البيان في تفسير القرآن

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي

البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

والكسائي ، وغيرهما ما سوى حمزة وذهب اليه أيضا غالب أصحاب الشافعي (١) وجزم به قرّاء مكة والكوفة (٢) ، وحكي هذا القول عن ابن عمر ، وابن الزبير وأبي هريرة ، وعطاء ، وطاوس ، وسعيد بن جبير ، ومكحول ، والزهري ، وأحمد بن حنبل في رواية عنه ، وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم بن سلام (٣) وعن البيهقي نقل هذا القول عن الثوري ومحمد بن كعب (٤) ، واختاره الرازي في تفسيره ونسبه إلى قرّاء مكة والكوفة وأكثر فقهاء الحجاز ، وإلى ابن المبارك والثوري ، واختاره أيضا جلال الدين السيوطي مدعيا تواتر الروايات الدالة عليه معنى (٥).

وقال بعض الشافعية وحمزة : «إنها آية من فاتحة الكتاب خاصة دون غيرها» ونسب ذلك إلى أحمد بن حنبل ، كما نسب اليه القول الأول (٦).

وذهب جماعة : منهم مالك ، وأبو عمرو ، ويعقوب إلى أنها آية فذة وليست جزء من فاتحة الكتاب ولا من غيرها ، وقد أنزلت لبيان رءوس السور تيمنا ، وللفصل بين السورتين ، وهو مشهور بين الحنفية (٧).

غير أن أكثر الحنفية ذهبوا إلى وجوب قراءتها في الصلاة قبل الفاتحة وذكر الزاهدي عن المجتبى أن وجوب القراءة في كل ركعة هي الرواية الصحيحة عن أبي حنيفة (٨).

__________________

(١) تفسير الآلوسي : ١ / ٣٩.

(٢) تفسير الشوكاني : ١ / ٧.

(٣) تفسير ابن كثير : ١ / ١٦.

(٤) تفسير الخازن : ١ / ١٣.

(٥) الإتقان : ١ / ١٣٥ ، ١٣٦ النوع ٢٢ ـ ٢٧.

(٦) تفسير الآلوسي : ١ / ٣٩.

(٧) نفس المصدر.

(٨) نفس المصدر.

٤٤١

وأما مالك فقد ذهب إلى كراهة قراءتها في نفسها ، واستحبابها لأجل الخروج من الخلاف (١).

أدلة جزئية البسملة للقرآن :

وفي هذه المسألة أقوال أخر شاذة لا فائدة في التعرض لها ، ولكن المهم بيان الدليل على المذهب الحق ويقع ذلك في عدة أمور :

١ ـ أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام :

وهي الروايات الصحيحة المأثورة عن أهل البيت عليهم‌السلام الصريحة في ذلك وبها الكفاية عن تجشم أي دليل آخر بعد أن جعلهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدلا للقرآن في وجوب التمسك بهم والرجوع إليهم (٢).

١ ـ عن معاوية بن عمار قال :

«قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إذا قمت للصلاة اقرأ بسم الله الرّحمن الرّحيم في فاتحة القرآن؟ قال : نعم. قلت : فإذا قرأت فاتحة القرآن أقرأ بسم الله الرّحمن الرحيم مع السورة ، قال : نعم» (٣).

٢ ـ عن يحيى بن أبي عمران الهمداني قال :

«كتبت إلى أبي جعفر عليه‌السلام جعلت فداك ما تقول في رجل ابتدأ : ببسم الله الرحمن الرحيم في صلاته وحده في أم الكتاب فلما صار إلى غير أمّ الكتاب من السورة تركها؟ فقال العباسي :

__________________

(١) الفقه على المذاهب الأربعة ج ١ ص ٢٥٧.

(٢) تقدم بعض مصادر هذا الحديث في الصفحة «١٨ ، ٣٩٧» من هذا الكتاب.

(٣) الكافي : ٣ / ٣١٢ ، الحديث : ١ ، والاستبصار : ١ / ٣١١ ، باب ١٧٠ ، الحديث : ٢.

٤٤٢

ليس بذلك بأس ، فكتب بخطه : يعيدها ـ مرتين ـ على رغم أنفه» يعني العباسي (١).

