تفسير الصراط المستقيم - ج ٥

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٨

وجوهر الظّلمة على ضدّ ذلك ، ثمّ إنّ جوهر النور لم يزل يولّد الأولياء وهم الملائكة لا على سبيل التناكح ، بل على سبيل تولّد الحكمة من الحكيم ، والضّوء من المضيء وجوهر الظّلمة لم يزل يولد الأعداء وهم الشياطين على سبيل تولّد السّفه من السّفيه.

الملائكة عند أرباب الهياكل

ومنها : أرباب الهياكل وعبدة الأصنام ، فانّهم قالوا : إنّ الملائكة في الحقيقة هي هذه الكواكب المتصرّفة في هذا العالم بصورها وأشكالها وتشكّلاتها وأرواحها المحرّكة لها المدبرة للعالم السفلي ، لا على وجه القصد والالتفات ، فانّ العالي لا يلتفت إلى السّافل ، بل على وجه الإشراق والتجلّي ، ولذا زعموا أنّ لها أرواحا عالية قاهرة قوية ، وهي مختلفة بجواهرها ومهيّاتها ، وكما أنّ لكلّ روح من الأرواح البشريّة بدنا معيّنا ، فكذلك لكلّ روح من الأرواح الفلكيّة بدن وهو ذلك الفلك ، وله قلب وهو الكواكب المركوز فيه ، فتتعلّق الروح الفلكيّة أوّلا بقلبه ، ثمّ ينبعث من جرم الكوكب خطوط شعاعيّة تتّصل بها قوّة ذلك الكوكب ونوره إلى أجزاء العالم ، وكما أنّ بواسطة الأرواح الفائضة من القلب والدّماغ إلى أجزاء البدن يحصل في كلّ جزء منها قوى مختلفة كالقوى الحيوانيّة من السّامعة والباصرة والشّامة والذائقة واللامسة ، وكالقوى الطبيعيّة ، كالجاذبية والدّافعة والغاذية وغيرها ، فتكون هذه القوى كالنتائج والأولاد لجوهر النّفس المدبّرة لكلية البدن ، فكذلك بواسطة الخطوط الشعاعيّة المنبثة من الكوكب الواصلة إلى أجزاء هذا العالم يحصل في تلك الأجزاء

٨١

على حسب التأثيرات الجزئيّة وخصوصيّات القوابل والفواعل نفوس جزئيّة مخصوصة مثلا نفس زيد ونفس عمرو ونحوهما ، وهذه النفوس كالنتائج والأولاد لتلك النفوس الفلكيّة ، ولما اختلفت النفوس الفلكيّة اختلافا نوعيّا من حيث جواهرها ومهيّاتها فكذلك النفوس المتولّدة من نفس فلك زحل مثلا صنف من النّاس متجانسة متشاكلة في افرادها وجزئيّاتها ، إلّا أنّها متخالفة اختلافا ضيّقا للنّفوس المنتسبة إلى روح المشتري مثلا ثمّ نسبوا إلى كلّ من الكواكب شيئا من أصناف النّاس وسائر الحيوانات والأقاليم والأزمنة والسّاعات والأيّام واللّيالي والألوان والطّعوم والأثمار والنّباتات والرّوائح وغير ذلك ممّا ملئت منه كتب الأحكاميّين.

ثمّ أنّهم قالوا إنّ تلك الأرواح الفلكيّة كالأب المشفق والسّلطان المربّي لمواليدها ومنسوباتها ، ولذا سمّوها بالآباء العلويّة فتعيّن أولادها على صلاحها ونجاحها ، ولذا سوّلت لهم نفوسهم أن بنوا لكلّ منها بصورها المتوهّمة لها هياكل واشكالا وصورا عظّموها واستشفعوا بها وتقرّبوا إليها بالسجود إليها وغيره من أنواع التّعظيم والتكريم ، حتّى آل أمرهم إلى عبادتها ، وهذا الأصل الّذي سمعت هو الذي بنوا عليه علم أحكام النّجوم ، فسحقا لهم بما سوّلت لهم أنفسهم ان سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون.

