البيان في تفسير القرآن

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي

البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

وروى عن الريان عن الرضا عليه‌السلام ، قال :

«ما بعث الله نبيا إلا بتحريم الخمر» (١)

وقد تقدم في بحث الإعجاز تحريم الخمر في التوراة (٢) ، ولكن الشيء الذي لا يشك فيه أن الشريعة الإسلامية لم تجهر بحرمة الخمر برهة من الزمن ، ثم جهرت بها بعد ذلك ، وهذا هو حال الشريعة المقدسة في جميع الأحكام. ومن البيّن أنه ليس معنى ذلك أن الخمر كان مباحا في الشريعة ثم نسخت حرمته.

٣٠ ـ (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) «٢٤ : ٣».

فعن سعيد بن المسيب ، وأكثر العلماء أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ ...) «٢٤ : ٣٢».

فدخلت الزانية في أيامى المسلمين (٣).

والحق : أن الآية غير منسوخة ، فإن النسخ فيها يتوقف على أن يكون المراد من لفظ النكاح هو التزويج ، ولا دليل يثبت ذلك. على أن ذلك يستلزم القول بإباحة نكاح المسلم الزاني المشركة ، وبإباحة نكاح المشرك المسلمة الزانية ، وهذا مناف لظاهر الكتاب العزيز ، ولما ثبت من سيرة المسلمين ، وإذن فالظاهر أن المراد من النكاح في الآية هو الوطء ، والجملة خبرية قصد بها الاهتمام بأمر الزنا. ومعنى

__________________

(١) الوسائل : ٥ / ٣٢٠ ، باب ١١ ، رقم الحديث : ٦٦٧٠.

(٢) تقدم ذلك في ص ٥٨ من هذا الكتاب.

(٣) الناسخ والمنسوخ للنحاس : ص ١٩٣.

٣٦١

الآية : أن الزاني لا يزني إلا بزانية ، أو بمن هي أخس منها وهي المشركة ، وأن الزانية لا تزني إلا بزان ، أو بمن هو أخس منه وهو المشرك. وأما المؤمن فهو ممتنع عن ذلك ، لأن الزنا محرّم ، وهو لا يرتكب ما حرّم عليه.

٣١ ـ (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) «٤٥ : ١٤».

فذهبت جماعة إلى أن هذه الآية الكريمة منسوخة بآية السيف ، وقالوا :

إن هذه الآية مكية ، وقد نزلت في عمر بن الخطاب حين شتمه رجل من المشركين بمكة قبل الهجرة ، فأراد عمر أن يبطش به : فأنزل الله تعالى هذه الآية ثم نسخت بقوله تعالى :

(فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ...) «٩ : ٥».

واستندوا في ذلك الى ما رواه عليل بن أحمد ، عن محمد بن هشام ، عن عاصم بن سليمان ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس (١)

ولكن هذه الرواية ضعيفة جدا ، ولا أقل من أن في سندها عاصم بن سليمان وهو كذاب وضاع (٢) مع أن الرواية ضعيفة المتن ، فإن المسلمين ـ قبل الهجرة ـ كانوا ضعفاء ولم يكن عمر مقداما في الحروب ، ولم يعد من الشجعان المرهوبين ، فكيف يسعه أن يبطش بالمشرك؟!

__________________

(١) الناسخ والمنسوخ للنحاس : ص ٢١٨.

(٢) قال ابن عدي : «عاصم بن سليمان : يعد ممن يضع الحديث» ، وقال أيضا : «عامة أحاديثه مناكير متنا واسنادا ، والضعف على رواياته بين» ، وقال الفلاس : «كان يضع الحديث ، ما رأيت مثله قط» وقال أبو حاتم والنسائي : «متروك». وقال الدار قطني : «كذاب» ، وقال أيضا في العلل : «كان ضعيفا آية من الآيات في ذلك» وقال ابن حبان : «لا يجوز كتب حديثه إلا تعجبا» وقال أبو داود الطيالسي «كذاب». وقال الساجي : «متروك يضع الحديث». وقال الأزدي : «ضعيف مجهول» ، لسان الميزان : ٣ / ٢١٨ ، ٢١٩.

٣٦٢

على أن لفظ الغفران المذكور في الآية يدل على التمكن من الانتقام. ومن المقطوع به أن ذلك لم يكن ميسورا لعمر قبل الهجرة ، فلو أراد البطش بالمشرك لبطش به المشرك لا محالة.

والحق : أن الآية المباركة محكمة غير منسوخة ، وأن معنى الآية : ان الله أمر المؤمنين بالعفو والإغضاء عما ينالهم من الإيذاء والإهانة في شئونهم الخاصة ممن لا يرجون أيام الله ، ويدل عليه قوله تعالى بعد ذلك :

(لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ٤٥ : ١٤. مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ : ١٥).

