البيان في تفسير القرآن

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي

البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

فهم ساهون» فلتقرّ عيون المجوزين لذلك. سبحانك اللهم إن هذا إلا بهتان عظيم. وقد قال الله تعالى :

(قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) «١٠ : ١٥».

وإذا لم يكن للنبي أن يبدّل القرآن من تلقاء نفسه ، فكيف يجوّز ذلك لغيره؟ وإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علّم براء بن عازب دعاء كان فيه : «ونبيك الذي أرسلت» فقرأ براء «ورسولك الذي أرسلت» فأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يضع الرسول موضع النبي (١). فإذا كان هذا في الدعاء ، فما ذا يكون الشأن في القرآن؟. وإن كان المراد من الوجه المتقدم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ على الحروف السبعة ـ ويشهد لهذا كثير من الروايات المتقدمة ـ فلا بد للقائل بهذا أن يدلّ على هذه الحروف السبعة التي قرأ بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأن الله سبحانه قد وعد بحفظ ما أنزله :

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) «٩ : ١٥».

ثالثا : أنه صرحت الروايات المتقدمة بأن الحكمة في نزول القرآن على سبعة أحرف هي التوسعة على الامة ، لأنهم لا يستطيعون القراءة على حرف واحد ، وأن هذا هو الذي دعا النبي إلى الاستزادة إلى سبعة أحرف. وقد رأينا أن اختلاف القراءات أوجب أن يكفّر بعض المسلمين بعضا. حتى حصر عثمان القراءة بحرف واحد ، وأمر بإحراق بقية المصاحف.

ويستنتج من ذلك امور :

١ ـ إن الاختلاف في القراءة كان نقمة على الأمة. وقد ظهر ذلك في عصر عثمان ،

__________________

(١) التبيان : ص ٥٨.

١٨١

فكيف يصح أن يطلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الله ما فيه فساد الأمة. وكيف يصح على الله أن يجيبه إلى ذلك؟ وقد ورد في كثير من الروايات النهي عن الاختلاف. وأن فيه هلاك الأمة. وفي بعضها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تغير وجهه واحمرّ حين ذكر له الاختلاف في القراءة. وقد تقدم جملة منها ، وسيجيء بعد هذا جملة اخرى.

٢ ـ قد تضمنت الروايات المتقدمة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إن أمتي لا تستطيع ذلك «القراءة على حرف واحد» وهذا كذب صريح ، لا يعقل نسبته إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنا نجد الامة بعد عثمان على اختلاف عناصرها ولغاتها قد استطاعت أن تقرأ القرآن على حرف واحد ، فكيف يكون من العسر عليها أن تجتمع على حرف واحد في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد كانت الأمة من العرب الفصحى.

٣ ـ إن الاختلاف الذي أوجب لعثمان أن يحصر القراءة في حرف واحد قد اتفق في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد أقرّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كل قارئ على قراءته ، وأمر المسلمين بالتسليم لجميعها ، وأعلمهم بأن ذلك رحمة من الله لهم ، فكيف صح لعثمان ، ولتابعيه سد باب الرحمة ، مع نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن المنع عن قراءة القرآن ، وكيف جاز للمسلمين رفض قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخذ قول عثمان وإمضاء عمله ، أفهل وجدوه أرأف بالأمة من نبيها أو أنه تنبه لشىء قد جهله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل وحاشاه ، أو أن الوحي قد نزل على عثمان بنسخ تلك الحروف؟!.

وخلاصة الكلام : أن بشاعة هذا القول تغني عن التكلف عن ردّه ، وهذه هي العمدة في رفض المتأخرين من علماء أهل السنة لهذا القول. ولأجل ذلك قد التجأ بعضهم كأبي جعفر محمد بن سعدان النحوي ، والحافظ جلال الدين السيوطي إلى القول بأن هذه الروايات من المشكل والمتشابه ، وليس يدرى ما هو مفادها (١). مع

__________________

(١) التبيان : ص ٦١.