قول المشركين في الملائكة

ومنها : ما تقوّله بعض المشركين ككفّار قريش وأحزابهم ، حيث قالوا : إنّ

٨٢

الملائكة بنات الله ، وجعلوا الملائكة الّذين هم عباد الرحمن إناثا ، وجعلوا له من عباده جزء فرد الله عليهم في محكم كتابه ، إلى غير ذلك من الأقوال التي لا جدوى للتّعرض لها ولا لإبطالها بعد قيام ضرورة الدّين واجماع المسلمين على ما سمعت الدّال على وجودهم أيضا في الجملة ، ولذا كنّا في غنى عن التكلّف لإثباتها بما تجشّمه بعض النّاس من الأدلّة الاقناعيّة التي استدلّ بها الرازي وغيره من انّه يبعد في العقل أن يحصل الحياة والعقل والنّطق في هذا العالم الكدر الظّلماني ولا يحصل في ذلك العالم الذي هو عالم الأضواء والأنوار وانّه أشرف أنواع الحي فهو أولى بالوجود من الأوسط الذي هو الحيوان النّاطق والأحسن الذي هي البهائم ونسى أصحاب المشاهدات والمكاشفات والمجاهدات شاهدوها في مشاهدهم النّورانية وأصحاب الحاجات والضرورات أثبتوها من عجائب آثارها في الهداية إلى المعالجات النّادرة الغريبة والاختراعات البديعة العجيبة وتركيبات المعجونات واستخراج صفة التّرياقات وغيرها من الآثار والأسرار ، لكنّها كما ترى قاصرة عن افادة المطلوب ، وانّما المعتمد ما سمعت ، وأمّا مواد وجوداتهم وكينوناتهم فالأصل فيها هو الرحمة الكليّة والكلمة الالهيّة والمراد بها نور نبيّنا محمّد وآله الطاهرين صلّى الله عليهم ، ولذا ورد في الاخبار الكثيرة التي مرّت إلى جملة منها الإشارة إلى أنّ الملائكة والأنبياء خلقوا جميعا من أشعّة أنوارهم ومن فاضل طينتهم ، وانّ الملائكة العالين الذين هم أفضل أصناف الملائكة قوم من شيعتهم من الخلق الأوّل ، بل ورد أنّ سبب قربهم سبقهم ومبادرتهم إلى الإقرار بالولاية.

وقال الصادق عليه‌السلام : إنّ الله سبحانه وتعالى عرض ولايتنا على الملائكة فمن

٨٣

بادر إليها وعقد قلبه عليها صار من المقرّبين.

وفي «مصباح الأنوار» عن النّبي عليه‌السلام أنّ العرش خلق من نور النّبي عليه‌السلام وانّ الملائكة خلقوا من نور عليّ عليه‌السلام.

وعن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه خلق الله الملائكة وأسكنهم السّماء ثمّ ترائى لهم الله تعالى ثمّ أخذ عليهم الميثاق له بالرّبوبيّة ولمحمّد بالنّبوة ولعليّ بالولاية فاضطربت فرائض الملائكة فسخط الله عليهم واحتجب عنهم فلاذوا بالعرش سبع سنين يستجيرون الله من سخطه ويقرّون بما أخذ عليهم ويسألونه الرضا فرضي عنهم بعد ما أقرّوا بذلك وأسكنهم بذلك الإقرار السّماء واختصهم لنفسه واختارهم لعبادته ، ثم أمر الله تعالى أنوارنا أن تسبّح فسبّحت فسبّحوا بتسبيحنا ، ولو لا تسبيح أنوارنا ما دروا كيف يسبّحون الله ولا كيف يقدّسونه ، الخبر.

ثمّ أنّ هاهنا موادّا أخر لوجودهم ولذا ورد في كثير من الأعمال الحسنة والطّاعات المقبولة أنّ الله تعالى يخلق منها الملائكة فيسبّحون لصاحبها.

ففي خبر وضوء مولانا أمير المؤمنين أنّه قال لمحمّد بن حنفيّة يا محمّد من توضأ مثل وضوئي وقال مثل قولي خلق الله له من كلّ قطرة ماء ملكا يقدّسه ويسبّحه ويكبّره فيكتب الله له ثواب ذلك إلى يوم القيامة (١).

وفي تفسير الامام عليه‌السلام أنّ من قال في آخر وضوئه أو غسله من الجنابة سبحانك اللهم وبحمدك ... الدّعاء تحاتت عنه ذنوبه كما تتحات أوراق الشّجر وخلق الله بعدد كلّ قطرت من قطرات وضوئه او غسله ملكا يسبّح الله ويقدّسه ويهلّله

__________________

(١) المحاسن : ص ٤٥ ـ عن البحار ج ٨٠ ص ٣١٨.

٨٤

ويكبّره ويصلّي على محمد وآله الطيّبين وثواب ذلك لهذا المتوضئ (١).

بل قد روي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما رواه في «الأنوار» عن ابن عباس أنّه لما أسري به الى السّماء انتهى به جبرئيل الى نهر يقال له النّور وهو قول الله عزوجل وخلق الظّلمات والنّور فلمّا انتهى به إلى ذلك النهر فقال له جبرئيل اعبر يا محمّد على بركة الله فقد نوّر الله لك بصرك ومدّ لك ملكك فانّ هذا نهر لم يعبره أحد لا ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل غير أنّ لي في كلّ يوم اغتماسة فيه ثمّ اخرج منه فانفض أجنحتي فليس من قطرة تقطر من أجنحتي إلّا خلق الله تبارك وتعالى منها ملكا مقرّبا له عشرون ألف وجه وأربعون ألف لسان في كلّ لسان يلفظ بلغة لا يفهمها اللّسان الاخر فعبّر رسول الله عليه‌السلام حتّى انتهى إلى الحجب والحجب خمسمائة حجاب من حجاب إلى حجاب مسيرة خمسمائة عام (٢) ، الخبر بطوله.

وفيه عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ في السّماء الرابعة نهرا يقال له الحيوان يدخل فيه جبرئيل كلّ يوم طلعت فيه الشمس فإذا خرج انتفض انتفاضة جرف عنه سبعون ألف قطرة فيخلق الله من كلّ قطرة ملكا فيؤمرون أن يأتوا البيت المعمور فيصلّون فيه ثمّ لا يعودون فيه أبدا (٣).