فإن الظاهر منه أن جزاء المسيء الذي لا يرجو أيام الله ولا يخاف المعاد ، سواء أكان من المشركين ، أم من الكتابيين ، أم من المسلمين الذين لا يبالون بدينهم إما هو موكول إلى الله الذي لا يقوته ظلم الظالمين وتفريط المفرطين ، فلا ينبغي للمسلم المؤمن بالله أن يبادر إلى الانتقام منه ، فإن الله أعظم منه نقمة وأشد أخذا ، وهذا الحكم تهذيبي أخلاقي ، وهو لا ينافي الأمر بالقتال للدعوة إلى الإسلام أو لأمر آخر ، سواء أكان نزول هذه الآية قبل نزول آية السيف أم كان بعده.

٣٢ ـ (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) «٤٧ : ٤».

فذهبت جماعة إلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف ، وذهب آخرون إلى أنها

٣٦٣

ناسخة لها (١).

والحق : أنها ليست ناسخة ولا منسوخة ، وتحقيق ذلك يحتاج الى مزيد من البسط في الكلام.

أحكام الكافر المقاتل :

المعروف بين الشيعة الإمامية أن الكافر المقاتل يجب قتله ما لم يسلم ، ولا يسقط قتله بالأسر قبل أن يثخن المسلمون الكافرين ، ويعجز الكافرون عن القتال لكثرة القتل فيهم ، وإذا أسلم ارتفع موضوع القتل ، وهو الكافر ، وأما الأسر بعد الإثخان فيسقط فيه القتل ، فإن الآية قد جعلت الإثخان غاية لوجوب ضرب الرقاب.

ومن الواضح : أن الحكم يسقط عند حصول غايته ، ويتخير وليّ الأمر في تلك الحال بين استرقاق الأسير ، وبين مفاداته ، والمنّ عليه من غير فداء ، من غير فرق في ذلك بين المشرك وغيره من فرق الكفار ، وقد ادعي الإجماع على ما ذكرناه من الأحكام ، والمخالف فيها شاذ لا يعبأ بخلافه ، «وسيظهر ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى».

وهذا الذي ذكروه يوافق ظاهر الآية الكريمة من جميع الجهات إذا كان شد الوثاق هو الاسترقاق ، باعتبار أن معنى شدّ الوثاق هو عزله عن الاستقلال ما لم يمنّ عليه أو يفاد ٧ وأما إذا لم يكن شدّ الوثاق بمعنى الاسترقاق ، فلا بد من إضافة الاسترقاق الى المفاداة والمنّ للعلم بجوازه من أدلة أخرى ، فيكون ذلك تقييدا لإطلاق الآية بالدليل.

__________________

(١) الناسخ والمنسوخ للنحاس : ص ٢٢٠.

٣٦٤

وقد وردت الأحكام المذكورة فيما رواه الكليني ، والشيخ الطوسي بإسنادهما عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

«سمعته يقول كان أبي يقول ان للحرب حكمين : إذا كانت الحرب قائمة لم تضع أوزارها ، ولم يثخن أهلها ، فكل أسير أخذ في تلك الحال فإن الإمام فيه بالخيار إن شاء ضرب عنقه ، وإن شاء قطع يده ورجله من خلاف بغير حسم ، وتركه يتشحط في دمه حتى يموت وهو قول الله تعالى :

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) «٥ : ٣٣».

ألا ترى أنه التخيير الذي خير الله الإمام على شىء واحد وهو الكفر وليس هو على أشياء مختلفة فقلت لجعفر بن محمد عليه‌السلام قول الله تعالى : (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) ، قال ذلك الطلب أن يطلبه الخيل حتى يهرب ، فإن أخذته الخيل حكم ببعض الأحكام التي وصفت ذلك ، والحكم الآخر إذا وضعت الحرب أوزارها وأثخن أهلها ، فكل أسير أخذ على تلك الحال وكان في أيديهم فالإمام فيه بالخيار ، إن شاء منّ عليهم فأرسلهم ، وإن شاء فاداهم أنفسهم ، وإن شاء استعبدهم فصاروا عبيدا» (١).

__________________

(١) الكافي : ٥ / ٣٢ ، الحديث ١ ، والتهذيب : ٦ / ١٤٣ باب ٢٢ ، الحديث : ٥.

٣٦٥

ووافقنا على سقوط القتل عن الأسير بعد الإثخان : الضحاك وعطاء ، وصرح الحسن بذلك وان الامام بالخيار إما أن يمنّ أو يفادي أو يسترق (١).

