البيان في تفسير القرآن

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي

البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

البداء في التكوين

٣٨١

ـ العلم الإلهي الأزلي لا ينافي قدرته.

ـ موقف اليهود من قدرة الله.

ـ موقع البداء عند الشيعة.

ـ أقسام القضاء الإلهي.

ـ ثمرة الاعتقاد بالبداء.

ـ حقيقة البداء عند الشيعة.

ـ أحاديث أهل السنة الدالة على البداء.

ـ إنباء المعصومين بالحوادث المستقبلة.

٣٨٢

بمناسبة الحديث عن النسخ في الأحكام وهو في أفق التشريع ، وبمناسبة أن النسخ كالبداء وهو في أفق التكوين ، وبمناسبة خفاء معنى البداء على كثير من علماء المسلمين ، وأنهم نسبوا إلى الشيعة ما هم برآء منه ، وأنهم لم يحسنوا في الفهم ولم يحسنوا في النقد ، وليتهم إذ لم يعرفوا تثبّتوا أو توقّفوا (١) كما تفرضه الأمانة في النقل ، وكما تقتضيه الحيطة في الحكم ، والورع في الدين ، بمناسبة كل ذلك وجب أن نذكر شيئا في توضيح معنى البداء وإن لم تكن له صلة ـ غير هذا ـ بمدخل التفسير.

تمهيد :

لا ريب في أن العالم بأجمعه تحت سلطان الله وقدرته ، وأن وجود أي شىء من الممكنات منوط بمشيئة الله تعالى ، فإن شاء أوجده ، وإن لم يشأ لم يوجده.

ولا ريب أيضا في أن علم الله سبحانه قد تعلق بالأشياء كلها منذ الأزل ، وأن الأشياء بأجمعها كان لها تعيّن علمي في علم الله الأزلي وهذا التعين يعبر عنه ب «

__________________

(١) انظر التعليقة رقم (٩) للوقوف على اختلاق الفخر الرازي نسبة الجهل الى الله على لسان الشيعة ـ في قسم التعليقات.

٣٨٣

تقدير الله» تارة وب «قضائه» تارة أخرى ، ولكن تقدير الله وعلمه سبحانه بالأشياء منذ الأزل لا يزاحم ولا ينافي قدرته تعالى عليها حين إيجادها ، فإن الممكن لا يزال منوطا بتعلق مشيئة الله بوجوده التي قد يعبر عنها بالاختيار ، وقد يعبر عنها بالإرادة ، فإن تعلقت المشيئة به وجد وإلا لم يوجد. والعلم الإلهي يتعلق بالأشياء على واقعها من الإناطة بالمشيئة الإلهية ، لأن انكشاف الشيء لا يزيد على واقع ذلك الشيء ، فإذا كان الواقع منوطا بمشيئة الله تعالى كان العلم متعلقا به على هذه الحالة ، وإلا لم يكن العلم علما به على وجهه ، وانكشافا له على واقعه. فمعنى تقدير الله تعالى للأشياء وقضائه بها : أن الأشياء جميعها كانت متعينة في العلم الإلهي منذ الأزل على ما هي عليه من أن وجودها معلق على أن تتعلق المشيئة بها ، حسب اقتضاء المصالح والمفاسد التي تختلف باختلاف الظروف والتي يحيط بها العلم الإلهي.

موقف اليهود من قدرة الله :

وذهبت اليهود إلى أن قلم التقدير والقضاء حينما جرى على الأشياء في الأزل استحال أن تتعلق المشيئة بخلافه. ومن أجل ذلك قالوا : يد الله مغلولة عن القبض والبسط والأخذ والإعطاء ، فقد جرى فيها قلم التقدير ولا يمكن فيها التغيير (١) ومن الغريب أنهم قاتلهم الله ـ التزموا بسلب القدرة عن الله ، ولم يلتزموا بسلب القدرة عن العبد ، مع أن الملاك في كليهما واحد ، فقد تعلق العلم الأزلي بأفعال الله تعالى ، وبأفعال العبيد على حد سواء.

__________________

(١) انظر التعليقة رقم (١٠) لمعرفة بعض الأخبار الدالة على مشيئة الله تعالى ـ في قسم التعليقات.