ولا يخفى أنّ الملائكة المخلوقة من أفعال العباد وغيرها من الموادّ أيضا مخلوقة من أشعة أنوار محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الطّاهرين صلّى الله عليهم أجمعين ولو بواسطة أو وسائط بحسب القرب من المبدء والبعد عنه ، وأمّا استقصاء الكلام في ذكر

__________________

(١) تفسير الإمام ، ص ٢٣٩ وعنه البحار ج ٨٠ ص ٣١٦.

(٢) أمالي الصدوق : ص ٢١٣ ـ وعنه البحار ج ١٨ ص ٣٣٨.

(٣) بحار الأنوار : ج ٥٥ ص ٥٥ عن تفسير الطبرسي ج ٩ ص ١٦٦.

٨٥

أصناف الملائكة ومراتبهم وأوصافهم وشؤونهم وعصمتهم وغير ذلك من أحوالهم فسيأتي كلّ في موضعه من الآيات المتعلّقة بها.

بقي الكلام في أنّ المراد بالملائكة في الآية هل هو الكل نظرا إلى دلالة الجمع المحلّى على العموم الاستغراقي فيشمل جميع الأفراد أو البعض المطلق لكون اللام اشارة إلى الماهيّة الجنسيّة الصّادقة على الكلّ والبعض ، والمراد أنّه خاطب هذا الجنس من أجناس العالم ، أو خصوص من حارب منهم بني الجان وأسروا إبليس ، فيكون اللّام للعهد بأحد الوجهين وأن لم يجر له ذكر في خصوص ظواهر الآيات وجوه بل أقوال.

وقد مرّ في العلوي المروي عن القصص أنّه سبحانه كشط عن أطباق السماوات ثمّ قال للملائكة أنظروا إلى أهل الأرض من خلقي من الجنّ والنّسناس هل ترضون أعمالهم وطاعتهم لي فلمّا اطلعوا ورأوا ما يعملون فيها من المعاصي وسفك الدّماء والفساد في الأرض بغير الحقّ أعظموا ذلك وغضبوا لله (١) إلى آخر ما مرّ الظّاهر في كون الخطاب متوجّها إلى الجميع والعمدة عموم الكتاب الذي لم يظهر له مخصّص مضافا إلى ما ستسمع من كون المأمور بالسجود هو الجميع.

ولا يقدح فيه ما ورد عن أنّ أهل المدينتين اللّتين بالمشرق والمغرب لم يطّلعوا على خلق آدم (٢) لاستغراقهم في عبادته سبحانه ولعدم كونهم من الملائكة.

وكذا لا ينافيه ما روي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : مررنا ليلة المعراج بملائكة من

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥٧ ص ٣٢٤ عن قصص الراوندي.

(٢) بحار الأنوار : ج ٥٧ ص ٣٢٩.

٨٦

ملائكة الله عزوجل خلقهم الله تعالى كيف شاء ، ووضع وجوههم كيف شاء ، وليس شيء من أطباق وجوههم إلّا وهو يسبّح الله ويحمده من كلّ ناحية بأصوات مختلفة ، أصواتهم مرتفعة بالتسبيح والبكاء من خشية الله تعالى ، فسألت جبرائيل عنهم فقال : كما ترى خلقوا أنّ الملائكة منهم إلى جنب صاحبه ما كلمه قطّ ، ولا رفعوا رؤوسهم إلى ما فوقهم ، ولا خفضوا رؤوسهم إلى ما تحتهم ، خوفا من الله تعالى وخشوعا ، فسلّمت عليهم فردّوا عليّ إيماء برءوسهم ولا ينظرون إليّ من الخشوع ، فقال لهم جبرئيل عليه‌السلام : هذا محمّد نبيّ الرحمة أرسله الله إلى العباد رسولا ونبيّا وهو خاتم الأنبياء وسيّدهم أفلا تكلمونه ، قال : فلمّا سمعوا ذلك من جبرئيل أقبلوا عليّ بالسلام وبشّروني وأكرموني بالخير لي ولأمتي (١).

وأمّا ما رواه العامّة عن ابن عباس من أنّه سبحانه إنّما قال هذا القول للملائكة الذين كانوا محاربين مع إبليس لأنّ الله تعالى لمّا أسكن الجنّ الأرض فأفسدوا فيها وسفكوا الدّماء وقتل بعضهم بعضا فبعث الله إبليس في جند من الملائكة فقتلهم إبليس بعسكره حتى أخرجوهم من الأرض والحقوهم بجزائر البحر فقال تعالى لهم إنّي جاعل في الأرض خليفة (٢).

ففيه أنك ستسمع فيما يأتي أنّ إبليس لم يكن من الملائكة ، وأنّه لم يقاتل الجنّ بل قوتل بالملائكة فقتل حزبه وأسروا نفسه ، وأمّا كون المخاطبين خصوص المحاربين فهو غير واضح ايضا ، سيّما بعد ما سمعت من الكشط عن أطباق

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٨ ص ٣٢٤.