٣ ـ وفي صحيحة ابن أبي أذينة :

«... فلما فرغ من التكبير والافتتاح أوحى الله اليه سمّ باسمي فمن أجل ذلك جعل بسم الله الرحمن الرحيم في أول السورة ثم أوحى الله اليه أن احمدني فلما قال : الحمد لله رب العالمين ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نفسه شكرا فأوحى الله عزوجل إليه قطعت حمدي فسمّ باسمي فمن أجل ذلك جعل في الحمد :

الرحمن الرحيم مرتين ، فلما بلغ ولا الضالين قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحمد لله ربّ العالمين شكرا فأوحى الله اليه قطعت ذكري فسمّ باسمي فمن أجل ذلك جعل بسم الله الرحمن الرحيم في أول السورة ثم أوحى الله عزوجل اليه اقرأ يا محمد نسبة ربك تبارك وتعالى (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)(٢).

٢ ـ أحاديث أهل السنة :

وقد دلت على ذلك أيضا روايات كثيرة من طرق أهل السنة نذكر جملة منها :

١ ـ ما رواه أنس قال :

«بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٣١٣ ، الحديث : ٢ ، والتهذيب : ٢ / ٦٩ ، باب ٢٣ ، الحديث : ٢٠.

(٢) الكافي : ٣ / ٤٨٥ ، الحديث : ١.

٤٤٣

ثم رفع رأسه متبسما ، فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله؟ قال : أنزلت عليّ آنفا سورة فقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر ...» (١)

٢ ـ ما أخرجه الدار قطني بسند صحيح عن علي عليه‌السلام :

«أنه سئل عن السبع المثاني ، فقال : الحمد لله رب العالمين ، فقيل له : إنما هي ست آيات ، فقال : بسم الله الرحمن الرحيم آية» (٢).

٣ ـ ما أخرجه الدار قطني أيضا بسند صحيح عن أبي هريرة قال :

«قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا قرأتم الحمد فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم فانها أمّ القرآن ، وأمّ الكتاب ، والسبع المثاني. وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها» (٣).

٤ ـ ما أخرجه ابن خزيمة والبيهقي بسند صحيح عن ابن عباس قال :

«السبع المثاني فاتحة الكتاب. قيل : فأين السابعة؟ قال :

بسم الله الرحمن الرحيم» (٤).

٥ ـ ما أخرجه ابن خزيمة والبيهقي في المعرفة بسند صحيح من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال :

__________________

(١) صحيح مسلم : كتاب الصلاة ، رقم الحديث : ٦٠٧. وسنن النسائي : ١ / ١٤٣ ، كتاب الافتتاح رقم الحديث : ٨٩٤. وسنن أبي داود : ١ / ١٢٥ ، كتاب السنة ، رقم الحديث : ٤١٢٢

(٢) الإتقان : ١ / ١٣٦ ، النوع ٢٢ ـ ٢٧ ، ورواهما البيهقي في سننه : ٢ / ٤٥ ، باب الدليل على أن البسملة آية تامة.

(٣) نفس المصدر السابق.

(٤) نفس المصدر ، ورواه الحاكم في المستدرك : ١ / ٥٥١.

٤٤٤

«استرق الشيطان من الناس أعظم آية من القرآن : بسم الله الرحمن الرحيم» (١).

٦ ـ ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال :

«كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم ، فإذا نزلت بسم الله الرحمن الرحيم علموا أن السورة قد انقضت» (٢).

٧ ـ ما رواه سعيد عن ابن عباس :

«أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا جاءه جبرئيل فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم علم أن ذلك سورة» (٣).

٨ ـ ما رواه ابن جريح قال :

«أخبرني أبي أن سعيد بن جبير أخبره ، قال : ولقد آتيناك سبعا من المثاني قال : هي أمّ القرآن ، قال أبي : وقرأ عليّ سعيد بن جبير بسم الله الرحمن الرحيم الآية السابعة. قال سعيد بن جبير : وقرأها عليّ ابن عباس كما قرأتها عليك ، ثم قال : بسم الله الرحمن الرحيم الآية السابعة. قال ابن عباس : فأخرجها الله لكم وما أخرجها لأحد قبلكم» (٤).

إلى غير ذلك من الروايات. ومن أراد الاطلاع عليها فليراجع مظانها.

__________________

(١) نفس المصدر ص ١٣٥ ، ورواه البيهقي في سننه ٢ / ٥٠ ، باب افتتاح القراءة في الصلاة.

(٢) مستدرك الحاكم : ١ / ٢٣٢ ، قال الحاكم : هذا صحيح على شرط الشيخين.

