البيان في تفسير القرآن

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي

البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

طبق عموماته ، فإن العمومات إنما وجب العمل على طبقها من أجل أنها ظاهر الكلام ، وقد استقرت سيرة العقلاء على حجية الظواهر ، ولم يردع الشارع عن اتباع هذه السيرة ومن البيّن أن سيرة العقلاء على حجية الظاهر مختصة بما إذا لم تقم قرينة على خلاف الظهور ، سواء أكانت القرينة متصلة أم كانت منفصلة ، فإذا نهضت القرينة على الخلاف وجب رفع اليد عن الظاهر ، والعمل على وفق القرينة. وإذن فلا مناص من تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد بعد قيام الدليل القطعي على حجيته. فإن معنى ذلك أن مضمون الخبر صادر عن المعصومين تعبدا.

وإن شئت فقل : إن سند الكتاب العزيز ـ وإن كان قطعيا ـ إلا أن دلالته ظنية ، ولا محذور بحكم العقل في أن ترفع اليد عن الدلالة الظنية لدليل ظني آخر ثبتت حجيته بدليل قطعي.

٢ ـ وقالوا : قد صحّ عن المعصومين عليهم‌السلام أن تعرض الروايات على الكتاب وما يكون منها مخالفا لكتاب الله يلزم طرحه ، وضربه على الجدار ، وهو مما لم يقولوه. والخبر الخاص المخالف لعموم الكتاب مما تشمله تلك الأدلة ، فيجب طرحه وعدم تصديقه.

والجواب عن ذلك :

إن القرائن العرفية على بيان المراد من الكتاب لا تعد في نظر العرف من المخالفة له في شىء ، والدليل الخاص قرينة لإيضاح المعنى المقصود من الدليل العام ، والمخالفة بين الدليلين إنما تتحقق إذا عارض أحدهما صاحبه بحيث يتوقف أهل العرف في فهم المراد منهما إذا صدر كلاهما من متكلم واحد ، أو ممن بحكمه فخبر الواحد الخاص ليس مخالفا للعام الكتابي ، بل هو مبيّن للمراد منه.

٤٠١

ويدل على ذلك أيضا : أنا نعلم أنه قد صدر عن المعصومين عليهم‌السلام كثير من الأخبار المخصصة لعمومات الكتاب ، والمقيدة لمطلقاته ، فلو كان التخصيص أو التقييد من المخالف للكتاب لما صح قولهم : «ما خالف قول ربنا لم نقله ، أو هو زخرف (١) ، أو باطل» فيكون صدور ذلك عنهم عليهم‌السلام دليلا على أن التخصيص أو التقييد ليس من المخالفة في شىء.

أضف الى ذلك : أن المعصومين عليهم‌السلام قد جعلوا موافقة أحد الخبرين المتعارضين للكتاب مرجحا له على الخبر الآخر ، ومعنى ذلك أن معارضه ـ وهو الذي لم يوافق الكتاب ـ حجة في نفسه لو لا المعارضة ، ومن الواضح أن ذلك الخبر لو كانت مخالفته للكتاب على نحو لا يمكن الجمع بينهما لم يكن حجة في نفسه ولم يبق معه مجال للمعارضة والترجيح ، وإذن فلا مناص من أن يكون المراد من عدم موافقته للكتاب أنه يمكن الجمع بينهما عرفا بالالتزام بالتخصيص أو التقييد.

ونتيجة ذلك : أن الخبر المخصص للكتاب ، أو المقيد له حجة في نفسه ، ويلزم العمل به إلا حين يبتلى بالمعارضة.

٣ ـ وقالوا : لو جاز تخصيص الكتاب بخبر الواحد لجاز نسخه به ، والنسخ به غير جائز يقينا فالتخصيص به غير جائز أيضا ، والسند في هذه الملازمة : أن النسخ ـ كما أوضحناه في مبحث النسخ ـ تخصيص في الأزمان ، والدليل الناسخ كاشف عن أن الحكم الأول كان مختصا بزمان ينتهي بورود ذلك الدليل الناسخ ، فنسخ الحكم ليس رفعا له حقيقة ، بل هو رفع له صورة وظاهرا ، والتخصيص في الأفراد كالتخصيص في الأزمان ، فكلاهما تخصيص ، فلو جاز الأول لجاز الثاني.