(٢) تفسير الفخر الرازي : ج ٢ ص ١٦٥.

٨٧

السّماوات (١) الظّاهر في إرادة الجميع.

نعم في تفسير الامام عليه‌السلام أنّه قال ذلك للملائكة الذين كانوا في الأرض مع إبليس وقد طردوا عنها الجنّ بني الجان (٢) الخبر على ما يأتي ، وفي بعض الاخبار الآتية ما يدلّ عليه ايضا ، لكنّها لا تقاوم الأخبار الدّالة على العموم المؤيّدة بظاهر الكتاب وبوقوع الاستدلال في كثير من الأخبار على فضل البشر على الملائكة بسجودهم لآدم.

بل في العيون عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّ الله فضّل أنبيائه المرسلين على ملائكته المقرّبين ، وفضّلني على جميع النّبيّين والمرسلين ، والفضل بعدي لك يا عليّ وللأئمّة من بعدك إلى أن قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ثمّ أنّ الله تبارك وتعالى خلق آدم فأودعنا صلبه ، وأمر الملائكة بالسّجود له تعظيما لنا وإكراما ، وكان سجودهم لله عزوجل عبوديّة ولآدم إكراما وطاعة ، لكوننا في صلبه فكيف لا تكون أفضل من الملائكة وقد سجدوا لآدم كلّهم أجمعون (٣).

وهو كما ترى صريح في العموم مع زيادة التأكيد لكن لا دلالة فيه على كون المقول لهم أو القائلين هم جميع المأمورين بالسجود بل في «العلل» عن الصّادق عليه‌السلام فيما يأتي في حجج الحشويّة أنّه تعالى لمّا أراد خلق آدم قال للملائكة : إنّي جاعل في الأرض خليفة فقال ملكان من الملائكة أتجعل فيها من يفسد فيها

__________________

(١) البّحار : ج ٥٧ ص ٣٢٤.

(٢) البحار : ج ١١ ص ١٢٧ عن تفسير الإمام عليه‌السلام

(٣) عيون الاخبار : ص ١٤٥ وعنه البحار ج ١١ ص ١٤٠.

٨٨

ويسفك الدّماء فوقع الحجب بينهما وبين الله عزوجل الخبر (١) على ما يأتي.

رابعها : في الإشارة إلى معاني الخلافة التي تختلف باختلاف مراتب الاستخلاف وهي عديدة منها : مجرّد إذهاب قوم بالإهلاك أو الإجلاء أو غيرهما واقامة غيرهم مقامهم في مساكنهم وأماكنهم ومكاناتهم كما في قوله : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) (٢) (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (٣) والخلافة بهذا المعنى تطلق مع القيام بمقتضاها من الايمان والعبوديّة وعدمه ، ولذا أطلق على الكافر في قوله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) (٤) وقوله : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) (٥) (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ) (٦) إلى غير ذلك من الإطلاقات الكثيرة الواردة في القرآن وغيره وفي الدّعاء : «ويهلك ملوكا ويستخلف آخرين» ، وبمثل هذه الإطلاقات أطلقت على الخلفاء الثلاثة وخلفاء بني أميّة وبني العبّاس وغيرهم من المنافقين المتخلّفين ، وعليه يحمل ما وضعوه وافتروه على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أنّه قال : الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، والّا فهم يزعمون أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يستخلف أحدا بعد وفاته ،

__________________

(١) علل الشرائع : ص ١٤٠ وعنه البحار ج ١١ ص ١٠٩ ح ٢٣.

(٢) الانعام : ١٣٣.

(٣) الأعراف : ١٢٩.

(٤) الانعام : ١٦٥.

(٥) الأعراف : ٦٩.

(٦) الأعراف : ٧٤.

٨٩

ولذا اعترض عليهم المأمون لعنه الله في مجلس عقده للمناظرة معهم بمحضر الرّضا عليه‌السلام فقال لهم وهم زهاء أربعين رجلا من علمائهم من أصحاب الحديث وأهل الكلام : أليس قد روت الأمّة بإجماع منها أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النّار (١) قالوا : بلى قال ورووا عنه عليه‌السلام أنّه قال من عصى الله بمعصية صغرت أو كبرت ثمّ اتّخذها دينا ومضى مصرّا عليها فهو مخلّد بين أطباق الجحيم ، قالوا : بلى : فخبّروني عن رجل تختاره الأمّة فتنصبه خليفة هل يجوز أن يقال له خليفة رسول الله عليه‌السلام ومن قبل الله عزوجل ولم يستخلفه الرّسول؟ فإن قلتم نعم كابرتم ، وإن قلتم لا وجب انّ أبا بكر لم يكن خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا كان من قبل الله عزوجل وانكم تكذبون على نبيّ الله ، وانّكم متعرّضون لأن تكونوا ممّن وسمه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بدخول النّار ، وخبّروني في أيّ قوليكم صدقتم أفي قولكم مضى عليه‌السلام ولم يستخلف أو في قولكم في أبي بكر يا خليفة رسول الله ، فإن صدقتم في قولين فهذا ممّا لا يمكن كونه إذ كانا متناقضين ، وإن صدقتم في أحدهما بطل الآخر.