وعلى ما ذكرناه فلا نسخ في الآية الكريمة ، غاية الأمر ان القتل يختص بمورد ، ويختص عدم القتل بمورد آخر من غير فرق بين أن تكون آية السيف متقدمة في النزول على هذه الآية ، وبين أن تكون متأخرة عنها.

ومن الغريب : أن الشيخ الطوسي ـ في هذا المقام ـ نسب إلى أصحابنا أنهم رووا تخيير الإمام في الأسير بعد الإثخان بين القتل وبين ما ذكر من الأمور.

قال : «والذي رواه أصحابنا أن الأسير إن أخذ قبل انقضاء الحرب والقتال ـ بأن تكون الحرب قائمة ، والقتال باق ـ فالإمام مخير بين أن يقتلهم ، أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ويتركهم حتى ينزفوا ، وليس له المنّ ولا الفداء ، وإن كان أخذ بعد وضع الحرب أوزارها وانقضاء الحرب والقتال كان ـ الإمام ـ مخيرا بين المنّ والمفاداة إما بالمال أو النفس ، وبين الاسترقاق ـ وضرب الرقاب ـ» (٢).

وتبعه على ذلك الطبرسي في تفسيره (٣). مع أنه لم ترد في ذلك رواية أصلا.

وقد نص الشيخ الطوسي بنفسه في كتاب المبسوط (٤) : «كل أسير يؤخذ بعد أن تضع الحرب أوزارها ، فإنه يكون الإمام مخيرا فيه بين أن يمنّ عليه فيطلقه ، وبين أن يسترقه وبين أن يفاديه ، وليس له قتله على ما رواه أصحابنا»

وقد ادّعى الإجماع والاخبار على ذلك : في المسألة السابعة عشرة من كتاب

__________________

(١) القرطبي : ١٦ / ٢٢٧ ، ٢٢٨ ، ونقله النحاس في الناسخ والمنسوخ عن عطاء ص ٢٢١.

(٢) تفسير التبيان : ٩ / ٢٩١ ، طبع النجف الأشرف.

(٣) تفسير مجمع البيان : ٩ / ١٢٦.

(٤) المبسوط : ٢ / ١٣ ، كتاب الجهاد ، فصل : أصناف الكفار وكيفية قتالهم.

٣٦٦

الفيء ، وقسمة الغنائم من كتاب الخلاف.

ومن الذين ادّعوا الإجماع على ذلك صريحا العلّامة في كتابي «المنتهى والتذكرة» في أحكام الأسارى من كتاب الجهاد.

وفي ظني : أن كلمة «ضرب الرقاب» في عبارة «التبيان» إنما كانت من سهو القلم ، وقد جرى عليه الطبرسي من غير مراجعة.

هذا هو مذهب علماء الشيعة الإمامية ، والضحاك ، وعطاء ، والحسن.

آراء اخرى حول الآية :

وأما بقية علماء أهل السنة فقد ذهبوا إلى أقوال :

١ ـ منهم من قال : «إن الآية نزلت في المشركين ، ثم نسخت بآيات السيف» ، نسب ذلك إلى قتادة ، والضحاك ، والسدي ، وابن جريح ، وابن عباس ، وإلى كثير من الكوفيين ، فقالوا : «إن الأسير المشرك يجب قتله ، ولا تجوز مفاداته ، ولا المنّ عليه بإطلاقه» (١).

ويردّه :

أنه لا وجه للنسخ على هذا القول ، فإن نسبة هذه الآية إلى آيات السيف نسبة المقيد إلى المطلق ، سواء أكانت متقدمة عليها في النزول أم كانت متأخرة عنها. وقد أوضحنا ـ فيما سبق ـ أن العام المتأخر لا يكون ناسخا للخاص المتقدم ، فكيف بالمطلق إذا سبقه المقيد (٢)؟.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٦ / ٢٢٧.

(٢) قد فصلنا الكلام في ذلك في بحث العموم والخصوص من كتابنا «أجود التقريرات». (المؤلف)

٣٦٧

٢ ـ ومنهم من قال : «إن الآية نزلت في الكفار جميعا ، فنسخت في خصوص المشرك» نسب ذلك إلى قتادة ، ومجاهد ، والحكم ، وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة (١).