__________________

(١) الوسائل : ٢٧ / ١٠٥ ، باب ٨ ، رقم الحديث ٣٣٣٤٥٠ و ٣٣٣٤٧.

٤٠٢

والجواب عن ذلك :

أن الفارق بين النوعين من التخصيص هو الإجماع القطعي على المنع في النسخ ولو لا ذلك الإجماع لجاز النسخ بخبر الواحد الحجة ، كما جاز التخصيص به ، وقد بيّنا أن الكتاب وإن كان قطعي السند إلا أن دلالته غير قطعية ، ولا مانع من رفع اليد عنها بخبر الواحد الذي ثبتت حجيته بدليل قطعي.

نعم : الإجماع المذكور ليس إجماعا تعبديا ، بل لأن بعض الأمور من شأنه أن ينقل بالتواتر لو تحقق في الخارج ، فإذا اختص بنقله بعض دون بعض كان ذلك دليلا على كذب راويه أو خطئه ، فلا تشمله أدلة الحجية لخبر الواحد ، ومن أجل هذا قلنا : إن القرآن لا يثبت بخبر الواحد.

ومما لا ريب فيه أن النسخ لا يختص بقوم من المسلمين دون قوم ، والدواعي لنقله متظافرة ، فلو ثبت لكانت الأخبار به متواترة ، فإذا اختص الواحد بنقله كان ذلك دليلا على كذبه أو خطئه ، وبذلك يظهر الفارق بين التخصيص والنسخ وتبطل الملازمة بين جواز الأول وجواز الثاني.

٤٠٣
٤٠٤

حدوث القرآن وقدمه

٤٠٥

ـ التكلم من صفات الله الثبوتية.

ـ مسألة حدوث القرآن وقدمه أمر حادث لا صلة له بعقائد الإسلام.

ـ صفات الله الذاتية وصفاته الفعلية.

ـ الكلام النفسي.

ـ أدلة الأشاعرة على الكلام النفسي.

ـ تصور الكلام قبل وجوده أجنبي عن الكلام النفسي.

ـ الكلام النفسي أمر خيالي بحث.

٤٠٦

لا يشك أحد من المسلمين أن كلام الله الذي أنزله على نبيه الأعظم برهانا على نبوته ودليلا لأمّته. ولا يشك أحد منهم أن التكلم إحدى صفات الله الثبوتية المعبر عنها بالصفات الجمالية. وقد وصف الله سبحانه نفسه بهذه الصفة في كتابه فقال تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) «٤ : ١٠٣».

أثر الفلسفة اليونانية في حياة المسلمين :

وقد كان المسلمون بأسرهم على ذلك ، ولم يكن لهم أيّ اختلاف فيه ، حتى دخلت الفلسفة اليونانية أوساط المسلمين ، وحتى شعبتهم بدخولها فرقا تكفّر كل طائفة أختها ، وحتى استحال النزاع والجدال إلى المشاجرة والقتال ، فكم هتكت في الإسلام من أعراض محترمة ، وكم اختلست من نفوس بريئة ، مع أن القاتل والمقتول يعترفان بالتوحيد ، ويقرّان بالرسالة والمعاد.

أليس من الغريب أن يتعرض المسلم إلى هتك عرض أخيه المسلم وإلى قتله؟ وكلاهما يشهد أن لا إليه إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، جاء بالحق من عنده ، وأن الله يبعث من في القبور. أو لم تكن سيرة نبي الإسلام وسيرة

٤٠٧

من وليّ الأمر من بعده أن يرتبوا آثار الإسلام على من يشهد بذلك؟ فهل روى أحد أن الرسول أو غيره ممن قام مقامه سأل أحدا عن حدوث القرآن وقدمه ، أو عما سواه من المسائل الخلافية ، ولم يحكم بإسلامه إلا بعد أن يقرّ بأحد طرفي الخلاف؟!!