١٨٢

أنك قد عرفت أن مفادها أمر ظاهر ، ولا يشك فيه الناظر إليها ، كما ذهب اليه واختاره أكثر العلماء.

٢ ـ الأبواب السبعة :

ان المراد بالأحرف السبعة هي الأبواب السبعة التي نزل منها القرآن وهي زجر ، وأمر ، وحلال ، وحرام ، ومحكم ، ومتشابه ، وأمثال.

واستدل عليه بما رواه يونس ، بإسناده ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال :

«كان الكتاب الأول نزل من باب واحد على حرف واحد ، ونزل القرآن من سبعة أبواب وعلى سبعة أحرف : زجر ، وأمر ، وحلال ، وحرام ، ومحكم ، ومتشابه ، وأمثال. فأحلّوا حلاله ، وحرّموا حرامه ، وافعلوا ما أمرتم به ، وانتهوا عما نهيتم عنه ، واعتبروا بأمثاله ، واعملوا بمحكمه ، وآمنوا بمتشابهه ، وقولوا آمنّا به كلّ من عند ربنا» (١).

ويرد على هذا الوجه :

١ ـ أن ظاهر الرواية كون الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن غير الأبواب السبعة التي نزل منها ، فلا يصح ان يجعل تفسيرا لها ، كما يريده أصحاب هذا القول.

٢ ـ أن هذه الرواية معارضة برواية أبي كريب ، بإسناده عن ابن مسعود. قال :

إن الله أنزل القرآن على خمسة أحرف : حلال ، وحرام ، ومحكم ، ومتشابه ، وأمثال (٢).

__________________

(١) تفسير الطبري : ١ / ٢٣.

(٢) تفسير الطبري : ١ / ٢٤.

١٨٣

٣ ـ ان الرواية مضطربة في مفادها ، فإن الزجر والحرام بمعنى واحد ، فلا تكون الأبواب سبعة ، على أن في القرآن أشياء اخرى لا تدخل في هذه الأبواب السبعة ، كذكر المبدأ والمعاد ، والقصص ، والاحتجاجات والمعارف ، وغير ذلك. وإذا أراد هذا القائل أن يدرج جميع هذه الأشياء في المحكم والمتشابه كان عليه أن يدرج الأبواب المذكورة في الرواية فيهما أيضا ، ويحصر القرآن في حرفين «المحكم والمتشابه» فإن جميع ما في القرآن لا يخلو من أحدهما.

٤ ـ ان اختلاف معاني القرآن على سبعة أحرف لا يناسب ما دلت عليه الأحاديث المتقدمة من التوسعة على الأمة ، لأنها لا تتمكن من القراءة على حرف واحد.

٥ ـ ان في الروايات المتقدمة ما هو صريح في أن الحروف السبعة هي الحروف التي كانت تختلف فيها القرّاء ، وهذه الرواية إذا تمت دلالتها لا تصلح قرينة على خلافها.

٣ ـ الأبواب السبعة بمعنى آخر :

إن الحروف السبعة هي : الأمر ، والزجر ، والترغيب ، والترهيب ، والجدل ، والقصص ، والمثل. واستدل على ذلك برواية محمد بن بشار ، بإسناده ، عن أبي قلامة قال :

«بلغني أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : انزل القرآن على سبعة أحرف : أمر ، وزجر ، وترغيب ، وترهيب ، وجدل ، وقصص ، ومثل» (١).

وجوابه يظهر مما قدمناه في جواب الوجه الثاني.

__________________

(١) تفسير الطبري : ١ / ٢٤.

١٨٤

٤ ـ اللغات الفصيحة :

إن الأحرف السبعة هي اللغات الفصيحة من لغات العرب ، وأنها متفرقة في القرآن فبعضه بلغة قريش ، وبعضه بلغة هذيل ، وبعضه بلغة هوازن ، وبعضه بلغة اليمن ، وبعضه بلغة كنانة ، وبعضه بلغة تميم ، وبعضه بلغة ثقيف. ونسب هذا القول الى جماعة ، منهم : البيهقي ، والأبهري ، وصاحب القاموس.