ويردّه :

أن هذا القول واضح البطلان كالقول السابق ، فإن ذلك موقوف على أن تكون آيات السيف متأخرة في النزول عن هذه الآية ، ولا يمكن القائل بالنسخ إثبات ذلك ، ولا سند له غير التمسك بخبر الواحد ، وقد أوضحنا أن خبر الواحد لا يثبت به النسخ إجماعا ، ولو فرضنا ثبوت ذلك ، فلا دليل على كون آيات السيف ناسخة لها ، ليصح القول المذكور ، بل تكون هذه الآية مقيدة لآيات السيف ، وذلك : لاجماع الامة على أن هذه الآية قد شملت المشركين أو أنها مختصة بهم ، وعلى ذلك كانت الآية المباركة قرينة على تقييد آيات السيف لما أشرنا اليه آنفا من أن المطلق لا يصلح أن يكون ناسخا للمقيد ، وإذا أغمضنا عن ذلك كانت هذه الآية الكريمة معارضة لآيات السيف بالعموم من وجه ، ومورد الاجتماع هو المشرك الأسير بعد الإثخان ، ولا مجال للالتزام بالنسخ فيه.

٣ ـ ومنهم من قال : «إن الآية ناسخة لآية السيف» ، نسب ذلك إلى الضحاك وغيره» (٢).

ويردّه :

أن هذا القول ، يتوقف على إثبات تأخر هذه الآية في النزول عن آيات السيف ، ولا يمكن هذا القائل إثبات ذلك ، على أنا قد أوضحنا ـ فيما تقدم ـ أنه لا موجب

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٦ / ٢٢٧.

(٢) نفس المصدر.

٣٦٨

للالتزام بالنسخ ، تأخرت الآية في النزول عن آيات السيف ، أم تقدمت عليها.

٤ ـ ومنهم من قال : «إن الإمام مخير في كل حال بين القتل والاسترقاق والمفاداة والمنّ» ، رواه أبو طلحة عن ابن عباس ، واختاره كثير ، منهم : ابن عمر ، والحسن ، وعطاء ، وهو مذهب مالك ، والشافعي ، والثوري ، والأوزاعي وأبي عبيد ، وغيرهم. وعلى هذا القول فلا نسخ في الآية (١) قال النحاس بعد ما ذكر هذا القول : «وهذا على أن الآيتين محكمتان معمول بهما ، وهو قول حسن لأن النسخ إنما يكون بشيء قاطع ، فأما إذا أمكن العمل بالآيتين ، فلا معنى في القول بالنسخ ... وهذا القول يروى عن أهل المدينة ، والشافعي ، وأبي عبيد» (٢).

ويردّه :

ان هذا القول وإن لم يستلزم نسخا في الآية ، إلا أنه باطل أيضا ، لأن الآية الكريمة صريحة في أن المنّ والفداء إنما هما بعد الإثخان فالقول بثبوتهما ـ قبل ذلك ـ قول بخلاف القرآن ، والأمر بالقتل في الآية مغيّا بالإثخان فالقول بثبوت القتل بعده قول بخلاف القرآن أيضا ، وقد سمعت أن آيات السيف مقيدة بهذه الآية.

وأما ما استدل به على هذا القول من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قتل بعض الأسارى وفادى بعضا ، ومنّ على آخرين ، فهذه الرواية ـ على فرض صحتها ـ لا دلالة لها على التخيير بين القتل وغيره ، لجواز أن يكون قتلهن للأسير قبل الإثخان وفداؤه ومنه في الاسراء بعده ، وأما ما روى من فعل أبي بكر وعمر فهو ـ على تقدير ثبوته ـ لا حجية فيه ، لترفع اليد به عن ظاهر الكتاب العزيز.

ـ ـ ـ ـ ـ

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٦ / ٢٢٨.

(٢) الناسخ والمنسوخ : ص ٢٢١.

٣٦٩

٣٣ ـ (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) «٥١ : ١٩».

٣٤ ـ (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ٧٠ : ٢٤. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ : ٢٥).

فقد وقع الاختلاف في نسخ الآيتين وأحكامهما. ووجه الاختلاف في ذلك : أن الحق المعلوم الذي أمرت الآيتان به قد يكون هو الزكاة المفروضة ، وقد يكون فرضا ماليا آخر غيرها ، وقد يكون حقا غير الزكاة ولكنه مندوب وليس بمفروض. فإن كان الحق واجبا ماليا غير الزكاة فالآيتان الكريمتان منسوختان لا محالة ، من حيث إن الزكاة نسخت كل صدقة واجبة في القرآن وقد اختار هذا الوجه جماعة من العلماء. وإن كان الحق المعلوم هو الزكاة نفسها ، أو كان حقا مستحبا غير مفروض ، فالآيتان محكمتان بلا ريب.

والتحقيق : يقتضي اختيار الوجه الأخير ، وأن الحق المعلوم شىء غير الزكاة ، وهو أمر قد ندب اليه الشرع. فقد استفاضت النصوص من الطريقين بأن الصدقة الواجبة منحصرة بالزكاة ، وقد ورد عن أهل البيت عليهم‌السلام بيان المراد من هذا الحق المعلوم.