٣٨٤

موقع البداء عند الشيعة :

ثم إن البداء الذي تقول به الشيعة الإمامية إنما يقع في القضاء غير المحتوم ، أما المحتوم منه فلا يتخلف ، ولا بد من أن تتعلق المشيئة بما تعلق به القضاء ، وتوضيح ذلك أن القضاء على ثلاثة أقسام :

أقسام القضاء الالهي :

الأول : قضاء الله الذي لم يطلع عليه أحدا من خلقه ، والعلم المخزون الذي استأثر به لنفسه ، ولا ريب في أن البداء لا يقع في هذا القسم ، بل ورد في روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم‌السلام أن البداء إنما ينشأ من هذا العلم.

روى الشيخ الصدوق في «العيون» بإسناده ، عن الحسن بن محمد النوفلي أن الرضا عليه‌السلام قال لسليمان المروزي :

«رويت عن أبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : إن لله عزوجل علمين علما مخزونا مكنونا لا يعلمه إلا هو من ذلك يكون البداء ، وعلما علمه ملائكته ورسله ، فالعلماء من أهل بيت نبيك يعلمونه ...» (١).

وروى الشيخ محمد بن الحسن الصفار في «بصائر الدرجات» بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

«إن لله علمين : علم مكنون مخزون لا يعلمه إلّا هو ، من ذلك

__________________

(١) عيون أخبار الرضا : ٢ / ١٥٩ ، باب ١٣ في ذكر مجلس الرضا مع سليمان المروزي ، راجع البحار : ٩٥٤ ، باب ٣ ، الحديث : ٢.

٣٨٥

يكون البداء وعلم علّمه ملائكته ورسله وأنبياءه ، ونحن نعلمه» (١).

الثاني : قضاء الله الذي أخبر نبيه وملائكته بأنه سيقع حتما ، ولا ريب في أن هذا القسم أيضا لا يقع فيه البداء ، وإن افترق عن القسم الأول ، بأن البداء لا ينشأ منه.

قال الرضا عليه‌السلام لسليمان المروزي ـ في الرواية المتقدمة عن الصدوق ـ :

«إن عليا عليه‌السلام كان يقول : العلم علمان ، فعلم علّمه الله ملائكته ورسله ، فما علّمه ملائكته ورسله فإنه يكون ، ولا يكذّب نفسه ولا ملائكته ولا رسله وعلم عنده مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه يقدم منه ما يشاء ، ويؤخر ما يشاء ، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء» (٢).

وروى العياشي عن الفضيل ، قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول :

«من الأمور أمور محتومة جائية لا محالة ، ومن الأمور أمور موقوفة عند الله يقدم منها ما يشاء ، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ، لم يطلع على ذلك أحدا ـ يعني الموقوفة ـ فأما ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذّب نفسه ، ولا نبيه ، ولا ملائكته» (٣).

__________________

(١) بصائر الدرجات : ٢ / ١٠٩ ، باب ٢١ الحديث : ٢ ، ورواه الشيخ الكليني عن أبي بصير أيضا ، راجع الكافي : ١ / ١٤٧ ، الحديث : ٨ ، وبحار الأنوار : ٤ / ١٠٩ ، باب ٣ ، رقم الحديث : ٢٧.

(٢) عيون أخبار الرضا باب ١٣ ورواه الشيخ الكليني عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر عليه‌السلام ، الكافي : ١ / ١٤٧ ، رقم الحديث : ٦.

(٣) راجع الكافي : ١ / ١٤٧ ، الحديث : ٧.

٣٨٦

الثالث : قضاء الله الذي أخبر نبيه وملائكته بوقوعه في الخارج إلا أنه موقوف على أن لا تتعلق مشيئة الله بخلافه. وهذا القسم هو الذي يقع فيه البداء.

(يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ١٣ : ٣٩. لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) «٢٩ : ٤».