ويرده :

١ ـ ان الروايات المتقدمة قد عينت المراد من الأحرف السبعة ، فلا يمكن حملها على أمثال هذه المعاني التي لا تنطبق على موردها.

٢ ـ ان حمل الأحرف على اللغات ينافي ما روي عن عمر من قوله : نزل القرآن بلغة مضر (١). وانه أنكر على ابن مسعود قراءته «عتى حين» أي حتى حين ، وكتب اليه أن القرآن لم ينزل بلغة هذيل ، فأقرئ الناس بلغة قريش ، ولا تقرئهم بلغة هذيل (٢).

وما روي عن عثمان أنه قال : «للرهط القرشيين الثلاثة ، إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شىء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ، فإنما نزل بلسانهم» (٣).

وما روي : «من أن عمر وهشام بن حكيم اختلفا في قراءة سورة الفرقان ، فقرأ هشام قراءة. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هكذا أنزلت ، وقرأ عمر قراءة غير تلك القراءة. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هكذا أنزلت ، ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن هذا القرآن أنزل

__________________

(١) التبيان : ص ٦٤.

(٢) نفس المصدر : ص ٦٥.

(٣) صحيح البخاري : ١ / ١٥٦ ، كتاب المناقب ، باب نزل القرآن بلسان قريش ، رقم الحديث : ٣٢٤٤.

١٨٥

على سبعة أحرف» (١).

فإن عمر وهشام كان كلاهما من قريش ، فلم يكن حينئذ ما يوجب اختلافهما في القراءة ، ويضاف إلى جميع ذلك أن حمل الأحرف على اللغات قول بغير علم ، وتحكّم من غير دليل

٣ ـ ان القائلين بهذا القول إن أرادوا أن القرآن اشتمل على لغات اخرى ، كانت لغة قريش خالية منها ، فهذا المعنى خلاف التسهيل على الأمة ، الذي هو الحكمة في نزول القرآن على سبعة أحرف ، على ما نطقت الروايات بذلك ، بل هو خلاف الواقع ، فإن لغة قريش هي المهيمنة على سائر لغات العرب ، وقد جمعت من هذه اللغات ما هو أفصحها ، ولذلك استحقت أن توزن بها العربية ، وأن يرجع إليها في قواعدها.

وإن أرادوا أن القرآن مشتمل على لغات اخرى ولكنها تتحد مع لغة قريش ، فلا وجه للحصر بلغات سبع ، فإن في القرآن ما يقرب من خمسين لغة. فعن أبي بكر الواسطي : في القرآن من اللغات خمسون لغة ، وهي لغات قريش ، وهذيل ، وكنانة ، وخثعم ، والخزرج ، وأشعر ، ونمير ... (٢).

٥ ـ لغات مضر :

إن الأحرف السبعة هي سبع لغات من لغات مضر خاصة ، وانها متفرقة في القرآن ، وهي لغات قريش ، وأسد ، وكنانة ، وهذيل ، وتميم ، وضبّة ، وقيس.

ويرد عليه جميع ما أوردناه على الوجه الرابع.

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب الخصومات ، رقم الحديث : ٢٢٤١.

(٢) راجع الإتقان : ١ / ٢٠٤ ـ ٢٣٠ ، النوع ٣٧.

١٨٦

٦ ـ الاختلاف في القراءات :

إن الأحرف السبعة هي وجوه الاختلاف في القراءات. قال بعضهم : إني تدبّرت وجوه الاختلاف في القراءة فوجدتها سبعا.

فمنها : ما تتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته مثل : (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) بضم أطهر وفتحه.

ومنها : ما تتغير صورته ويتغير معناه بالإعراب مثل : (رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) بصيغة الأمر والماضي.

ومنها : ما تبقى صورته ويتغير معناه باختلاف الحروف مثل : «كالعهن المنفوش و «كالصوف المنفوش».