روى الشيخ الكليني بإسناده عن أبي بصير قال :

«كنا عند أبي عبد الله عليه‌السلام ومعنا بعض أصحاب الأموال فذكروا الزكاة فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : إن الزكاة ليس يحمد بها صاحبها ، وإنما هو شىء ظاهر إنما حقن بها دمه وسمي بها مسلما ، ولو لم يؤدّها لم تقبل صلاته ، وإن عليكم في أموالكم غير الزكاة. فقلت : أصلحك الله وما علينا في أموالنا غير الزكاة؟ فقال : سبحان الله! أما تسمع الله يقول في كتابه : والذين في أموالهم ...؟ قال : قلت : فما ذا الحق

٣٧٠

المعلوم الذي علينا؟ قال : هو والله الشيء يعلمه الرجل في ماله يعطيه في اليوم ، أو في الجمعة ، أو الشهر قلّ أو كثر غير أنه يدوم عليه» (١).

وروى أيضا بإسناده ، عن إسماعيل بن جابر ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام

«في قول الله تعالى : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ ...) أهو سوى الزكاة؟ فقال : هو الرجل يؤتيه الله الثروة من المال فيخرج منه الألف ، والألفين ، والثلاثة آلاف ، والأقل والأكثر فيصل به رحمه ، ويحتمل به الكلّ عن قومه» (٢).

وغير ذلك من الروايات عن الصادقين عليهما‌السلام (٣).

وروى البيهقي في شعب الإيمان ، بإسناده ، عن غزوان بن أبي حاتم قال :

«بينا أبو ذر عند باب عثمان لم يؤذن له إذ مرّ به رجل من قريش قال : يا أبا ذر ما يجلسك هاهنا؟ فقال : يأبى هؤلاء أن يأذنوا لي ، فدخل الرجل فقال : يا أمير المؤمنين ما بال أبي ذر على الباب لا يؤذن له؟ فأمر فاذن له فجاء حتى جلس ناحية القوم ... فقال عثمان لكعب : يا أبا إسحق أرأيت المال إذا أدّي زكاته هل يخشى على صاحبه فيه تبعة؟ قال : لا ، فقام أبو ذر ومعه عصا فضرب بها بين اذني كعب ، ثم قال : يا ابن اليهودية ، أنت تزعم أنه ليس حق في ماله إذا أدّى الزكاة. والله تعالى يقول : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٤٩٩ ، الحديث : ٩.

(٢) نفس المصدر : الحديث : ١٠.

(٣) الكافي : ٣ / ٤٩٨ ـ ٥٠٠ ، الحديث : ٨ ، ٩ ، ١٠ ، ١١.

٣٧١

وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) «٥٩ : ٩». والله تعالى يقول : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) «٧٦ : ٨». والله تعالى يقول : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ٧ : ٧٤. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ : ٧٥).

فجعل يذكر نحو هذا من القرآن ...» (١).

وروى ابن جرير بإسناده عن ابن عباس :

«أن الحق المعلوم سوى الصدقة يصل بها رحما ، أو يقري بها ضيفا أو يحمل بها كلا ، أو يعين بها محروما» (٢).

وتبع ابن عباس على ذلك جملة من المفسرين ، وعلى هذا فلا نسخ في الآية المباركة.

٣٥ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) «٥٨ : ١٢».

فقد ذهب أكثر العلماء إلى نسخها بقوله تعالى :

(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) «٥٨ : ١٣».

__________________

(١) كنز العمال : ٣ / ٣١٠.

(٢) تفسير القرطبي : ٢٩ / ٥٠ :

٣٧٢

فقد استفاضت الروايات من الطريقين : أن الآية المباركة لما نزلت لم يعمل بها غير علي عليه‌السلام فكان له دينار فباعه بعشرة دراهم ، فكان كلما ناجى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدّم درهما حتى ناجاه عشر مرات.

أحاديث العمل بآية النجوى :

روى ابن بابويه بإسناده عن مكحول قال :

«قال أمير المؤمنين على بن أبي طالب عليه‌السلام لقد علم المستحفظون من أصحاب النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه ليس فيهم رجل له منقبة إلا قد شركته فيها وفضّلته ، ولي سبعون منقبة لم يشركني أحد منهم ، قلت : يا أمير المؤمنين فأخبرني بهن ، فقال عليه‌السلام : وإن أول منقبة ـ وذكر السبعين ـ وقال في ذلك : وأما الرابعة والعشرين فإن الله عزوجل أنزل على رسوله : «إذا ناجيتم» فكان لي دينار فبعته بعشرة دراهم ، فكنت إذا ناجيت رسول الله أتصدق قبل ذلك بدرهم ، والله ما فعل هذا أحد غيري من أصحابه قبلي ولا بعدي فأنزل الله عزوجل : (أَأَشْفَقْتُمْ ...)(١).

