البيان في تفسير القرآن

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي

البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هذا بيان للنّاس وهدى وموعظة للمتّقين

٥

الهم العلّامة الجليل الشيخ كاتب الطريحي رحمه‌الله في عالم الرؤيا هذين البيتين تاريخا لتسمية هذا الكتاب وصدوره.

رب السماء انزل قرائنه

على النبي المصطفى الخاتم

تفسير البيان ارخ وقل

خير البيان من أبي القاسم

٥٧٣١ ه

٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة على خير خلقه وأشرف بريّته محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

لا يخفى أن العمق الكمّي والنوعي الذي امتازت به حركة التصنيف والتأليف لدى علماء وأجلاء مدرسة أهل بيت العصمة والطهارة عليهم‌السلام كان ولا زال بحد ذاته السور المتين والحصن المنيع الذي صان لهذه المدرسة أسسها ومبادئها من الانحراف والضياع ، بل شيّدت هذه الآثار النفيسة بمضمونها المتكامل ومحتواها الفني القاعدة الصلبة والمنبع الفياض لكل الاطروحات والمحاولات التي تنصب في سبيل مكادحة الأفكار الفاسدة والتيارات المضلّة ، فحفظت للامة قيمها وأصالتها ومنحتها المناعة الدائمة والمقاومة الفاعلة في أحلك الظروف وأشدها.

ولقد كانت مؤلفات ومصنفات زعيم الحوزة العلمية ، أستاذ الفقهاء والمجتهدين ، الإمام الخوئي قدس الله نفسه الزكية ، النموذج الرائع والمصداق الرفيع والمثل الرائد الذي ساهم مساهمة عملاقة في رفد ميادين الفكر والثقافة

٧

والفضيلة بأبهى المصادر وأرقى المراجع ، وذلك في مختلف صنوف العلوم وأنواعها.

ومؤسسة احياء آثار الامام الخوئي قدس‌سره التي بدأت مرحلة المشوار الطويل في تحقيق وطبع ونشر ما جاءت به أنامله الشريفة وأفكاره المقدسة ، تسعى جاهدة في طرح موسوعته الكاملة في الفقه والأصول والرجال والتفسير عرفانا منها بجميل ما قدمه هذا العلم الفذ والطود الشامخ على طريق احياء ونشر علوم آل محمد عليهم‌السلام.

إذ تقدم بين يدي القراء الكرام تفسير البيان ـ أحد أجزاء الموسوعة الآنفة الذكر ـ تعمل بكل ما بوسعها لمواصلة الدرب في إخراج سائر أجزاء هذه الموسوعة. وهذا لا يتم إلّا بلطفه وعنايته سبحانه وتعالى.

وصلّى الله على محمد وآله الأطيبين الأطهرين.

٨

خطبة الكتاب

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) ١٨ : ١. (قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً : ٢. ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً : ٣. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ١١ : ١. لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. ٤١ : ٤٢. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ٢ : ٢. نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ ١٦ : ١٠٢. ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. ١٢ : ١١١. وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ ٤٣ : ٤٤).

وأفضل صلوات الله وأكمل تسليماته على رسوله الّذي : أرسله (بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.* النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً

٩

عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ.)

وعلى آله : المصطفين الأخيار. الّذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتّبعوا النّور الّذي أنزل معه. أولئك هم الصّدّيقون والشّهداء عند ربّهم لهم أجرهم ونورهم. رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إنّ حزب الله هم المفلحون.

واللّعنة الدّائمة على أعدائهم : (الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ. يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ. خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ.)

١٠

مقدّمة الطبعة الأولى

لما ذا وضعت هذا التفسير؟

كنت ولعا منذ أيام الصبا بتلاوة كتاب الله الأعظم ، واستكشاف غوامضه واستجلاء معانيه. وجدير بالمسلم الصحيح ، بل بكلّ مفكر من البشر أن يصرف عنايته إلى فهم القرآن ، واستيضاح أسراره ، واقتباس أنواره ، لأنه الكتاب الذي يضمن إصلاح البشر ، ويتكفل بسعادتهم وإسعادهم. والقرآن مرجع اللغوي ، ودليل النحوي ، وحجة الفقيه ، ومثل الأديب ، وضالة الحكيم ، ومرشد الواعظ ، وهدف الخلقي ، وعنه تؤخذ علوم الاجتماع والسياسة المدنية ، وعليه تؤسس علوم الدين ، ومن ارشاداته تكتشف أسرار الكون ، ونواميس التكوين ، والقرآن هو المعجزة الخالدة للدين الخالد ، والنظام السامي الرفيع للشريعة السامية الرفيعة.