(٣) مستدرك الحاكم : ١ / ٢٣١.

(٤) نفس المصدر السابق : ص ٥٥٠ ، كتاب فضائل القرآن.

٤٤٥

الروايات المعارضة :

وليس بإزاء هذه الروايات إلا روايتان دلّتا على عدم جزئية البسملة للسورة :

١ ـ إحداهما : رواية قتادة عن أنس بن مالك ، قال :

صلّيت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم (١).

٢ ـ ثانيتهما : ما رواه ابن عبد الله بن مغفل يزيد بن عبد الله ، قال :

«سمعني أبي وأنا أقول : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال : أي بني! إياك قال : ولم أر أحدا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أبغض اليه حدثا في الإسلام منه ، فإني قد صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومع أبي بكر وعمر ، ومع عثمان فلم أسمع أحدا منهم يقولها فلا تقلها ، إذا أنت قرأت فقل : الحمد لله رب العالمين» (٢).

والجواب عن الرواية الاولى : مضافا الى مخالفتها للروايات المأثورة عن أهل البيت عليهم‌السلام : أنها لا يمكن الاعتماد عليها من وجوه :

الوجه الأول : معارضتها بالروايات المتواترة معنى ، المنقولة عن طرق أهل السنة ، ولا سيما أن جملة منها صحاح الأسانيد ، فكيف يمكن تصديق هذه الرواية؟

__________________

(١) صحيح مسلم : كتاب الصلاة ، رقم الحديث : ٦٠٥ ، ومسند أحمد : باقي مسند المكثرين ، رقم الحديث : ١٢٣٤٥ و ١٣٣٨٦.

(٢) سنن ابن ماجة : كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها ، رقم الحديث : ٨٠٧ مسند أحمد : مسند المدنيين ، رقم الحديث : ١٦١٨٤. ورواه الترمذي : ٢ / ٤٣ باختلاف يسير ، باب ما جاء في ترك الجهر بالبسملة رقم الحديث ٢٢٧.

٤٤٦

مع شهادة ابن عباس ، وأبي هريرة ، وأمّ سلمة على أن رسول الله كان يقرأ البسملة وبعدّها آية من الفاتحة ، وإن ابن عمر كان يقول : لم كتبت إن لم تقرأ!» وإن عليا عليه‌السلام كان يقول : «من ترك قراءتها فقد نقص» وكان يقول : «هي تمام السبع المثاني» (١). الوجه الثاني : مخالفتها لما اشتهر بين المسلمين من قراءتها في الصلاة ، حتى أن معاوية تركها في صلاته في يوم من أيام خلافته ، فقال له المسلمون : «أسرقت أم نسيت؟» (٢).

ومع هذا كيف يمكن التصديق بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن بعده لم يقرءوها!

الوجه الثالث : مخالفتها لما استفاض نقله عن أنس نفسه (٣) فالرواية موضوعة ما في ذلك من شك.

والجواب عن الرواية الثانية : وهي رواية ابن عبد الله بن مغفل ـ يظهر مما تقدم في الجواب عن الرواية الاولى ، على أنها تضمنت ما يخالف ضرورة الإسلام ، فإنه لا يشك أحد من المسلمين في استحباب التسمية قبل الحمد والسورة ، ولو بقصد التيمن والتبرك ، لا لأن البسملة جزء فكيف ينهى ابن مغفل عنها بدعوى أنها حدث في الإسلام؟!

٣ ـ سيرة المسلمين :

لقد استقرت سيرة المسلمين على قراءة البسملة في أوائل السور غير سورة براءة ، وثبت بالتواتر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقرؤها ، ولو لم تكن من القرآن للزم

__________________

(١) انظر التعليقة رقم (١٤) لمعرفة أن البسملة جزء من القرآن ، بشهادة جملة من الأحاديث في قسم التعليقات.

(٢) انظر التعليقة رقم (١٥) قصة نسيان معاوية لقراءة البسملة واعتراض المسلمين عليه في قسم التعليقات.

(٣) انظر التعليقة رقم (١٦) للوقوف على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقرأ البسملة في كل صلاة ، ثم توجيه رواية أنس ـ في قسم التعليقات.