وروى ابن جرير بإسناده عن مجاهد قال :

«قال علي رضي الله عنه آية من كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي ، كان عندي دينار فصرفته بعشرة

__________________

(١) بحار الأنوار : ١٧ / ٢٩ ، باب ١٤ ، رقم الحديث : ٦. راجع تفسير البرهان : ٢ / ١٠٩٩.

٣٧٣

دراهم ، فكنت إذا جئت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تصدقت بدرهم ، فنسخت فلم يعمل بها أحد قبلي : إذا ناجيتم» (١).

قال الشوكاني : وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه ـ علي بن أبي طالب ـ قال :

«ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت ، وما كانت إلا ساعة يعنى آية النجوى».

وأخرج سعيد بن منصور ، وابن راهويه ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عنه أيضا قال :

«إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي آية النجوى : (إِذا ناجَيْتُمُ ...) كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم ، فكنت كلما ناجيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدمت بين يدي نجواي درهما ، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد ، فنزلت : (أَأَشْفَقْتُمْ ...)(٢).

وتحقيق القول في ذلك :

أن الآية المباركة دلّت على أن تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خير ، وتطهير للنفوس ، والأمر به أمر بما فيه مصلحة العباد. ودلّت على أن هذا الحكم إنما يتوجه على من يجد ما يتصدق به ، أما من لا يجد شيئا فإن الله غفور رحيم.

__________________

(١) تفسير الطبري : ٢٨ / ١٥.

(٢) فتح القدير : ٥ / ١٨٦ والروايات في هذا المقام كثيرة فليراجع تفسير البرهان وتفسير الطبري وكتب الروايات. وقد تعرض لنقل جملة منها شيخنا المجلسي في بحار الأنوار : ١٧ / ٢٩ ، باب ١٤ ، الحديث ٦ و ٣٥ / ٣٧٨ ، باب ١٨ رقم الحديث ٣ ، و ٤١ / ٢٦ ، باب ١٠٢ ، الحديث ١.

٣٧٤

ولا ريب في أن ذلك مما يستقل العقل بحسنه ويحكم الوجدان بصحته فإن في الحكم المذكور نفعا للفقراء ، لأنهم المستحقون للصدقات ، وفيه تخفيف عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنه يوجب قلة مناجاته من الناس ، وأنه لا يقدم على مناجاته ـ بعد هذا الحكم ـ إلا من كان حبه لمناجاة الرسول أكثر من حبه للمال.

ولا ريب أيضا في أن حسن ذلك لا يختص بوقت دون وقت. ودلّت الآية الثانية على أن عامة المسلمين ـ غير علي بن أبي طالب عليه‌السلام ـ أعرضوا عن مناجاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إشفاقا من الصدقة ، وحرصا على المال.

سبب نسخ صدقة النجوى :

ولا ريب في أن إعراضهم عن المناجاة يفوّت عليهم كثيرا من المنافع والمصالح العامة. ومن أجل حفظ تلك المنافع رفع الله عنهم وجوب الصدقة بين يدي المناجاة تقديما للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة ، وعلى النفع الخاص بالفقراء ، وأمرهم بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وإطاعة الله ورسوله.

وعلى ذلك فلا مناص من الالتزام بالنسخ ، وأن الحكم المجعول بالآية الاولى قد نسخ وارتفع بالآية الثانية. ويكون هذا من القسم الأول من نسخ الكتاب ـ أعني ما كانت الآية الناسخة ناظرة إلى انتهاء أمد الحكم المذكور في الآية المنسوخة ـ ومع ذلك فنسخ الحكم المذكور في الآية الاولى ليس من جهة اختصاص المصلحة التي اقتضت جعله بزمان دون زمان إذ قد عرفت انها عامة لجميع أزمنة حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا أن حرص الامة على المال ، وإشفاقها من تقديم الصدقة بين يدي المناجاة كان مانعا من استمرار الحكم المذكور ودوامه ، فنسخ الوجوب وأبدل الحكم بالترخيص.

٣٧٥

وقد يعترض :

أنه كيف جعل الله الحكم المذكور «وجوب التصديق بين يدي النجوى» مع علمه منذ الأزل بوقوع المانع!.