إلى أن قال : خبّروني عن النّبي عليهما‌السلام هل استخلف حين مضى أم لا؟ فقالوا : لم يستخلف ، قال : فتركه ذلك هدى أم ضلال؟ فقالوا هدى ، قال : فعلى النّاس أن يتّبعوا الهدى ويتنكبوا الضّلال ، قالوا : قد فعلوا ذلك ، قال ولم استخلف الناس بعده وقد تركه هو وترك فعله ضلال ومحال أن يكون خلاف الهدى ، وإذا كان ترك الاستخلاف هدى فلم استخلف ابو بكر ولم يفعله النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولمّا جعل عمر الأمر بعده شورى بين المسلمين خلافا على صاحبه؟ وزعمتم أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يستخلف

__________________

(١) هذا الحديث مرويّ عن الفريقين في كتبهم منها : كنز العمّال ج ٣ ص ٣٥٥.

٩٠

وانّ أبا بكر استخلف وعمر لم يترك الاستخلاف كما تركه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بزعمكم ولم يستخلف كما فعل أبو بكر وجاء بمعنى ثالث فخبّروني أيّ ذلك ترونه صوابا؟ فإن رأيتم فعل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله صوابا فقد خطأتم أبا بكر ، وكذلك القول في بقيّة الأقاويل ، وخبّروني أيّهما أفضل ما فعله النّبي بزعمكم من ترك الاستخلاف أو ما صنعت طائفة من الاستخلاف؟ وخبّروني هل يجوز أن يكون تركه من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هدى وفعله من غيره هدى فيكون هدى ضدّ هدى فأين الضلال حينئذ؟ وخبّروني هل وليّ أحد بعد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله باختيار الصّحابة منذ قبض النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى اليوم فإن قلتم لا فقد أوجبتم أنّ النّاس كلّهم على ضلالة بعد النّبي وإن قلتم نعم كذبتم الامّة وأبطل قولكم الوجود الذي لا يدفع إلى آخر ما ذكره على ما رواه في العيون (١).

ثمّ أنّ الخلافة بهذا المعنى ثابتة لنوع البشر لأنّ كلّ قرن منهم خلف أو خلف لسلف ، ولآدم وذرّيته ايضا لأنّ الله تعالى قد استخلفهم في الأرض بعد إهلاك النّسناس وبني الجان وغيرهم على ما مضى ويأتي ، وهذا المعنى هو الظاهر من بعض اخبار الباب.

ومنها : الولاية من الله تعالى بلا واسطة أو معها في تبليغ الاحكام ونشر الشرائع والقضاء بين الناس بشرط كون الولاية خاصة ناصّة من الله سبحانه ولو بلسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مع اقترانها بالعلم والفضيلة والعصمة فيكون الولي بهذا المعنى حجّة على غيره ممّن استخلف عليه ، وهذا المعنى هو الظّاهر من الآية على ما يستفاد من بعض الأخبار كالخبر المرويّ في «الكافي» و «العلل» و «تفسير القمي» وغيرها وفيه : أنّه قال جلّ جلاله : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) تكون حجّة لي

__________________

(١) العيون للصدوق : ج ٢ ص ١٩٧ ـ ١٩٨.

٩١

في أرضي على خلقي ولذا قالت الملائكة أتجعل فيها من يفسد فيها كما أفسد هؤلاء المردة من الجنّ والنّسناس الذين كانوا في الأرض ويسفك الدّماء كما فعل هؤلاء ويتحاسدون ويتباغضون فاجعل ذلك الخليفة منّا فانّا لا نتحاسد ولا نتباغض ولا نسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال تبارك وتعالى إنّي أعلم ما لا تعلمون إنّي أريد أن أخلق خلقا بيدي واجعل في ذريّته الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصّالحين وأئمّة مهديّين واجعلهم خلفاء على خلقي في ارضي يهدونهم إلى طاعتي وينهونهم عن معصيتي واجعلهم حجّة لي عليهم عذرا ونذرا الخبر (١) على ما يأتي إن شاء الله ، حيث أنّ الظاهر منه ارادة الخلافة على الوجه المذكور وهو المراد ايضا في قوله : (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (٢) ، وقوله : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) (٣).

ولذا ورد أنّ مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام رابع الخلفاء ، ففي «العيون» وغيره عن مولانا ابي الحسن الرّضا عليه‌السلام عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين قال بينا أنا أمشي مع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض طرقات المدينة إذ لقينا شيخ طوال كثّ اللحية طويل ما بين المنكبين فسلّم على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ورحّب به ثمّ التفت إليّ وقال السلام عليك يا رابع الخلفاء ورحمة الله وبركاته أليس هو كذلك يا رسول الله فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بلى ثمّ مضى فقلت : يا رسول الله ما هذا الذي قال لي هذا الشيخ وتصديقك له قال صلى‌الله‌عليه‌وآله :

__________________

(١) كنز الدقائق : ج ١ ص ٣٣٠ ـ ٣٣١ عن تفسير علي بن ابراهيم.

(٢) الأعراف : ١٤٢.

(٣) ص : ٢٦.