٤٤٧

على الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصرح بذلك ، فإن قراءته ـ وهو في مقام البيان ـ ظاهرة في أن جميع ما يقرأ قرآن ، ولو لم يكن بعض ما يقرأ قرآنا ثم لم يصرح بذلك لكان ذلك منه إغراء منه بالجهل ، وهو قبيح ، وفي ما يرجع إلى الوحي الإلهي أشد قبحا ، ولو صرّح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك لنقل إلينا بالتواتر مع أنه لم ينقل حتى بالآحاد.

٤ ـ مصاحف التابعين والصحابة :

مما لا ريب فيه أن مصاحف التابعين والصحابة ـ قبل جمع عثمان وبعده ـ كانت مشتملة على البسملة ، ولو لم تكن من القرآن لما أثبتوها في مصاحفهم ، فان الصحابة منعت أن يدرج في المصحف ما ليس من القرآن ، حتى أن بعض المتقدمين منعوا عن تنقيط المصحف وتشكيله. فإثبات البسملة في مصاحفهم شهادة منهم بأنها من القرآن كسائر الآيات المتكررة فيه.

وما ذكرناه يبطل احتمال أن إثباتهم إياها كان للفصل بين السور. ويبطل هذه الدعوى أيضا إثبات البسملة في سورة الفاتحة ، وعدم إثباتها في أول سورة براءة. ولو كانت للفصل بين السور ، لأثبتت في الثانية ، ولم تثبت في الاولى. وذلك يدلنا قطعا على أن البسملة آية منزلة في الفاتحة دون سورة براءة.

أدلة نفاة جزئية البسملة :

واستدلّ القائلون بأن البسملة ليست جزء من السورة بوجوه :

الوجه الأول :

أن طريق ثبوت القرآن ينحصر بالتواتر ، فكل ما وقع النزاع في ثبوته فهو ليس

٤٤٨

من القرآن ، والبسملة مما وقع النزاع فيه.

والجواب أولا :

أن كون البسملة من القرآن مما تواتر عن أهل البيت عليهم‌السلام ولا فرق في التواتر بين أن يكون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين أن يكون عن أهل بيته الطاهرين بعد أن ثبت وجوب اتباعهم.

وثانيا : إن ذهاب شرذمة إلى عدم كون البسملة من القرآن لشبهة لا يضرّ بالتواتر ، مع شهادة جمع كثير من الصحابة بكونها من القرآن ، ودلالة الروايات المتواترة عليه معنى.

وثالثا : أنه قد تواتر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ البسملة حينما يقرأ سورة من القرآن وهو في مقام البيان ، ولم يبين أنها ليست منه وهذا يدل دلالة قطعية على أن البسملة من القرآن نعم لا يثبت بهذا أنها جزء من السورة. ويكفي لإثباته ما تقدم من الروايات ، فضلا عما سواها من الأخبار الكثيرة المروية من الطريقين. والجزئية تثبت بخبر الواحد الصحيح ، ولا دليل على لزوم التواتر فيها أيضا.

الوجه الثاني : ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة قال :

«سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : قال الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل : فإذا قال العبد : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) قال الله تعالى : حمدني عبدي ، وإذا قال : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، قال : أثنى عليّ عبدي وإذا قال : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، قال الله تعالى : مجّدني عبدي ، وإذا قال العبد : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، قال الله تعالى : هذا بيني

٤٤٩

وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ). قال : هذا لعبدي ، ولعبدي ما سأل» (١).

وتقريب الاستدلال في هذه الرواية أنها تدل ـ بظاهرها ـ على أن ما بعد آية إياك نعبد وإياك نستعين يساوي ما قبلها في العدد ، ولو كانت البسملة جزء من الفاتحة لم يستقم معنى الرواية ، وذلك : لأن سورة الفاتحة ـ كما عرفت ـ سبع آيات ، فإن كانت البسملة جزء كان ما بعد آية : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) آيتين ، ومعنى ذلك أن ما قبل هذه الآية ضعف ما بعدها ، فالفاتحة لا تنقسم إلى نصفين في العدد.

والجواب عنه أولا :

أن الرواية مروية عن العلاء ، وقد اختلف فيه بالتوثيق والتضعيف.

وثانيا : أنه لو تمت دلالتها ، فهي معارضة بالروايات الصحيحة المتقدمة الدالة على أن الفاتحة سبع آيات ، مع البسملة لا بدونها.

وثالثا : إنه لا دلالة في الرواية على أن التقسيم بحسب الألفاظ ، بل الظاهر انه بحسب المعنى ، فالمراد أن أجزاء الصلاة بين ما يرجع إلى الرب وما يرجع إلى العبد بحسب المدلول.