والجواب :

ان في جعل هذا الحكم ثم نسخه ـ كما فعله الله سبحانه ـ تنبيها للامة ، وإتماما للحجة عليهم. فقد ظهر لهم ولغيرهم بذلك أن الصحابة كلهم آثروا المال على مناجاة الرسول الأكرم ، ولم يعمل بالحكم غير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام. وترك المناجاة وإن لم يكن معصية لله سبحانه ، لأن المناجاة بنفسها لم تكن واجبة ، ووجوب الصدقة كان مشروطا بالنجوى ، فإذا لم تحصل النجوى فلا وجوب للصدقة ولا معصية في ترك المناجاة ، إلا أنه يدل على أن من ترك المناجاة يهتم بالمال أكثر من اهتمامه بها.

حكمة تشريع صدقة النجوى :

وفي نسخ هذا الحكم بعد وضعه ظهرت حكمة التشريع ، وانكشفت منّة الله على عباده وبان عدم اهتمام المسلمين بمناجاة النبي الأكرم ، وعرف مقام أمير المؤمنين عليه‌السلام من بينهم. وهذا الذي ذكرناه يقتضيه ظاهر الكتاب ، وتدل عليه أكثر الروايات وأما إذا كان الأمر بتقديم الصدقة بين يدي النجوى أمرا صوريا امتحانيا ـ كأمر إبراهيم بذبح ولده ـ فالآية الثانية لا تكون ناسخة للآية الاولى نسخا اصطلاحيا ، بل يصدق على رفع ذلك الحكم الامتحاني : النسخ بالمعنى اللغوي :

ونقل الرازي عن أبي مسلم : أنه جزم بكون الأمر امتحانيا ، لتمييز من أمن إيمانا

٣٧٦

حقيقيا عمن بقي على نفاقه فلا نسخ. وقال الرازي : «وهذا الكلام حسن ما به بأس» (١).

وقال الشيخ شرف الدين : إن محمد بن العباس ذكر في تفسيره سبعين حديثا من طريق الخاصة والعامة تتضمن أن المناجي للرسول هو أمير المؤمنين عليه‌السلام دون الناس أجمعين ... ونقلت من مؤلف شيخنا أبي جعفر الطوسي هذا الحديث ذكره أنه في جامع الترمذي ، وتفسير الثعلبي بإسناده عن علقمة الأنماري يرفعه إلى علي عليه‌السلام أنه قال :

«بي خفف الله عن هذه الامة لأن الله امتحن الصحابة ، فتقاعسوا عن مناجاة الرسول ، وكان قد احتجب في منزله من مناجاة كل أحد إلا من تصدّق بصدقة ، وكان معي دينار ، فتصدقت به ، فكنت أنا سبب التوبة من الله على المسلمين حين عملت بالآية ، ولو لم يعمل بها أحد لنزل العذاب ، لامتناع الكل من العمل بها» (٢).

أقول : إن هذه الرواية لا وجود لها في النسخة المطبوعة من جامع الترمذي ولم أظفر بشيء من نسخه القديمة المخطوطة ، ولم أظفر أيضا بتفسير الثعلبي الذي نقل عنه في جملة من المؤلفات ، ولا أعلم بوجوده في مكان. وكيف كان فلا ريب في أن الحكم المذكور لم يبق إلا زمنا يسيرا ثم ارتفع ، ولم يعمل به أحد غير أمير المؤمنين عليه‌السلام وبذلك ظهر فضله ، سواء أكان الأمر حقيقيا أم كان امتحانيا.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٨ / ١٦٧ طبع المطبعة العامرة.

(٢) بحار الأنوار : ٣٥ / ٣٨١ ، باب ١٨ ، رقم الحديث : ٨ و ٤١ / ٢٦ ، باب ١٠٢ ، الحديث : ١. وتفسير البرهان ٢ / ١١٠٠.

٣٧٧

تعصب مكشوف :

اعتذر الرازي عن ترك شيوخ الصحابة العمل بالآية المباركة ، إذا كانوا قد وجدوا الوقت لذلك ولم يفعلوا ، فقال ما نصه :

«وذلك الاقدام على هذا العمل مما يضيق قلب الفقير ، فإنه لا يقدر على مثله فيضيق قلبه ، ويوحش قلب الغني ، فإنه لما لم يفعل الغني ذلك وفعله غيره صار ذلك الفعل سببا للطعن في من لم يفعل ، فهذا الفعل لما كان سببا لحزن الفقراء ووحشة الأغنياء لم يكن في تركه كبير مضرة ، لأن الذي يكون سببا للالفة أولى مما يكون سببا للوحشة ، وأيضا فهذه المناجاة ليست من الواجبات ، ولا من الطاعات المندوبة ، بل قد بيّنا أنهم إنما كانوا كلفوا بهذه الصدقة ليتركوا هذه المناجاة ، لو ما كان الأولى بهذه المناجاة أن تكون متروكة لم يكن تركها سببا للطعن» (١).