وقد دلّت على ذلك روايات كثيرة منها هذه :

١ ـ ما في «تفسير علي بن إبراهيم» عن عبد الله بن مسكان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

«إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكتبة إلى سماء الدنيا ، فيكتبون ما يكون من قضاء الله تعالى في تلك السنة ، فإذا أراد الله أن يقدّم شيئا أو يؤخره ، أو ينقص شيئا أمر الملك أن يمحو ما يشاء ، ثم أثبت الذي أراده. قلت : وكل شىء هو عند الله مثبت في كتاب؟ قال : نعم. قلت : فأي شىء يكون بعده؟ قال : سبحان الله ، ثم يحدث الله أيضا ما يشاء تبارك وتعالى» (١).

٢ ـ ما في تفسيره أيضا ، عن عبد الله بن مسكان ، عن أبي جعفر وأبي عبد الله وأبي الحسن عليهم‌السلام في تفسير قوله تعالى :

(فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) «٤٤ : ٤».

«أي يقدّر الله كل أمر من الحق ومن الباطل ، وما يكون في تلك السنة ، وله فيه البداء والمشيئة. يقدّم ما يشاء ويؤخر ما يشاء من

__________________

(١) نقلا عن البحار. راجع البحار : ٤ / ٩٩ ، باب ٣ ، رقم الحديث : ٩ ، و ٩٧ / ١٢ ، باب ٥٣ ، الحديث : ١٨.

٣٨٧

الآجال والأرزاق والبلايا والأعراض والأمراض ، ويزيد فيها ما يشاء وينقص ما يشاء ...» (١).

٣ ـ ما في كتاب «الاحتجاج» عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أن قال :

«لو لا آية في كتاب الله ، لأخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلى يوم القيامة ، وهي هذه الآية : يمحو الله ...» (٢).

وروى الصدوق في الأمالي والتوحيد بإسناده عن الأصبغ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام مثله.

٤ ـ ما في «تفسير العياشي» عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال :

«كان علي بن الحسين عليه‌السلام يقول : لو لا آية في كتاب الله لحدّثتكم بما يكون إلى يوم القيامة. فقلت : أية آية؟ قال : قول الله : يمحو الله ...» (٣).

٥ ـ ما في «قرب الاسناد» عن البزنطي عن الرضا عليه‌السلام قال :

قال أبو عبد الله ، وأبو جعفر ، وعلي بن الحسين ، والحسين بن علي ، والحسن بن علي ، وعلي بن أبي طالب عليهم‌السلام : «لو لا آية في كتاب الله لحدّثناكم بما يكون إلى أن تقوم الساعة : يمحو الله ...» (٤).

إلى غير ذلك من الروايات الدالة على وقوع البداء في القضاء الموقوف.

__________________

(١) نفس المصدر ص ١٣٤.

(٢) الاحتجاج للطبرسي : ص ١٣٧ المطبعة المرتضوية ـ النجف الأشرف.

(٣) تفسير العياشي : ٢ / ٢١٥ الحديث : ٥٩. راجع بحار الأنوار : ٤ / ١١٨ ، باب ٣ ، رقم الحديث : ٥٢.

(٤) قرب الاسناد : ص ٣٥٣ ، رقم الحديث : ١٢٦٦. نفس المصدر ص ٩٧ ، باب ٣ ، الحديث : ٥.

٣٨٨

وخلاصة القول : ان القضاء الحتمي المعبر عنه باللوح المحفوظ ، وبامّ الكتاب ، والعلم المخزون عند الله يستحيل أن يقع فيه البداء. وكيف يتصور فيه البداء؟ وأن الله سبحانه عالم بجميع الأشياء منذ الأزل ، لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء.

روى الصدوق في «إكمال الدين» بإسناده ، عن أبي بصير وسماعة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

«من زعم أن الله عزوجل يبدو له في شىء اليوم لم يعلمه أمس فابرءوا منه» (١).

وروى العياشي ، عن ابن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام يقول :

«إن الله يقدّم ما يشاء ، ويؤخر ما يشاء ، ويمحو ما يشاء ، ويثبت ما يشاء وعنده أم الكتاب ، وقال : فكل أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يصنعه ، وليس شىء يبدو له إلا وقد كان في علمه ، إن الله لا يبدو له من جهل» (٢).