ومنها : ما تتغير صورته ومعناه مثل : «وطلح منضود» و «طلع منضود».

ومنها : بالتقديم والتأخير مثل : «وجاءت سكرة الموت بالحق» ، و «جاءت سكرة الحق بالموت».

ومنها : بالزيادة والنقصان : «تسع وتسعون نعجة أنثى». و «أما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين». «فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم».

ويردّه :

١ ـ ان ذلك قول لا دليل عليه ، ولا سيما ان المخاطبين في تلك الروايات لم يكونوا يعرفون من ذلك شيئا.

٢ ـ ان من وجوه الاختلاف المذكورة ما يتغير فيه المعنى وما لا يتغير ، ومن الواضح أن تغير المعنى وعدمه لا يوجب الانقسام إلى وجهين ، لأن حال اللفظ

١٨٧

والقراءة لا تختلف بذلك ، ونسبة الاختلاف إلى اللفظ في ذلك من قبيل وصف الشيء بحال متعلقه. ولذلك يكون الاختلاف في «طلح منضود. وكالعهن المنفوش» قسما واحدا.

٣ ـ ان من وجوه الاختلاف المذكور بقاء الصورة للّفظ ، وعدم بقائها ، ومن الواضح أيضا أن ذلك لا يكون سببا للانقسام ، لأن بقاء الصورة إنما هو في المكتوب لا في المقروء ، والقرآن اسم للمقروء لا للمكتوب والمنزل من السماء إنما كان لفظا لا كتابة. وعلى هذا يكون الاختلاف في «وطلح. وننشزها» وجها واحدا لا وجهين.

٤ ـ ان صريح الروايات المتقدمة أن القرآن نزل في ابتداء الأمر على حرف واحد. ومن البين أن المراد بهذا الحرف الواحد ليس هو أحد الاختلافات المذكورة ، فكيف يمكن أن يراد بالسبعة مجموعها!.

٥ ـ ان كثيرا من القرآن موضع اتفاق بين القراء ، وليس موردا للاختلاف ، فإذا أضفنا موضع الاتفاق إلى موارد الاختلاف بلغ ثمانية. ومعنى هذا أن القرآن نزل على ثمانية أحرف.

٦ ـ أن مورد الروايات المتقدمة هو اختلاف القراء في الكلمات ، وقد ذكر ذلك في قصة عمر وغيرها. وعلى ما تقدم فهذا الاختلاف حرف واحد من السبعة ، ولا يحتاج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رفع خصومتهم إلى الاعتذار بأن القرآن نزل على الأحرف السبعة ، وهل يمكن أن يحمل نزول جبريل بحرف ، ثم بحرفين ، ثم بثلاثة. ثم بسبعة على هذه الاختلافات؟! وقد أنصف الجزائري في قوله : «والأقوال في هذه المسألة كثيرة ، وغالبها بعيد عن الصواب». وكأن القائلين بذلك ذهلوا عن مورد

١٨٨

حديث انزل القرآن على سبعة أحرف ، فقالوا ما قالوا (١).

٧ ـ اختلاف القراءات بمعنى آخر :

ان الأحرف السبعة هي وجوه الاختلاف في القراءة ، ولكن بنحو آخر غير ما تقدم. وهذا القول اختاره الزرقاني ، وحكاه عن أبي الفضل الرازي في اللوائح.

فقال : الكلام لا يخرج عن سبعة أحرف في الاختلاف الأول : اختلاف الأسماء من إفراد ، وتثنية ، وجمع ، وتذكير ، وتأنيث. الثاني : اختلاف تصريف الأفعال من ماض ، ومضارع ، وأمر. الثالث : اختلاف الوجوه في الأعراب. الرابع : الاختلاف بالنقص والزيادة. الخامس : الاختلاف بالتقديم والتأخير. السادس : الاختلاف بالإبدال.

السابع : اختلاف اللغات «اللهجات» كالفتح ، والامالة ، والترقيق ، والتفخيم ، والإظهار ، والإدغام ، ونحو ذلك.

