونتيجة ذلك : أن التحريف لا بد من وقوعه في القرآن ، وإلا لم يصح معنى هذه الأحاديث.

والجواب عن ذلك :

أولا : أن الروايات المشار إليها أخبار آحاد لا تفيد علما ولا عملا ، ودعوى التواتر فيها جزافية لا دليل عليها ، ولم يذكر من هذه الروايات شىء في الكتب الأربعة ، ولذلك فلا ملازمة بين وقوع التحريف في التوراة ووقوعه في القرآن.

__________________

(١) كمال الدين : ص ٥٧٦ الباب ٥٤. وقد تقدم بعض مصادر هذا الحديث من طرق أهل السنة في ما تقدم من هذا الكتاب.

٢٢٠