وروى أيضا عن عمار بن موسى ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام :

«سئل عن قول الله : (يَمْحُوا اللهُ ...) قال : إن ذلك الكتاب كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت ، فمن ذلك الذي يرد الدعاء القضاء ، وذلك الدعاء مكتوب عليه الذي يرد به القضاء ، حتى إذا صار إلى أم الكتاب لم يغن الدعاء فيه شيئا» (٣).

__________________

(١) إكمال الدين : ص ٧٠.

(٢) تفسير العياشي : ٢ / ٢١٨ ، الحديث : ٧١.

(٣) نفس المصدر : ٢ / ٢٢٠ ، الحديث : ٧٤.

٣٨٩

وروى الشيخ الطوسي في «كتاب الغيبة» بإسناده عن البزنطي ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال علي بن الحسين ، وعلي بن أبي طالب قبله ، ومحمد بن علي وجعفر ابن محمد عليهم‌السلام :

«كيف لنا بالحديث مع هذه الآية (يَمْحُوا اللهُ ...) فأما من قال بأن الله تعالى لا يعلم الشيء إلا بعد كونه فقد كفر وخرج عن التوحيد» (١).

والروايات المأثورة عن أهل البيت عليهم‌السلام أن الله لم يزل عالما قبل أن يخلق الخلق ، (٢) فهي فوق حد الإحصاء ، وقد اتفقت على ذلك كلمة الشيعة الإمامية طبقا لكتاب الله وسنة رسوله ، جريا على ما يقتضيه حكم العقل الفطري الصحيح.

ثمرة الاعتقاد بالبداء :

والبداء : إنما يكون في القضاء الموقوف المعبر عنه بلوح المحو والإثبات ، والالتزام بجواز البداء فيه لا يستلزم نسبة الجهل إلى الله سبحانه وليس في هذا الالتزام ما ينافي عظمته وجلاله.

فالقول بالبداء : هو الاعتراف الصريح بأن العالم تحت سلطان الله وقدرته في حدوثه وبقائه ، وإن إرادة الله نافذة في الأشياء ، أزلا وأبدا ، بل وفي القول بالبداء يتضح الفارق بين العلم الإلهي وبين علم المخلوقين ، فعلم المخلوقين ـ وإن كانوا أنبياء أو أوصياء ـ لا يحيط بما أحاط به علمه تعالى ، فإن بعضا منهم إن كان عالما ـ بتعليم

__________________

(١) كتاب الغيبة : ص ٤٣٠ ، الحديث : ٤٢٠. وروى الشيخ الكليني بإسناده ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ما بدا لله في شىء إلا كان في علمه قبل أن يبدو له» الكافي : ١ / ١٤٨ ، الحديث : ٩.

(٢) الكافي : ١ / ١٠٨ ، الحديث : ٦ و ١ / ١٤٨ ، الحديث : ١١. و...

٣٩٠

الله إياه ـ بجميع عوالم الممكنات لا يحيط بما أحاط به علم الله المخزون الذي استأثر به لنفسه ، فإنه لا يعلم بمشيئة الله تعالى ـ لوجود شىء ـ أو عدم مشيئته إلا حيث يخبره الله تعالى به على نحو الحتم.

والقول بالبداء : يوجب انقطاع العبد الى الله وطلبه إجابة دعائه منه وكفاية مهماته ، وتوفيقه للطاعة ، وإبعاده عن المعصية ، فإن إنكار البداء والالتزام بأن ما جرى به قلم التقدير كائن لا محالة ـ دون استثناء ـ يلزمه يأس المعتقد بهذه العقيدة عن إجابة دعائه ، فإن ما يطلبه العبد من ربه إن كان قد جرى قلم التقدير بإنفاذه فهو كائن لا محالة ، ولا حاجة إلى الدعاء والتوسل ، وإن كان قد جرى القلم بخلافه لم يقع أبدا ، ولم ينفعه الدعاء ولا التضرع ، وإذا يئس العبد من إجابة دعائه ترك التضرع لخالقه ، حيث لا فائدة في ذلك ، وكذلك الحال في سائر العبادات والصدقات التي ورد عن المعصومين عليهم‌السلام أنها تزيد في العمر أو في الرزق أو غير ذلك مما يطلبه العبد.

وهذا هو سر ما ورد في روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم‌السلام من الاهتمام بشأن البداء.