ويرد عليه :

ما أوردناه على الوجه السادس في الإشكال الأول والرابع والخامس منه ، ويردّه أيضا : أن الاختلاف في الأسماء يشترك مع الاختلاف في الأفعال في كونهما اختلافا في الهيئة ، فلا معنى لجعله قسما آخر مقابلا له. ولو راعينا الخصوصيات في هذا التقسيم لوجب علينا أن نعد كل واحد من الاختلاف في التثنية ، والجمع ، والتذكير ، والتأنيث ، والماضي ، والمضارع ، والأمر قسما مستقلا. ويضاف إلى ذلك أن الاختلاف في الإدغام ، والإظهار ، والروم ، والإشمام ، والتخفيف والتسهيل في اللفظ الواحد لا يخرجه عن كونه لفظا واحدا. وقد صرح بذلك ابن قتيبة على ما حكاه الزرقاني

__________________

(١) التبيان : ص ٥٩.

١٨٩

عنه (١).

والصحيح أن وجوه الاختلاف في القراءة ترجع إلى ستة أقسام :

الأول : الاختلاف في هيئة الكلمة دون مادتها ، كالاختلاف في لفظة «باعد» بين صيغة الماضي والأمر ، وفي كلمة «أمانتهم» بين الجمع والافراد.

الثاني : الاختلاف في مادة الكلمة دون هيئتها ، كالاختلاف في لفظة «ننشرها» بين الراء والزاي.

الثالث : الاختلاف في المادة والهيئة كالاختلاف في «العهن والصوف».

الرابع : الاختلاف في هيئة الجملة بالإعراب ، كالاختلاف «وأرجلكم» بين النصب والجر.

الخامس : الاختلاف بالتقديم والتأخير ، وقد تقدم مثال ذلك.

السادس : الاختلاف بالزيادة والنقيصة ، وقد تقدم مثاله أيضا.

٨ ـ الكثرة في الآحاد :

ان لفظ السبعة يراد منه الكثرة في الآحاد ، كما يراد من لفظ السبعين والسبعمائة الكثرة في العشرات أو المئات. ونسب هذا القول إلى القاضي عيّاض ومن تبعه.

ويرده :

ان هذا خلاف ظاهر الروايات ، بل خلاف صريح بعضها. على أن هذا لا يعدّ قولا مستقلا عن الوجوه الاخرى ، لأنه لم يعين معنى الحروف فيه ، فلا بد وان يراد من الحروف أحد المعاني المذكورة في الوجوه المتقدمة ، ويرد عليه ما يرد من

__________________

(١) مناهل العرفان : ص ١٥٤.

١٩٠

الاشكال على تلك الوجوه.

٩ ـ سبع قراءات :

ومن تلك الوجوه ان الأحرف السبعة «موضوعة البحث» هي سبع قراءات.

ويردّه :

ان هذه القراءات السبع إن أريد بها السبع المشهورة ، فقد أوضحنا للقارئ بطلان هذا الاحتمال في البحث عن تواتر القراءات ـ وقد تقدم ذلك ـ في باب «نظرة في القراءات».

وان أريد بها قراءات سبع على إطلاقها ، فمن الواضح أن عدد القراءات أكثر من ذلك بكثير ، ولا يمكن أن يوجه ذلك بأن غاية ما ينتهي اليه اختلاف القراءات أكثر من ذلك بكثير ، الواحدة هي السبع ، لأنه إن أريد أن الغالب في كلمات القرآن أن تقرأ على سبعة وجوه فهذا باطل ، لأن الكلمات التي تقرأ على سبعة وجوه قليلة جدا. وإن أريد أن ذلك موجود في بعض الكلمات وعلى سبيل الإيجاب الجزئي فمن الواضح أن في كلمات القرآن ما يقرأ بأكثر من ذلك فقد قرأت كلمة «وعبد الطاغوت» باثنين وعشرين وجها ، وفي كلمة «أفّ» أكثر من ثلاثين وجها. ويضاف إلى ما تقدم ان هذا القول لا ينطبق على مورد الروايات ، ومثله أكثر الأقوال في المسألة.