ولست أدري ـ وليتني كنت أدري ـ بما ذا يعتذر من ألقى الخلاف بين المسلمين وبم يجيب ربه يوم يلاقيه ، فيسأله عما ارتكب؟ فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

وقد حدثت هذه المسألة ـ حدوث القرآن وقدمه ـ بعد انشعاب المسلمين شعبتين : أشعري وغير أشعري. فقالت الأشاعرة بقدم القرآن ، وبأن الكلام على قسمين : لفظي ونفسي ، وأن كلام الله النفسي قائم بذاته وقديم بقدمه وهو إحدى صفاته الذاتية. وذهبت المعتزلة والعدلية إلى حدوث القرآن ، وإلى انحصار الكلام في اللفظي ، وإلى أن التكلم من الصفات الفعلية.

صفات الله الذاتية والفعلية :

والفارق بين صفات الله الذاتية وصفاته الفعلية أن صفات الله الذاتية هي التي يستحيل أن يتصف سبحانه بنقيضها أبدا. إذا فهي التي لا يصح سلبها عنه في حال. ومثال ذلك : العلم والقدرة والحياة ، فالله تبارك وتقدّس لم يزل ولا يزال عالما قادرا حيّا ، ويستحيل أن لا يكون كذلك في حال من الأحوال.

وأن صفاته الفعلية هي التي يمكن أن يتصف بها في حال وبنقيضها في حال آخر.

ومثال ذلك : الخلق والرزق ، فيقال : إن الله خلق كذا ولم يخلق كذا ، ورزق فلانا ولدا ولم يرزقه مالا. وبهذا يظهر جليا أن التكلم إنما هو من الصفات الفعلية ، فإنه يقال : كلّم الله موسى ولم يكلّم فرعون ، ويقال : كلّم الله موسى في جبل طور ولم يكلّمه في بحر النيل.

٤٠٨

الكلام النفسي :

اتفقت الأشاعرة على وجود نوع آخر من الكلام غير النوع اللفظي المعروف وقد سمّوه بالكلام النفسي ، ثم اختلفوا فذهب فريق منهم إلى أنه مدلول الكلام اللفظي ومعناه ، وذهب آخرون إلى أنه مغاير لمدلول اللفظ ، وأن دلالة اللفظ عليه دلالة غير وضعية ، فهي من قبيل دلالة الأفعال الاختيارية على إرادة الفاعل وعلمه وحياته.

والمعروف بينهم اختصاص القدم بالكلام ، إلا أن الفاضل القوشجي نسب إلى بعضهم القول بقدم جلد القرآن وغلافه أيضا (١). وقد عرفت أن غير الأشاعرة متفقون على حدوث القرآن ، وعلى أن كلام الله اللفظي ككلماته التكوينية مخلوق له ، وآية من آياته. ولا يترتب على الكلام في هذه المسألة وتحقيق القول فيها غرض مهم ، لأنها خارجة عن أصول الدين وفروعه ، وليست لها أية صلة بالمسائل الدينية والمعارف الإلهية ، غير أنني أحببت التكلم فيها ليتضح لإخواننا الأشاعرة ـ وهم أكثر المسلمين عددا ـ أن ما ذهبوا إليه واعتقدوا به وحسبوه مما يجب الاعتقاد به أمر خيالي لا أساس له من العقل والشرع.

وتوضيح ذلك :

أنه لا خلاف في أن الكلام المؤلف من الحروف الهجائية المندرجة في الوجود أمر حادث يستحيل اتصاف الله تعالى به في الأزل وغير الأزل. والخلاف إنما هو في وجود سنخ آخر من الكلام مجتمعة أجزاؤه وجودا ، فأثبتته الأشاعرة وقالت بأنه من صفات الله الذاتية كما يتصف غيره به أيضا. ونفاه غيرهم وحصروا الكلام في

__________________

(١) شرح التجريد : ص ٣٥٤ ، المقصد الثالث.