أولعت منذ صباي بتلاوته ، واستيضاح معانيه ، واستظهار مراميه ، فكان هذا الولع يشتد بي كلما استوضحت ناحية من نواحيه ، واكتشفت سرا من أسراره ، وكان هذا الولع الشديد باعثا قويا يضطرني إلى مراجعة كتب التفسير ، وإلى سبر أغوارها. وهنا رأيت ما أدهشني وحيّرني :

١١

رأيت صغارة الإنسان فى تفسيره وتفكيره أمام عظمة الله فى قرآنه.

رأيت نقص المخلوق في تناهيه وخضوعه أمام كمال الخالق فى وجوبه وكبريائه.

رأيت القرآن يترفع ويرتفع ، ورأيت هذه الكتب تصغر وتتصاغر.

رأيت الإنسان يجهد نفسه ليكتشف ناحية خاصة أو ناحيتين ، فيحرر ما اكتشفه في كتاب ، ثم يسمي ذلك الكتاب تفسيرا يجلو غوامض القرآن ، ويكشف أسراره ، وكيف يصح فى العقول أن يحيط الناقص بالكامل.

على أن هؤلاء العلماء مشكورون فى سعيهم ، مبرورون في جهادهم. فإن كتاب الله ألقى على نفوسهم شعاعا من نوره ، ووضحا من هداه ، وليس من الإنصاف أن نكلف أحدا ـ وإن بلغ ما بلغ من العلم والتبحر ـ أن يحيط بمعاني كتاب الله الأعظم ، ولكن الشيء الذي يؤخذ على المفسرين أن يقتصروا على بعض النواحي الممكنة ، ويتركوا نواحي عظمة القرآن الاخرى ، فيفسره بعضهم من ناحية الأدب أو الإعراب ، ويفسره الآخر من ناحية الفلسفة ، وثالث من ناحية العلوم الحديثة أو نحو ذلك ، كأن القرآن لم ينزل إلا لهذه الناحية التي يختارها ذلك المفسر ، وتلك الوجهة التي يتوجه إليها.

وهناك قوم كتبوا في التفسير غير أنه لا يوجد فى كتبهم من التفسير إلا الشيء اليسير ، وقوم آخرون فسروه بآرائهم ، أو اتّبعوا فيه قول من لم يجعله الله حجة بينه وبين عباده.

على المفسر : أن يجري مع الآية حيث تجري ، ويكشف معناها حيث تشير ، ويوضح دلالتها حيث تدل. عليه أن يكون حكيما حين تشتمل الآية على الحكمة ، وخلقيا حين ترشد الآية إلى الأخلاق ، وفقيها حين تتعرض للفقه ، واجتماعيا حين

١٢

تبحث فى الاجتماع ، وشيئا آخر حين تنظر فى أشياء أخر.

على المفسر : أن يوضح الفن الذي يظهر فى الآية ، والأدب الذي يتجلى بلفظها ، عليه أن يحرر دائرة لمعارف القرآن إذا أراد أن يكون مفسرا. والحق أني لم أجد من تكفل بجميع ذلك من المفسرين.

من أجل ذلك صممت على وضع هذا الكتاب في التفسير ، آملا من الحق تعالى أن يسعفني بما أمّلت ، ويعفو عني فيما قصّرت. وقد التزمت فى كتابي هذا أن أجمع فيه ما يسعني فهمه من علوم القرآن التي تعود الى المعنى. أما علوم أدب القرآن فلست أتعرض لها غالبا لكثرة من كتب فيها من علماء التفسير ، كالشيخ الطوسي في «التبيان» والطبرسي فى «مجمع البيان» والزمخشري في «الكشاف». نعم قد أتعرض لهذه الجهات إذا أوجب البحث على أن أتعرض لها أو رأيت جهة مهمة أغفلها علماء التفسير وقد أتعرض لبعض الجهات المهمة وان لم يغفلها العلماء.

وسيجد القارئ أني لا أحيد فى تفسيري هذا عن ظواهر الكتاب ومحكماته وما ثبت بالتواتر أو بالطرق الصحيحة من الآثار الواردة عن أهل بيت العصمة ، من ذرية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما استقل به العقل الفطري الصحيح الذي جعله الله حجة باطنة كما جعل نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته المعصومين عليهم‌السلام حجة ظاهرة (١).