١٠ ـ اللهجات المختلفة :

إن الأحرف السبع يراد بها اللهجات المختلفة في لفظ واحد ، اختاره الرافعي في كتابه (١).

__________________

(١) إعجاز القرآن : ص ٧٠.

١٩١

وتوضيح القول : أن لكل قوم من العرب لهجة خاصة في تأدية بعض الكلمات ، ولذلك نرى العرب يختلفون في تأدية الكمة الواحدة حسب اختلاف لهجاتهم فالقاف في كلمة «يقول» مثلا يبدلها العراقي بالكاف الفارسية ، ويبدلها الشامي بالهمزة ، وقد أنزل القرآن على جميع هذه اللهجات للتوسعة على الأمة ، لأن الالتزام بلهجة خاصة من هذه اللهجات فيه تضييق على القبائل الأخرى التي لم تألف هذه اللهجة ، والتعبير بالسبع إنما هو رمز إلى ما ألفوه من معنى الكمال في هذه اللفظة ، فلا ينافي ذلك كثرة اللهجات العربية ، وزيادتها على السبع.

الردّ :

وهذا الوجه ـ على أنه أحسن الوجوه التي قيلت في هذا المقام ـ غير تام أيضا :

١ ـ لأنه ينافي ما ورد عن عمر وعثمان من أن القرآن نزل بلغة قريش ، وأن عمر منع ابن مسعود من قراءة «عتى حين».

٢ ـ ولأنه ينافي مخاصمة عمر مع هشام بن حكيم في القراءة ، مع أن كليهما من قريش.

٣ ـ ولأنه ينافي مورد الروايات ، بل وصراحة بعضها في أن الاختلاف كان في جوهر اللفظ ، لا في كيفية أدائه ، وان هذا من الأحرف التي نزل بها القرآن.

٤ ـ ولأن حمل لفظ السبع ـ على ما ذكره خلاف ـ ظاهر الروايات ، بل وخلاف صريح بعضها.

٥ ـ ولأن لازم هذا القول جواز القراءة فعلا باللهجات المتعددة ، وهو خلاف السيرة القطعية من جميع المسلمين ، ولا يمكن أن يدّعي نسخ جواز القراءة بغير اللهجة الواحدة المتعارفة ، لأنه قول بغير دليل ، ولا يمكن لقائله أن يستدل على

١٩٢

النسخ بالإجماع القطعي على ذلك ، لأن مدرك الإجماع إنما هو عدم ثبوت نزول القرآن على اللهجات المختلفة ، فإذا فرضنا ثبوت ذلك كما يقوله أصحاب هذا القول فكيف يمكن تحصيل الإجماع على ذلك؟ مع أن إصرار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على نزول القرآن على سبعة أحرف إنما كان للتوسعة على الأمة ، فكيف يمكن أن يختص ذلك بزمان قليل بعد نزول القرآن ، وكيف يصح أن يقوم على ذلك إجماع أو غيره من الأدلة؟! ومن الواضح أن الامة ـ بعد ذلك ـ أكثر احتياجا إلى التوسعة ، لأن المعتنقين للإسلام في ذلك الزمان قليلون. فيمكنهم أن يجتمعوا في قراءة القرآن على لهجة واحدة ، وهذا بخلاف المسلمين في الأزمنة المتأخرة ، ولنقتصر على ما ذكرناه من الأقوال فإن فيه كفاية عن ذكر البقية والتعرض لجوابها وردّها.

وحاصل ما قدمناه : أن نزول القرآن على سبعة أحرف لا يرجع إلى معنى صحيح ، فلا بدّ من طرح الروايات الدالة عليه ، ولا سيما بعد أن دلّت أحاديث الصادقين عليهم‌السلام على تكذيبها ، وأن القرآن. إنما نزل على حرف واحد ، وان الاختلاف قد جاء من قبل الرواة.