٩٢

أنت كذلك والحمد لله إنّ الله عزوجل قال في كتابه : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (١) والخليفة المجعول فيها آدم عليه‌السلام وقال عزوجل (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) (٢) فهو الثّاني وقال عزوجل حكاية عن موسى قال لهارون (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ) (٣) فهو هارون إذا استخلفه موسى عليه‌السلام في قومه وهو الثّالث وقال عزوجل : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) (٤) وكنت أنت المبلغ عن الله عزوجل وعن رسوله وأنت وصيّي ووزيري وقاضي ديني والمؤدي عنّي وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي فأنت رابع الخلفاء كما سلّم عليك الشيخ أولا تدري من هو؟ قلت : لا قال : هو أخوك الخضر عليه‌السلام (٥).

والخلافة بهذا المعنى ثابتة للأئمّة الطاهرين صلّى الله عليهم أجمعين سيّما قائمهم وخاتمهم عجّل الله فرجه فانّه المضطر الذي يجاب إذا دعى ، ويكشف السّوء ويجعله خليفته في أرضه واليه الإشارة بقوله : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) (٦) وهو الموعود بالخلافة والتمكين في قوله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ

__________________

(١) البقرة : ٣٠.

(٢) ص : ٢٦.

(٣) الأعراف : ١٤٢.

(٤) التوبة : ٣.

(٥) عيون الاخبار : ج ٢ ص ٩ ـ ١٠.

(٦) النمل : ٦٢.

٩٣

خَوْفِهِمْ أَمْناً) (١) ، الآية.

وفي الكافي عن ابي الحسن عليه‌السلام قال الأئمّة خلفاء عزوجل في أرضه (٢) وفيه عن محمّد بن إسحاق بن عمّار قال : قلت لأبي الحسن الأوّل عليه‌السلام الا تدلّني إلى من آخذ عنه ديني. فقال : هذا ابني عليّ إنّ أبي أخذ بيدي فادخلني إلى قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال يا بنيّ انّ الله عزوجل قال : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) وانّ الله عزوجل إذا قال قولا وفى به (٣).

وفيه دلالة على أنّ المراد بالخلافة هي الخلافة المتّصلة في كلّ عصر كما أشير إليها بقوله : (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٤).

ومن فروع هذه الخلافة ما ثبت للنّائب العام في زمن غيبة الإمام عليه‌السلام في نشر الاحكام وبيان الحلال والحرام والقضاء بالحقّ بين الأنام واقامة الحدود وولاية الأيتام.

ولذا ورد في النبوي على ما رواه في «العيون» و «المعاني» من الرّضا عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللهم ارحم خلفائي ثلاث مرات فقيل : يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال : الّذين يأتون من بعدي ويروون عنّي أحاديثي وسنّتي فيعلّمونها النّاس من بعدي ، ومثله في «الفقيه» و «المجالس» عن امير المؤمنين عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) النور : ٥٥.

(٢) اصول الكافي : ج ١ ص ٣١٢ ح ٤.

(٣) اصول الكافي : ج ١ ص ٣١٢ ح ٤.

(٤) القصص : ٥١.

٩٤

ومنها الولاية في الأمور التكوينيّة وفي شؤون الرّبوبيّة إذ مربوب باذن الله سبحانه ، وهذه الخلافة ثابتة فيما شاء الله سبحانه لمن شاء من عباده كالملائكة الذّاريات والمقسّمات والمعقّبات والنّازعات والزّاجرات وغيرهم من الملائكة الموكّلين بمصالح العالم وحفظ بني آدم ، وهذه الخلافة ثابتة ايضا للنّبي محمّد وآله الطّاهرين صلّى الله عليهم أجمعين فيما أشهدهم على خلقه واتّخذهم أعضادا على ما يستفاد من فحوى الآية وصريح قول الحجّة عجّل الله فرجه في دعاء رجب بأعضاد وأشهاد (١) ، وغير ذلك من الأخبار الّتي مرّت إلى جملة منها الإشارة في تفسير الفاتحة.

وأمّا الخلافة الكليّة المحمّدية الثابتة له ولأوصيائه الطيّبين فهي إشارة إلى ذلك مضافا إلى المعنى السّابق من وساطتهم في التّبليغ إلى جميع الأكوان في جميع العوالم ولذا ورد عنهم : انّ لله تعالى ألف ألف عالم وألف ألف آدم ونحن الحجج على جميع تلك العوالم وهؤلاء الآدميّين.

وفي الكافي : عن أبي جعفر الثّاني : أنّ الله لم يزل متفرّدا بوحدانيّته ثمّ خلق محمّدا وعليّا وفاطمة فمكثوا ألف ألف دهر ثمّ خلق جميع الأشياء فاشهدهم خلقها واجرى طاعتهم عليها وفوّض أمورها إليهم فهم يحلّون ما يشاءون ويحرّمون ما يشاءون ولن يشاءوا إلّا أن يشاء الله تبارك وتعالى (٢).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩٨ ص ٣٩٣.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٥ ص ٢٥ بتفاوت يسير.