فقد روى الصدوق في كتاب «التوحيد» بإسناده ، عن زرارة ، عن أحدهما عليهما‌السلام قال :

«ما عبد الله عزوجل بشيء مثل [أفضل من] البداء» (١).

وروى بإسناده ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

«ما عظّم الله عزوجل بمثل البداء» (٢).

__________________

(١) التوحيد : ص ٣٣١ ـ ٣٣٣ باب ٥٤ ، البداء ، الحديث ١ و ٢. راجع الكافي : ١ / ١٤٦ ، الحديث : ١.

(٢) التوحيد : ص ٣٣١ ـ ٣٣٣ باب ٥٤ ، البداء ، الحديث ١ و ٢. راجع الكافي : ١ / ١٤٦ ، الحديث : ١.

٣٩١

وروى بإسناده ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

«ما بعث الله عزوجل نبيا حتى يأخذ عليه ثلاث خصال : الإقرار بالعبودية وخلع الأنداد ، وأن الله يقدّم ما يشاء ويؤخر ما يشاء» (١).

والسر في هذا الاهتمام : أن إنكار البداء يشترك بالنتيجة مع القول بأن الله غير قادر على أن يغير ما جرى عليه قلم التقدير. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. فإن كلا القولين يؤيس العبد من إجابة دعائه ، وذلك يوجب عدم توجهه في طلباته إلى ربه.

حقيقة البداء عند الشيعة :

وعلى الجملة : فإن البداء بالمعنى الذي تقول به الشيعة الإمامية هو من الإبداء الإظهار حقيقة ، وإطلاق لفظ البداء عليه مبني على التنزيل والإطلاق بعلاقة المشاكلة. وقد اطلق بهذا المعنى في بعض الروايات من طرق أهل السنة.

روى البخاري بإسناده عن أبي عمرة ، أن أبا هريرة حدّثه أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :

إن ثلاثة في بني إسرائيل : أبرص وأعمى وأقرع ، بدا لله عزوجل أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا فأتى الأبرص ...» (٢).

__________________

(١) التوحيد :! ٣٣٣ ، الحديث : ٣. راجع الكافي : ١ / ١٤٧ ، الحديث : ٣.

(٢) صحيح البخاري : كتاب أحاديث الأنبياء ، رقم الحديث : ٣٢٠٥ وصحيح مسلم : كتاب الزهد والرقائق ، رقم الحديث : ٥٢٦٥.

٣٩٢

وقد وقع نظير ذلك في كثير من الاستعمالات القرآنية ، كقوله تعالى :

(الْآنَ عَلِمَ الله أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) «٨ : ٦٦».

وقوله تعالى :

(لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) «٨ : ١٢».

وقوله تعالى :

(لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) «٨ : ٧».

وما أكثر الروايات من طرق أهل السنّة في أن الصدقة والدعاء يغيّران القضاء (١).

أما ما وقع في كلمات المعصومين عليهم‌السلام من الإنباء بالحوادث المستقبلة فتحقيق الحال فيها : أن المعصوم متى ما أخبر بوقوع أمر مستقبل على سبيل الحتم والجزم ودون تعليق ، فذلك يدلّ أن ما أخبر به مما جرى به القضاء المحتوم وهذا هو القسم الثاني «الحتمي» من أقسام القضاء المتقدمة. وقد علمت أن مثله ليس موضعا للبداء ، فإن الله لا يكذّب نفسه ولا نبيّه. ومتى ما أخبر المعصوم بشيء معلّقا على أن لا تتعلق المشيئة الإلهية بخلافه ، ونصب قرينة متصلة أو منفصلة على ذلك فهذا الخبر إنما يدلّ على جريان القضاء الموقوف الذي هو موضع البداء. والخبر الذي أخبر به المعصوم صادق وإن جرى فيه البداء ، وتعلقت المشيئة الإلهية بخلافه. فإن الخبر ـ كما عرفت ـ منوط بأن لا تخالفه المشيئة.

__________________

(١) انظر التعليقة رقم (١١) للوقوف على روايات تفيد أن الدعاء يغير القضاء ـ في قسم التعليقات.