٤٠٩

اللفظي ، وقالوا : إن قيامه بالمتكلم قيام الفعل بالفاعل والصحيح هو القول الثاني.

ودليلنا على ذلك :

أن الجمل : إما خبرية وإما إنشائية ، أما الجمل الخبرية ، فإنا إذا فحصنا مواردها لن نجد فيها إلا تسعة أمور ، وهي التي لا بد منها في الإخبار عن ثبوت شىء لشىء أو عدم ثبوته له :

أولا ـ مفردات الجملة بموادها ، وهيئاتها.

ثانيا ـ معاني المفردات ، ومداليلها.

ثالثا ـ الهيئة التركيبية للجملة.

رابعا ـ ما تدل عليه الهيئة التركيبية خامسا ـ تصور المخبر مادة الجملة ، وهيئتها.

سادسا ـ تصور مدلول الجملة بمادتها ، وهيئتها.

سابعا ـ مطابقة النسبة لما في الخارج ، أو عدم مطابقتها له.

ثامنا ـ علم المخبر بالمطابقة ، أو بعدمها ، أو شكه فيها.

تاسعا ـ إرادة المتكلم لإيجاد الجملة في الخارج مسبوقة بمقدماتها.

وقد اعترفت الأشاعرة بأن الكلام النفسي ليس شيئا من الأمور المذكورة وعلى هذا فلا يبقى للكلام النفسي عين ولا أثر ، أما مفاد الجملة فلا يمكن أن يكون هو الكلام النفسي ، لأن مفاد الجملة الخبرية ـ على ما هو المعروف ـ ثبوت شىء لشىء أو سلبه عنه ، وعلى ما هو التحقيق ـ عندنا ـ هو قصد الحكاية عن الثبوت أو السلب ، فقد أثبتنا أن الهيئة التركيبية للجملة الخبرية بمقتضى وضعها أمارة على

٤١٠

قصد المتكلم للحكاية عن النسبة ، وشأنها في ذلك شأن ما سوى الألفاظ من الأمارات الجعلية.

وقد حققنا : أن الوضع هو التعهد بجعل لفظ خاص أو هيئة خاصة مبرزا لقصد تفهيم أمر تعلق غرض المتكلم بتفهيمه ، وقد أوضحنا ذلك كله في محله (١) هذا هو مفاد الجملة الخبرية ، والكلام النفسي ـ عند القائل به ـ موجود نفساني من سنخ الكلام مغاير للنسبة الخارجية ولقصد الحكاية.

وأما الجمل الانشائية فهي كالجمل الخبرية ، والفارق بينهما أن الجمل الانشائية ليس في مواردها خارج تطابقه النسبة الكلامية أو لا تطابقه وعليه فالامور التي لا بد منها في الجمل الانشائية سبعة ، وهي بذاته الأمور التسعة التي ذكرناها في الجمل الخبرية ما عدا السابع والثامن منها ، وقد علمت أن الكلام النفسي عند القائلين به ليس واحدا منها.

ولعل سائلا يقول : ما هو مفاد هيئة الجملة الإنشائية؟ ...

المعروف بين العلماء أنها موضوعة لإيجاد معنى من المعاني نحو إيجاد مناسب لعالم الإنشاء ، وقد تكرر في كلمات كثير منهم أن الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ ، وقد ذكرنا في مباحثنا الاصولية أنه لا أصل للوجود الإنشائي ، واللفظ والمعنى وإن كانت لهما وحدة عرضية منشأها ما بينهما من الربط الناشئ من الوضع ، فوجود اللفظ وجود له بالذات ووجود للمعنى بالعرض والمجاز ، ومن أجل ذلك يسري حسن المعنى أو قبحه الى اللفظ ، وبهذا المعنى يصح أن يقال : وجد المعنى باللفظ وجودا لفظيا ، إلا أن هذا لا يختص بالجمل الإنشائية ، بل يعم الجمل الخبرية والمفردات أيضا.