٩٥

وفي «الاختصاص» في خبر المفضّل عن الصادق صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما رواه في البحار عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله تبارك وتعالى توحّد بملكه ، فعرّف عباده نفسه ، ثمّ فوّض إليهم أمره ، وأباح لهم جنّته ، فمن أراد الله أن يطهّر قلبه من الجنّ والانس عرّفه ولايتنا ، ومن أراد الله أن يطمس على قلبه أمسك عنه معرفتنا ، ثمّ قال يا مفضّل والله ما استوجب أدم أن يخلقه الله بيده وينفخ فيه من روحه إلّا بولاية عليّ عليه‌السلام وما كلّم الله موسى تكليما إلّا بولاية علي عليه‌السلام ولا أقام عيسى بن مريم آية للعالمين إلّا بالخضوع لعليّ عليه‌السلام ، ثمّ قال عليه‌السلام : أجمل الأمر ما استأهل خلق من الله النّظر إليه إلّا بالعبودية لنا (١).

وهذه الخلافة هي المعبّر عنها بالقيام في سائر العوالم في الأداء مقامه في الخطبة العلوية الغديريّة على ما رواه شيخ الطائفة في «المتهجّد» على ما مرّت لكنّها هو المسك ما كرّرته يتضوّع ، وفيها : وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله استخلصه في القدم على سائر الأمم ، على علم منه به انفرد عن التّشاكل والتّماثل من أبناء الجنس ، وانتجبه (٢) آمرا وناهيا عنه ، أقامه في سائر عالمه في الأداء مقامه.

إلى أن قال عليه‌السلام : وانّ الله تعالى اختصّ لنفسه من بعد نبيّه عليه‌السلام من بريّته خاصّة علّاهم بتعليته ، وسما بهم إلى رتبته ، وجعلهم الدّعاة بالحقّ إليه ، والأدلّاء بالإرشاد عليه ، قرن قرن وزمن زمن.

أنشأهم في القدم قبل كلّ مذروء ومبروء أنوارا أنطقها بتحميده ، وألهمها

__________________

(١) البحار ج ٢٦ ص ٢٩٤ ح ٥٦ عن الإختصاص ص ٢٥٠.

(٢) في البحار : وائتمنه.

٩٦

شكره وتمجيده ، وجعلها الحجج على كلّ معترف له بملكة الربوبيّة وسلطان العبوديّة ، واستنطق بها الخرسان بأنواع اللّغات بخوعا له بأنّه فاطر الأرضين والسّماوات ، واشهدهم خلق خلقه ، وولّاهم ما شاء من أمره ، وجعلهم تراجم مشيّته ، والسن إرادته عبيدا لا يسبقونه بالقول : وهم بامره يعملون (١) آه.

ومنها : جامعيته للنشئات الكونيّة ومظهريّته للأسماء الالهيّة والصّفات الفعليّة على ما تأتي إليه الإشارة في قوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) (٢) وإن كان مرجعه إلى سابقه في ركنه الأعظم الّذي هو العمدة في معنى الخلافة قالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) استفهام على وجه الاستعلام عن وجه الحكمة والمصلحة في استخلاف أهل المعصية مكان أهل الطّاعة ليعلموا الحكمة في ذلك مفصّلا بعد ما علموه مجملا من علمه وحكمته ، أو تعجّب عن السّر النّاهض والحكمة التي أوجبت استخلاف من يفسد في الأرض لغرض عمارتها وإصلاحها ، مع أنّ الإفساد والسفك على طرف الضّد من المطلوب على أنّ ما هو المقصود الاصلي من الخلق وهو العبادة إنّما يتأتّى منّا لا منهم ولذا قالوا : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) أرادوا أنّهم معصومون عن معصيته ، مداومون على طاعته ، لا يستكبرون عن عبادته ، ولا يستحسرون ، يسبّحون اللّيل والنّهار لا يفترون ، فاستكشفوا عن الحكمة العجيبة التي غلبت تلك المفاسد والغتها وترجّحت على مصلحة استخلافهم على ما هم عليه من دوام الطاعة حتى أهملتها ، وكان مقصودهم

__________________

(١) البحار : ج ٩٧ ص ١٣١ ـ ١١٤ ح ٨.

(٢) البقرة : ٣١.

٩٧

في ذلك هو الاستفسار والاستخبار ، لا الافتخار والاستحقار.

والسفك : الصبّ والإهراق وانّ اختصّ بحسب الإطلاق في الدّم والدّمع ، فيطلق فيهما كما يطلق السبك في الجواهر المذابة ، والسفح في الصبّ من أعلى ، والشنّ في الصبّ من فم القربة ، وكذلك السنّ بالمهملة ، فالجميع مشترك في جنس والخصوصيّة مستندة إلى الوضع أو الإطلاق والآتي منه يسفك بالكسر ، وقرئ يسفك بالضّم ، ويسفك من أسفك ويسفّك من سفّك ويسفك على البناء للمفعول ، فيكون الراجح إلى من سواء جعل موصولا أو موصوفا محذوفا أي يسفك الدّماء فيهم.

والدّم أصله دمو بالتحريك من دمى يدمى كرضى يرضى ، ولذا ابدلوا الواو ياء ، وقيل : إنّ أصله الياء وجاء تثنيته على دميان ودموان ، وعليهما فجمعه على الدّماء مخالف لنظائره.