وسيجد القارئ أيضا أني كثيرا ما أستعين بالآية على فهم أختها ، واسترشد القرآن الى ادراك معاني القرآن ، ثم أجعل الأثر المروي مرشدا الى هذه الاستفادة.

وهنا مباحث مهمة لها صلة وثقى بالمقصود تلقي أضواء على نواح شتى قدّمتها لتكون :

__________________

(١) اصول الكافي : ١ / ١٦ ، كتاب العقل والجهل ، الحديث : ١٢.

١٣

مدخل التفسير :

وهو يشتمل على موضوعات علمية تتصل بالقرآن من حيث عظمته واعجازه ومن حيث صيانته عن التحريف ، وسلامته من التناقض ، والنسخ في تشريعاته ، وما إلى ذلك من مسائل علمية ينبغي تصفيتها كمدخل لفهم القرآن ومعرفته ، والبدء بتفسيره على أساس علمي سليم.

واليه جل شأنه ابتهل أن يمدّني بالتوفيق ، ويلحظ عملي بعين القبول. انه حميد مجيد.

المؤلف

١٤

فضل القرآن

١٥

ـ عجز الإنسان عن وصف القرآن.

ـ من هم أعرف الناس بمنزلته؟

ـ حديث الرسول فى فضل القرآن.

ـ صيانة القرآن من التلاعب.

ـ عاصميته للامة من الاختلاف.

ـ خلوده وشموله. فضل قراءة القرآن.

ـ الأحاديث الموضوعة في قراءته.

ـ التدبر في القرآن.

ـ معرفة تفسيره.

ـ حث الكتاب ، والسنة ، وحكم العقل على التدبر فى القرآن.

١٦

من الخير أن يقف الإنسان دون ولوج هذا الباب ، وأن يتصاغر أمام هذه العظمة ، وقد يكون الاعتراف بالعجز خيرا من المضي في البيان. ما ذا يقول الواصف في عظمة القرآن ، وعلوّ كعبه؟ وما ذا يقول في بيان فضله ، وسموّ مقامه؟ وكيف يستطيع الممكن أن يدرك مدى كلام الواجب؟ وما ذا يكتب الكاتب في هذا الباب؟ وما ذا يتفوّه به الخطيب؟ وهل يصف المحدود إلا محدودا؟.

وحسب القرآن عظمة ، وكفاه منزلة وفخرا أنه كلام الله العظيم ، ومعجزة نبيه الكريم ، وأن آياته هي المتكلفة بهداية البشر في جميع شئونهم وأطوارهم في أجيالهم وأدوارهم ، وهي الضمينة لهم بنيل الغاية القصوى والسعادة الكبرى في العاجل والآجل :

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) «١٧ : ٩». (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) «١٤ : ١». (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) «٣ : ١٣٨».

١٧

وقد ورد في الأثر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه» (١).

نعم من الخير أن يقف الإنسان دون ولوج هذا الباب ، وأن يكل بيان فضل القرآن إلى نظراء القرآن ، فإنهم أعرف الناس بمنزلته ، وأدلهم على سموّ قدره ، وهم قرناؤه في الفضل ، وشركاؤه في الهداية ، أما جدهم الأعظم فهو الصادع بالقرآن ، والهادي إلى أحكامه ، والناشر لتعاليمه.

وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» (٢).

فالعترة هم الأدلاء على القرآن ، والعالمون بفضله. فمن الواجب أن نقتصر على أقوالهم ، ونستضيء بإرشاداتهم. ولهم في فضل القرآن أحاديث كثيرة جمعها شيخنا المجلسي في (البحار) الجزء التاسع عشر منه. (٣) ونحن نكتفي بذكر بعض ما ورد :

روى الحارث الهمداني (٤) قال :

«دخلت المسجد فإذا أناس يخوضون في أحاديث فدخلت على عليّ فقلت : ألا ترى أن أناسا يخوضون في الأحاديث في المسجد؟ فقال : قد فعلوها؟ قلت : نعم ، قال : أما إني قد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ستكون فتن ، قلت : وما المخرج منها؟ قال : كتاب

__________________

(١) بحار الأنوار : ٢ / ١٠٠ ، الحديث ٥٩ وسنن الترمذي : كتاب فضائل القرآن ، الحديث ٢٨٥٠. وسنن الدارمي : كتاب فضائل القرآن ، الحديث ٣٢٢٣.

(٢) مسند احمد : كتاب مسند المكثرين ، الحديث : ١٠٦٨١. وسنن الترمذي : كتاب المناقب ، الحديث : ٣٧٢٠. راجع بقية المصادر في قسم التعليقات رقم (١) (المؤلف)

(٣) من الطبعة القديمة المعروفة بطبعة الكمپاني. راجع الجزء ٩٢ من الطبعة الحديثة الباب : ١.