__________________

(١) في كتابنا «أجود التقريرات» في الأصول ، المطبوع مع تعليقاتنا. (المؤلف)

٤١١

أما وجود المعنى بغير وجوده اللفظي فينحصر في نحوين ، وكلاهما لا مدخل للفظ فيه أبدا :

أحدهما : وجوده الحقيقي الذي يظهر به في نظام الوجود من الجواهر والأعراض ، ولا بد في تحقيق هذا الوجود من تحقق أسبابه وعلله ، والألفاظ أجنبية عنها بالضرورة.

ثانيهما : وجوده الاعتباري ، وهو نحو من الوجود للشيء ، إلا أنه في عالم الاعتبار لا في الخارج ، وتحقق هذا النحو من الوجود إنما هو باعتبار من بيده الاعتبار ، واعتبار كل معتبر قائم بنفسه ، ويصدر منه بالمباشرة ، ولا يتوقف على وجود لفظ في الخارج أبدا ، أما إمضاء الشارع أو إمضاء العقلاء للعقود أو الإيقاعات الصادرة من الناس ، فهو وإن توقف على صدور لفظ من المنشئ أو ما بحكم اللفظ ، ولا أثر لاعتباره إذا تجرد من المبرز من قول أو فعل ، إلا أن الإمضاء المذكور متوقف على صدور لفظ قصد به الإنشاء ، وموضع البحث هو مفاد ذلك اللفظ الذي جيء به في المرحلة السابقة على الإمضاء.

وعلى الجملة : إن الوجود الحقيقي والاعتباري للشيء لا يتوقفان على اللفظ ، وإما إمضاء الشرع أو العقلاء للوجود الاعتباري فهو وإن توقف على صدور لفظ أو ما بحكمه من المنشئ ، إلا أنه يتوقف عليه بما هو لفظ مستعمل في معناه ، وأما الوجود اللفظي فهو عام لكل معنى دل عليه باللفظ ، فلا أساس للقول المعروف : «الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ».

والصحيح : إن الهيئات الإنشائية وضعت لإبراز أمر ما من الأمور النفسانية وهذا الأمر النفساني قد يكون اعتبارا من الاعتبارات كما في الأمر والنهي والعقود والإيقاعات ، وقد يكون صفة من الصفات ، كما في التمني والترجّي ، فهيئات الجمل

٤١٢

أمارات على أمر ما من الأمور النفسانية وهو في الجمل الخبرية قصد الحكاية ، وفي الجمل الإنشائية أمر آخر.

ثم إن الإتيان بالجملة المبرزة ـ بوضعها ـ لأمر نفساني قد يكون بداعي إبراز ذلك الأمر ، وقد يكون بداع آخر سواه ، وفي كون الاستعمال في هذا القسم الأخير مجازا أو حقيقة كلام ليس هنا محل ذكره ، وللاطلاع على تفصيل الكلام في ذلك يراجع تعليقاتنا الاصولية.

والذي يظهر من موارد استعمال لفظ الطلب : أنه موضوع للتصدي لتحصيل شىء ما ، فلا يقال : طلب الضالة ، ولا طلب الآخرة ، إلا عند التصدي لتحصيلهما ، وفي لسان العرب : «الطلب محاولة وجدان الشيء وأخذه» ، وبهذا الاعتبار يصدق على الآمر أنه طالب ، لأنه يحاول وجدان الفعل المأمور به ، فإن الآمر هو الذي يدعو المأمور الى الإتيان بمتعلقه ، وهو بنفسه مصداق للطلب ، لا أن الأمر لفظ والطلب معناه فلا أساس للقول بأن الأمر موضوع للطلب ، ولا للقول بأن الطلب كلام نفسي يدل عليه الكلام اللفظي.