١٩٣
١٩٤

صيانة القرآن من التحريف

١٩٥

ـ وقوع التحريف المعنوي في القرآن باتفاق المسلمين.

ـ التحريف الذي لم يقع في القرآن بلا خلاف.

ـ التحريف الذي وقع فيه الخلاف.

ـ تصريحات أعلام الإمامية بعدم التحريف كجزء من معتقداتهم.

ـ نسخ التلاوة مذهب مشهور بين علماء أهل السنة.

ـ كلمات مشاهير الصحابة في وقوع التحريف.

ـ القول بنسخ التلاوة هو نفس القول بالتحريف.

ـ الأدلة الخمسة على نفي التحريف.

ـ شبهات القائلين بالتحريف.

١٩٦

يحسن بنا ـ قبل الخوض في صميم الموضوع ـ أن نقدم أمام البحث أمورا ، لها صلة بالمقصود ، لا يستغنى عنها في تحقيق الحال وتوضيحها.

١ ـ معنى التحريف :

يطلق لفظ التحريف ويراد منه عدة معان على سبيل الاشتراك ، فبعض منها واقع في القرآن باتفاق من المسلمين ، وبعض منها لم يقع فيه باتفاق منهم أيضا ، وبعض منها وقع الخلاف بينهم. وإليك تفصيل ذلك (١) :

الأول : «نقل الشيء عن موضعه وتحويله إلى غيره» ومنه قوله تعالى :

(مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) «٤ : ٤٦».

ولا خلاف بين المسلمين في وقوع مثل هذا التحريف في كتاب الله فإن كل من فسّر القرآن بغير حقيقته ، وحمله على غير معناه فقد حرّفه. وترى كثيرا من أهل

__________________

(١) انظر التعليقة رقم (٦) تقديم دار التقريب لهذا البحث في قسم التعليقات. (المؤلف)

١٩٧

البدع ، والمذاهب الفاسدة قد حرّفوا القرآن بتأويلهم آياته على آرائهم وأهوائهم.

وقد ورد المنع عن التحريف بهذا المعنى ، وذم فاعله في عدة من الروايات. منها :

رواية الكافي بإسناده عن الباقر عليه‌السلام أنه كتب في رسالته إلى سعد الخير :

«وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده ، فهم يروونه ولا يرعونه ، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية ، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية ...» (١).

الثاني : «النقص أو الزيادة في الحروف أو في الحركات ، مع حفظ القرآن وعدم ضياعه ، وإن لم يكن متميزا في الخارج عن غيره».

والتحريف بهذا المعنى واقع في القرآن قطعا ، فقد أثبتنا لك فيما تقدم عدم تواتر القراءات ، ومعنى هذا أن القرآن المنزل إنما هو مطابق لإحدى القراءات ، وأما غيرها فهو إما زيادة في القرآن وإما نقيصة فيه.

الثالث : «النقص أو الزيادة بكلمة أو كلمتين ، مع التحفظ على نفس القرآن المنزل».

والتحريف بهذا المعنى قد وقع في صدر الإسلام ، وفي زمان الصحابة قطعا ، ويدلنا على ذلك إجماع المسلمين على أن عثمان أحرق جملة من المصاحف وأمر ولاته بحرق كل مصحف غير ما جمعه ، وهذا يدل على أن هذه المصاحف كانت مخالفة لما جمعه ، وإلا لم يكن هناك سبب موجب لإحراقها ، وقد ضبط جماعة من العلماء موارد الاختلاف بين المصاحف ، منهم عبد الله بن أبي داود السجستاني ، وقد سمى كتابه هذا بكتاب المصاحف. وعلى ذلك فالتحريف واقع لا محالة إما من عثمان أو من كتّاب

__________________

(١) الكافي : ٨ / ٥٣ ، رقم الحديث : ١٦.

١٩٨

تلك المصاحف ، ولكنا سنين بعد هذا إن شاء الله تعالى أن ما جمعه عثمان كان هو القرآن المعروف بين المسلمين ، الذي تداولوه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدا بيد. فالتحريف بالزيادة والنقيصة إنما وقع في تلك المصاحف التي انقطعت بعد عهد عثمان ، وأما القرآن الموجود فليس فيه زيادة ولا نقيصة.