٣٩٣

وروى العياشي ، عن عمرو بن الحمق قال :

«دخلت على أمير المؤمنين عليه‌السلام حين ضرب على قرنه ، فقال لي : يا عمرو إني مفارقكم ، ثم قال : سنة السبعين فيها بلاء ... فقلت : بأبي أنت وأمي قلت : إلى السبعين بلاء ، فهل بعد السبعين رخاء؟ قال : نعم يا عمرو إن بعد البلاء رخاء ...» وذكر آية (يَمْحُوا اللهُ ...)(١)

__________________

(١) تفسير العياشي : ٢ / ٢١٧ ، رقم الحديث : ٦٨.

٣٩٤

أصول التفسير

٣٩٥

ـ بطلان الاعتماد على الظن وعلى آراء المفسرين في فهم القرآن.

ـ مدارك التفسير.

ـ تخصيص القرآن بخبر الواحد.

ـ شبهات المنكرين له ، والأقوال في المسألة.

٣٩٦

التفسير هو إيضاح مراد الله تعالى من كتابه العزيز ، فلا يجوز الاعتماد فيه على الظنون والاستحسان ، ولا على شىء لم يثبت أنه حجة من طريق العقل ، أو من طريق الشرع ، للنهي عن اتباع الظن ، وحرمة إسناد شىء إلى الله بغير إذنه قال الله تعالى :

(قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) «١٠ : ٥٩».

وقال الله تعالى :

(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) «١٧ : ٣٦».

إلى غير ذلك من الآيات والروايات الناهية عن العمل بغير العلم ، والروايات الناهية عن التفسير بالرأي مستفيضة من الطريقين.

ومن هذا يتضح أنه لا يجوز اتباع أحد المفسرين في تفسيره ، سواء أكان ممن حسن مذهبه أم لم يكن ، لأنه من إتباع الظن ، وهو لا يغني من الحق شيئا.

مدارك التفسير :

ولا بد للمفسر من أن يتبع الظواهر التي يفهمها العربي الصحيح ـ فقد بيّنا لك

٣٩٧

حجية الظواهر ـ أو يتبع ما حكم به العقل الفطري الصحيح فإنه حجة من الداخل كما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجة من الخارج ، أو يتبع ما ثبت عن المعصومين عليهم‌السلام فإنهم المراجع في الدين ، والّذين أوصى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوجوب التمسك بهم فقال :

«إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا (١).

ولا شبهة في ثبوت قولهم عليهم‌السلام إذا دل عليه طريق قطعي لا شك فيه كما أنه لا شبهة في عدم ثبوته إذا دل عليه خبر ضعيف غير جامع لشرائط الحجية ، وهل يثبت بطريق ظني دل على اعتباره دليل قطعي؟ فيه كلام بين الأعلام.

وقد يشكل :

في حجية خبر الواحد الثقة إذا ورد عن المعصومين عليهم‌السلام في تفسير الكتاب ، ووجه الإشكال في ذلك أن معنى الحجية التي ثبتت لخبر الواحد ، أو لغيره من الأدلة الظنية هو وجوب ترتيب الآثار عليه عملا في حال الجهل بالواقع ، كما تترتب على الواقع لو قطع به وهذا المعنى لا يتحقق إلا إذا كان مؤدى الخبر حكما شرعيا ، أو موضوعا قد رتب الشارع عليه حكما شرعيا ، وهذا الشرط قد لا يوجد في خبر الواحد الذي يروى عن المعصومين في التفسير.

وهذا الإشكال : خلاف التحقيق ، فإنا قد أوضحنا في مباحث «علم الأصول» أن معنى الحجية في الامارة الناظرة إلى الواقع هو جعلها علما تعبديا في حكم الشارع ، فيكون الطريق المعتبر فردا من أفراد العلم ، ولكنه فرد تعبدي لا وجداني

__________________

(١) يأتي بعض مصادر الحديث في التعليقة رقم (١) من قسم التعليقات من هذا الكتاب ، وفي كنز العمال : ١ / ١٥٣ و ٣٣٢ ـ باب الاعتصام بالكتاب والسنة طبعة دائرة المعارف العثمانية ـ الشيء الكثير من طرق هذه الرواية.