وقد أصابت الأشاعرة في قولهم : «إن الطلب غير الارادة» ولكنهم أخطئوا في جعله صفة نفسية ، وفي جعله مدلولا عليه بالكلام اللفظي.

نفي الكلام النفسي :

ومن جميع ما ذكرناه يستبين القارئ : أنه ليس في موارد الجمل الخبرية ولا الانشائية ما يكون من سنخ الكلام قائما بالنفس ، ليسمى بالكلام النفسي ، نعم لا بد للمتكلم من أن يتصور كلامه قبل إيجاده ، والتصور وجود في النفس يسمونه بالوجود الذهني ، فإن أراد القائلون بالكلام النفسي هذا النحو من الوجود للكلام

٤١٣

في النفس فهو صحيح ، ولكنك تعلم أنه غير مختص بالكلام ، بل يعم كل فعل اختياري ، والكلام إنما لزم تصوره لأنه فعل اختياري للمتكلم.

أدلة الأشاعرة على الكلام النفسي :

استدل القائلون بالكلام النفسي على مدعاهم بوجوه :

الأول : ان كل متكلم يرتب الكلام في نفسه قبل أن يتكلم به ، والموجود في الخارج من الكلام يكشف عن وجود مثله في النفس ، وهذا وجداني يجده كل متكلم في نفسه ، واليه أشار الأخطل بقوله :

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما

جعل اللّسان على الفؤاد دليلا.

وجوابه قد تقدم :

فإن تركيب الكلام في النفس هو تصوره وإحضاره فيها ، وهو الوجود الذهني الذي يعم الأفعال الاختيارية كافة ، فالكتاب والنقاش لا بد لهما من أن يتصورا عملهما أولا قبل أن يوجداه ، فلا صلة لهذا بالكلام النفسي.

الثاني : أنه يطلق الكلام على الموجود منه في النفس ، وإطلاقه عليه صحيح بلا عناية ، فيقول القائل : إن في نفسي كلاما لا أريد أن أبديه ، وقد قال الله عزّ اسمه :

(وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) «٦٧ : ١٣».

وجوابه يظهر مما تقدم :

فإن الكلام كلام في وجوده الذهني ، كما هو كلام في وجوده الخارجي ولكل شىء نحوان من الوجود : خارجي وذهني ، والشيء هو ذلك الشيء في كلا وجوديه ، وإطلاق الاسم عليه بلا عناية. ولا يختص هذا بالكلام ، فيقول المهندس : إن في

٤١٤

نفسي صورة بناء سأنقشها في خارطة ، ويقول المتعبد : إن في نفسي أن أصوم غدا.

الثالث : أنه يصح إطلاق المتكلم على الله ، وهذه الهيئة اسم الفاعل وضعت لإفادة قيام المبدأ بالذات قياما وصفيا. ولذا لا يطلق المتحرك والساكن والنائم إلا على من تلبّس بالحركة والسكون والنوم ، دون من أوجدها. وواضح أن الكلام اللفظي لا يمكن أن يتصف به الله تعالى ، لاستحالة اتصاف القديم بالصفة الحادثة ، فلا مناص من الالتزام بالكلام القديم ، ليصح إطلاق المتكلم على الله سبحانه باعتبار اتصافه به.

وجوابه :

ان المبدأ في صيغة المتكلم ليس هو الكلام ، فإنه غير قائم بالمتكلم قيام الصفة بموصوفها حتى في غير الله ، فإن الكلام كيفية عارضة للصوت الحاصل من تموّج الهواء ، وهو أمر قائم بالهواء لا بالمتكلم ، والمبدأ في الصيغة المذكورة هو التكلم ، ولا نعقل له معنى غير إيجاد الكلام ، فإطلاقه على الله وعلى غيره بمعنى واحد.