وقال سيبويه : أصله دمى بالتّسكين لأنّه يجمع على دماء ودمى مثل ظبى وظباء وظبى ، ودلو ودلاء ودلى.

والمراد بالإفساد أن كان هيّج الحروب والفتن حيث انّ فيه فساد حال الإنسان الذي هو أشرف المواليد ويتبعه فساد الآخرين ولذا قال : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) (١) ، فالعطف للبيان أو مطلق إحداث الفساد الذي هو ضد الصلاح فمن تعقيب العام بالخاص الذي هو اظهر افراده ، وأشدّها في بابه ، وأقبحها فعلا ، وأهمّها تركا ، وربما يفسّر بالشرك فيغاير السفك.

__________________

(١) البقرة : ٢٠٥.

٩٨

والتسبيح التنزيه وأصله تبعيد الله عن السوء من سبح في الأرض إذا ذهب فيها وابعد ، ومنه السباحة للقوم ، وفرس سابح كثير الجري ، ولذا قيل : إنّ السّبح في الأصل سرعة الذهاب في الماء ، ثمّ استعير لجرى النجوم في الفلك ، ولجرى الفرس ، ثمّ لسرعة التّسبيح والطّاعة.

والواو في قوله : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ) للحال ، والجملة حالية مقرّرة للاشكال على ما مرّ ، والعامل فيها (أَتَجْعَلُ) كأنّه قال أتجعل فيها من يفسد فيها وهذه حالنا و (بِحَمْدِكَ) في موضع الحال أي متلبّسين بحمدك على ما ألهمتنا من معرفتك ووفّقتنا لتسبيحك ، أو بحمدك بمعنى والحمد لك ، نظير (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) (١) أي والنعمة له ، ولعلّ مرجعه إلى الأوّل ، والمراد تدارك ما أوهمه اسناد التّسبيح إلى أنفسهم وتنجيز الشكر على التوفيق للعبادة ، أو نسبّحه لما هو عليه من المحامد ذاتا وفعلا ، والمراد كونه محمودا أو نسبّحه بالتكلّم بالحمد له ، فإنّ النّطق بالحمد لله تسبيح له كما قيل في قوله : (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) والتّسبيحات الأربع يطلق عليها التسبيح ، وإن كان بعضها تحميد او تهليلا وتكبيرا وعلى هذا فيكون بيانا للتّسبيح متعلقا به.

وهذا كلّه مع إرادة التنزيه من التسبيح ، ويمكن ان يراد به الصلاة ورفع الصوت والتكلّم كما قيل ، اي نصلّي لك كما في قوله : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) (٢) أي من المصلّين او نرفع أصواتنا بذكرك ، ومنه قول جرير (٣) :

__________________

(١) القلم : ٢.

(٢) الصافات : ١٤٣.

(٣) جرير بن عطيّة بن حذيفة اليربوعي الشاعر المتوفى (١١٠) ه

٩٩

قبح الإله وجوه تغلب كلّما

سبح الحجيج وكبّروا إهلالا

أو نتكلّم بحمدك وننطق به لكن في تفسير الامام عليه‌السلام : ننزّهك عمّا لا يليق بك من الصّفات ونقدّس لك نطهّر أرضك ممّن يعصيك (١).

وهو من قدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد ، ومنه القدس بالسكون وبالضّم للطّهر فإنّ الطّاهر بعيد عن الأقذار ، والمطهّر مبعده عنها ، والمراد به ما مرّ في كلام الإمام عليه‌السلام.

وقيل : ننزّهك عمّا لا يليق بك من صفات النقص ولا نضيف إليك القبائح ، فاللام زائدة اي نقدسك ، وقيل : نصلّي لأجلك ، وقيل : نطهّر أنفسنا من الخطايا والمعاصي ، كأنّهم قابلوا الفساد المفسّر بالشرك على ما مرّ بالتسبيح كما قابلوا سفك الدّماء الذي هو أعظم قبائح الأفعال بتطهير النفس عن الذنوب الذي هو أساس محامد الخصال ، أو أنّهم جعلوا سفك الدّماء نهاية الإفساد بمعناه العام وقابلوه بالتقديس الذي قيل إنّه ابلغ في التنزيه من التسبيح ، حيث إنّ النظر في التّسبيح إلى أنّ العارف أنّى استطاع في التنزيه على حسب معرفته وفي التّقديس إلى أنّ الذّات الكاملة الّتي لا يمكن في الوجود والتّصور ممّا يدانيها في شيء من الكمال لها الطّهارة عن كلّ سوء أطلق عليه لفظ دالّ أم لم يطلق ، فقد لوحظ في الأوّل العارف وفي الثّاني المعروف.

ويمكن أن يكون الفعلان اشارة إلى ركني الكمال من صفات الجمال والجلال فانّ التسبيح بالحمد إشارة إلى تمجيده بمحامده الكثيرة الذّاتية والعقليّة في المراتب

__________________

(١) تفسير البرهان : ج ١ ص ٧٣ عن تفسير الإمام عليه‌السلام.

١٠٠