ورابعا : أنه لو سلمنا أن التقسيم هو بحسب الألفاظ فأي دليل على أنه بحسب عدد الآيات ، فلعله باعتبار الكلمات ، فإن الكلمات المتقدمة على آية (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) والمتأخرة عنها ، مع احتساب البسملة وحذف المكررات عشر كلمات.

__________________

(١) صحيح مسلم : كتاب الصلاة ، رقم الحديث : ٥٩٨ وسنن أبي داود : كتاب الصلاة ، رقم الحديث : ٦٩٩. وسنن النسائي : كتاب الافتتاح ، رقم الحديث : ٩٠٠.

٤٥٠

الوجه الثالث : ما رواه أبو هريرة : من أن سورة الكوثر ثلاث آيات (١) ، وأن سورة الملك ثلاثون آية (٢) فلو كانت البسملة جزء منها ، لزاد عددهما على ذلك.

والجواب :

إن رواية أبي هريرة في سورة الكوثر على فرض صحة سندها معارضة برواية أنس ، وقد تقدمت (٣) وهي رواية مقبولة روتها جميع الصحاح غير موطأ مالك (٤) ، فرواية أبي هريرة مطروحة أو مؤولة بإرادة الآيات المختصة ، فإن البسملة مشتركة بين جميع السور ، وهذا هو جواب روايته في سورة الملك.

__________________

(١) لم أعثر على هذه الرواية في كتب الروايات. (المؤلف) لكن في صحيح البخاري ، عن ابن شبرمه : «نظرت كم يكفى الرجل من القرآن فلم أجد سورة أقل من ثلاث آيات ...» كتاب فضائل القرآن ، رقم الحديث : ٤٦٦٣.

(٢) مستدرك الحاكم : ١ / ٥٦٥ ، وصحيح الترمذي : ١١ / ٣٠ ، كتاب فضائل القرآن ، رقم الحديث : ٢٨١٦. وكنز العمال : ١ / ٥١٦ ، ٥٢٥ فضائل السور والآيات.

(٣) في الصفحة ٤٥٤ من هذا الكتاب.

(٤) تيسير الوصول : ١ / ١٩٩.

٤٥١

(٢)

تحليل آية

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤))

القراءة

المشهور على ضم الدال من كلمة «الحمد» ، وكسر اللام من كلمة «الله» وقرأ بعضهم بكسر الدال اتباعا له لما بعده ، وقرأ بعضهم بضم اللام اتباعا له لما قبله ، وكلتا القراءتين شاذة لا يعتنى بها.

واختلفت القراءات في كلمة مالك ، والمعروف منها اثنتان : إحداهما على زنة «فاعل» وثانيتهما على زنة «كتف». وقرأ بعضهم على زنة «فلس» وقرأ بعضهم على زنة «فعيل». وقرأ أبو حنيفة بصيغة الماضي ، وغير الأوليين من القراءات شاذ لا اعتبار به.

وجوه ترجيح القراءتين :

وقد ذكروا لترجيح كل واحدة من القراءتين الأوليين «زنة فاعل وفعل» على الاخرى وجوها ، منها :

٤٥٢

١ ـ ان مفهوم مالك أوسع وأشمل ، فإذا قيل : مالك القوم استفيد منه كونه ملكا لهم. وإذا قيل : ملك القوم لم يستفد منه كونه مالكهم ، فقراءة مالك أرجح من قراءة ملك.

٢ ـ ان الزمان لا تضاف اليه كلمة مالك غالبا ، وإنما تضاف اليه كلمة ملك ، فيقال : ملك العصر ، وملوك الأعصار المتقدمة ، فقراءة ملك أرجح من قراءة مالك.

عدم جدوى الترجيح :

والصحيح أن الترجيح في القراءات المعروفة لا محصل له ، فإن القراءات إن ثبت تواترها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا معنى للترجيح ما بينها ، وإن لم يثبت كما هو الحق (١) فإن أوجب الترجيح الجزم ببطلان القراءة المرجوحة فهو ، ودون إثباته خرط القتاد. وإن لم يوجب ذلك ـ كما هو الغالب ـ فلا فائدة في الترجيح بعد أن ثبت جواز القراءة بكل واحدة منها (٢).