تعقيب :

أقول : هذا عذره ، وأنت تجد أنه تشكيك لا ينبغي صدوره ممن له أدنى معرفة بمعاني الكلم ، هب ان في هذا المقام لم ترد فيه رواية أصلا ، أفلا يظهر من قوله تعالى : «ء أشفقتم ...» أنه عتاب على ترك المناجاة خوفا من الفقر أو حرصا على المال؟ وأن الله تعالى قد تاب عليهم عن هذا التقصير ، إلا أن التعصب داء عضال ، ومن الغريب أنه ذكر هذا ، وقد اعترف قبيل ذلك بأن من فوائد هذا التكليف أن يتميز به محب الآخرة من محب الدنيا ، فإن المال محك الدواعي!!.

وأما ان الفعل المذكور يكون سببا لحزن الفقراء ، ووحشة الأغنياء فيكون تركه الموجب للالفة أولى ، أما هذا الذي ذكره فلو صح لكان ترك جميع الواجبات المالية

__________________

(١) تفسير الرازي : ٨ / ١٦٧.

٣٧٨

أولى من فعلها ، ولكان أمره تعالى بالفعل أمرا بما يحكم العقل بأولوية تركه ، وليس ببعيد أن يلتزم الرازي بهذا ، وبما هو أدهى منه لينكر فضيلة من فضائل علي عليه‌السلام.

ومن المناسب ـ هنا ـ أن أنقل كلاما لنظام الدين النيسابوري ، قال ما نصه : قال القاضي :

«هذا ـ تصدق علي بين يدي النجوى ـ لا يدل على فضله على أكابر الصحابة ، لأن الوقت لعله لم يتسع للعمل بهذا الفرض ، وقد قال فخر الدين الرازي : سلمنا أن الوقت قد وسع إلّا أنّ الإقدام على هذا العمل مما يضيق قلب الفقير الذي لا يجد شيئا ، وينفر الرجل الغني ، ولم يكن في تركه مضرة ، لأن الذي يكون سببا للألفة أولى مما يكون سببا للوحشة ، وأيضا الصدقة عند المناجاة واجبة ، أما المناجاة فليست بواجبة ولا مندوبة ، بل الأولى ترك المناجاة ، لما بينا من أنها كانت سببا لسآمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قلت : هذا الكلام لا يخلو عن تعصب ما ، ومن أين يلزمنا أن نثبت مفضولية علي رضي الله عنه في كل خصلة؟ ولم لا يجوز أن يحصل له فضيلة لم توجد لغيره من أكابر الصحابة؟!.

فقد روي عن ابن عمر :

كان لعلي رضي الله عنه ثلاث لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إليّ من حمر النعم : تزويجه فاطمة رضي الله عنها ، وإعطاؤه الراية يوم خيبر ، وآية النجوى ، وهل يقول منصف : إن مناجاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نقيصة ، على أنه لم يرد في الآية نهي عن المناجاة ، وإنما ورد تقديم الصدقة على المناجاة فمن عمل بالآية حصل له الفضيلة من جهتين : سدّ خلة بعض الفقراء ، ومن جهة محبة نجوى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ففيها القرب

٣٧٩

منه ، وحل المسائل العويصة ، وإظهار أن نجواه أحب إلى المناجي من المال» (١).

٣٦ ـ (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) «٥٩ : ٨».

فقد نقل عن قتادة أنها منسوخة ، وأنه قال : الفيء والغنيمة واحد وكان في بدو الإسلام تقسيم الغنيمة على هذه الأصناف ، ولا يكون لمن قاتل عليها شىء إلا أن يكون من هذه الأصناف. ثم نسخ الله ذلك في سورة الأنفال فجعل لهؤلاء الخمس ، وجعل الأربعة الأخماس لمن حارب قال الله تعالى (٢).

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) «٨ : ٤١».

وقد رفض المحققون هذا القول ، وقالوا : إن ما يغنمه المسلمون في الحرب يغاير موضوعا ما أفاء الله على رسوله بغير قتال ، فلا تنافي بين الآيتين لتنسخ إحداهما الأخرى.

أقول : إن ما ذكره المحققون بيّن لا ينبغي الجدال فيه ، ويؤكده أنه لم ينقل من سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخص بالغنائم نفسه وقرابته دون المجاهدين. ومما يبطل النسخ ما قيل من أن سورة الأنفال نزلت قبل نزول سورة الحشر (٣) ولا أدنى من الشك في ذلك ، ومما لا ريب فيه أن النّاسخ لا بد من تأخره عن المنسوخ.

__________________

(١) تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري : ٢٨ / ٢٤.

(٢) الناسخ والمنسوخ للنحاس : ص ٢٣١.

(٣) تفسير القرطبي : ١٨ / ١٤.

٣٨٠