وأما قول المستدل : «إن هيئة اسم الفاعل وضعت لإفادة قيام المبدأ بالذات قيام الوصف بالموصوف» فهو غلط بيّن ، فان الهيئة إنما تفيد قيام المبدأ بالذات نحوا من القيام. أما خصوصيات القيام من كونها إيجادية أو حلولية أو غيرهما فهي غير مأخوذة في مفاد الهيئة وهي تختلف باختلاف الموارد ، ولا تدخل تحت ضابط كلي ، فالعالم والنائم مثلا لا يطلقان على موجد العلم والنوم ، لكن القابض والباسط والنافع والضار تطلق على موجد هذه المبادئ ، وعليهن فعدم صحة إطلاق المتحرك على موجد الحركة لا يستلزم عدم صحة إطلاق المتكلم على موجد الكلام.

وحاصل ما تقدم :

٤١٥

أن الكلام النفسي أمر خيالي بحت لا دليل على وجوده من وجدان أو برهان.

ومن المناسب أن نختم الكلام بما ذكره الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام في هذا الموضوع ، فقد روى الشيخ الكليني بإسناده ، عن أبي بصير قال :

سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : لم يزل الله عزوجل ربنا ، والعلم ذاته ولا معلوم ، والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مبصر ، والقدرة ذاته ولا مقدور. فلما أحدث الأشياء وكان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم ، والسمع على المسموع ، والبصر على المبصر والقدرة على المقدور. قال : قلت : فلم يزل الله متحركا؟ قال : فقال : تعالى الله عن ذلك ، إن الحركة صفة محدثة بالفعل. قال : فقلت : فلم يزل الله متكلما؟ قال : فقال : إن الكلام صفة محدثة ليست بأزلية ، كان الله عزوجل ولا متكلم» (١).

__________________

(١) الكافي : ١ / ١٠٧ ، باب صفات الذات ، الحديث : ١.

٤١٦

تفسير فاتحة الكتاب

٤١٧

ـ محل نزولها.

ـ فضلها.

ـ آياتها.

ـ غاياتها.

ـ القراءة.

ـ الإعراب.

ـ اللغة.

ـ التفسير.

ـ تحليل آية : الحمد لله رب العالمين.

ـ تحليل آية : إياك نعبد وإياك نستعين.

ـ تحليل آية : اهدنا الصراط المستقيم.

ـ البحث الأول : حول آية البسملة.

ـ البحث الثاني : حول آية الحمد.

ـ البحث الثالث حول آية : اهدنا ...

٤١٨

(١)

سورة الفاتحة مكية وآياتها سبع

(بسم الله الرحمن الرحيم (١)

الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ (٣)

مَـلِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)

اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ

غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ (٧))

مكية وآياتها سبع

٤١٩

محل نزولها :

المعروف : أن هذه السورة مكّية ، وعن بعض أنها مدنية ، والصحيح هو القول الأول ، ويدل على ذلك أمران :

الأول : ان فاتحة الكتاب هي السبع المثاني (١) وقد ذكر في سورة الحجر أن السبع المثاني نزلت قبل ذلك ، فقال تعالى :

(وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) «١٥ : ٨٧».

وسورة الحجر مكية بلا خلاف ، فلا بد وأن تكون فاتحة الكتاب مكية أيضا.

الثاني : ان الصلاة شرعت في مكة ، وهذا ضروري لدى جميع المسلمين ولم تعهد في الإسلام صلاة بغير فاتحة الكتاب ، وقد صرح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك بقوله : «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» وهذا الحديث منقول عن طريق الإمامية وغيرهم. (٢)

__________________

(١) صرح بذلك في عدة من الروايات : منها رواية الصدوق والبخاري وسنذكرهما بعد هذا. (المؤلف) راجع التهذيب : ٢ / ٢٨٩ ، باب ١٣ ، الحديث : ١٣. وصحيح البخاري : كتاب تفسير القرآن ، رقم الحديث : ٤١١٤ و ٤٣٣٤.

(٢) التهذيب : ٢ / ١٤٦ ، باب ٢٣ ، الحديث : ٣١. وصحيح البخاري : كتاب الأذان ، رقم الحديث : ٧١٤.

٤٢٠