والترجيح في المقام باطل على الخصوص ، فإن اختلاف معنى مالك ومعنى ملك إنما يكون إذا كان الملك ـ السلطنة والجدة ـ أمرا اعتباريا فإنه يختلف حينئذ باختلاف موارده ، وهذا الاختلاف يكون في غير الله تعالى ، وأما ملك الله سبحانه فإنه حقيقي ناشئ عن إحاطته القيّوميّة بجميع الموجودات ، فهذه الإحاطة بذاتها منشأ صدق مالك وملك عليه تعالى ، ومن ذلك يتضح أن نسبة مالك إلى الزمان إذا لم تصح في غير الله فلا يلزمها عدم صحتها فيه سبحانه فهو مالك للزمان كما هو مالك لغيره.

__________________

(١) تقدمت أدلة ذلك في الصفحة ١٤٤ من هذا الكتاب.

(٢) تقدم بيان ذلك في الصفحة ١٥٩ من هذا الكتاب.

٤٥٣

وقد يقال :

إضافة مالك إلى يوم الدين إضافة لفظية لا تفيد التعريف فلا يصح أن تقع الجملة وصفا للمعرفة ، فالمتعين قراءة ملك ، فإن المراد به السلطان وهو في حكم الجامد ، وإضافته معنوية.

وأجيب عنه في الكشاف وغيره : بأن إضافة اسم الفاعل ونحوه تكون لفظية إذا كان بمعنى الحال والاستقبال ، ومعنوية إذا كان بمعنى الماضي أو أريد به الدوام.

ومن الأول قوله تعالى :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) «٣٥ : ١».

ومن الثاني قوله تعالى :

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ) «٤٠ : ٣».

والمقام من قبيل الثاني ، فإن مالكيته تعالى ليوم الدين صفة ثابتة له لا تختص بزمان دون زمان ، فيصح كون الجملة صفة للمعرفة.

والتحقيق : إن الإضافة مطلقا لا تفيد تعريفا ، وإنما تفيد التخصيص والتضييق والتعريف إنما يستفاد من عهد خارجي.

ودليل ذلك :

انه لا فرق بالضرورة بين قولنا غلام لزيد وقولنا غلام زيد فكما أن القول الأول لا يفيد إلا التخصيص كذلك القول الثاني ، والتخصيص يتحقق في موارد الإضافة اللفظية كما يتحقق في موارد الإضافة المعنوية.

٤٥٤

والفارق : أن التخصيص في الاولى لم ينشأ من الإضافة ، بل هو حاصل بدونها ، وأن الاضافة لم تفد إلا التخفيف إلا أن هذا لا يوجب أن لا يقع المضاف فيها صفة للمعرفة ، فإن المصحح لذلك إن كان هو التخصيص فهو موجود في مواردها ، وإن كان هو التعريف الحاصل من العهد الخارجي فهو مشترك بين الإضافتين معا ، فلا فرق في مقام الثبوت ، وبلحاظ ذات المعنى بين موارد الإضافتين.

وجميع ما ذكروه لا يرجع إلى محصل : نعم يبقى الكلام في مقام الإثبات ، وقد ادعي الاتفاق على أن المضاف بالإضافة اللفظية لا يقع صفة لمعرفة إذا كان المضاف من الصفات المشبهة ، وأما غيرها فقد نقل سيبويه ، عن يونس والخليل وقوعه صفة للمعرفة في كلام العرب كثيرا (١) وعليه يحمل ما ورد في القرآن من ذلك ، كما في المقام.

وأما قول الكشاف : إن اسم الفاعل هنا بمعنى الاستمرار فهو واضح البطلان فإن إحاطة الله تعالى بالموجودات ، ومالكيته لها وإن كانت استمرارية إلا أن كلمة مالك في الآية المباركة قد أضيفت إلى يوم الدين ، وهو متأخر في الوجود ، فلا بد من أن يكون اسم الفاعل المضاف اليه بمعنى الاستقبال.

وأما التفرقة التي ذكرها بعضهم في اسم الفاعل المضاف ـ بين ما إذا كان بمعنى الماضي فيصح وقوعه صفة للمعرفة ، وبين غيره فلا يصح ، لأن حدوث الشيء يوجب تعيّنه ـ فهي بيّنة الفساد ، فإن حدوث الشيء لا يستلزم ـ في الغالب ـ العلم به ، وإذا كانت العبرة بالعلم الشخصي فلا فرق بين تعلقه بالماضي وتعلقه بغيره.

والحاصل إن المتبع في الكلام العربي هو القواعد المتخذة من استعمالات العرب

__________________

(١) تفسير أبي حيان : ١ / ٢١.