وجملة القول : إن من يقول بعدم تواتر تلك المصاحف ـ كما هو الصحيح ـ فالتحريف بهذا المعنى وإن كان قد وقع عنده في الصدر الأول إلّا أنه قد انقطع في زمان عثمان ، وانحصر المصحف بما ثبت تواتره عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأما القائل بتواتر المصاحف بأجمعها ، فلا بد له من الالتزام بوقوع التحريف بالمعنى المتنازع فيه في القرآن المنزل ، وبضياع شىء منه. وقد مرّ عليك تصريح الطبري ، وجماعة آخرين بإلغاء عثمان للحروف الستة التي نزل بها القرآن ، واقتصاره على حرف واحد (١).

الرابع : «التحريف بالزيادة والنقيصة في الآية والسورة مع التحفظ على القرآن المنزل ، والتسالم على قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إياها».

والتحريف بهذا المعنى أيضا واقع في القرآن قطعا. فالبسملة ـ مثلا ـ مما تسالم المسلمون على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأها قبل كل سورة غير سورة التوبة وقد وقع الخلاف في كونها من القرآن بين علماء السنة ، فاختار جمع منهم أنها ليست من القرآن ، بل ذهبت المالكية إلى كراهة الإتيان بها قبل قراءة الفاتحة في الصلاة المفروضة ، إلا إذا نوى به المصلي الخروج من الخلاف ، وذهب جماعة اخرى إلى أن البسملة من القرآن.

وأما الشيعة فهم متسالمون على جزئية البسملة من كل سورة غير سورة التوبة ، واختار هذا القول جماعة من علماء السنة أيضا ـ وستعرف تفصيل ذلك عند تفسيرنا

__________________

(١) راجع ص ١٨٠ من هذا الكتاب.

١٩٩

سورة الفاتحة ـ وإذن فالقرآن المنزل من السماء قد وقع فيه التحريف يقينا ، بالزيادة أو بالنقيصة.

الخامس : «التحريف بالزيادة بمعنى أن بعض المصحف الذي بأيدينا ليس من الكلام المنزل».

والتحريف بهذا المعنى باطل بإجماع المسلمين ، بل هو مما علم بطلانه بالضرورة.

السادس : «التحريف بالنقيصة ، بمعنى أن المصحف الذي بأيدينا لا يشتمل على جميع القرآن الذي نزل من السماء ، فقد ضاع بعضه على الناس».

والتحريف بهذا المعنى هو الذي وقع فيه الخلاف فأثبته قوم ونفاه آخرون.

٢ ـ رأي المسلمين في التحريف :

المعروف بين المسلمين عدم وقوع التحريف في القرآن ، وأن الموجود بأيدينا هو جميع القرآن المنزل على النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد صرح بذلك كثير من الأعلام. منهم رئيس المحدثين الصدوق محمد بن بابويه ، وقد عدّ القول بعدم التحريف من معتقدات الإمامية. ومنهم شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي ، وصرح بذلك في أول تفسيره «التبيان» ونقل القول بذلك أيضا عن شيخه علم الهدى السيد المرتضى ، واستدلاله على ذلك بأتم دليل. ومنهم المفسر الشهير الطبرسي في مقدمة تفسيره «مجمع البيان» ، ومنهم شيخ الفقهاء الشيخ جعفر في بحث القرآن من كتابه «كشف الغطاء» وادّعى الإجماع على ذلك. ومنهم العلامة الجليل الشهشهاني في بحث القرآن من كتابه «العروة الوثقى» ونسب القول بعدم التحريف إلى جمهور المجتهدين. ومنهم المحدث الشهير المولى محسن القاساني في كتابيه (١). ومنهم بطل

__________________

(١) الوافي : ٥ / ٢٧٤ ، وعلم اليقين : ص ١٣٠.

٢٠٠