(٤) انظر ترجمة الحارث وافتراء الشعبي عليه في قسم التعليقات رقم (٢). (المؤلف).

١٨

الله ، فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل ، هو الذي من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله ، فهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يخلق عن كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه. وهو الذي لم ينته الجن إذ سمعته أن قالوا : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) هو الذي من قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن عمل به اجر ، ومن دعا اليه هدي إلى صراط مستقيم ، خذها إليك يا أعور» (١).

وفي الحديث مغاز جليلة يحسن أن نتعرض لبيان أهمها. يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فيه نبأ ما كان قبلكم. وخبر ما بعدكم» والذي يحتمل في هذه الجملة وجوه :

الأول : أن تكون إشارة إلى اخبار النشأة الاخرى من عالمي البرزخ والحساب والجزاء على الأعمال. ولعل هذا الاحتمال هو الأقرب ، ويدل على ذلك قول أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبته : «فيه نبأ من كان قبلكم والحكم فيما بينكم وخبر معادكم». (٢).

الثاني : أن تكون إشارة الى المغيبات التي أنبأ عنها القرآن ، مما يقع في الأجيال المقبلة.

الثالث : أن يكون معناها أن حوادث الأمم السابقة تجري بعينها في هذه الامة ،

__________________

(١) سنن الدارمي : ٢ / ٤٣٥ ، كتاب فضائل القرآن ، الحديث : ٣١٩٧. وسنن الترمذي : كتاب فضائل القرآن ، الحديث ٢٨٣١. ورواه المجلسي رحمه‌الله فى بحار الأنوار : ٩٢ / ٢٤ ، الباب ١. فضل القرآن واعجازه ، الحديث : ٢٥.

(٢) نفس المصدر : الحديث ٢٦.

١٩

فهي بمعنى قوله تعالى : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) «٨٤ : ١٩» ، وبمعنى الحديث المأثور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لتركبن سنن من قبلكم». (١)

أما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من تركه من جبار قصمه الله» فلعل فيه ضمانا بحفظ القرآن عن تلاعب الجبارين ، بحيث يؤدي ذلك الى ترك تلاوته وترك العمل به ، والى جمعه من أيدي الناس كما صنع بالكتب الإلهية السابقة (٢) فتكون إشارة الى حفظ القرآن من التحريف. وسنبحث عنه مفصلا. وهذا أيضا هو معنى قوله في الحديث : «لا تزيغ به الأهواء» بمعنى لا تغيره عما هو عليه ، لأن معاني القرآن قد زاغت بها الأهواء فغيرتها. وسنبين ذلك مفصلا عند تفسير الآيات إن شاء الله تعالى.

وأشار الحديث إلى أن الامة لو رجعوا الى القرآن في خصوماتهم ، وما يلتبس عليهم في عقائدهم وأعمالهم لأوضح لهم السبيل. ولوجدوه الحكم العدل ، والفاصل بين الحق والباطل.

نعم ، لو أقامت الأمة حدود القرآن ، واتبعت مواقع إشاراته وإرشاداته ، لعرفت الحق أهله ، وعرفت حق العترة الطاهرة الذين جعلهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرناء الكتاب ، وأنهم الخليفة الثانية على الامة من بعده (٣) ولو استضاءت الامة بأنوار معارف القرآن ، لأمنت العذاب الواصب ، ولما تردّت في العمى ، ولا غشيتهم حنادس الضلال ، ولا عال سهم من فرائض الله ، ولا زلّت قدم عن الصراط السويّ ، ولكنها أبت إلا الانقلاب على الأعقاب ، واتباع الأهواء ، والانضواء الى راية الباطل حتى آل

__________________

(١) ورد هذا اللفظ في كنز العمال : ٦ / ٤٠ ، من حديث سهل بن سعد وفى صحيح البخاري : كتاب أحاديث الأنبياء الحديث : ٣١٩٧ ، «لتتبعنّ سنن ...». انظر بقية المصادر في قسم التعليقات رقم (٣).

(٢) راجع «الهدى الى دين المصطفى» : ١ / ٣٤ ، لآية الله الحجة الشيخ محمد جواد البلاغي.

(٣) تقدم مصادر حديث الثقلين في ص ١٨ ، وفي بعض نصوصه تصريح بأن القرآن والعترة خليفتا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (المؤلف).

٢٠