٤٥٥

الفصحى ، ولا اعتماد على الوجوه الاستحسانية الواهية التي يذكرها النحويون.

اللغة

الحمد :

ضد اللوم ، وهو لا يكون إلا على الفعل الاختياري الحسن ، سواء أكان إحسانا للحامد أم لم يكن ، والشكر مقابل الكفران ، وهو لا يكون إلا للانعام والإحسان ، والمدح يقابل الذم ، ولا يعتبر أن يكون على الفعل الاختياري فضلا عن كونه إحسانا ، والألف واللام في كلمة الحمد للجنس إذ لا عهد ، وتقدم معنى كلمات : «الله. الرّحمن. الرّحيم».

الرب :

مأخوذ من ربب ، وهو المالك المصلح والمربي ، ومنه الربيبة ، وهو لا يطلق على غيره تعالى إلا مضافا إلى شيء ، فيقال : ربّ السفينة ، رب الدار.

العالم :

جمع لا مفرد له كرهط وقوم ، وهو قد يطلق على مجموعة من الخلق متماثلة ، كما يقال : عالم الجهاد ، عالم النبات ، عالم الحيوان. وقد يطلق على مجموعة يؤلف بين أجزائها اجتماعها في زمان أو مكان ، فيقال : عالم الصبا ، عالم الذرّ ، عالم الدنيا ، عالم الآخرة. وقد يطلق ويراد به الخلق كله على اختلاف حقائق وحداته ، ويجمع بالواو والنون ، فيقال : عالمون ويجمع على فواعل ، فيقال : عوالم ، ولم يوجد في لغة العرب ما هو على زنة فاعل ، ويجمع بالواو والنون غير هذه الكلمة.

٤٥٦

الملك :

الإحاطة والسلطة ، وهذه قد تكون خارجية حقيقية كما في إحاطته تعالى بالموجودات ، فإن كل موجود إنما يتقوم في ذاته بخالقه وموجده ، وليس له واقع مستقل سوى التدلي والارتباط بعلته الموجدة ، والممكن فقير محتاج إلى المؤثر في حدوثه وفي بقائه ، فهو لا ينفك عن الحاجة أبدا :

(وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) «٤٧ : ٣٨».

وقد تكون اعتبارية ، كما في ملكية الناس للاشياء ، فإن ملكية زيد لما بيده مثلا ليست إلا اعتبار كونه مالكا لذلك الشيء ، وأن زمام أمره بيده ، وذلك عند حدوث سبب يقتضيه من عقد أو إيقاع أو حيازة أو إرث أو غير ذلك ، حسب ما توجبه المصلحة في نظر الشارع أو العقلاء. والملكية عند الفلاسفة هيئة حاصلة من إحاطة شيء بشيء ، وهي أحد الأعراض التسعة ، ويعبر عنها بمقولة الجدة ، كالهيئة الحاصلة من إحاطة العمامة بالرأس أو الخاتم بالإصبع.

الدين :

معنى الجزاء والحساب ، وكلاهما مناسب للمقام ، فإن الحساب مقدمة للجزاء ويوم الحساب هو يوم الجزاء بعينه.

التفسير

بيّن سبحانه أن طبيعة الحمد وجنسه تختص به تعالى ، وذلك لامور :

الأمر الأول :

إن حسن الفعل وكماله ينشأ من حسن الفاعل وكماله ، والله سبحانه هو الكامل

٤٥٧

المطلق الذي لا نقص فيه من جهة أبدا ، ففعله هو الفعل الكامل الذي لا نقص فيه أبدا :

(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) «١٧ : ٨٤».

وأما غيره فلا يخلو عن نقيصة ذاتية بل نقائص ، فأفعاله لا محالة تكون كذلك.

والفعل الحسن المحض يختص به سبحانه ، ويمتنع صدوره من سواه ، فهو المختص بالحمد ويمتنع أن يستحقه أحد سواه. وقد أشير إلى هذا بقوله : «الحمد لله» فقد عرفت أن كلمة «الله» علم للذات المقدسة المستجمعة لجميع صفات الكمال. وقد ورد عن الصادق عليه‌السلام أنه قال :

«فقد لأبي بغلة فقال : لئن ردّها الله عليّ لأحمدنّه بمحامد يرضاها ، فما لبث أن جيء بها بسرجها ولجامها ، ولما استوى وضمّ اليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء فقال : الحمد لله ، ولم يزد ، ثم قال : ما تركت ولا أبقيت شيئا ، جعلت جميع أنواع المحامد لله عزوجل فما من حمد إلا وهو داخل فيما قلت» (١).