٣٩٨

فيترتب عليه كلما يترتب على القطع من الآثار ، فيصح الاخبار على طبقة كما يصح أن يخبر على طبق العلم الوجداني ، ولا يكون من القول بغير علم.

ويدلنا على ذلك سيرة العقلاء ، فإنهم يعاملون الطريق المعتبر معاملة العلم الوجداني من غير فرق بين الآثار ، فإن اليد مثلا امارة عند العقلاء على مالكية صاحب اليد لما في يده ، فهم يرتبون له آثار المالكية ، وهم يخبرون عن كونه مالكا للشيء بلا نكير ، ولم يثبت من الشارع ردع لهذه السيرة العقلائية المستمرة.

نعم يعتبر في الخبر الموثوق به ، وفي غيره من الطرق المعتبرة أن يكون جامعا لشرائط الحجية ، ومنها أن لا يكون الخبر مقطوع الكذب ، فإن مقطوع الكذب لا يعقل أن يشمله دليل الحجية والتعبد ، وعلى ذلك فالاخبار التي تكون مخالفة للاجماع ، أو للسنة القطعية ، أو الكتاب ، أو الحكم العقلي الصحيح لا تكون حجة قطعا ، وإن استجمعت بقية الشرائط المعتبرة في الحجية. ولا فرق في ذلك بين الأخبار المتكفلة لبيان الحكم الشرعي وغيرها.

والسر في ذلك : أن الراوي مهما بلغت به الوثاقة ، فإن خبره غير مأمون من مخالفة الواقع ، إذ لا أقل من احتمال اشتباه الأمر عليه ، وخصوصا إذا كثرت الوسائط ، فلا بدّ من التشبث بدليل الحجية في رفع هذا الاحتمال ، وفرضه كالمعدوم. وأما القطع بالخلاف ، وبعدم مطابقة الخبر للواقع فلا يعقل التعبد بعدمه ، لأن كاشفية القطع ذاتية ، وحجيته ثابتة بحكم العقل الضروري.

وإذن فلا بد من اختصاص دليل الحجية بغير الخبر الذي يقطع بكذبه وبمخالفته للواقع. وهكذا الشأن في غير الخبر من الطرق المعتبرة الاخرى التي تكشف عن الواقع ، وهذا باب تنفتح منه أبواب كثيرة ، وبه يجاب عن كثير من الإشكالات والاعتراضات فلتكن على ذكر منه.

٣٩٩

تخصيص القرآن بخبر الواحد :

إذا ثبتت حجية الخبر الواحد بدليل قطعي فهل يخصص به عموم ما ورد في الكتاب العزيز؟ ذهب المشهور إلى جواز ذلك ، وخالف فيه فريق من علماء أهل السنة ، فمنعه بعضهم على الإطلاق. وقال عيسى بن أبان : إن كان العام الكتابي قد خص ـ من قبل ـ بدليل مقطوع به جاز تخصيصه بخبر الواحد وإلا لم يجز. وقال الكرخي : إذا خص العام بدليل منفصل جاز تخصيصه بعد ذلك بخبر الواحد وإلا فلا. وذهب القاضي أبو بكر إلى الوقف (١).

والذي نختاره :

هو القول المشهور. والدليل على ذلك ان الخبر ـ كما فرضنا ـ قطعي الحجية ، ومقتضي ذلك أنه يجب العمل بموجبه ما لم يمنع منه مانع.

شبهات وأقوال :

وما توهم منعه عن ذلك امور لا تصلح للمنع :

١ ـ قالوا : إن الكتاب العزيز كلام الله العظيم المنزل على نبيه الكريم ، وذلك قطعي لا شبهة فيه. وأما خبر الواحد فلا يقين بمطابقته للواقع ، ولا بصدور مضمونه عن المعصوم إذ لا أقل من احتمال اشتباه الراوي. والعقل لا يجوّز أن ترفع اليد عن أمر مقطوع به لدليل يحتمل فيه الخطأ.

والجواب عن ذلك :

ان الكتاب ـ وإن كان قطعي الصدور ـ إلا أنه لا يقين بأن الحكم الواقعي على

__________________

(١) اصول الأحكام للآمدي : ٣ / ٤٧٢.

٤٠٠