وعنه ـ سلام الله عليه ـ :

«ما أنعم الله على عبد بنعمة صغرت أو كبرت فقال : الحمد لله ، إلا أدّى شكرها» (٢).

الأمر الثاني :

إن الكمال الأول لكل ممكن من العقول والنفوس والأرواح والأشباح إنما هو

__________________

(١) تفسير البرهان : ١ / ٢٩ وقريب منه في اصول الكافي : ٢ / ٩٧ ، الحديث : ١٨.

(٢) اصول الكافي : ٢ / ٩٦ ، الحديث : ١٤.

٤٥٨

وجوده. ولا ريب في أنه فعل الله سبحانه وهو مبدعه وموجده. وأما الكمال الثاني وهي الأمور التي توجب الفضل والميز ، فما كان منه خارجا عن اختيار المخلوق فهو أيضا من أفعال الله تعالى بلا ريب. وذلك كما في نمو النبات وإدراك الحيوان منافعه ومضاره ، وقدرة الإنسان على بيان مقاصده. وما كان منه صادرا عن المخلوقين باختيارهم ، فهي وإن كانت اختيارية إلا أنها منتهية إلى الله سبحانه ، فانه الموفق للصواب ، والهادي إلى الرشاد. وقد ورد : «إن الله أولى بحسنات العبد منه» (١) وقد أشير إلى ذلك بجملة «رب العالمين».

الأمر الثالث :

إن الفعل الحسن الصادر من الله تعالى لا يرجع نفعه اليه ، لأنه الكامل المطلق الذي يستحيل عليه الاستكمال. وفعله إنما هو إحسان محض يرجع نفعه إلى المخلوقين. وأما الفعل الحسن الصادر من غيره فهو وإن كان إحسانا إلى أحد في بعض الأحيان ، إلا أنه إحسان إلى نفسه أولا وبالذات ، وبه يدرك كماله :

(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) «١٧ : ٧».

فالإحسان المحض إنما هو فعل الله تعالى لا غير فهو المستحق للحمد دون غيره وإلى ذلك أشير بجملة : «الرحمن الرحيم».

ثم إن الثناء على الفعل الجميل قد يكون ناشئا عن إدراك الحامد حسن ذات الفاعل وصفاته من دون نظر إلى إنعامه ، أو الرغبة فيه ، أو الرهبة منه. وقد يكون ناشئا عن النظر إلى أحد هذه الأمور الثلاثة ، فقد أشير إلى المنشأ الأول بجملة : «الحمد لله» فالحامد يحمده تعالى بما أنه مستحق للحمد في ذاته ، وبما أنه مستجمع

__________________

(١) الوافي : باب الخير والقدر ج ١ ص ١١٩.

٤٥٩

لجميع صفات الكمال منزّه عن جميع جهات النقص. وأشير إلى المنشأ الثاني بجملة : «ربّ العالمين» فانه المنعم على عباده بالخلق والإيجاد ، ثم بالتربية والتكميل. وأشير إلى المنشأ الثالث بجملة : «الرّحمن الرّحيم».

فان صفة الرحمة تستدعي الرغبة في نعمائه تعالى وطلب الخير منه. وأشير إلى المنشأ الرابع بقوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، فان من تنتهي اليه الأمور ويكون اليه المنقلب جدير بأن ترهب سطوته ، وتحذّر مخالفته. وقد يكون الوجه هو بيان أن يوم الدين هو يوم ظهور العدل والفضل الإلهيين ، وكلاهما جميل لا بد من حمده تعالى لأجله ، فكما أن أفعاله في الدنيا من الخلق والتربية والإحسان كلها أفعال جميلة يستحق عليها الحمد فكذلك أفعاله في الآخرة من العفو والغفران وإثابة المطيعين ، وعقاب العاصين كلها أفعال جميلة يستوجب الحمد بها.

ومما بيّناه يتضح أن جملة : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ليس تكرارا أتي بها للتأكيد ـ كما زعمه بعض المفسرين ـ بل هي لبيان منشأ اختصاص الحمد به تعالى فلا تغني عنه ذكرها أولا في مقام التيمّن والتبرّك ، وهو ظاهر.

٤٦٠